
قد يقترح البعض ضرورة إكثارنا من ذكر مصادر أهل السنة والجماعة حين الكلام عن جزئية « حيّ على خير العمل » وعدم الاكتفاء بما نقلناه ، بل عدم استساغة ما روته طرق الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، والزيدية ، والإسماعيلية وبعض علماء أهل السنّة عن أهل البيت والصحابة ، بزعم أنّ ذلك ليس ملزِماً للآخرين.
هذا الكلام قد يكون له مساغ لو ضربنا بمعطيات التاريخ عرض الجدار ؛ إذ الموقف تجاه المتغيّرات في التاريخ والحديث ، وما فعلته ريشة الحكام بالنصوص والموازين ، وخنقهم لكلّ ما هو أصيل مما لا يعجبهم ، وخصوصاً بعد أن اتّضح لنا دور الأمويين في التحريف والتعتيم ، كلّ ذلك يدلّك على سرّ انحسار مثل نصوص الحيعلة الثالثة في مدرسة الخلفاء.
بل إن تصريح الإمام الباقر والإمام زيد وغيرهما بأن عمر بن الخطاب كان وراء رفع « حيّ على خير العمل » إنّما ينم عن الظروف القاسية العصيبة التي جعلت المعاجم الحديثية العامية تكاد تخلو من أمثال هذه الأحاديث رغم ثبوتها على عهد رسول الله ؛ فرأينا أنّه لا محيص من الرجوع إلى التاريخ ، للوقوف على مجريات الأحداث ، ومنها الوقوف على صحّة وأصالة ما قالته الشيعة وما جاء في الروايات اليتيمة في كتب الفقه والحديث عند أهل السنّة والجماعة ، ومن خلال عرضنا للمسألة من وجهة نظر تاريخية سيقف القارئ على جواب القول السابق وأمثاله.
إنّ ثبوت « حيّ على خير العمل » لم يقتصر على العلويين ـ حسنيين كانوا أم حسينيين ـ بل تعدّاهم إلى بعض أهل السنة والجماعة ، وقد مرّ عليك ما كان بأيديهم من بقايا هذا الأذان الأصيل.
من المعلوم أنّ المسلمين انقسموا بعد وفاة رسول الله إلى نهجين :
الأوّل : نهج الصحابة.
والثاني : نهج أهل البيت.
وعُرف النهجان بالتخالف فيما بينهما في كثير من المسائل ، بحيث تجاوز حدَّ النزاع حول الإمامة والخلافة ليشمل كافّة مجالات الشريعة وأحكامها.
وبمعنى آخر : إنّ الخلاف الحاصل بين النهجين قد تجاوز الصعيد السياسيّ ليشمل أصعدة أخرى فكريّة وعقائدية واجتماعية. وفي حال اعتبار مصدر تشريع الأحكام في الفقه من الأُمور المهمّة والحسّاسة جدّاً ، فلا عجب أن ترى بين قادة النهجين أحكاماً فقهيّة متضادّة ، قد تصل إلى حدّ التناقض في المسألة الواحدة ، فتجد ما يقوله عمر بن الخطاب يخالف ما يقوله عليّ بن أبي طالب تماماً ، فعلى الرغم من التزام وتعبّد عليّ عليه السلام بمنهج رسول الله في جواز المتعة مثلاً ، ترى اجتهاد عمر شاخصاً أمامك في قبال شريعة رسول الله ، محرّما للمتعتين ، قائلاً : « أنا أُحرمهما وأُعاقب عليهما ».
لقد أخذ أهلُ السنّة الكثيرَ من فقههم من مجتهدي الصحابة الاوائل ، وخصوصاً الخلفاء ، وانتهجوا سيرة الشيخين ، ولهذا فإنّ الكثير من موارد المنع في فقه أهل السنّة والجماعة يرجع أساساً إلى سنّه عمر بن الخطاب وغيره من مجتهدي الصحابة. وقد تمحّل له علماء هذا النهج فحملوا كلّ ما لا يرتضونه من الروايات والأحكام المغايرة لاجتهادات السلف على النسخ والوضع. ولكي يضفوا صبغة شرعية على تلك الأحكام تراهم ينسبون روايات إلى رسول الله تؤيّد ما ذهبوا إليه.
وإيماناً منا بضرورة دراسة ملابسات مثل هذه الأمور في الشريعة ورفع الستار عنها ، خصصنا هذا الفصل كي نؤكّد على أن الصراع حول جزئية « حيّ على خير العمل » بين الطالبيين والنهج الحاكم له جذوره وأصوله العقائدية والتاريخية ، ولم يكن صراعاً سياسياً بحتاً ، وهذا إن دّل على شيء فإنما يدّل على عمق الخلاف بين الفريقين.
إذ إن استمرار الصراع العقائدي السياسي لمدة طويلة من الزمن ينبئ عن وجود أصل شرعي مُختلَف فيه عندهم.
