إنّ من أهمّ واجبات الإمام الحسين عليه السلام هو رعاية المجتمع الإسلامي عن كَثَب ، وملاحظة كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة الاجتماعيّة ، ورصدها ومحاولة إصلاحها وإرشادها ، ودفع المفاسد والأضرار بالأساليب الصالحة ، وبالإمكانات المتوافرة ، دَعْماً للأُمّة الإسلاميّة ، وحفظاً للمجتمع من الانهيار أو التصدّع.
وقد ورد عن الإمام الحسين (عليه السّلام) حديث مهمّ يدلّ على عمق اهتمام الإمام بهذا الأمر الهامّ :
قال جُعيد الهمدانيّ : أتيتُ الحسين بن عليّ وعلى صَدْره سكينة ابنتهُ ، فقال : «يا أُخْتَ كلب ، خذي ابنتك عنّي».
فساءلني ، فقال : «أخبرني عن شباب العرب؟».
قلتُ : أصحاب جُلاهقات ومجالس!
قال (عليه السّلام) : «فأخبرني عن الموالي؟»
قلتُ : آكل رِبا ، أو حريص على الدنيا!
قال (عليه السّلام) : (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) والله ، إنّهما لَلصِّنفان اللذانِ كنّا نتحدّثُ أنّ الله تبارك وتعالى ينتصرُ بهما لدينه.
يا جُعيد همدان : الناس أربعة :
فمنهم من له خَلاقٌ وليس له خُلُق.
ومنهم من له خُلقٌ وليس له خَلاق.
ومنهم من ليس له خُلُق ولا خلاق ، فذاك أشرّ الناس ومنهم من له خُلُق وخلاق ، فذاك أفضل الناس» (1).
وهذا الحديث يدلّ على مراقبة دقيقة من الحسين (عليه السّلام) لمجتمع عصره :
فقوله : «كُنّا نتحدّث» يدلّ بوضوح على تداول الأمر والتدبير الحكيم والمشورة المستمرة من الإمام (عليه السّلام) ومَن كان معه حول السُبل الكفيلة لنصرة الدين وإعزازه وتقوية جانبه ، وتهيئة الكوادر الكفوءة لهذه الأغراض وإنجاحها.
والتركيز على «شباب العرب» بالذات يعني الاعتماد على الجانب الكيفي في الكوادر العاملة ، إذ بالشباب يتحقّق التحرّك السريع والجري ، فهم عصب الحياة الفعّال ، وعليهم تُعقد الآمال ، وهم يمثلّون القوّة الضاربة.
وأمّا «الموالي» فهم القاعدة العريضة التي ترتفع أرقامها في أكثر المواجهات والحركات ، وهم أصحاب العمل والمال ، والّذين دخلوا هذا الدين عن قناعة بالحقّ ، وحاجة إلى العدل.
ولكن سياسة التهجين والتدجين الأُمويّة جرّت شباب العرب إلى اللهو واللعب ، وجرّت الموالي إلى الالتهاء بالأموال والتكاثر بها.
وهنا تأتي كلمة (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) في موقعها المناسب ، لأنّها تُقالُ عند المصيبة ، والمصيبة الحقيقية أن تموت روحُ القوّة والتضحية والنضال في هذين القطّاعين المهمّين من الأُمّة.
وتقسيمه (عليه السّلام) المجتمع إلى :
مَنْ له «خُلُق» وكرامة وشرف ، يعتمد الأعراف الطيّبة ، وتدفعه المروءة إلى التزام العدل والانصاف ، ورفض الجور والفساد والامتهان ، ويرغب في الحياة الحرّة الكريمة في الدنيا.
وإلى من له «خَلاق» ودين وعمل صالح وضمير ووجدان وعقيدة ورجاء ثواب ، يدفعه كلّ ذلك إلى نبذ الباطل وبذل الجهد في سبيل إحقاق الحقّ.
فمن جمعَ الأمرين فهو أفضلُ الناس جميعاً ، وهو ممّن تكون له حميّة ، ويسعى في الدخول فيمن ينتصر الله به لدينه.
