منشأ الماسونية

أصبحت الماسونية لحداثة عهدها في هذه الديار موضوعًا لأبحاث القوم على اختلاف المذاهب والنزعات؛ فمِن نَصِير مدافِع عن صحة مبادئها مبالِغ في وجوب كتمان أحوالها، وعدوٍّ مشدد النكير ومختلق الأراجيف عليها، يقول في ذلك أقوالًا ما
Tuesday, March 28, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
منشأ الماسونية
منشأ الماسونية

 






 

أصبحت الماسونية لحداثة عهدها في هذه الديار موضوعًا لأبحاث القوم على اختلاف المذاهب والنزعات؛ فمِن نَصِير مدافِع عن صحة مبادئها مبالِغ في وجوب كتمان أحوالها، وعدوٍّ مشدد النكير ومختلق الأراجيف عليها، يقول في ذلك أقوالًا ما أنزل الله بها من سلطان. وعندي أن السبب في ذلك إنما هو شدة محافظة أعضائها على التستر في أعمالهم، إلى حدٍّ أوجب إساءة الظنون واختلاف الأقاويل، على أننا لو نظرنا إلى الحقيقة لما رأينا في المكاشفة ما يشينها؛ إذ ليس بين أعمالها ما يكسبها إلَّا فخرًا، ولا بين مبادئها إلَّا ما يرفع منزلتها ويفحم مَن أراد بها شرًّا؛ لأن مبادئها أشرف المبادئ، وغايتها من أشرف الغايات.
على أننا لم نسْعَ إلى إخفاء تلك المبادئ أو التظاهر بغير تلك الغاية، ولكنَّا لم نَنْجُ من سهام الملام وضروب التعنيف، وقد أصبح الناس لا يعتقدون صِدْق ما يظهر من أعمالنا، ولو كانت كالشمس وضوحًا، بناءً على أن وراء تلك الأعمال غاية لا تزال متسترة في خدر الاجتماعات السرية. فعندهم أننا لو أخلصنا النية وأردنا بالناس خيرًا، لما كان ثَمَّ ما يمنع اجتماعنا جهارًا، فيظهر الحق لذي عينين لأن الحق أبلج.
والظاهر لديَّ أن هذه الجمعية لم تؤسَّس على شعائر يجب أن تبقى محجوبة إلى الأبد، على أن ما لم يزل محجوبًا منها ليس بالأمر المهم لدى الجمهور، وإنما هي إشارات ورموز جُعِلت واسطة يتعارف بها أبناءُ تلك العشيرة، فيتميَّزون بها من سواهم، ولعل المانع من التصريح بها أن الناس لم يبلغوا في هيئتهم الاجتماعية مبلغًا يؤهِّلهم من الاطلاع عليها جهارًا، ولكن سيأتي زمن لا يبقى فيه بين أبناء تلك الجمعية وسائر الناس حجاب أو شبه حجاب، ومَنْ يَعِشْ يَرَ.
ولما كان التاريخ مرآة الأحوال، كانت الطريقة المثلى لتبيان حقيقة غاية هذه الجمعية .
ما برحت الماسونية من يوم نشأتها على قِدَم عهدها عرضةً لألسنة القوم، يسلقونها بألسنة حداد ويسومونها ما شاءوا وشاءت الخيلاء من الأمور الصعاب. وقد ساءوا بها ظنًّا فأرادوا بها سوءًا، وهي بحمد ربك راسخة الأصول قويمة العماد حليفة السداد، لا تزيد إلا انتشارًا، ولا تدفع إلا أمورًا كبارًا، ذلك لأن عمادها الفضيلة وغايتها الكمال، ونصراءها أبناء الحرية الذين لا تأخذهم الصيحة ولا هم غافلون.