ولمّا كان النهج الحاكم ـ على مرّ العصور ـ يدعو إلى « الصلاة خير من النوم » تبعاً للخليفة الثاني والأمويين من بعده ، ولمّا كان الطالبيون لا يؤمنون بشرعية هذا الجزء ، فمن المؤكد أن يكون عدم إتيان الحفّاظ والمحدّثين بما يدل على شرعيّة « حيّ على خير العمل » في الصحاح والسنن قد كان خاضعاً لأمور سياسية.
إنّ الطالبيّين قد وقفوا أمام مثل هذه الهجمات بكلِّ قوّة ، وبذلوا كلّ ما يمكنهم في التعبير عن عدم الرضوخ أمام تغيير السنّة ، وقد كلّفهم ذلك الكثير الكثير ، وتحمّلوا المصاعب العظام من أجل الحفاظ على سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله ومنها الإتيان بـ « حيّ على خير العمل » في أذانهم. وقد جرت بين الطرفين مناوشات كلامية اتّهم فيها كلّ طرف منهما الآخر بالانحراف والبدعة ، محافظاً على شعاريته ، ورافضاً شعارية الطرف الآخر بكل عنف.
ومن يتصفّح التاريخ يجد بين طيّاته صوراً حيّة لمدى قوّة تمسّك الطالبيّين بهذا الجزء من الأذان ، حتّى وصلت الحال في بعض الفترات إلى أن يكون هو الشعار المحرِّك للثوار والثورة في مراحل مختلفة من التاريخ.
لقد تمسّك الطالبيّيون بـ « حيّ على خير العمل » وقدّموا قرابين نفيسة من أجل إبقائها سنّة حتّى صارت شعاراً للشيعة في كلّ الأصقاع ، وصبغة عقائديّة يُميَّزون بها عن غيرهم ، وقد استمدّوا العزم من مواقف أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الذي قال حين سمع أذان ابن النبّاح بـ « حيّ على خير العمل » : « مرحباً بالذي قال عدلاً ، وبالصلاة مرحباً وسهلاً »(1).
وقد تجلّت مواقف الشيعة بوضوح في موقف الحسين بن عليّ ـ صاحب فخّ ـ وغيره من الطالبيين الذين أصرّوا على إعلانها جهاراً في الأذان. (2)
وإليك مجمل الحركات الشيعيّة في العصر العباسي الأول « 132 ـ 232 » :
1. حركة محمّد النفس الزكيّة في المدينة سنة 145هـ ، في عهد المنصور العباسي.
2. حركة إبراهيم ـ أخي النفس الزكية ـ في البصرة سنة 145هـ .
3. حركة الحسين بن علي ( صاحب فخّ ) في المدينة سنة 169هـ ، في عهد الخليفة الهادي.
4. حركة يحيى بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد الديلم سنة 175هـ ، في عهد هارون الرشيد.
5. حركة إدريس بن عبدالله ـ أخي النفس الزكيّة ـ في بلاد المغرب سنة 172هـ ، في عهد الرشيد.
6. حركة محمّد بن إبراهيم وأبي السَّرايا في الكوفة سنة 199هـ ، في عهد المأمون.
7. حركة محمّد بن جعفر الصادق في مكة سنة 200هـ ، في عهد المأمون.
8. حركة أبي عبدالله ( أخي أبي السرايا ) في الكوفة سنة 202هـ ، في عهد المأمون.
9. حركة إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة 200هـ ، في عهد المأمون.
10. حركة عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن محمّد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب في اليمن سنة 207هـ ، في عهد المأمون.
11. حركة محمّد بن القاسم بن عمر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب في خراسان سنة 219هـ ، في عهد المعتصم.
وعليه فلا يصح ما قاله البعض من عدم صحّة تلك الأخبار أو نسخها أو... ، بل الأمر يرجع إلى أمور أعمق مما يقولون ، والحوادث التاريخية تؤكّد ما قلناه.
إنّ متابعة السير التاريخيّ للأذان وما آل إليه في « حيّ على خير العمل » يكشف لنا عن أُمور عديدة متمادية الأطراف ترجع جذورها إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وآله . ويمكن تلمّس ذلك بوضوح من خلال دراسة التاريخ والسيرة والحديث ، وهذه المسألة من الأهميّة بمكان ، بحيث إنّك كلّما بحثت في مسألة من مسائلها تفتّحت لك أبواب مسائل أُخرى ذات ارتباط عميق بها ، ولا يمكنك تركها أو التهاون بها ، فالمسألة أكبر من كون « حيّ على خير العمل » شعار الشيعة و « الصلاة خير من النوم » شعار السنّة.
صحيح أنَّ الحركات التغييريّة التي قادها الشيعة عبر فترات التاريخ المختلفة تُبيِّنُ أنَّهم قد أظهروا مسألة « حيّ على خير العمل » في الأذان كعنصر تحدٍّ وتعاملوا معها كشعارٍ لهم ـ كما حصل في الدولة الفاطميّة في مصر ، والدولة الزيدية في طبرستان ، والبويهية في بغداد ، والحمدانية في حلب ـ إلاّ أنَّ ذلك لا يتجاوز ظاهر المسألة.