ومن تركهما معاً فهو من أذلّ الناس وأحقرهم ، وهل شرّ أشرّ من الذُلّ؟!
ومن التزمَ واحداً فقد أخطأ طريق العمل الصالح ، وهو في ذلّ ما ترك الآخر ، وهل يُرجى الخير من ذليل وإنْ كان محسناً أو صالحاً؟!
وموقف آخر :
قال بشر بن غالب الأسدي : قدم على الحسين بن علي اُناس من أنطاكية فسألهم عن حال بلادهم؟ وعن سيرة أميرهم فيهم؟ فذكروا خيراً ، إلاّ أنّهم شكوا البَرد (2).
فالإمام (عليه السّلام) يستكشف الأوضاع السائدة في بلاد المسلمين حتى أبعد نقطة شمالية ، وهي أنطاكية! وهي رقابة تنبع من قيادة الإمام للاُمّة ، فمع فراغ يده من السلطة القائمة فهو لا يتخلّى عن موقعه ، ويخطّط له.
25 ـ مواقف قبل كربلاء
التزم الحسينُ (عليه السّلام) بمواقف أخيه مدّة إمامة الحسن (عليه السّلام) ، لأنّ الحسين (عليه السّلام) من رعاياه ، وتجب عليه طاعته والانقيادُ له ، لما هو من الثابت أنّ الإمام إنّما يتصرّف حسب المصالح اللازمة ، وطبقاً للموازين الشرعيّة التي تمليها عليه الظروف وبالأدوات والإمكانات المتيسّرة له.
وقد استغلّ معاويةُ حلم الإمام الحسن (عليه السّلام) ليتمادى في غيّه ، ويزيدَ في تجاوزاته وتعدّياته ، فخطّطَ لذلك خططاً جهنّميّة تؤدّي نتائجها إلى هدم كيان الإسلام ، وضرب قواعده ، بدءاً بتحريف الحقائق ونشر البدع ، ومنع الحديث النبوي وإبطال السُنّة في بلاط الأُمراء والحكّام ، ثم محاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الإسلاميّة الواسعة.
لكنّ الذي كان يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحقّ وأعوان الإمام عليّ (عليه السّلام) الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسن (عليه السّلام) بمخطّطه العظيم ومواقفه الصائبة بالتزام الصلح المفروض ، والشروط التي كانت هي قيوداً تُكبّل معاوية لو التزمها ، وتُخزيه لو خرقها.
ولقد خالفَ معاوية كثيراً من بنود الصلح ، فأخزى نفسه في مخالفة العهد الموقّع من قبله ، وكان أخطر ما قام به هو الفتك بالصلحاء من الشيعة الّذين كانُوا يتصدّون لمُنْكره ، وللبدع التي كان ينشرها ، وللأحاديث المكذوبة التي كان يُذيعها على ألسنة وُلاته ووعّاظ بلاطه.
فلمّا ماتَ الحسنُ بن عليّ ـ والكلام من هُنا لسليم بن قيس الهلالي ، المؤرّخ الذي عاش الأحداث وسجّلها بدقّة ـ :
ازداد البلاءُ والفتنةُ ، فلم يَبْقَ لله وليٌّ إلاّ خائف على نفسه ، أو مقتول ، أو طريد ، أو شريد (3).
وكانت الفترة التالية عصر إمامة الحُسين (عليه السّلام) ، وكانت مزاولات معاوية التعسّفية بلغت أوْجَ ما يتصوّر ، وكادت مخطّطاته أن تُثمِر ، وقد اتضّح لجميع الأُمّة ـ صالحها وطالحها ـ استهتار معاوية بالمواثيق التي ألزم بها نفسه في وثيقة الصلح ، والعهود التي قطعها على نفسه أمام الأُمّة ، وتبين للجميع أنّ ما يزاوله إنّما هو الملك والسلطة ، وليس هو الخلافة عن الله ورسوله ، فقد انفتحت أمام
الحسين (عليه السّلام) آفاق جديدة وأُتيحت له ظروف مغايرة ، ووجب عليه التصّدي لاستثمارات معاوية من خططه الجهنّميّة التي أعدّها طوال السنين التي حكم فيها من 40 للهجرة وحتّى أواخر أيام ملكه.