أيها العقلاء، إن الماسونية تخاطبكم فاسمعوا لها وهذا قولها: «مهلًا سادتي أرعوني من فضلكم أُذُنًا صاغية وقلبًا واعيًّا، وأرغب إليكم أن تبقوا حكمكم فيما أقول حتى آتي على النهاية. لقد أسأتم بي ظنًّا وأردتم بي سوءًا، على حين أني لم أنفك منذ القِدَم مصدرًا لتمدُّنكم وفيئًا لأعاظمكم، أجمع شتاتهم وأبذل النفيس في مرضاتهم. أَلَمْ أكن مدرِّبة لحكامكم مدبِّرة لأحكامكم، ساعية في نشر الفضيلة بينكم؟
أَلَمْ أردع أقوياءكم حين ظَلموا وأنصِفُ ضعفاءكم حين ظُلموا؟ كم سقطتم فأنهضتكم! وكم تبعثرتم فجمعت شتاتكم! وكم كنت نصيرة للعدل والمساواة بينكم ولم أتعرض لكم في شيء من دينكم!
وإني في كل ذلك لم أكلفكم أجرًا، ولم أغادر من داعيات فَلَاحِكُم أمرًا، فما ضركم إذا كنت أفعل ذلك سرًّا أو جهرًا؟!
إذا قلت لكم هذه مقاصدي فافهموها، قلتم هذه بهرجة وإن وراء الأكمة ما وراءها، وأبيتم إلا أني حييت لإماتة الفضيلة، واجتمعت لتشتيت السلطة والديانة، فلا أدري كيف أخاطبكم، ولا بأي السبل أتطرق إلى إقناعكم، رغمًا عن شدة رغبتي في الإخلاص لكم والتقرب منكم، قيامًا بما تفرضه عليَّ الإنسانية وتأمرني به الواجبات الماسونية.
أراكم تشددون النكير على أن من وراء التستر ما يوجب المظنَّة، وإلا فالمكاشفة أولى وأحرى. على أني ألتمس لكم على ذلك بعض العذر، سيما وإن كل محجوب مرغوب.
غير أني لا أخفي عنكم أن ليس بين أسراري ما يهمكم استطلاعه، إنما هي إشارات ورموز جُعِلت واسطة للتعارف بين أبنائي المختارين، فلا يقوى غير المختار على التلبس بالدعوى، فيسترق من حقوقهم المقدسة ما ربما لا يكون له أهلًا فيفسد في الأرض، فإذا كثر أمثاله عمَّتِ البلوى، وربما آلت إلى انفصام عروتي والعياذ بالله.
ولا يفوتكم أيضًا أن القوم إذا تعاهدوا على أمر باجتماع الأيدي، يزيد ائتلاف قلوبهم إذا جعلوا بينهم ما يتعارفون به ويكون خاصًّا بهم.
تلك سُنَّةٌ قد جرى عليها كثيرات من أترابي في الأزمنة الخالية بين سائر الأمم المتمدنة في الهند وآشور ومصر وفينيقية وسوريا واليونان وغيرها. لم يكن دأبهن إلا رَفْع منار العلم والفضيلة حيث أَقَمْنَ، وقد لاقين كما لاقيت وأُلَاقِي أنا بينكم، وقد ثبتن كما ثبتُّ وأثبت إن شاء الله.
فأنا على بينة من شريف مقاصدي وعظيم فوائدي، لا شيء يوقفني عن السعي وراءها، ولا أبالي بما يتهمني به المتهمون، أو يقوله القائلون على غير هدى. على أني لم أعدم نصراء من ملوككم وسلاطينكم وعلمائكم وفلاسفتكم وقادة أديانكم.
فما أنا خاشية سطوتكم، ولا أنا راجية نُصْرتكم؛ إنما أتقدم إليكم بلسان الصدق أن تعتقدوا صدق نيتي فيما أرجوه لكم من الإصلاح في دنياكم، ولله ما وراء ذلك وهو على كل شيء رقيب.»
منشأ الماسونية
للمؤرخين في منشأ هذه الجمعية أقوال متضاربة، فمن قائلٍ بحداثتها، فهي على قوله لم تدرك ما وراء القرن الثامن عشر بعد الميلاد، ومنهم مَن سار بها إلى ما وراء ذلك، فقال إنها نشأت من جمعية الصليب الوردي التي تأسست سنة ١٦١٦ب.م ومنهم مَن أوصلها إلى الحروب الصليبية.
