الإنسان في الزمان والمكان

الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان ومكان ، منذ آدم الأوّل عليه‌السلام وحتى آخر نسمة تطأ وجه هذه الأرض ، وهو الغاية وله النهاية.
Thursday, March 9, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الإنسان في الزمان والمكان
الإنسان في الزمان والمكان

 






 


الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان ومكان ، منذ آدم الأوّل عليه‌السلام وحتى آخر نسمة تطأ وجه هذه الأرض ، وهو الغاية وله النهاية.
والإنسان يجب أن ينطلق من إنسانيته التي تميّزه عن الحيوانيّة التي تشمله ، ولولا العقل والإرادة وإمكانيّة التعلّم والتمييز بين الحسن والقبيح ، أو الخير والشرّ ، لكان شأنه شأن أيّ حيوان يسرح ويمرح في المكان والزمان الذي يولد فيه.
فإنسانيّة الإنسان هي لبّه وأصله وجوهره الذي يعوّل عليه دائماً وأبداً عند التعامل معه ؛ ولذا فإنّ غاية الشرائع السماويّة ، والرسالات الإلهيّة ، وحتى القوانين الوضعيّة ، والدساتير الحكوميّة ، هي الحفاظ على كرامة الإنسان ، على إنسانيّة الإنسان ، لتبقى في الحفظ والصوَّن ، والدفاع عنها ضدّ العوادي الخارجيّة.
والله سبحانه علّمنا هذا ، وأكّد عليه في كتابه حين قال : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (1).
والرُّسل والأنبياء عليهم‌السلام جاؤوا جميعاً لهذه الغاية المقدّسة ؛ ولذا ورد عن الإمام أبي الحسن عليه‌السلام : «حُرمةَ المؤمنِ والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندَ الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبة» (2).
وأوصياء الأنبياء عليهم‌السلام هكذا يرون ، وعليه يسيرون في حياتهم كلّها ؛ لأنّهم قادة المجتمع ، ومكلّفون بحفظ كرامة الإنسان ، وصيانة إنسانيّته من أن يتعرّض إليها أحد فيُهينها أو يذلّها ، والمواقف الإنسانيّة تصبغ حياة الإمام الحسين عليه‌السلام الذي نحن في رحابه الإنساني المميّز.
إذاً ، إنسانيّة الإنسان هي جوهره وأصله الذي تبني عليه أعماله ونواياه ، تلك هي الطينة أو الخليقة أو السّجيّة في الإنسان التي جاءت الروايات الكثيرة تعبّر عنها وتبلورها ؛ لإفهامها للبشر ولذوي الخبرة والنظر.
وفي الحديث : «كلّ يعمل على شاكلته» (3) ، أي أصل طينته التي خُلق منها ، أو الفطرة التي فطره الله عليها ، ولا تبديل لخلق الله ، والجوهرة المكنونة المخزونة في أعماق النفس البشرية هي إنسانيته التي تنعكس على مرآة حياته كأفعال أخلاقيّة راقية ، يقدِّرها كلّ الناس في كلّ عصر ومصر.

