في ٢٢ أكتوبر سنة ١٧٧٤ قرَّر الشرق الأعظم الفرنساوي وجوب تأسيس محافل إقليمية فاستشار، فقُدِّمت له لوائح عديدة فاختار منها واحدةً، من مقتضاها أن فرنسا عمومًا تُقسَّم إلى ٣٢ مقاطعة أو إقليم، وعاصمة كلٍّ من هذه الأقاليم تكون مركزًا للمحفل الأعظم الإقليمي، وهذا المحفل يتألف من رؤساء المحافل الحاليين والسابقين وبعض مندوبي المحافل التي هي في مقاطعته.
ولكلٍّ من المحافل العظمى الإقليمية الحق بإرسال نائب ينوب عنه أمام الشرق الأعظم، ومن مجتمع هؤلاء النواب تتألف لجنة تنظر في أحوال الماسونية بوجهٍ عامٍّ، تنتقد سيرها وتبحث فيما تحتاج إليه من الإصلاح، وتراقب أعمال المحافل وتلاحظ محافظتها على القوانين وتنفيذها لأوامر الشرق الأعظم، ولهذه اللجنة الحق بفصل ما يقع من النزاع بين الإخوة والمحافل، وعليها الاستعداد لتعيين الموظفين في الوقت المعين وللنظر في المذكرات التي تُلقَى أمامها وغير ذلك. وهي تقابل اللجنة المستديمة في الشرق الأعظم المصري.
فصادفت هذه اللائحة مصادقة الشرق الأعظم، إلا أنها قلما صادقت تنشيطًا. فلم ينشأ إلا أربعة أو خمسة محافل إقليمية أقدمها محفل ليون، وأصبح الشرق الأعظم ينظر إلى تلك اللائحة نظر الارتياب. وفي ٢٩ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٨١٠ أبطلها.
وقد كان موظفو الشرق الأعظم يلازمون وظائفهم مدة حياتهم، إلا الأستاذ الأعظم، ففي ٢٧ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٧٧٤ التأَمَ الشرق الأعظم، فاستدعى لكسمبرج ووافقه كثيرون من الموظفين أن يجعل تعيينهم في تلك الوظائف لمدة ثلاث سنوات فقط، وأن للشرق الأعظم بعد ذلك أن ينتخب خلافهم وتقرَّر ذلك، فقال الأستاذ الأعظم إنه هو أيضًا يطلب مثل ذلك في تعيينه، فلم يوافقوه.
واحتفالًا بذلك الاجتماع واحترامًا لذلك القرار أُطلِق ٣٥ مسجونًا من الإخوة الذين سُجِنوا لتأخرهم في دفع ما كان عليهم من مصاريف بيوتهم وغيرها، وآخرون كانوا تحت طائلة القصاص أُفرِج عنهم.
وفي ٢٥ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٧٧٥ حضر الأستاذ الأعظم بنفسه لتكريس محفل لاكاندرو في باريس.
ومن هذه الجمعيات جمعية أنشأها رجل كان يُدعَى يوسف بلسمو، ثم دُعِي كاليوسترو، ودُعِي أيضًا بأسماء وألقاب أخرى كثيرة. وُلِد في بالرمو من أعمال إيطاليا سنة ١٧٤٣، ولما شَبَّ درس المبادئ الطبيعية من كيمياء وفلسفة طبيعية وغيرها، بعد أن تزوَّج في رومية بلورنزا المشهورة بالجمال، ثم سافر إلى بطرسبرج وكان يدعي نفسه تارةً ماركيس بلليجريني، وتارةً الكونت فيلكس، ولكن في الأغلب كان يُدعَى كونت كاليوسترو، وكان يدَّعِي تارةً السحر وطورًا استخراج الذهب أو إتيان المعجزات.
إلى غير ذلك من الخزعبلات التي كان يتخذها وسيلةً لسلب مال الناس؛ فالتف حوله بعض الطلبة وكان ينفث فيهم من تعاليمه، ويشترط عليهم أن لا يأكلوا إلا مآكل معلومة، واشترط عليهم مثل ذلك في الشرب واللباس وسائر حاجيات العيش، ولم يكن ذلك كل ما اقترفه هذا الرجل، فإنه تطرَّق بمساعيه وما اكتسبه من النفوذ إلى الالتحاق بالماسونية، فقُبِل سنة ١٧٧٠ في أحد محافل لندرا على نية أنهم يطَّلِعون منه على شيء من تعاليم جمعية الروسيكروسيان، فتلقَّى الدرجات الثلاث في ليلة واحدة.