وآخرون تتبعوها إلى أيام اليونان من الجيل الثامن قبل الميلاد، ومنهم مَن قال إنها نشأت في هيكل سليمان، وفئة تقول إن منشأ هذه الجمعية أقدم من ذلك كثيرًا، فأوصلوها إلى الكهانة المصرية والهندية وغيرها. وبالَغَ آخرون في أن مؤسسها آدم، والأبلغ من ذلك قول بعضهم إن الله سبحانه وتعالى أسَّسها في جنة عدن، وإن الجنة كانت أول محفل ماسوني، وميخائيل رئيس الملائكة كان أول أستاذ أعظم فيه. إلى غير ذلك من الأقوال المبنية على مجرد الوهم.
والسبب في تفاوت هذه الأقوال وتضاربها طموس التاريخ الماسوني قبل القرون المتأخرة؛ لأن الماسونية كما لا يخفى جمعية سرية، ونظرًا لما كان يتهددها من الاضطهادات المتواترة في الأجيال المظلمة وغيرها، كانت تبالغ في إخفاء أوراقها إخفاءً، ربما لا يعود يتيسَّر معه لمَن يبقى حيًّا بعد الاضطهاد أن يكتشفها، هذا إذا لم يعثر عليها المضطهدون ويعدموها حرقًا.
ولكنهم نهضوا مؤخرًا إلى جمع تاريخ هذه الجمعية، فعثروا على أوراق قديمة العهد أمكنهم الاستدلال منها ومن غيرها — مع ما هو محفوظ في أعمالها الحاضرة من التقاليد — أن يتوصلوا على سُبُلٍ مختلفة إلى إتمامه، على أنهم مع ذلك لا يزالون في تضارب من حيث منشؤها على ما تقدَّمَ.
ولكلٍّ منهم أدلة على صحة رأيه لا نرى لها محلًّا هنا، فضلًا عن أنها لا تأتي بفائدة إذا ذكرناها. وقد طالعت جميع هذه الآراء بالتمعُّن الممكن، وقابلت أدلتها من غثٍّ وسمين مستعينًا بالاستدلال والاستقراء، مع مراعاة النصوص التاريخية غير الماسونية من قديم وحديث، فوصلت إلى نتيجة أشرحها للقارئ على ما يأتي، وأظنها أقرب إلى الحقيقة، والله الموفِّق إلى الصواب.
وجد الإنسان على سطح هذه الكرة عرضة للعوامل الكثيرة المحيطة به، والمؤثرة على طبيعته تأثيرات تختلف نوعًا ومقدارًا باختلاف الزمان والمكان؛ فنتج من ذلك اختلاف الأفراد بالقوة بدنًا وعقلًا، فامتاز بعضهم بالقوة العقلية، وبعضهم بالقوة البدنية، وامتاز آخرون بالقوة البدنية والعقلية معًا.
ولما كان للإنسان احتياجات لا مفرَّ له من السعي وراءها، مع ما طُبِع عليه من حب الأثرة والسيادة، التجأ الضعيف إلى القوي يستنصره أو يستجير به أو يستشيره في حاجاته، فحصل الاجتماع الإنساني على أبسط حالاته.
والإنسان على فِطْرته ميَّال للبحث عن أصل الموجودات وتعليل الحوادث. وأول حادث استوقف تصوراته تَوَالِي الليل والنهار؛ فكان يراقب الشمس وهي تسير من الشرق إلى الغرب، ثم تتوارى وراء الأفق، ثم تعود فتظهر في الغد، ثم تسير فتتوارى كالأمس، ثم تعود فتشرق وتتوارى على الدوام، وكان ينظر إلى الأجرام السماوية وكثرة عددها نظر الاندهاش.