اجتماع «منى» العظيم
قال سليم في تتمّة كلامه السابق : فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين حَجّ الحسين بن عليّ (عليه السّلام) وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس معه.
وقد جمع الحسين بن علي (عليه السّلام) بني هاشم : رجالَهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم ، مَن حجّ منهم ومَن لم يحجّ ، ومن الأنصار ممّن يعرفونه وأهل بيته.
ثم لم يَدَع أحداً من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن أبنائهم والتابعين ، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنُّسُك إلاّ جمعهم.
فاجتمع عليه بـ «مِنَى» أكثر من ألف رجل (4).
ويمكن اعتبار اجتماع مِنى هذا العظيم موقفاً سياسياً هامّاً ، من وجهين :
1 ـ أنَّه تظاهرةٌ كبيرة تجمع عَدَداً كبيراً من ذوي الشهرة ، والوجهاء المعروفين بين الأُمّة ، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع الناس من التساؤلات حولها.
2 ـ أنّه أكبر «مَجْلِس» يضمُّ أصحابَ الرأي من رجالات الأُمّة وشخصيّاتها ممّن له الحقّ في إبداء الرأي وسنّ القانون ، وهم النّخْبة المقدّمة من أهل الحلّ والعقد ، ومن جميع القطّاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم : العلويّون ، والصحابة ـ المهاجرون والأنصار ـ والتابعون ، ومن النساء ، وطبقة الأبناء ، وطبقة الموالي.
بحيث يمكن أن يعتبر ذلك «استفتاءً شعبيّاً عامّاً» من خلال وجود ممثّلين لكلّ طبقات الشعب المسلم.
وتبدو الحكمة والحنكة في انتخاب الزمان والمكان لعقد ذلك المجمع العظيم.
فأرض «منى» المفتوحة الواسعة ، وهي جزء من الحرم ـ تسع لمثل هذا الاجتماع العظيم في ساحة واحدة ، وفي وسط كلّ الوافدين عليها من الحجّاج المؤدّين للواجب ، أو غيرهم القائمين بأعمال أُخرى ، واجتماع رهيب مثل ذلك لا يخفى على كلّ الحاضرين في تلك الأرض المفتوحة ، وبذلك ينتشر الخبر ولا يُحصَر بين الأبواب المغلقة أو جدران مكان خاص.
ولا بدّ أنْ يكونَ الاجتماعُ في زمان الحضور في مِنى وهو يوم العيد الأكبر (يوم الأضحى) العاشر من ذي الحجّة ، فما بعد ، إذ على الجميع الناسكين والعاملين معهم الوجود على أرض مِنى لأداء مناسكها أو تقديم الخدمات إلى الوافدين.
وفي انتخاب مثل هذا المكان ، في مثل ذلك الزمان ، مع نوعية الأشخاص المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع دلالات واضحة على التدبير والاهتمام البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف.
وأمّا محتوى الخطاب التاريخي الذي ألقاه الإمام الحسين (عليه السّلام) فهو ما سنقرؤه معاً.
خطبة الإمام (عليه السّلام) بمنى
«أمّا بعدُ ، فإنَّ هذا الطّاغية قد فَعَلَ بنا وبشيعتِنا ما قد رأيتُم وعلِمتُم وشهِدتُم. وإنّي أُريد أن أسألَكُم عن شيء ، فإنْ صدقتُ فصدِّقوني ، وإن كذبتُ فكذِّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصارِكُم وقبائِلِكُم ، فَمَن أمِنْتُم من النّاسِ وَوَثِقْتُم بهِ فاِدعوهم إلى ما تعلمونَ من حقِّنا. فإنّي أتخوَّفُ أن يُدرسَ هذا الأمرُ ، ويذهبَ الحقُّ ويُغلَب (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ).