وأَدْخَل امرأته معه على أمل أن تكون معضدة له في مقاصده. ثم سار إلى جرمانيا وهناك تعرَّف بمحفل «ستريكت أو بسرفانس»، فانضم إليه ثم سافر مصحوبًا ببعض المنشورات الماسونية التي تحصل عليها ببعض سُبُل الخداع، وجعل يعلِّم في الناس تعليمًا جديدًا، واستحدث طريقة ماسونية دعاها «الطريقة المصرية»، أنشأ عليها جمعية انتشرت تعاليمها على الخصوص في فرنسا.
وكان هو رئيسها واسمه «الكوفتا الأعظم»، وهو لقب الكهنوت في مصر، وامرأته «الكوفتين العظمى»، وأعضاء هذه الجمعية كانوا يُعرَفون بالكوفتا والكوفتين؛ لأن الجمعية كانت على فرعين فرع للرجال وآخَر للنساء، وكان كاليوسترو يكرِّس الرجال وامرأتُه تكرِّس النساء، وكانت رئيسة محفل النساء تُدعَى «ملكة شبا».
أما ما كان ينتظره المنتظمون في سلك هذه الجمعية فإطالة العمر، وكانوا ينتحلون للحصول عليه طرقًا مختلفة رجالًا ونساء، وكان كاليوسترو يستخدم أحيانًا حجر الفلاسفة على زعمه، فيحوِّل سائر المعادن إلى الذهب، لكنه لم يكن يحصِّل درهمًا من الذهب إلا بعد أن ينفق على تحويله قيمة أربعة دراهم.
وفي سنة ١٧٧٩ سار إلى كورلاند وأسَّس فيها عدة محافل، وتوصَّل إلى مقابلة كاترينا إمبراطورة روسيا بواسطة الكونتس إليزا، إلا أنها لما اتصل بها ما كان من نفاقه، أشهرت أمره بمنشورات تُرجِمت إلى اللغة الروسية، فعاد إلى فرنسا فلاقى هناك صدورًا مفتوحة ترحابًا به، وبالغ الفرنساويون في تعظيمه، حتى إنهم كانوا يلقِّبونه أحيانًا بكاليوسترو الإلهي، وكانوا يتبركون بصورته لا سيما الشرفاء، فيجعلونها قلادة في أعناقهم، وصورة امرأته زينة لخواتمهم وسائر مصاغهم وأدواتهم.
وفي سنة ١٧٨٢ سار إلى ليون، وهناك أسَّس المحفل المصري الرئيسي، ودعاه «محفل انتصار الحكمة». ومن هذا المحفل نشأت محافل عدة نال بها مالًا كثيرًا.
فلما رأى الباريسيون ما كان من نفوذ هذا الرجل في ليون، تاقوا بكليتهم إلى استجلابه إليهم، فتمكَّنوا من ذلك، فلاقى بينهم إكرامًا عظيمًا، فحدَّثته نفسه أن يترأس على كل المحافل الماسونية، لكن حدسه هذا لم يتحقَّق قبل أن ظهرت خزعبلاته فترصده البوليس، ففَرَّ من فرنسا قبل الثورة الفرنساوية وسار إلى لندرا، ومنها إلى رومية، وهناك قُبِض عليه وأُودِع السجن في ٢٧ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٧٨٩. وبعد المحاكمة مدة طويلة حُكِم عليه بالإعدام، فعفا عنه البابا، فتحول الحكم إلى الأشغال الشاقة مدة الحياة، فتوفي سنة ١٧٩٥.
• (١) أنه لا يجوز للمحافل الماسونية أن تطبع شيئًا وتنشره قبل مصادقته عليه.
• (٢) أن السِّنَّ الشرعي للأخ التلميذ ٢١ سنة، وللرفيق ٢٣ سنة، وللأستاذ ٢٥ سنة.