وكان في أشهر الربيع يرى الطبيعة مكسوة حلة كثيرة الألوان، تبهج النظر وتشرح الصدر، والأثمار كثيرة والأعشاب يانعة، ثم إذا جاء الشتاء تمر عليه أشهر والسماء مطبقة ليلًا ونهارًا والمطر يتساقط مدرارًا، فيمنعه من الجولان سعيًا وراء رِزْقه، ثم ربما رافق ذلك بروق ورعود وصواعق، فكان ينذعر، وربما فَرَّ من أمام البرق خشية أن يخطف أبصاره، ومن الرعد لئلا يكون جبلًا منقضًّا عليه من أعالي الجو فيسحقه، ويجعل أصابعه في آذانه من الصواعق، ويهرول طالبًا ملجأ في الكهوف والمغر. وهو إذ ذاك في ظلمات من الجهل لا تزيده إلا اضطرابًا ودهشة؛ فأجهد فكرته يطلب تعليلًا لذلك جريًا على ما فُطِر عليه من حبِّ البحث، فشاور كبيره وعاقله فأجمعوا على أن للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية قوة وسلطة، وهي التي تبعث الأمطار، وتنبت الأثمار، وترسل البرق الذي يخطف الأبصار، ثم تتبعه بالرعد والصواعق إرهابًا وتهديدًا؛ فعبدوها وتديَّنوا لها على أساليب تفوق الحصر، والشورى في ذلك والرأي لكبارهم وعاقليهم.
ومعلوم أن تسلُّط الفئة العاقلة وانقياد الفئة الجاهلة إليها من النواميس الطبيعية المقررة.
فانتشرت هذه العبادة بين أولئك القوم وامتدت إلى نسلهم، فمرت بهم أجيال وهم يضيفون إليها ويحورونها طبقًا لما اختبروه من حوادث يومهم وأمسهم. وكان يرافق كل ذلك تقدُّمٌ في هيئتهم الاجتماعية على مقتضيات بيئاتهم، فوُجِدت بينهم العلوم والصنائع، فأقيم عليهم نوع من الحكومة تدبِّر أعمالهم.
كل ذلك بتدبير تلك الفئة العاقلة، فوصلوا إلى ما ندعوه بالقبائل، حتى إذا تمصروا وانتظمت هيئتهم وارتقت أفكارهم فكَّروا في أمر ما كانوا يعبدون، فرأت تلك الفئة العاقلة أن تعبُّدَهم لتلك الأجرام المنظورة ضربٌ من العبث، فأجهدوا الفكرة فاهتدوا إلى عبادة الإله غير المنظور. على أنهم لم يستطيعوا تصوره إلا بعد أن استنارت عقولهم بالعلم والاختبار، فأصبحوا إذا أرادوا إفهام العامة شيئًا من ذلك لا يستطيعون، فلم يتحول هؤلاء عما كانوا يعبدون.
فالأمة في هذه الحال كانت مؤلَّفة من فئتين كبيرتين تحتهما فئات كثيرة، الفئة الواحدة وهي التي بيدها زمام البلاد دينيًّا وسياسيًّا وعلميًّا وصناعيًّا، وهم جماعة الحكام والكهنة، وقد تكونان الكهنة والجنود فقط، والفئة الأخرى باقي الشعب من فعلة وخدمة ورعاة وباعة وتراجمة وملاحين، فقد كان في يد هذه الفئة العاقلة جميع علوم ذلك العصر ومعارفه وصنائعه، من بناء وفلك ورياضيات وطب وموسيقى وفلسفة أدبية ودينية وغيرها، وكانت لا تسمح بتعليمها إلا لمَن تختبر فيه اللياقة والمقدرة على اكتسابها واستعمالها، ووضعوا لانتقاء اللائقين من الراغبين شروطًا وقوانين بالغوا في المحافظة عليها.
ذلك كان شأن الأمم التي تمدنت قديمًا في مصر والهند وآشور وفينيقية وسوريا واليونان وغيرها، فكانت فيها تلك الفئات من الفلاسفة تُدعَى غالبًا بالكهنة وعلومهم بأسرار الكهانة. وكان بين طرق تعليمهم وشروط قبول الراغبين في الاشتراك معهم من المشابهة، ما يحمل على القول بوحدة أصلهم أو بتفرُّع جمعياتهم بعضها من بعض.
المصدر : من /تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان

 



ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.