الحسين والمساكين

ومن تلك المواقف التي تفيض بالإنسانيّة ، وكلّ حياة الإمام الحسين عليه‌السلام فيّاضة بذلك ، ذاك الموقف الذي تحدّثت عنه كتب السيرة ، أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام مرَّ بمساكين قد بسطوا (مدّوا) كساءً لهم ، وألقوا عليه كسراً من
الخبز اليابس ، فقالوا : هلمَّ يابن رسول الله ، فأكل معهم ، وأجاب دعوتهم ، ثمّ تلا : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (4).
ثمّ قال : «قَدْ أجبتُكمْ فأجيبوني».
قالوا : نعم يابن رسول الله ، ونُعمى عين ، فقاموا معه حتّى أتوا منزله.
فقال للرباب (زوجته) : «أخرجي ما كُنتِ تدَّخرين». فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم (5).
وفي حادثة أُخرى ترويها كتب السيرة العطرة للإمام الحسين عليه‌السلام ، والتي تفيض عذوبة ومهابة وأخلاقاً نورانيّة ، أنّه عليه‌السلام مرَّ على فقراء يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) من أموال الصدقة ، فسلَّم عليهم فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : «لولا أنَّه صدقة لأكلتُ معكم». ثمّ دعاهم إلى منزله ، فأطعمهم وكساهم ، وأمر لهم بدراهم (6).
نعم ، لقد اقتدى المولى أبو عبد الله عليه‌السلام بجدّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسار بسيرته العطرة ، واهتدى بهداه ، فكان يخالط الفقراء ويجالسهم ، ويفيض عليهم ببرّه وفضله وإحسانه حتّى لا يتأثّر الفقير بفقره ، ولا يبطر الغني بماله. وهذا إن دلَّ على شيء يدلّ على قمَّة التواضع ، وهو درس لِمَنْ يريد قيادة الأُمّة نحو الهداية والخلاص ، وفي الجانب الإنساني للإمام الحسين عليه‌السلام تتجلّى إنسانيّة الإنسان ، ويصدّق إيمانَه اهتمامُه بالمحتاجين والفقراء في مجتمعه ، ومهما بلغ الإنسان من العلم ، أو اجتهد في العبادة ، فإنّه لن تتحقّق إنسانيته ، ولن يصح تدينه إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع. ألم يقل ربّنا سبحانه : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) (7).
فالذي يهمل الأيتام ، ولا يبالي بجوع الفقراء مكذّب بالدين ، وغير صادق في ادّعائه التديُّن وإن بالغ في صلاته وعبادته ، بل هو مستحق للويل والعذاب : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (8).
والإمام الحسين عليه‌السلام كأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام ، كانوا يعيشون للناس أكثر ممّا يعيشون لأنفسهم ، فهم مصداق الآية الكريمة : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (9) ، وفيهم نزلت.
لقد كان الإمام الحسين عليه‌السلام طوال حياته الشريفة ملاذاً للفقراء والمحرومين ، وملجأ لِمَنْ جارت عليه الأيام ، وكان يثلج صدور وقلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه السنية. ويقول عنه كمال الدين بن طلحة : وقد اشتهر النقل عنه أنّه كان يُكرم الضيف ، ويمنح الطالب ، ويصل الرحم ، ويُسعف السائل ، ويكسي العاري ، ويُشبع الجائع ، ويعطي الغارم ، ويشدُّ من أزر الضعيف ، ويشفق على اليتيم ، ويغني ذا الحاجة ، وقلَّ أنْ وَصَله مال إلاّ وفرَّقه ، وهذه سجيّة الجواد ، وشنشنة الكريم ، وسمة ذي السماحة ، وصفة مَنْ قد حوى مكارم الأخلاق ، فأفعاله المتلوَّة شاهدة له بصفة الكرم ، ناطقة بأنّه متّصف بمحاسن الشيم (10).
ويقول المؤرّخون : أنّه كان يحمل في دجى الليل البهيم الجراب ، يملؤه طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين حتّى أثَّر ذلك في ظهره الشريف ، وكان يُحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتّى يهب عامَّته (11).
زيارته للمرضى وقضاء الدين
ويروى أنّه مرض أُسامة بن زيد مرضاً شديداً ، فعاده الإمام الحسين عليه‌السلام ، فلمّا استقرَّ به المجلس سمع أُسامة يقول : واغمَّاه.
فقال له الإمام عليه‌السلام : «وما غمُّكَ يا أخي؟».
قال : ديني ، وهو ستون ألف درهم.
فقال عليه‌السلام : «هُوَ عليَّ».
قال : إنّي أخشى أن أموت.
فقال الإمام عليه‌السلام : «لَنْ تموتَ حتّى أقضيها عنكَ» (12).
وبادر الإمام عليه‌السلام فقضاها عنه قبل موته ، غاضّاً طرفه مع أنّ أُسامة كان من المتخلّفين عن بيعة أبيه أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام ، ولم يجازيه بالمثل وإنّما أغدق عليه الإحسان (13).
ذاك هو الإمام الحسين عليه‌السلام ، العملاق الذي يفيض إنسانيّة لكلّ مَنْ هم حوله ، أو هم من أُمّته ، فإذا رأى معسراً رفع عنه عسره وفرّج عنه ، وإذا مرَّ بمساكين جلس معهم وواساهم بنفسه الشريفة ، وإذا اجتاز بفقراء استأنس بهم ودعاهم إلى مأدبته ، فكان عليه‌السلام والد الأيتام ، ومعيل الأيامى والأرامل ، ومعتق العبيد والأرقّاء لوجه الله تعالى.

