عندما تريد أن تتحدّث عن مسألة فلا بدَّ لك من الإحاطة العلمية بها ، وإلاّ فإنّ اللوم سوف يُطالك من حيث لا تدري ، وكذلك أي قضية من القضايا تريد أن تدرسها فلا شك في أنّك يجب أن تستغرقها بحثاً من جميع نواحيها ؛ لكي لا يكون بدراستك نقص ، وفي بحثك مغمز.
وهكذا الأشخاص ، فأيّ شخصيةٍ تريد أن تتناولها بالبحث ، عليك أن تستهلكها بذاتك حتّى تتقمّصها إن استطعت ، أو لا أقل الإحاطة بالظروف الاجتماعية والحياتية زماناً ومكاناً وملابساتٍ ؛ حتّى تُعطي الشخصية حقّها منك بحثاً وفكراً ومجهوداً.
فالأخلاق : بحث واسع وعنوان عريض يشمل جميع الفضائل الخلقية وعكسها في الحياة الاجتماعية ، وتطبيقها على أرض الواقع الذي نعيش فيه. فإذا أردت أن تدرس مفرداتٍ أخلاقيّة دراسة مجرّدة ، فإن المسألة تختصّ بالفلسفة والمفاهيم الصوريّة ، وأمّا إذا أردت تطبيق تلك المفاهيم وانتزاع صور وشواهد عليها بتجسيدها في الحياة العامّة ، فإنّ الأمر يخرج من التصوّر إلى التصديق ، ومن المجرّد إلى الواقع ، ومن النظرية إلى التطبيق ، وتلك هي الفلسفة العملية للأخلاق.
والفلسفة الأخلاقيّة المجرّدة لا نريدها ؛ لأنّنا لا نستفيد منها في حياتنا إلاّ إذا اتّخذناها منهجاً عملياً نسير بهداها ، ونطبّق حروفها وحدودها على حياتنا اليومية ، تلك المفردات والمفاهيم التي عجز عن تطبيقها كاملاً إلاّ الأشخاص الكاملون في شخصياتهم الإنسانيّة.
فالشخص الكامل : هو الذي يتحوّل من وجود شخصي إلى شعار إنساني ؛ لأنّه يتجرّد من ذاته للحقّ ولوجه الحقّ الذي يمثّله ، فيكون ممثلاً للحقّ ومحوراً له في حياته كلّها ، كما قال الرسول الأعظم محمد صلىاللهعليهوآله للإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام في أكثر من موقع ، وحديث : «علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار» (1).
فالإمام علي عليهالسلام صار محوراً للحقّ يدور معه أينما توجّه وحيثما حلَّ ، فمثل هذه الشهادة المباركة من رمز الإنسانيّة الأوّل ، وأعظم شخصية عرفتها البشرية عبر العصور ، بحقّ خليفته ووصيّه والإمام القائد للأُمّة من بعده ، تعطينا إشارات نورانيّة ، وحالات قدسيّة تُحيط بتلك الشخصيات الاستثنائية ، فتُضفي عليهم وعلى حياة الأُمّة كلّها رونقاً خاصّاً.
فالإمام بعد الرسول : هو الشخص الكامل في الأُمّة الإسلاميّة ، وهو قمّة القيم الفاضلة العالية للأُمّة. وبالتالي : هو الراية الخفّاقة العالية التي تتّخذها الأُمّة شعاراً للهداية والرشاد والنورانيّة ، ولا يمكن أن تكون إلاّ متفرّدة شامخة لا تنالها الأيادي الطامحة ، ولا تدركها العيون الباصرة ، كما هو النجم في كبد السماء الصافية.
وكم هي جملية تلك الخطبة الأميرية والتي تُسمّى بالشقشقية ، حيث يقول : «ينحدر عنّي السّيل ، ولا يرقى إليّ الطير» (2).
نعم ، الإمام هو القمّة العالية ، والقيمة السّامية التي لا تُطال ولا تُنال ، حتّى العقول والأفهام قد تقصر عن الارتفاع ، أو الوصول إلى ذُراها العالية.