أنشدكم الله : أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين آخى بين أصحابِهِ فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا أخوك في الدّنيا والآخرة؟».
قالوا : اللّهمّ نعم ،
قال : «أنشدكم الله : هل تعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اشترى موضعَ مسجدِهِ ومنازِلِهِ فَاْبتناهُ ثُمّ اْبتنى فيه عشرةَ منازل ، تسعة له وجعل عاشرها في وسطِها لأبي ثمّ سَدَّ كُلَّ باب إلى المسجد غيرَ بابِه ، فتكلَّمَ في ذلك مَن تكلَّمَ ،
فقال : ما أنَا سددتُ أبوابَكُمْ وفتحتُ بابَهُ ولكنّ الله أمرني بسدِّ أبوابِكُم وفتحِ بابِه ، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يُجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فوُلِدَ لرسولِ الله (صلّى الله عليه وآله) وله فيه أولادٌ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حَرصَ على كُوَّةٍ قَدْرَ عينهِ يَدَعُها في منزلهِ إلى المسجد فأبى عليه ، ثُمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً «طاهراً» لا يسكُنُهُ غيري وغير أخي وبنيه؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصبه يوم غدير خمّ فنادى له بالولايةِ وقال : ليبلّغ الشّاهدُ الغائب؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال له في غزوة تبوك : أنت منّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى ، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين دعا النّصارى من أهل نجرانَ إلى المباهلةِ لم يأتِ إلاّ بهِ وبصاحبَتِهِ وابنيهِ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنَّهُ دفع إليه اللّواء يومَ خيبر ثمّ قال : لأدفعه إلى رجل يحبُّهُ الله ورسولُهُ ويُحِبُّ الله ورسولَهُ كرّارٌ غير فرّار ، يفتحُها الله على يديه؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببراءَة وقال : لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجلٌ منّي؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم تنزل به شدّةٌ قطُّ إلاّ قدّمَهُ لها ثقةً بهِ وأنّه لم يدْعُهُ باسمِهِ قطُّ إلاّ يقول : يا أخي ، وادعُوا لي أخي؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) قضى بينَهُ وبينَ جعفر وزيد فقال : يا عليُّ أنتَ منّي وأنا منك ، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنَّهُ كانت مِنْ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله) كلَّ يوم خلوةٌ وكُلَّ ليلة دخْلَةٌ ، إذا سألَهُ أعطاهُ وإذا سكت ابتدأه؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة (عليها السّلام) : زوّجْتُكِ خيرَ أهلِ بيتي ، أقدمَهُمْ سِلْماً ، وأعظَمَهُمْ حِلْماً ، وأكثَرَهُم عِلْماً؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : أنا سيّدُ وُلْدِ بني آدَم ، وأخي عليّ سيّدُ العرَبِ ، وفاطمةُ سيّدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ ، والحسنُ والحسينُ ابناي سيّدا شبابِ أهلِ الجنةِ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمره بغسلِهِ وأخبَرهُ أنّ جبرئيلَ يُعينُهُ عَلَيْهِ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في آخر خطبةٍ خَطَبَها : إنّي تركتُ فيكُمُ الثّقَلَيْن كتابَ الله وأهلَ بيتي ، فتمسَّكُوا بِهما لن تَضِلُّوا؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
ثمّ ناشَدَهُم أنّهم قد سمعوه يقول : «مَن زَعَم أنَّهُ يُحبُّني ويُبغِضُ عليّاً فقد كَذِبَ ، ليسَ يُحبّني ويُبغضُ علّياً ، فقال له قائل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال : لأنّه منّي وأنا منهُ ، مَن أحبَّهُ فقد أحبَّني ، ومَن أحبَّني فقد أحبَّ الله ، ومَن أبغضَهُ فقد أبغضَني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟».
قالوا : الّلهمّ نعم ، قد سمعنا ...