موقف الحسين عليه‌السلام مع جيش الحرّ

ومواقف الإمام الإنسانيّة في رحلته إلى الشهادة على صعيد كربلاء هي استثناءات عجيبة غريبة لم تتكرّر إلاّ قليلاً ، وبعضها لن يتكرّر أبداً ، كقصّته مع الحرّ الرياحي وكتيبة الطليعة التي كانت تعدُّ بألف فارس ، حين التقوا بالركب المبارك للإمام عليه‌السلام وقد كاد العطش أن يقتلهم.
فعطف عليهم وهم يريدون قتله وسقاهم عن آخرهم ، وليس الرجال فقطّ بل قال عليه‌السلام : «وَرَشِّفوا الخيلَ ترشيفاً». أي اسقوها قليلاً من الماء حتّى تقوى على المسير والحركة بمَنْ عليها من الفرسان في ذاك الحرّ الشديد.
وكتب السيرة تروي أنّه كان يسقي بعض الرجال والفرسان بيده الشريفة. وإليك يا أخي الكريم هذه الرواية العجيبة والغريبة التي كلّما قرأتها تأخذني قشعريرة وحيرة من أمري مثل ذاك الموقف الإنساني ، ولا عجب من أخلاقيّات الإمام الحسين عليه‌السلام ، ولكن كلّ العجب من اُولئك الجفاة الغلاظ الذي عاملهم الإمام بكلّ رقّة ولطافة وإنسانيّة فقابلوه بكلّ صلافة وخساسة ودناءة وجحود ، ليس للفضل والإنعام ، بل لأبسط معاني الأخلاق العربيّة أو الإنسانيّة.
سارَ الإمام الحسين عليه‌السلام مِنْ بطنِ العَقَبةِ حتّى نزلَ شَراف (14) ، فلمّا كانَ السّحر أمرَ فتيانَه فاستقَوا من الماءِ فأكْثروا ، ثمّ سارَ منها حتّى انتصفَ النّهارُ ، فبينا هو يسيرُ إذ كبَّر رجلٌ مِن أصحابِه ، فقالَ له الحسين عليه‌السلام : «الله أكبرُ ، لِمَ كَبَّرتَ؟».
فقال : رأيتُ النخلَ.
فقالَ له جماعةٌ من أصحابه : والله إنّ هذا المكانَ ما رأينا فيه نخلةً قطُّ.
فقالَ لهم الحسينُ عليه‌السلام : «فما تَرَوْنَه؟».
قالوا : نراه والله آذانَ الخيل.
قال عليه‌السلام : «أنا واللهِ أرى ذلكَ».
ثمّ قال عليه‌السلام : «ما لنا ملجأ نلجأ إليهِ فنَجْعلُهُ في ظهورنا ونستقبلُ القومَ بوجهٍ واحدٍ؟».
فقلنا له : بلى ، هذا ذو حُسْم إلى جنبكَ ، تَميلُ إليهِ عَنْ يَساركَ ، فإنْ سبقتَ إليهِ فهو كما تُريدُ ، فأخَذَ إليهِ ذاتَ اليسارِ ومِلنا معهُ ، فما كان بأسرعَ من أن طلعتْ علينا هوادي الخيل (أعناقها) فتبينّاها وعدلْنا.
فلمّا رأوْنا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيبُ (ذكور النحل) ، وكأنّ راياتِهم أجنحةُ الطيرِ ، فاستبقْنا إلى ذي حُسْم فسبقْناهم إليه ، وأمرَ الحسينُ عليه‌السلام بأبنيتهِ (خيامه) فَضُرِبَتْ له خيمةَ ، وجاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرَّ بن يزيدَ (الرياحي) التّميمي حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الحسين عليه‌السلام في حَرِّ الظّهيرةِ ، والحسين عليه‌السلام وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدون بأسيافِهم.
فقال الحسين عليه‌السلام لفتيانه : «اسْقوا القومَ ، وأرْووهُمْ منَ الماء ، ورشِّفوا الخيلَ ترشيفاً».
ففعلوا وأقبلوا يملؤون القِصاعَ والطّساس من الماء ثمّ يُدنونها من الفرسِ ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ ، حتّى سَقَوها (الخيل) كلَّها.
قالَ عليُّ بنُ الطعَّان المُحاربي : كنتُ معَ الحُرِّ يومئذٍ ، فجئتُ في آخرِ مَنْ جاءَ من أصحابهِ ، فلمّا رأى الحسين عليه‌السلام ما بي وبفرسي منَ العطشِ ، قالَ : «أنِخِ الراوية». والراويةُ عندي السِّقاءُ ، ثمَّ قالَ عليه‌السلام : «يابن أخي ، أنخِ الجملَ». فأنَخْتُهُ.
فقال : «اشربْ». فجعلتُ كلّما شربتُ سالَ الماءُ من السِّقاء (دون فائدة لي).