والسبب في ذلك : أنّ الكامل يسع الناقص ، أمّا الناقص فإنّه لا يمكن أن يسع أو يحيط بالكامل ، والقصور يعود إلى طبيعة البشر المتّصفة بالنقص والضعف ، والقصور الذاتي عن بلوغ الكمال ، إلاّ أنّ التطلّع إلى الكمال ، وحبّ الوصول إليه هو من أجمل الصّفات الإنسانيّة.
هذه القراءة الدقيقة نفهم الأحاديث النبويّة والعلويّة الشريفة ، مثل قول رسول الله صلىاللهعليهوآله للإمام علي عليهالسلام : «يا علي ، ما عرف الله إلاّ أنا وأنت ، وما عرفني إلاّ الله وأنت ، وما عرفك إلاّ الله وأنا» (3).
ويبقى قول الله سبحانه في كتابه الكريم الميزان الحقّ الذي لا يحيف ، قال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) (4).
فالقابليات تتغيّر وتختلف من شخص إلى آخر ، وصدق مَنْ وصف الأجساد والأجسام بأنّها كالأوعية ، كلّ يتّسع بقدره ، ولا يمكن أن يتّسع أكثر مهما حاولت أن تفعل ، وبهذا قال رسول الإنسانيّة محمد (صلوات الله عليه وآله) : «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم» (5).
والكلام إذن عن الإمام الحسين عليهالسلام هو بهذا اللحاظ النوراني ؛ لأنّنا لسنا أمام شخصيّة عاديّة ، بل نحن على شاطئ بحر محيط من الفضائل وحسن الشمائل ، منه نجمع بعض الدُّرر واللآلئ الحسان ، متنزّهين في الجزر المرجانيّة العجيبة الأشكال والألوان.
أو أنّنا ندخل جنّة أو بستاناً عظيماً في فصل الربيع ، نبحث عن أشياء غائبة عنّا ، فأينما توجّهت رأيت عجباً ، من حسن الربيع وأصوات خرير الينابيع ، تدور وتقطف باقات من الزهور الأخلاقيّة المتنوّعة من جنّة المولى أبي عبد الله الحسين (عليه صلوات المصلّين).
أقول : نقطف باقة أو طاقة من الزهور ؛ لأنّنا عاجزون عن الإحاطة بكلّ ذاك الربيع الفيّاض بالحسن والكمال ، والذي لا يدرك كلّه لا يترك جلّه ، فتخيّرت عبقات أخلاقيّة ؛ لتكون إشارة لذاك البستان العظيم ، لتلك الجنّة الوارفة.
فنستفيد بالباقة التنوّعَ وجمالَه ، واختلافَ أشكاله ، والأريجَ وتضوُّعَ عبقه في الأرجاء ، والألوانَ واختلافاتها وأطيافَها الساحرة ؛ لأنّ لكلّ زهرة لونها وعبقها ، وشكلها الخاص المميّز.
فزهرة الياسمين بهذا الشكل البسيط ، واللون الناصع البياض ، والعبق العجيب الذي يجعلها تختلف عن كلّ الزهور في الدنيا ، وهكذا الفُل والنرجس النعسان ، وشقائق النعمان وغيرها كثير.
أدور باحثاً في رياض سيدي ومولاي الإمام الحسين عليهالسلام ، ريحانة جدّه الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله ، وفلذة أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وبضعة أُمّه سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وصنو أخيه الإمام الحسن المجتبى عليهالسلام ، فهل لك أن تسأل من أين استقى الإمام الحسين عليهالسلام كلّ تلك الفضائل الأخلاقيّة؟
إنّه وإن كان الإمام الحسين عليهالسلام هو بذاته نبع فضائل وفيض كمائل إنسانيّة ، ينتصب علَمَاً ومناراً للإسلام والإيمان ، إلاّ أنّنا نعود إلى النسق الطبيعي للبشريّة والتربية الإنسانيّة ؛ لنعرف كيف تربّى الإمام الشهيد في أحضان البشر قبل تقلّبه في أحضان الوحي المقدّس. وهذا يهمنا في بحثنا هذا ؛
لأنّنا نريد أن نتحدّث عن أبي الأحرار الإمام الحسين عليهالسلام كإنسان بشري ، خُلق على هذه الأرض في تلك البقعة المباركة ، وذاك الزمان الموغل في القدم ؛ لنتعلّم منه أصول التربية الإسلاميّة ، وأُسس الأخلاق الإيمانيّة ، ونرى أين نحن المسلمون في هذا العصر من ذاك كلّه ، لا سيما دعاة التكفير وحاملوا لواء الخوارج في هذا العصر الخطير الذين يرون لأنفسهم ديناً خاصّاً لا أحد من المسلمين يشاركهم فيه ؛ فيكفّرون الأُمّة الإسلاميّة برمّتها ، ويتعاملون معها بأخلاقيّات شاذّة ما أنزل الله بها من سلطان ، أقلّها استباحة الدم والعرض والمال ، بفتوى أشبه شيء بالجنون والهذيان.