ثم رأى الأستاذ الأعظم بعد ذلك اتخاذ رابط وطيد يمنع تطرق الدسائس إلى العشيرة، فارتأى أن يُتَّفَق سرًّا على كلمة مخصوصة دعاها كلمة الستة أشهر، يتلقنها الإخوة وتُستبدَل كل ستة أشهر، وبها يمكنه زيادة المحافل، وبواستطها يُعرَف أنه ماسوني حقيقي، فعرض رأيه على الجلسة فاستحسنته وقرَّرته.
وفي أثناء ذلك كانت الدرجات العليا آخِذة في الانتشار رويدًا رويدًا، حتى أصبح لها شأن رفيع، فاضطر الشرق الأعظم الفرنساوي إلى التساهل فيما كان مُصِرًّا عليه، وأن يقبل الدرجات العليا، فبحث في شأن تحوير نظاماته، إلا أن اللجنة التي تعيَّنت لذلك لم تكن راضية باعتماد الدرجات العليا، فلم تحور شيئًا.
وفي سنة ١٧٨٢ تعيَّنت لجنة تحت اسم «مجلس الدرجات» لتفحص الدرجات العليا فحصًا جيدًا، وبعد البحث والتحري مدة خمس سنوات عرضت نتيجة عملها إلى الشرق الأعظم، وقرَّرت انتخاب أربع منها، وهي:
• (١) درجة «المنتخب».
• (٢) درجة «شفاليه المشرق».
• (٣) درجة «اسكوتسيا».
• (٤) درجة «شفاليه الصليب الوردي».
وانتخابها مبني على أن تعاليمها شبيهة بالتعاليم الماسونية، فصادَق الشرق الأعظم على قرار اللجنة، وصرَّح أن هذه الدرجات الأربع هي الدرجات العليا التي يقبلها الشرق الأعظم تحت رعايته بصفة قانونية.
إلا أن ذلك لم يَأْتِ بعواقب حسنة؛ لأن بعض المحافل التابعة للشرق اعتبرت ذلك التصريح بدعةً لا طائل تحتها، ورؤساء وأعضاء مجامع الدرجات العليا اعتبروه إباحةً لأسرارهم، فكان الرفض متبادلًا من الجانين.
إلا أن الشرق الأعظم لم يتحول عن خطته، وحمل كثيرين من رؤساء الطرق الأخرى على الاتحاد معه تعزيزًا لجانبه، وطلب أن يكون هو المترئِّس على المحافل الرمزية في فرنسا، وتعهَّد أن لا يتداخل مطلقًا في طرق اشتغالها، ولا يمنعها من التصريح بالتبنية في الدرجات العليا من طرقها. ولم يكن ذلك إلا كالكتابة على الماء، على أنه استفاد من ذلك بأنه قلَّل عدد أعدائه، وانضم إليه كثيرون من رؤساء الطرق، فكان على موازاة مع المحفل الأعظم الذي جدَّد شبابه سنة ١٧٨١.
وفي سنة ١٧٨٣ نشر المحفل الأعظم إلى ما تحته من المحافل لائحةً تتضمن ما هو مزمع اتخاذه من المشروعات.
وما زال الخصام قائمًا بين الشرق الأعظم والمحفل الأعظم، إلى أن أتت الثورة الفرنساوية فوضعت حدًّا لهذه المشاكل، لكنها قسَّمت أيضًا الفرق الماسونية إلى قسمين.
ا لمصدر :
من کتاب / تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان
ولكلٍّ من المحافل العظمى الإقليمية الحق بإرسال نائب ينوب عنه أمام الشرق الأعظم، ومن مجتمع هؤلاء النواب تتألف لجنة تنظر في أحوال الماسونية بوجهٍ عامٍّ، تنتقد سيرها وتبحث فيما تحتاج إليه من الإصلاح، وتراقب أعمال المحافل وتلاحظ محافظتها على القوانين وتنفيذها لأوامر الشرق الأعظم، ولهذه اللجنة الحق بفصل ما يقع من النزاع بين الإخوة والمحافل، وعليها الاستعداد لتعيين الموظفين في الوقت المعين وللنظر في المذكرات التي تُلقَى أمامها وغير ذلك. وهي تقابل اللجنة المستديمة في الشرق الأعظم المصري.
فصادفت هذه اللائحة مصادقة الشرق الأعظم، إلا أنها قلما صادقت تنشيطًا. فلم ينشأ إلا أربعة أو خمسة محافل إقليمية أقدمها محفل ليون، وأصبح الشرق الأعظم ينظر إلى تلك اللائحة نظر الارتياب. وفي ٢٩ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٨١٠ أبطلها.