فقالَ الحسين عليه‌السلام : «اخنِثِ السِّقاءَ». أي أعطفْه ، فلم أدْرِ كيفَ أفعلُ ، فَقامَ فَخَنثَه فشربتُ وسقيتُ فرسي (15).
أرأيت مثل هذا الفعل ، أو سمعت بمثله؟!
جيشٌ يأتي إليه ليحاربه وبهذا الحجم الضخم الفخم ؛ (لأنّه طليعة الجيش وعادة يكون من أفضل الفرسان والمقاتلين) ، يلتقون به وهم على شفا الهلاك والهاوية (هم ودوابّهم) من شدّة العطش وحرِّ الظهيرة ، فبدلاً من أن يبيدهم عن آخرهم ويغنم كلّ ما معهم من خيول وجمال ومتاع ، وكان ذلك سهلاً عليه ، يسقيهم ويرشف خيولهم ليقويهم على نفسه الشريفة ، وعلى أصحابه الأفاضل الكرماء ، وهم قادمون له ليقتلوه ومَنْ معه جميعاً ، مع إنّ الحسين وأهل بيته وأصحابه كانوا بحاجة إلى هذا الماء في تلك الصحراء القاحلة.
وتنقل كتب السيرة أنّ أحد أصحابه قال له عليه‌السلام : يا مولاي دعنا نقاتل هؤلاء ونغتنم ما هم فيه ؛ فإنّ قتالهم علينا أسهل.
فقال عليه‌السلام : «ما كنت لأبدأهم بقتال».
إنّ هذا لعجب عجاب!
ولكن ، لو تدري يا عزيزي القارئ ما الذي فعله هؤلاء وجيشهم العرموم على بطاح كربلاء ، وحين التقوا بالإمام الحسين عليه‌السلام وأهله وأصحابه ، وأحاطوه إحاطة السوار بالمعصم ، أو القلادة بالجيد؟!
أوَ تدري أنّ أوّل سلاح استخدموه ـ من خِستِّهم ودناءتهم ، وحقارة أنفسهم ، وتفاهة قادتهم ـ هو التعطيش بمنع الماء عن معسكر الإمام الحسين عليه‌السلام ومَنْ معه من ثقل عظيم من نساء وأطفال وبنات آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!
يسقيهم ليُقوِّيهم ، ويعطِّشونه ليقتلوه! فوا عجباً ماذا يصنع الإيمان والكفر بالإنسان؟!
فهذا السلاح الدنيء الخسيس ورثه جيش ابن سعد الأموي من جدّهم معاوية بن أبي سفيان ، حين حاول منع جيش الإمام علي عليه‌السلام من شرب الماء في موقعة صفين الشهيرة ، ولم يسقوهم إلاّ عنوة وبحدّ السيف ، وبمعركة شنيعة انتصر فيها جيش الإمام علي عليه‌السلام على أصحاب معاوية وجلوهم عن الفرات ومنعوهم منه بالقوّة والقهر.
ولو منعوهم نهائياً من الماء لأنصفوهم ؛ لأنّهم أوّل مَنْ بدأ بالإساءة والخساسة ، ودفع الشرّ بالشرّ ممكن ، ولكنّ مناقب الإمام علي عليه‌السلام وأخلاقه الإيمانية الرائعة أبت عليه أن يُقابل الشرّ إلاّ بالخير ، والسيئة إلاّ بالحسنة ، والضلال إلاّ بالهُدى ، وعندما قال له أصحابه : نمنعهم من الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ومنعونا ، فلا حاجة لنا إلى الحرب.
أبى ذلك وقال عليه‌السلام : (دعوهم والماء ، فليشربوا وليغسِّلوا وليتوضؤوا ، وما لكم إلاّ السيف وساحة المعركة رجالاً نقاتل رجالاً ، فاتركوا القوم والماء لنا ولهم على حدِّ سواء). وأمّا معاوية وأصحابه فإنّهم قالوا عندما احتلّوا شطّ الفرات : (لا والله ، لا ندعهم يشربون حتّى يموتوا عطشاً) (16).
هذه المناقب العالية هي أمرٌ طبيعي وعادي في سجِّل أهل البيت الأطهار عليهم‌السلام ، وهم كتاب الله الناطق ، ألم يقل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «لكلِّ شيءٍ زكاة ، وزكاةُ الظفرِ بعَدوِّك العفوُ عنْه» (17).
والإمام الحسين هو شبل الأمير عليّ عليهما‌السلام ، ويزيد هو جرو معاوية ، ورحم الله مَنْ قال : (وكلّ إناء بالذي فيه ينضح).
فالإمام الحسين عليه‌السلام ينضح ويفيض بالخير والنور والهداية ؛ لأنّه منبعها وأصلها ، فيكون كالشمس الضاحية يستفيد منها كلّ شيء ؛ الجماد والنبات والحيوان ، وكلّ يأخذ منها حاجته ، وتبقى هي في كبد السماء عالية لا تُطال ولا تُنال حتّى بالعين المبصرة ؛ لأنّها إذا حدقت فيها عميت تماماً كما أثبت العلم الحديث.