وتوجّهنا إلى أخلاقيّات ومناقب المولى أبي عبد الله الحسين عليهالسلام بالخصوص ؛ لأنّه صار مستهدفاً من جديد ، ممّن يريدون أن يطفئوا نوره بأفواههم الآثمة ، وأن يبعدوا الأُمّة عن شعائره المباركة بالقتل والإرهاب ؛ فراحوا يعيثون في الأرض فساداً ، فيقتلون الأبرياء في الحضرة الحسينيّة المقدّسة ، والروضة العباسيّة الشّريفة ، وحرم الكاظميّة الطّاهرة ، لا لذنب اقترفوه إلاّ أن يقولوا : ربّنا الله ، وإمامنا الحسين بن علي. وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب إنشاء الله. وما زيارتنا لسبط الرسول وابن البتول الحسين الشهيد المظلوم عليهالسلام إلاّ لنجّدد له العهد والولاء ، والوعد بالطلب للثأر العظيم تحت راية صاحب العصر والزمان المهدي المنتظر من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين).
لقد تعدّدت الأبواق التي تريد أن تبعدنا عن إمامنا ومقتدانا سبط الرسول وابن البتول الحسين المظلوم ، فقلت لهم : دعونا وإمامنا ، نحبّه كيف نريد ، ونبكي عليه متى نشاء ، ونعبِّر عن ذلك بطرقنا المختلفة ، دعونا نعبِّر عن عشقنا الحسيني كيف استطعنا وكيف أردنا ، واذهبوا أنتم إلى مَنْ تريدون؟!
ومنهم مَنْ يقول : إنّها ليست طريقة حضاريّة أن تعبّر عن حزنك وأسفك و ... ، بهذه الطرق المتخلفة ؛ لأنّنا في عصر الحضارة والنور ، وأعمالنا تنقلها الفضائيّات إلى أبعد أصقاع الدنيا.
ومنهم مَنْ يقول : إنّ كلّ هذه الأعمال كفر محض ، وشرك مقيت ... وكلّ الأُمّة التي تؤمن أو تعمل أو تشارك في إحياء تلك الشعائر يجب قتلهم وإبادتهم عن بكرة أبيهم ؛ لأنّهم شيعة. وقبور أئمّتهم وقبابها يجب هدمها كلّها ، ومنع الناس من زيارتها كما فعلوا مع أئمّة البقيع الغرقد. وهؤلاء أخطر من الجميع ؛ لفكرهم الشنيع ، وإمكانياتهم الماديّة الهائلة ، ودعايتهم المقيتة ، وأعمالهم الفظيعة في كربلاء وغيرها من بلاد المسلمين. وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
لهذا كلّه اخترنا البحث عن (أخلاقيات الإمام الحسين عليهالسلام) وليس غيره من أصحاب الكمال في هذا المجال الإنساني ؛ لنقول للجميع : هكذا عمل الإمام الحسين عليهالسلام ، فما الذي عملتموه ، وكيف أنتم تعملون ، ومَنْ أقرب إلى الله (عزّ وجلّ) وإلى الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله في المنهج والسلوك؟!
لا سيما أو لعل من أبرز المظاهر التي يتّصف بها عصرنا في أواخر القرن العشرين ، الصراعات والنزاعات والاحتجاجات والفتن من كلّ صوبٍ ؛ على صعيد الأسرة والمجتمع والدولة ، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي ....