وقد كان موظفو الشرق الأعظم يلازمون وظائفهم مدة حياتهم، إلا الأستاذ الأعظم، ففي ٢٧ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٧٧٤ التأَمَ الشرق الأعظم، فاستدعى لكسمبرج ووافقه كثيرون من الموظفين أن يجعل تعيينهم في تلك الوظائف لمدة ثلاث سنوات فقط، وأن للشرق الأعظم بعد ذلك أن ينتخب خلافهم وتقرَّر ذلك، فقال الأستاذ الأعظم إنه هو أيضًا يطلب مثل ذلك في تعيينه، فلم يوافقوه.
واحتفالًا بذلك الاجتماع واحترامًا لذلك القرار أُطلِق ٣٥ مسجونًا من الإخوة الذين سُجِنوا لتأخرهم في دفع ما كان عليهم من مصاريف بيوتهم وغيرها، وآخرون كانوا تحت طائلة القصاص أُفرِج عنهم.
وفي ٢٥ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٧٧٥ حضر الأستاذ الأعظم بنفسه لتكريس محفل لاكاندرو في باريس.
مقاومات ودسائس
ثم إن الماسونية قاست بعد ذلك دسائس كبيرة من جمعيات مختلفة المقاصد، كانت تتلبس بها، منها جمعية «ستريكت أوبسرفانس» يقال إن الجزويت أسَّسوها لمقاومة الماسونية، وسعوا بها إلى فصم عروتها، ولكنهم لم يأتوا على ما أرادوا. كل ذلك لإغفال الماسونيين مراعاة القواعد الأساسية من قوانينهم.ومن هذه الجمعيات جمعية أنشأها رجل كان يُدعَى يوسف بلسمو، ثم دُعِي كاليوسترو، ودُعِي أيضًا بأسماء وألقاب أخرى كثيرة. وُلِد في بالرمو من أعمال إيطاليا سنة ١٧٤٣، ولما شَبَّ درس المبادئ الطبيعية من كيمياء وفلسفة طبيعية وغيرها، بعد أن تزوَّج في رومية بلورنزا المشهورة بالجمال، ثم سافر إلى بطرسبرج وكان يدعي نفسه تارةً ماركيس بلليجريني، وتارةً الكونت فيلكس، ولكن في الأغلب كان يُدعَى كونت كاليوسترو، وكان يدَّعِي تارةً السحر وطورًا استخراج الذهب أو إتيان المعجزات.
إلى غير ذلك من الخزعبلات التي كان يتخذها وسيلةً لسلب مال الناس؛ فالتف حوله بعض الطلبة وكان ينفث فيهم من تعاليمه، ويشترط عليهم أن لا يأكلوا إلا مآكل معلومة، واشترط عليهم مثل ذلك في الشرب واللباس وسائر حاجيات العيش، ولم يكن ذلك كل ما اقترفه هذا الرجل، فإنه تطرَّق بمساعيه وما اكتسبه من النفوذ إلى الالتحاق بالماسونية، فقُبِل سنة ١٧٧٠ في أحد محافل لندرا على نية أنهم يطَّلِعون منه على شيء من تعاليم جمعية الروسيكروسيان، فتلقَّى الدرجات الثلاث في ليلة واحدة.
وأَدْخَل امرأته معه على أمل أن تكون معضدة له في مقاصده. ثم سار إلى جرمانيا وهناك تعرَّف بمحفل «ستريكت أو بسرفانس»، فانضم إليه ثم سافر مصحوبًا ببعض المنشورات الماسونية التي تحصل عليها ببعض سُبُل الخداع، وجعل يعلِّم في الناس تعليمًا جديدًا، واستحدث طريقة ماسونية دعاها «الطريقة المصرية»، أنشأ عليها جمعية انتشرت تعاليمها على الخصوص في فرنسا.
وكان هو رئيسها واسمه «الكوفتا الأعظم»، وهو لقب الكهنوت في مصر، وامرأته «الكوفتين العظمى»، وأعضاء هذه الجمعية كانوا يُعرَفون بالكوفتا والكوفتين؛ لأن الجمعية كانت على فرعين فرع للرجال وآخَر للنساء، وكان كاليوسترو يكرِّس الرجال وامرأتُه تكرِّس النساء، وكانت رئيسة محفل النساء تُدعَى «ملكة شبا».