رأفة الحسين عليه‌السلام بالحيوان

ورأفة الإمام عليه‌السلام ورحمته تشمل الحيوانات مع البشر كما مرّ قبل قليل ، ولكنّ القصّة العجيبة كانت مع فرسه في أحلك الظروف وأدقّها وأرقّها على قلبه الشريف ، وذلك ما ترويه كتب التاريخ والسيرة عنه عليه‌السلام.
يروي أبو مخنف عن الجلودي أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام حمل على الأعور السلمي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة ، وأقحم الفرس على الفرات ، فلمّا أولغ (دخل وخاض) الفرس برأسه ليشرب ، قال عليه‌السلام :
«أنتَ عطشان ، وأنا عطشان ، والله لا أذوق الماءَ حتّى تشرَب». فلمّا سمع الفرس كلام الحسين عليه‌السلام شال (رفع) رأسه ولم يشرب ، وكأنّه فَهِمَ الكلام (18).
الإمام الحسين عليه‌السلام لا يقدِّم نفسه المقدّسة على فرسه الذي يركبه ، والفرس ينفض الماء ويرفض أن يشرب قبل سيّده وصاحبه ، فيا ويلهم اُولئك الغلاظ كيف كانوا يشربون ويتلذذون بماء الفرات ، والإمام الحسين عليه‌السلام ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونساؤه وأطفاله وعيالات أصحابه يصرخون : العطش العطش؟!
كيف فعلوا ذلك؟ لا أدري والله العظيم إلاّ أنّني أُردّد قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (19).
فالفرس أفضل مِن كلّ مَنْ كان هناك ، وهم زهاء ثلاثون ألف مقاتل على أقل التقادير ، وإلاّ فإنّ بعض التواريخ تنقل مئات الألوف شربوا الماء والإمام الحسين عليه‌السلام عطشان ..
العباس عليه‌السلام وعطش الأطفال والنساء
ألم يسمعوا ويروا موقف ساقي عطاشى كربلاء أبي الفضل العباس (سلام الله عليه)؟! إليكم طرفاً من قصّته الطويلة بطول قامته :
في التاريخ الإسلامي العظيم كان العباس عليه‌السلام السَّقاء ، قمر بني هشام ، صاحب لواء الإمام الحسين عليه‌السلام وهو أكبر إخوته ، وأُمّه فاطمة بنت حزام الكلابية ، فلمّا رأى وحدة الحسين عليه‌السلام بحيث لم يبقَ معه أحد من أصحابه وأهل بيته ، أتاه وقال : هل من رخصة (للبراز والقتال)؟
فبكى الحسين عليه‌السلام ـ وهو محتضن أخاه أبا الفضل ـ بكاءً شديداً.
قال : «يا أخي ، أنتَ صاحِبَ لُوائي ، وإذا مَضَيْتَ تَفرَّق عَسكَري».
فقال العباس عليه‌السلام : قد ضاق صدري وسئمت الحياة ، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.
فقال الحسين عليه‌السلام : «إنْ كانَ ولا بدّ فاطْلبْ لِهؤلاءِ الأطفال قليلاً مِنِ الماء».
فمضى العباس بعد الوداع يطلب الماء من الفرات وعليه أربعة آلاف فارس ، فحملوا عليه وحمل هو عليهم ، وجعل يقول :
لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقى / حتّى اُوارى في المصاليتِ لقى
نفسي لنفسِ المصطفى الطّهرِ وقا / إنّي أنا العباسُ أغدو بالسقا
ولا أخافُ الشرَّ يومَ الملتقى
ففرّقهم ، حتّى إذا دخل الماء وأراد أن يشرب غرف غرفة من الماء فذكر عطش أخيه الحسين وأهل بيته عليهم‌السلام ، فرمى الماء على الماء وقال :
يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني / وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني
هذا الحسينُ واردُ المنونِ / وتشربينَ باردَ المعينِ
تاللهِ ما هذا فعالُ ديني / ولا فعالُ صادقِ اليقينِ
ثمّ ملأ القربة وحملها متوجّهاً نحو الخيمة ، فقطوا عليه الطريق ، وأحاطوا به من كلّ جانب ، فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة ، وعاونه حكيم بن الطفيل فضربه على يمينه فقدّها ، فأخذ السيف بشماله وحمل عليهم ، وهو يرتجز :
واللهِ إن قطعتمُ يميني / إنّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ / نجلِ النبي الطاهرِ الأمينِ
فقاتل حتّى ضعف ، فكمن له عدّو الله من وراء نخلة فضربه على شماله فقطها كذلك ، فقال عليه‌السلام :
يا نفسُ لا تخشي من الكفّارِ / وأبشري برحمةِ الجبّارِ
مع النبي السيّدِ المختارِ / قد قطعوا ببغيهم يساري
فأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ
ثمّ جاء سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها ، فوقف متحيّراً ؛ لا ماء حتّى يوصله إلى الخيمة ، ولا يد حتّى يُحارب بها ، وبينما هو كذلك وإذا بسهم أصاب عينه ، ثمّ ضربه ظالم لعين بعمود من حديد على رأسه فانقلب عن فرسه ، وصاح أخاه الحسين عليه‌السلام قائلاً : يا أخي أدرك أخاك.
فلمّا أتاه الحسين عليه‌السلام ورآه صريعاً على شاطئ الفرات بكى ، وقال : «الآن انكَسَرَ ظَهري ، وقلَّتْ حيلتي ، وشَمَتَ بي عَدوّي».
ثمّ توجّه إلى القوم ، وأنشأ يقول :
تعدَّيتمُ يا شرًّ قومٍ بفعلكم / وخالفتمُ قولَ النبيِّ محمّد
أما كانَ خيرُ الرُّسلِ وصّاكم / بنا أما نحنُ من نسلِ النبيِّ المسدَّد
أما كانتِ الزَّهراءُ أُمّيَ دونكم / أما كانَ من خيرِ البريّةِ أحمد
لُعنتم وأُخزيتم بما قد جَنيتم / فسوفَ تُلاقوا حرَّ نارٍ توقَّد (20)
أهكذا يكون الوفاء؟ أوَ هذه هي الإنسانيّة التي جُبل البشر عليها؟ إنّ فعل الأُباة والكرماء يُنبئك عن طيب طينتهم ، والعكس صحيح ، ففعل الجفاة الغلاظ من الدناءة والحقارة يخبرك عن خبث طينتهم بأنّها حمئة خبيثة نتنة ، فتسافلت بهم إلى أسفل من البهائم العجماء ، وذاك أسفل سافلين في الدنيا ، ولهم في الآخرة أسفل سافلين في النار ، وغضب الجبّار والعياذ بالله.