ذلك أنّ مصادر الحديث والتاريخ والسيرة تُظِهر لنا بأنّ « حيّ على خيرالعمل » لها جذور وأصالة شرعيّة ، فهي أوسع من أن تتضيق في زاوية كونها شعار فرقة أو طائفة أو مذهب.
نعم ، كان بلال يؤذِّن بها في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد أذّن مرّة أو مرّتين للزهراء والحسنين في زمن أبي بكر ولم يُتمّ أذانه . ويظهر من جمع الأدلة المارّة وما قلناه أنّه كان يؤذن ب ـ « حيّ على خير العمل » ، ولذلك امتنع عن الأذان في زمن أبي بكر وبعده في زمن عمر بن الخطّاب ؛ إذ جاء في الخطط للمقريزيّ ( ت 845هـ ) وغيره :
( ... وأنَّ عمر أراده أن يؤذِّن له فأبى عليه ) (2) لماذا ؟!
إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما ذكره المقريزيّ في باب ( ذكر الأذان بمصر وما كان فيه من الاختلاف ) وربطنا ذلك بما توصّلنا إليه من السير التاريخيّ لمسألة الأذان فيما يخصّ المسألة المبحوثة وشعاريّتها ، وما أُثير حولها من محاولات عامدة للحؤول دون ترسيخها في قلوب المسلمين .
وجمعنا ذلك مع ما بحوزتنا من رواياتنا ورواياتهم فسنحصل على ثمرة يانعة تشفي غليل المتطّلع الى الحقيقة ، وعلى نتيجة جليّة لا غبار عليها ، ويستبين عندئذ أنّها لا تتعدَّى كونها في أصلها شعيرة إلهيّة وشعاراً إسلاميّاً أصيلاً يحمل وراءه نهجاً إسلامياً فكرياً يتبع « الرمز » القدوة الحسنة الذي دعا القرآن الكريم إلى الاقتداء به ، ويرمي بعيداً كلّ ما يمتّ بِصلة إلى الاجتهاد بالرأي والاستحسان المقابل لمنهجيّة التعبّد المحض ؛ ذلك أن « حيّ على خير العمل » سنّة نبويّة ، أمّا « الصلاة خير من النوم » فهي دعوة مُستحدَثة لا تمثل جانباً من رؤية الإسلام.
ولدى مرورنا بالنصوص والأحداث سنوضح ـ وفق منهجنا ـ ملابسات المسألة خلال الصراع الأموي العلوي ثمّ الصراع العباسي العلوي ، والسلجوقي البويهي ، والأيوبي الفاطمي ، وكيفية نشوء الحركات الشيعية في الأمصار ، وذلك فيه التجسيم الحقيقي للصراع بين الرفض والإذعان ، أو قل صراع الأصوليين الإسلاميين ضد الحكّام الأمويين أو العباسيين ومن حذا حذوهم.
لأنّ أصحاب النهج الحاكم ـ أمويّين وعباسيّين و غيرهم ـ كانوا يَدْعُون إلى اتّباع سيرة الشيخيين على نحو الخصوص. أما الثوار والمعارضون من الطالبيين فكانوا يذهبون إلى شرعية خلافة الإمام عليّ وأولاده المعصومين ويَدْعون الناس إلى اتّباع نهج عليّ وولده.
وقد بدأ الخلاف بين النهجين أولاً في موضوع الخلافة ومن هو الأحّق بها ، وهل هناك تنصيب من الله ، أم أنّ الأمر شورى بين الأمة ـ أو أصحاب الحَلّ والعقد منهم ـ ؟ ثمّ انجرّ هذا الخلاف إلى الشريعة ، فوجدنا أحكاماً تُغيَّر وأخرى تُستحدَث ، إما دعماً لمواقف الخليفة ، أو للتعرف على رجال الطالبيين ، أو لغيرهما من العلل والأسباب.
وقد استفحل هذا الخلاف بعد مقتل عثمان بن عفان ، فانقسم المسلمون إلى فئتين كبيرتين :
فجلّ أهل البصرة وأهل الشام كانوا ذوي أهواء عثمانيّة في الانتماء الفكري والسياسي ، وأهل الكوفة والأنصار من أهل المدينة وعدد كبير من أهل الحجاز كانوا علويّي الفكرة والعقيدة.
وبعد استشهاد الإمام عليّ وصلح الإمام الحسن تم استيلاء معاوية بن أبي سفيان على الحكم ، فغلبت العثمانيّة على مجريات الأحداث وانحسر الطالبيّون فبدؤوا يعيشون حالة التقيّة.
المصادر :
1- من لا يحضره الفقيه 1 : 288 ح 890 ، وانظر : كتاب الأذان بحيّ على خير العمل : 48 ،50 للحافظ العلوي.
2- الخطط المقريزية 2 : 270.