ونحن نشاهد أنّ النقد العنيف يتناول الأخلاق اسماً ومفهوماً ، أسساً وتطبيقاً ، كما يشمل المذاهب الأخلاقيّة على اختلاف منازعها ، ونلمس في الوقت ذاته تبدّلاً عميقاً ، إن لم نقل تقهقراً يصيب العادات الأخلاقيّة والأعراف ، ويفجّر أزمة الوجدان.
ولكنّ الوضع أشدّ خطراً في أيّامنا هذه ؛ ذلك أنّ ضروب الابتعاد عن الجادّة السويّة في السلوك تنمّ عن تدنّي التفكير العقلي ، ونحن نرى مَنْ يرفض الأخلاق التقليديّة ، ويعلن أنّها بالية لا تلائم العالم الحديث ، كما نرى مَنْ يرفض وجود قيم تفرض نفسها على الإنسان ، والأمر عندئذ يتناول تعالي النظر الأخلاقي ، ويجعل الاضطراب ماثلاً على مستوى الفكر بأكثر منه على صعيد العمل.
ولعلّ هذا اللايقين يؤلّف إحدى ظواهر الأزمة العامّة التي تعاني منها الحضارة المعاصرة ، فنحن نشاهد تحوّلات جذريّة تجري في المجالات العلميّة والتقنيّة والاقتصاديّة ، وإنّ طراز المعيشة والبنيات الاجتماعيّة والعقليّة المشتركة تتطوّر بحسب إيقاعٍ يُعرب عن تسارع التاريخ ، حتّى قيل إنّنا نغيّر القرن كلّ عشرين عاماً.
إذن: فالإنسان هو هدف الوجود وغايته ، وهذا ما يقرّه العلماء والمفكّرون والمصلحون.
أمّا غاية الإنسان وهدفه : فهو الله ، وهذا ما يعلمه الحكماء ، وربّنا سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي : «عبدي خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي» (6) ، وفي القرآن الكريم يقول : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ) (7).
فالإنسان غاية الوجود ، أمّا وجود الإنسان فغايته الله ، وساحات قدسه ، ومجاورته في الجنّة ؛ ولهذه الغاية كان بحثنا الأخلاقي يدور حول ذلك الشخص المجسّد للفضائل والكرامات الأخلاقيّة ... ذلك النور الأبهر ، والعلم الأحمر ، حجّة الله على الخلق في عصره الأغبر ، ذاك الإمام العظيم الحسين بن علي عليهالسلام.
وأخلاق الإمام الحسين عليهالسلام امتداد لأصله النوراني النبويّ العلويّ ، كيف لا وهو خامس أهل البيت الأطهار الأبرار عليهمالسلام ، أهل الكساء اليماني الذي جلَّلهم به رسول الله صلىاللهعليهوآله الذي قال الله سبحانه في وصفه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (8) ، فهو صاحب ذلك الخلق الرفيع الذي ربَّى وعلَّم أهل بيته الكرام عليهمالسلام ، حتّى غدوا صورة طبق الأصل عن جدّهم ، فكانوا على خُلق عظيم كذلك ، وكانوا مدارس مستقلة في فنون التعامل مع الناس بأخلاقٍ إسلاميّة مسؤولةٍ :
ـ مدرسة اختصَّ بها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام الذي تخرّج على يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وتقلَّبَ في أحضان الرسالة ، وتلقّى أخبار الوحي النورانيّة ، فكان ولا زال الأوحدي الذي لا يُطال ولا يُنال.
وصدق ذاك المؤرّخ الغربي الذي قال : إنّ معجزة رسول الله محمد صلىاللهعليهوآله كان علي بن أبي طالب عليهالسلام.
ـ مدرسة اختصَّت بها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام التي انبعثت من كبد الرسول «فاطمة بضعة منّي» (9) ، وتربَّت بين يدي الرسالة ، واقترنت بالولاية العلويّة عندما كبرت فكانت برزخاً نورانيّاً بين الرسالة والولاية والنبوّة والإمامة.
ـ مدرسة اختصَّ بها الإمام الحسن السبط المجتبى عليهالسلام ، بالصفح والتسامح والوحدة الإسلاميّة ؛ لأنّه صاحبها الأوّل ، إلاّ أنّه يبقى المظلوم العظيم في هذه الأُمّة ، ظلمه أقرب الناس إليه قبل أعدائه ، وما زالوا يفعلون.