الذنب الفظيع في قتل الرضيع

وإذا كان لديك شكّ في تلك المسوخات التي كانت تحيط بالإمام الحسين عليه‌السلام على صعيد كربلاء ، فإليك ما فعلوه بالطفل الرضيع (عبد الله بن الإمام الحسين عليه‌السلام وأُمّه الرباب) ، فإنّ ذلك لن يدع لديك أيّ شكّ من خروج اُولئك من البشرية ، وتجرّدهم من صفات الإنسانيّة كلّها.
كان من أفجع وأقسى ما نُكب به الإمام الحسين عليه‌السلام هو رزيته بولده عبد الله الرضيع الذي لم يتجاوز من العمر ستة أشهر ، فقد كان الطفل كالبدر في بهائه ، وعند عودة الإمام من مصرع العباس عليه‌السلام وقف في باب الخيمة ، ونادى ولده علياً وأخته زينب الكبرى عليهما‌السلام وقال : «يا أختاه ، اُوصيك بولدي الصغير خيراً».
فقالت له : يا أخي إنّ هذا الطفل له ثلاث أيّام ما شرب الماء ، (وقد جفَّ اللبن في ثدي أُمّه لشدّة العطش) ، فاطلب له شربة من الماء.
فأخذ منها الطفل (وهو يتلوَّى من شدّة الحرّ والعطش ، وكان يُغمى عليه ، وقد غارت عيناه ، وذبلت شفتاه) ، وتوجّه نحو القوم ، وقال : «يا قَوم ، قَدْ قَتلُتمْ أخي وأولادي وأنصاري ، وما بَقِيَ غَيرَ هذا الطفل ، وَهوَ يَتلظّى عَطَشاً مِنْ غيرِ ذَنبٍ أتاهُ إليكمُ ؛ فاسْقوهُ شَربةً منْ ماء».
وفي (نفس المهموم) قال عليه‌السلام : «يا قومَ ، إنْ لَمْ ترحَمُوني فارْحَموا هذا الطفل».
فاختلف القوم فيما بينهم ، فمنهم مَنْ يقول : اسقوه الماء ، ومنهم مَنْ يقول : لا تسقوه الماء.
فقال بعضهم : إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار ، وإنّه لطفل رضيع؟!
فصاح بهم الإمام الحسين عليه‌السلام : «وَيَلكُمْ! خُذوهُ وأنتمْ اسْقوُه الماءَ».
فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة بن كاهل ، وقال : اقطع نزاع القوم يا حرملة.
فقال هذا اللعين : أأعطيه شربة ماء؟!
فقال ابن سعد : بل ، ألا ترى إلى بياض نحر الطفل في حجر والده؟
فوضع حرملة بن كاهل (وقيل : عقبة بن بشير الأزدي) سهماً في قوسه ورماه به ، فوقع في نحر الطفل فذبحه من الوريد إلى الوريد ، فلما أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط ، وراح يرفرف بهما على صدر والده العظيم كالطير المذبوح ، فراح عليه‌السلام يتلقّى دمه الشريف في يديه ويرميه إلى السماء ؛ لكي لا يقع إلى الأرض ، فلم تسقط منه قطرة ، كما يؤكّد الإمام الباقر عليه‌السلام في روايته.