أما ما كان ينتظره المنتظمون في سلك هذه الجمعية فإطالة العمر، وكانوا ينتحلون للحصول عليه طرقًا مختلفة رجالًا ونساء، وكان كاليوسترو يستخدم أحيانًا حجر الفلاسفة على زعمه، فيحوِّل سائر المعادن إلى الذهب، لكنه لم يكن يحصِّل درهمًا من الذهب إلا بعد أن ينفق على تحويله قيمة أربعة دراهم.
وفي سنة ١٧٧٩ سار إلى كورلاند وأسَّس فيها عدة محافل، وتوصَّل إلى مقابلة كاترينا إمبراطورة روسيا بواسطة الكونتس إليزا، إلا أنها لما اتصل بها ما كان من نفاقه، أشهرت أمره بمنشورات تُرجِمت إلى اللغة الروسية، فعاد إلى فرنسا فلاقى هناك صدورًا مفتوحة ترحابًا به، وبالغ الفرنساويون في تعظيمه، حتى إنهم كانوا يلقِّبونه أحيانًا بكاليوسترو الإلهي، وكانوا يتبركون بصورته لا سيما الشرفاء، فيجعلونها قلادة في أعناقهم، وصورة امرأته زينة لخواتمهم وسائر مصاغهم وأدواتهم.
وفي سنة ١٧٨٢ سار إلى ليون، وهناك أسَّس المحفل المصري الرئيسي، ودعاه «محفل انتصار الحكمة». ومن هذا المحفل نشأت محافل عدة نال بها مالًا كثيرًا.
فلما رأى الباريسيون ما كان من نفوذ هذا الرجل في ليون، تاقوا بكليتهم إلى استجلابه إليهم، فتمكَّنوا من ذلك، فلاقى بينهم إكرامًا عظيمًا، فحدَّثته نفسه أن يترأس على كل المحافل الماسونية، لكن حدسه هذا لم يتحقَّق قبل أن ظهرت خزعبلاته فترصده البوليس، ففَرَّ من فرنسا قبل الثورة الفرنساوية وسار إلى لندرا، ومنها إلى رومية، وهناك قُبِض عليه وأُودِع السجن في ٢٧ ديسمبر (كانون الأول) سنة ١٧٨٩. وبعد المحاكمة مدة طويلة حُكِم عليه بالإعدام، فعفا عنه البابا، فتحول الحكم إلى الأشغال الشاقة مدة الحياة، فتوفي سنة ١٧٩٥.
السن الشرعي وكلمة الستة أشهر
فملافاةً لمثل هذه الحوادث اضطر الشرق الأعظم إلى وضع قوانين جديدة، فالتأَمَ في ٢١ فبراير (شباط) سنة ١٧٧٧، وقرَّر:• (١) أنه لا يجوز للمحافل الماسونية أن تطبع شيئًا وتنشره قبل مصادقته عليه.
• (٢) أن السِّنَّ الشرعي للأخ التلميذ ٢١ سنة، وللرفيق ٢٣ سنة، وللأستاذ ٢٥ سنة.
ثم رأى الأستاذ الأعظم بعد ذلك اتخاذ رابط وطيد يمنع تطرق الدسائس إلى العشيرة، فارتأى أن يُتَّفَق سرًّا على كلمة مخصوصة دعاها كلمة الستة أشهر، يتلقنها الإخوة وتُستبدَل كل ستة أشهر، وبها يمكنه زيادة المحافل، وبواستطها يُعرَف أنه ماسوني حقيقي، فعرض رأيه على الجلسة فاستحسنته وقرَّرته.