«اعتبروا أيُّها النَّاسُ بما وَعظَ الله به أولياءَهُ من سُوءِ ثَنائِهِ على الأحبار إذْ يقول : (لَوْلا ينهاهُمُ الرَّبَّانيّوُنَ وَالأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهُم الإثْمَ) وقال : (لُعِنَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائيلَ ـ إلى قوله ـ لبئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون).
وإنَّما عابَ الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يَرَوْنَ من الظَّلَمَةِ الّذين بين أظْهُرِهِم المُنكرَ والفَساد فلا ينهونهم عن ذلك رَغبةً فيما كانوا ينالونَ منهم ، ورهبةً ممّا يحذرون ، والله يقول : (فلا تَخْشواْ النَّاسَ وَاْخشَوْن) وقال : (المُؤْمِنُونَ واْلمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بَعْض يأمرونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ).
فبدأ الله بالأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكر فريضةً منه لعلمِه بأنَّها إذا أُدِّيَتْ وأُقيمت استقامتِ الفرائضُ كلُّها هَيِّنُها وصَعْبُها ، وذلك أنّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَن المُنْكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردِّ المَظَالِم ومخالفةِ الظّالمِ وقسمةِ الفَيء والغنائمِ وأخذِ الصَّدَقاتِ من مواضِعِها ووضعِها في حقّها.
ثمّ أنتم أيّتُها العصابةُ عصابةٌ بالعِلْمِ مشهورةٌ وبالخيرِ مذكورةٌ وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفُسِ النّاسِ مهابةٌ ، يهابُكُمُ الشّريفُ وَيُكْرِمُكُمُ الضعيفُ وَيُؤْثُِركُم مَنْ لا فضلَ لكم عليه ولا يدَ لكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِنْ طُلابِها ، وتمشُونَ في الطّريقِ بهيبة الملوك وكرامة الأكابرِ.
أليس كُلّ ذلك إنّما نِلتُموهُ بما يُرجى عندكُم من القيامِ بحقِّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّهِ تقصُرونَ؟ فاسْتَخْفَفْتُمْ بحقّ الأئمّة ، فأمّا حقّ الضُّعَفاءِ فَضَيَّعْتُمْ ، وأمّا حقّكم بزعْمِكُمْ فَطَلَبْتُم ، فَلا مالاً بذلتموه ، ولا نفساً خاطَرْتُم بِها للّذي خلَقَها ، ولا عشيرةً عاديتموها في ذاتِ الله.
أنتُم تتمنّونَ على الله جَنَّتَهُ ومجاورةَ رُسُلِهِ وأماناً من عذابهِ!
لقد خشيتُ عليكم ـ أيُّها المُتَمَنّونَ على الله ـ أن تَحِلَّ بكُم نقمةٌ مِن نقماتِهِ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتمْ بها ، ومن يُعرَفُ بالله لا تُكْرِمُونَ ، وأنتُم بالله في عباده تُكْرَمُونَ.
وقد تَرَوْنَ عهودَ الله منقوضَةً فلا تَفزَعُون ، وأنتُم لبعضِ ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُون! وَذِمّةُ رسولِ الله مخفورةٌ ، والعُميُ والبُكُم والزّمنى في المدائنِ مهملة! لا تَرحَمُونَ ولا في مَنزِلَتِكُم تعملون ، ولا مَنْ عَمِلَ فيها تُعينون. وبالادّهانِ والمُصَانَعَةِ عند الظلَمَةِ تأمنون.
كُلّ ذلك ممّا أمركم الله بهِ من النّهي والتّناهي وأنتم عنه غافلونَ!