والإمام المفجوع يبكي ويقول : «هَوِّنَ عليَّ ما نَزَلَ بِي أنَّهُ بِعَينِ اللهِ تعالى. اللَّهُمَّ لا يَكُنْ أهوَن عَليكَ مِنْ فَصيلِ ناقة صالح».
«إلهي ، إنْ كُنتَ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ فَاجْعَلهُ لِما هُوَ خيرٌ مَنهُ ، وانْتَقِمْ مِنْ الظَالِمين ، وَاجْعلْ مَا حلَّ بِنا في العاجِل ذَخيرةً لنا في الآجلِ».
«اللهمَّ أنتَ الشاهِدُ عَلى قَوْمٍ قَتَلوا أشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُوِلكَ مُحَّمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله» (21).
وبراوية أُخرى :
«إنَّهُمْ قَد عمدوا أن لا يُبقوا أحداً من ذريّة رسولك صلى‌الله‌عليه‌وآله». وهو يبكي بكاءً شديداً ، ويناجي ربّه بهذه الكلمات : «اللهمَّ أنت تعلمُ أنّهم دعونا لينصرونا فخذلونا وأعانوا علينا. اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، واحرمهم بركاتك ، اللّهمّ لا تُرضِ عنهم أبداً. اللّهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في الدنيا فاجعله لنا ذخراً في الآخرة ، وانتقم لنا من القوم الظالمين» (22).

 

المصادر :
1- سورة الإسراء : الآية 70.
2- بحار الأنوار 50 ص 244 ، وسائل الشيعة 14 ص 537.
3- الكافي 2 ص 16 و 85 ، وسائل الشيعة 1 ص 50.
4- سورة النحل : الآية 23.
5- تاريخ ابن عساكر 3 ص 54.
6- أعيان الشيعة 4 ص 140.
7- سورة الماعون : الآية 1 ـ 2.
8- سورة الماعون : الآية 4 ـ 7.
9- سورة الحشر : الآية 9.
10- حياة الإمام الحسين بن علي 1 ص 128.
11- ريحانة الرسول ص 71.
12- مناقب ابن شهر آشوب 4 ص 65.
13- أعيان الشيعة 4 ص 104.
14- شراف : موضع بنجد (معجم البلدان 3 ص 331).
15- إرشاد المفيد 2 ص 77 ـ 78.
16- مروج الذهب وتاريخ الأُمم والملوك ـ للطبري ، وشرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد 3 ص 318 ، و 10 ص 257 ، وينابيع المودّة ـ للقندوزي باب 51.
17- ليالي بيشاور ص 468.
18- مناقب آل أبي طالب ـ لابن شهر آشوب 4 ص 58.
19- سورة الفرقان : الآية 44.
20- موسوعة البحار 45 ص 40.
21- حياة الإمام الحسين عليه‌السلام 3 ص 276.
22- ينابيع المودة ص 415 ، ونفس المهموم ص 349

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.