ـ مدرسة اختصَّ بها أبو الأحرار الإمام الحسين الشهيد عليهالسلام ، وهذه في الحقيقة خلاصة كلّ المدارس السّابقة ؛ لأنّ الإمام الحسين عليهالسلام هو الذي جمع القسط الأكبر من كلّ مَنْ سبقه جدّه وأبويه وأخيه عليهمالسلام ، ثمّ نفسه القدّوسيّة ، وعقله العملاق ، واجتهاده المعصوم ، فكان منه ما أبهر العقول والألباب.
تأمّل أيّها القارئ الكريم ، كيف كان تعامل الإمام الحسين عليهالسلام مع آل بيته وأصحابه وأعدائه ؛ فإنّه يعكس أخلاق الإنساني الرسالي الكبير الذي ولِد وترعرع في بيت النبوّة ومهبط الوحي ، ذلك البيت الذي اختصّه الله بأمور لم يختصّ بها بيتاً غيره. لقد أراد الله أن يكون البيت الذي تتطلّع إليه الأُمّة دائماً عبر مسيرتها الطويلة ليكون قدوة دائمة ، وإذا أراد الله أن تكون أخلاق هذه الصفوة قدوة دائماً للناس على مرِّ العصور ، فإنّه جعل في كلّ جانب من جوانب سلوكها وتصرفاتها مصدر إشعاع ورفد دائمي لأخلاق الإسلام ، وتربيته التي أرداها أن تستوعب الحياة بكلّ متغيّراتها ، وتنسجم معها وتطوّرها إلى آفاق الإسلام الواسعة التي جعلته مؤهّلاً للبقاء دائماً ، وقادراً على قيادة البشريّة والأخذ بيدها إلى ساحل الأمان والخير والعدل والسعادة.
والإمام الحسين عليهالسلام أثبت بسلوكه الرسالي ، وأخلاق رسول الله صلىاللهعليهوآله التي حملها معه دائماً ، والتزم بها طيلة حياته الشريفة وحتى آخر لحظة منها ، أنّه كان حقّاً ممثّل الرسالة ، والوريث الشرعي لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، حتّى صار الإسلام نفسه بكلّ قيمه ومبادئه العظيمة الخيِّرة ، حتّى اعترف له بذلك عدوّه اللدود معاوية بن أبي سفيان أمام ابنه يزيد وجمع من أعوانه ومريديه ، حين طلبوا منه أن يبيّن عيباً للحسين بن علي فقال : (وما عسيت أن أعيب حسيناً ، وما أرى للعيب فيه موضعاً) (10).
والإمام الحسين عليهالسلام هو النبع الفيَّاض بالفضائل والكمالات الإنسانيّة ، ونحن نتفيّأ فيئه ، ونستظلّ بظلّه العميم ، ونستنير بنوره الوضَّاء ؛ لأنّ سيرته كلّها فضائل وأخلاق كشخصه الشريف :
ـ فنسب الإمام الحسين عليهالسلام فضيلة كبرى.
ـ وولادته عليهالسلام فضيلة سماويّة أُخرى.
ـ وتربيته عليهالسلام فضيلة ربّانية ثالثة.
ـ ونسله عليهالسلام فضيلة خاصّة رابعة.
ـ وحياته عليهالسلام مجمع فضائل لا تنتهي.
وما علينا إلاّ أن نستقي حتّى نرتوي من فضائل ومناقبيّات الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (صلوات الله عليه).
في التربية الإسلاميّة
إنّ مهمّة الإمام عليهالسلام وكلّ إمام أن يربّي البشر وأبناء الأُمّة التي يكون فيها ، والتربية هي اللبنة الأولى لبناء أسرة صالحة ، ومجتمع سالم ، وأُمّةٍ وسط ، كما وصف القرآن الكريم أُمّتنا الإسلاميّة المباركة.
سأل سائل الإمام الحسين عليهالسلام عن معنى الأدب ، فقال عليهالسلام : «هو أنْ تَخرجَ منْ بيتكَ فلا تلقي أحداً إلاّ رأيتَ لهُ الفضلَ عليك» (11).
هذا هو الأدب الإنساني الرفيع الذي لا يرى أحد في نفسه فضلاً على أحد من خلق الله ، وهذا يعبّر عن قمّة في الإنسانيّة من جانبي السلب والإيجاب.