التحاق الفيلسوف ﭬﻮلتير بالماسونية
وفي سنة ١٧٧٨ انضم الفيلسوف الشهير فولتير إلى الماسونية في محفل «التسع أخوات»، قدَّمه إلى الهيكل فرنكلين وكونت جبلين، وكانت امتحاناته مقصورة على بعض مسائل أدبية مع إغفال الامتحانات الأخرى الاعتيادية، بعد انضمامه بيسير نُقِل إلى الشرق الأعظم، وكان من أهم أعضائه، وأصبحت المحافل بعد ذلك على رغبة شديدة في الأبحاث العلمية والفلسفية، فلم تكن تنعقد جلسة إلا ويجول فيها الأعضاء بالأبحاث الفلسفية والتاريخية والصناعية، وازدادت رغبتهم في عمل الخير، وكانوا يجمعون في جلساتهم كميات وافرة من النقود تُنفَق في سبيل البر.إدخال درجات عليا في الشرق الأعظم
وفي ١٨ يناير (كانون الثاني) سنة ١٧٨٨ قرَّر المحفل الأعظم القديم وجوب نشر أسماء موظفيه في الجرائد بعد الانتخاب، واستمروا عليه بعد ذلك. ثم نشأت محافل أخرى أكثرها ليس من الماسونية بشيء، وكانوا لا يعترفون بسلطة الشرق الأعظم الفرنساوي، فاضطر الشرق الأعظم أن يجعل حدًّا لسلطته، فصرَّح لكل محفل أن يتخذ الخطة التي يريدها، فأصبحت سلطته محصورة في المحافل التابعة للطريقة الفرنساوية، وقد فعل ذلك دَفْعًا لما كان موجَّهًا نحوه من التهم بمعارضته للجمعيات الأخرى، إلا أنه كان لا يزال ساعيًا تحت طي الخفاء إلى تعميم سلطته وتعاليمه.وفي أثناء ذلك كانت الدرجات العليا آخِذة في الانتشار رويدًا رويدًا، حتى أصبح لها شأن رفيع، فاضطر الشرق الأعظم الفرنساوي إلى التساهل فيما كان مُصِرًّا عليه، وأن يقبل الدرجات العليا، فبحث في شأن تحوير نظاماته، إلا أن اللجنة التي تعيَّنت لذلك لم تكن راضية باعتماد الدرجات العليا، فلم تحور شيئًا.
وفي سنة ١٧٨٢ تعيَّنت لجنة تحت اسم «مجلس الدرجات» لتفحص الدرجات العليا فحصًا جيدًا، وبعد البحث والتحري مدة خمس سنوات عرضت نتيجة عملها إلى الشرق الأعظم، وقرَّرت انتخاب أربع منها، وهي:
• (١) درجة «المنتخب».
• (٢) درجة «شفاليه المشرق».
• (٣) درجة «اسكوتسيا».
• (٤) درجة «شفاليه الصليب الوردي».
وانتخابها مبني على أن تعاليمها شبيهة بالتعاليم الماسونية، فصادَق الشرق الأعظم على قرار اللجنة، وصرَّح أن هذه الدرجات الأربع هي الدرجات العليا التي يقبلها الشرق الأعظم تحت رعايته بصفة قانونية.
إلا أن ذلك لم يَأْتِ بعواقب حسنة؛ لأن بعض المحافل التابعة للشرق اعتبرت ذلك التصريح بدعةً لا طائل تحتها، ورؤساء وأعضاء مجامع الدرجات العليا اعتبروه إباحةً لأسرارهم، فكان الرفض متبادلًا من الجانين.
إلا أن الشرق الأعظم لم يتحول عن خطته، وحمل كثيرين من رؤساء الطرق الأخرى على الاتحاد معه تعزيزًا لجانبه، وطلب أن يكون هو المترئِّس على المحافل الرمزية في فرنسا، وتعهَّد أن لا يتداخل مطلقًا في طرق اشتغالها، ولا يمنعها من التصريح بالتبنية في الدرجات العليا من طرقها. ولم يكن ذلك إلا كالكتابة على الماء، على أنه استفاد من ذلك بأنه قلَّل عدد أعدائه، وانضم إليه كثيرون من رؤساء الطرق، فكان على موازاة مع المحفل الأعظم الذي جدَّد شبابه سنة ١٧٨١.
وفي سنة ١٧٨٣ نشر المحفل الأعظم إلى ما تحته من المحافل لائحةً تتضمن ما هو مزمع اتخاذه من المشروعات.
وما زال الخصام قائمًا بين الشرق الأعظم والمحفل الأعظم، إلى أن أتت الثورة الفرنساوية فوضعت حدًّا لهذه المشاكل، لكنها قسَّمت أيضًا الفرق الماسونية إلى قسمين.
ا لمصدر :
من کتاب / تاريخ الماسونية العام / جُرجي زيدان