فالإنسان بصير بنفسه ، خبير بأحواله كلّها ، وربّنا سبحانه يقول : (بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (12).
والحديث الذي صار يشبه بمثل من الأمثال وهو (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه) ، فالإمام الحسين عليهالسلام يشير لنا إلى هذه الحقيقة الناصعة.
والحقيقة الأُخرى أنّك على ظنّ أو شك من أحوال أخيك الإنسان الذي تلتقيه ، وعلى يقين من أحوال نفسك ، فكيف تقدّم الشك على اليقين؟
وهذه قمّة التواضع لخلق الباري (عزّ وجلّ) ، ولا يأتي إلاّ من تجربة تربويّة عاليّة جدّاً ؛ ولذا يقول سبط الرسول الحسين عليهالسلام موجّهاً ومربّياً أصحابه على هذا الخلق العظيم :
«إيّاكَ وما تعتذرُ منه ؛ فإنَّ المؤمنَ لا يُسيء ولا يعتذرُ ، والمنافقُ كلَّ يومٍ يُسيء ويعتذرُ» (13).
فإذا أردت أن تكون تلميذاً في مدرسة المولى أبي عبد الله الحسين عليهالسلام فعليك أن تحترز من أيّ عمل يمكن أن تعتذر منه. أي العمل الذي يعيب ، أو يشين أو يسيء للآخرين ، وهذا يجعلك في حالة مراقبة دائمة لنفسك وتصرّفاتك ، وحتى كلماتك يجب أن تكون موزونة بميزان الذهب.
ويُروى عن الإمام عليهالسلام شعراً بهذا المعنى :
أفلحَ عبدٌ كُشف / الغطاءُ عنهُ ففطن
وقرّ عيناً مَنْ رأى / أنّ البلاءَ في اللسن
فما زنَ ألفاظه في / كلّ وقتٍ ووزن
وخافَ من لسانه / غرباً حديداً فخزن (14)
فالعبد المفلح : هو الذي رفع الستار عن عينيه وبصيرته ، فعلم أنّ آفات اللسان هي أشدّ فتكاً من مخاطبة السنان بالإنسان ؛ ولذا وزن ألفاظه ، فلم يتحدّث إلاّ بذكر الله سبحانه ، أو ما ينفعه ويعينه ، وخزنه بين لحييه في غير هذه الموارد القليلة.
والحديث يطول في المقام التربوي للإمام الحسين عليهالسلام ، وسنعيد الكلام عند الحديث عن نفسه القدسية بإذن الله ، ولكن قبل أن أتجاوز أخي الكريم ، إليك هذه الحادثة النادرة التي تعبّر عن عظمة سيّد شباب أهل الجنّة ، ومدى تقديره لأهل العلم والأدب.
تقديره لأهل العلم والأدب
يُقال : إنّ أعرابياً جاء الحسين بن علي عليهالسلام وقال : يابن رسول الله ، قد ضمنتُ دية كاملة وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم الناس ، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله.
فقال الإمام الحسين عليهالسلام : «يا أخا العرب ، أسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال ، وإن أجبت عن الكلّ أعطيتك الكلّ».
فقال الأعرابي : يابن رسول الله ، أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل بيت العلم والشرف؟!
فقال الحسين عليهالسلام : «بلى ، سمعتُ جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : المعروف بقدر المعرفة».
فقال الأعرابي : سلْ عمّا بدا لك ، فإن أجبتُ وإلاّ تعلّمتُ منك ، ولا قوّة إلاّ بالله.
فقال الإمام : «أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟».
فقال الأعرابي : الإيمان بالله.
فقال الإمام : «فَما النَّجاةُ منَ المهلَكة؟».
فقال الأعرابي : الثقة بالله.
فقال الإمام : «فَما يُزيَّنُ الرَّجُلَ؟».
فقال الأعرابي : علم معه حلم.
فقال الإمام : «فَإنْ أخْطأهُ ذلِكَ؟».
فقال الأعرابي : مال معه مروءة.
فقال الإمام : «فَإنْ أخْطأهُ ذلِك؟».
فقال الأعرابي : فقرٌ معه صبر.
فقال الإمام : «فَإنْ أخْطأهُ ذلِكَ؟».
فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل عليه من السماء فتحرقه ؛ فإنّه أهلٌ لذلك.
فضحك الإمام الحسين عليهالسلام ورمى إليه بصرّة فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمته مئتا درهم ، وقال : «يا أعرابِيّ ، أعْطِ الذَّهبَ إلى غُرَمائِك ، واصْرِفِ الخاتَمَ في نفَقَتِكَ».
فأخذه الأعرابي وانصرف وهو يقول : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (15).
أسمعت بمثل هذا الدرس العملي والعلمي ، وهذا الخُلق الرفيع ، وهذه الأخلاق العالية ، وهذا الأسلوب التربوي؟!
الإمام العظيم عليهالسلام عَلِم من ذاك الأعرابي الأدب ، وتوسّم فيه الفطنة وحسن التربية ، فأراد أن يُعلّم الناس ومَنْ هم حوله ، أو الأُمّة ومَنْ يأتي بعده ، بهذا الأسلوب الحواري البسيط ، الكاشف عن شفافيّة الإمام عليهالسلام ، ومدى كرمه وتواضعه لأبناء أُمّته ، لا سيما طالب الحاجة ، فأخرج ما عنده من ظرف وأدب ، وأعطاه ما طلب منه من مال ومتاع.
لا يُقال : إنّ في ذلك إهانة للسائل ، حاشى للإمام عليهالسلام ؛ وهو الذي يقول في هذا الباب : «صاحبُ الحاجَةِ لَمْ يُكرِمْ وجْهَهُ عَنْ سُؤالِكَ ، فَأكرِمْ وَجْهَكَ عَنْ رَدِّهِ» (16).
وبهذا الأسلوب وهذه الطريقة أكرم الأعرابي أيّما إكرام حين عرَّف فضله وعلمه على الملأ ، وصار حديثه وقصّته من تراث وسنّة الإمام الحسين عليهالسلام ، وكفاه فخراً ، ومن ناحية أُخرى فإنّه أخذ المال عن استحقاق ؛ لأنّه عرف الأسئلة الثلاثة ، وهذا أيضاً درس من الإمام بأن نجعل كلّ أمورنا علميّاً وثقافيّاً ؛ لكي يُقدّر الإنسان بقدر علمه ، ومستواه الثقافي والإيماني والروحي.
عطاء المعروف بقدر المعرفة
وهذه حادثة ورواية أُخرى عن الإمام الحسين عليهالسلام ، ربما تكون أجمل وأكمل من الأولى ، أنقلها لك عزيزي القارئ ؛ حتّى لا تظنّ أن القصّة واحدة أو الرواية يتيمة.
روي أنّ أعرابياً من البادية قصد الإمام الحسين عليهالسلام فسلَّم عليه فرَّد عليهالسلام وقال : «يا أعرابِيُّ ، فيمَ قَصَدْتَنا؟».
قال : قصدتك في دية مسلّمة إلى أهلها.
قال عليهالسلام : «أقَصدْتَ أحَداً قَبْلي؟».
قال : قصدت عتبة بن أبي سفيان فأعطاني خمسين ديناراً فرددتها عليه ، وقلت له : لأقصدنَّ مَنْ هو خير منك وأكرم. قال عتبة : ومَنْ هو خير منّي وأكرم لا أُمَّ لك؟ فقلت : إمّا الحسين بن عليّ ، وإمّا عبد الله بن جعفر (ابن أبي طالب) ، وقد أتيتك بدءاً لتقيم بها عمود ظهري ، وتردّني إلى أهلي.
فقال الحسين عليهالسلام : «والذي فَلَقَ الحبَّةَ ، وبْرَأ النَّسَمَةَ ، وَتَجَلّى بالعظَمَةِ ، ما في مِلْكِ ابْنِ بنتِ نبيّكَ إلاّ مئِتا دينارِ فأعطِهِ إيّاه يا غلامُ ، وإنّي أسْألُكَ عن ثلاثِ خِصالٍ إنْ أنتَ أجبتَني عنْها أتْمَمتُها خَمْسَمئةَ دينارٍ».
فقال الأعرابي : أكلّ ذلك احتياجاً إلى علمي ، أنتم أهل بيت النُبُوَّة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة؟!
فقال الإمام الحسين عليهالسلام : «لا ، ولكنْ سَمِعتُ جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : أعطوا المعروفَ بقَدَرِ المعْرِفَة».
فقال الأعرابي : فسلْ ، ولا حول ولا قوةّ إلاّ بالله.
فقال الإمام الحسين عليهالسلام : «ما أنْجى مِنَ الهَلَكَةِ؟».
فقال : التوكّل على الله.
فقال عليهالسلام : «ما أرْوَحُ للِمُهمِّ؟».
فقال : الثّقة بالنفس.
فقال عليهالسلام : «أيُّ شيءٍ خيرٌ للعبدِ في حياتهِ؟».
قال : عقل يزينه حلم.
فقال عليهالسلام : «فَإنْ خانهُ ذلكَ؟».
فقال : مال يزينه سخاء وسعة.
فقال عليهالسلام : «فإنْ أخْطأهُ ذلك؟».
قال : الموت والفناء خير له من الحياة والبقاء.
قال الراوي : فناوله الحسين خاتمه وقال : «بعهُ بمئة دينارٍ». وناوله سيفه ، وقال : «بعْهُ بمئتي دينارٍ ، واذهبْ فقدْ أتْممتُ لكَ خمسمئة دينارٍ».
فأنشأ الأعرابي يقول :
قلقتُ وما هاجني مقلقُ / وما بي سقامٌ ولا موبقُ
ولكن طربتُ لآلِ الرَّسول / ففاجأني الشعرُ والمنطقُ
فأنتَ الهمامُ وبدرُ الظلام / ومُعطي الأنامَ إذا أملقوا
أبوكَ الذي فازَ بالمكرمات / فقصَّرَ عن وصفهِ السبُّقُ
وأنتَ سبقتَ إلى الطيّبات / فأنتَ الجوادُ وما تلحقُ
بكم فتحَ اللهُ بابَ الهدى / وبابُ الضلالِ بكم مغلَقُ (17)
هذه الدروس يلزم عرضها للعالم ؛ لكي يعي منهج أهل البيت عليهمالسلام.
وهناك رواية أُخرى قريبة من هذه ترويها كتب التاريخ والفضائل لم أنقلها ؛ لكفاية هذا الذي نحن فيه من الدلالة التربويّة ، والدروس الأخلاقيّة الرائعة للإمام الحسين عليهمالسلام في تقدير العلم والاهتمام بالثقافة ، واحترام الإنسان المتعلّم ، وبكلّ تواضع وروح شفّافة وأريحيّة لا مثيل لها ، فسلام الله عليك يا أبا عبد الله الحسين المظلوم.
المصادر:
1- الإمامة والسياسة 1 ص 73 ، كنز العمال 11 ص 642 ، الترمذي في الجامع 5 ص 592 ح3714.
2- نهج البلاغة ـ الخطبة الشقشقية.
3- بحار الأنوار 39 ص 84.
4- سورة الرعد : الآية 18.
5- الكافي 8 ص 268 ، مستدرك الوسائل 11 ص 208.
6- الأمالي ص 102 ، موسوعة البحار 27 ص 62.
7- سورة الذاريات : الآية 56.
8- سورة القلم : الآية 5.
9- مَنْ لا يحضره الفقيه 4 ص 124 ، مستدرك الوسائل 14 ص 182.
10- الإمامة والسياسة ـ ابن قتيبة 1 ص 182 ، موسوعة الثورة الحسينيّة 5 ص 330 ، سير أعلام النبلاء 3 ص 198.
11- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليهالسلام ص 750 ح910 ، جمال الخواطر 2 ص 75.
12- سورة القيامة : الآية 75.
13- تحف العقول ص 179 ، موسوعة البحار 78 ص 120.
14- قصيدة في كشف الغمّة 2 ص 212 ، راجع كلمة الإمام الحسين ـ للشهيد السيد حسن الشيرازي ص 331.
15- جامع الأخبار ص 137 ، موسوعة البحار 44 ص 196 ، وسورة الأنعام : الآية 124.
16- كشف الغمة 2 ص 208 ، الكلمة ص 123.
17- إحقاق الحقّ 11 ص 440 ، موسوعة كلمات الإمام الحسين ص 764.