وأنتُم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازلِ العلماء لو كنتُم تشعرون ، ذلك بأنّ مجاريَ الأُمورِ والأحكامِ عَلَى أيدي العُلَماء بالله الاُمناءِ عَلَى حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ ، فأنتُم المَسْلُوبونَ تلك المنزلةِ وَما سُلِبْتُم ذلك إلاّ بتفرُّقِكُم عن الحقِّ واْختلافِكُم في السُّنّة بعد البيّنة الواضحة ، وَلَوْ صَبَرْتُم علَى الأذَى وتحمّلْتُم المؤونة في ذاتِ الله كانت أُمور الله عليكُم تَرِدُ وعنكم تصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجعُ ، ولكنَّكُم مكّنتُم الظَّلَمَة مِنْ منزِلَتِكُمْ ، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم ، يَعملون بالشُّبُهاتِ ، ويَسيرونَ في الشَّهَواتِ ، سلّطهم على ذلك فرارُكُم مِنَ الموتِ وإعجابُكُم بالحياة التّي هي مفارقتُكُم ، فأسلمتم الضُّعفاءَ في أيديهم فمن بين مُستعبَد مقهور وبين مستضعَف على معيشتِهِ مغلوب ، يتقلّبون في المُلكِ بآرائِهم ، ويستشعِرونَ الخِزْيَ بأهوائهم ، اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجّبارِ! في كُلّ بَلَد منهم على مِنْبَرِهِ خطيبٌ مُصْقعٌ
فالأرضُ لهم شاغرةٌ ، وأيديهم فيها مبسوطة ، والنّاسُ لهم خَوَل ، لا يدفعون يد لامس ، فمن بين جبّار عنيد ، وذي سطوة على الضعفةِ شديد ، مُطَاع لا يَعْرِفُ المُبْدِئ المعيد.
فيا عجباً! وما لي لا أعجبُ والأرض من غاشٍّ غَشُوم ، ومتصدِّق ظلوم ، وعامِل على المُؤمنينَ بهم غيرُ رحيم ، فالله الحاكمُ فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.
الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تَنافُساً في سُلْطان ، ولا اْلتِماساً من فضول الحطامِ ، ولكن لنُرِيَ المعالِمَ من دينك ، ونُظْهِر الإصلاحَ في بلادِك ، ويأمن المظلُومونَ مِنْ عبادِك ، ويُعْمَل بفرائِضِكَ وسُنَنِك وأحكامِك.
فإنَّكُم إن لا تَنْصُرونا وتنصفونا قويت الظّلمة عليكم ، وعَمِلَوا في إطفاءِ نُورِنَبيِّكُم. وحسبُنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنَبْنَا وإليه المصيرُ».
إنّ هذا الموقف يعتبر أقوى معارضة علنية أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب طول حكمه ـ بعد استيلائه على أريكة الحكم في سنة 40 للهجرة ـ على العمل بكلّ دهاء وتدبير لتأسيس دولته المنحرفة عن سنن الهدى والصلاح والتقى ، فحاول في الردّة عن الإسلام إلى إحياء الجاهليّة الأُولى بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله ، والقول بالجبر والإرجاء وما إلى ذلك من الأفكار التي تؤدّي إلى تحميق الناس وإخماد جذوة الحركة الثورية الإسلاميّة ، والتوحيدية الإصلاحية.
فكانت حركة الحسين (عليه السّلام) ، وبهذا الأُسلوب المحكم الرصين ، وفي الزمان والمكان المنتخبين بدقّة ، أوّل معارضة معلنة ضّد كلّ الإجراءات تلك.
وإن كان الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يكفّ مدّة إمامته عن مواجهة معاوية بشكل خاصّ في القضايا الجزئيّة ، وفي اللقاءات الخاصّة ، لكنّ هذا الإجراء العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة مُعْلنة ، وتحرّكاً سياسياً خَطِراً على الدولة ، ومؤدّياً إلى تبخير كلّ الجهود والآمال والطموحات التي عملوا من أجلها طوال عشرين سنة من حكمهم الفاسد.
المصادر :
1- تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسن (عليه السّلام) ص 159 رقم (272) .
2- تاريخ بغداد 3 / 36.
3- كتاب سليم ص 165 والاحتجاج للطبرسي ص 296.
4- كتاب سليم بن قيس ص 165 والاحتجاج للطبرسي ص 296.
وقد ورد عن الإمام الحسين (عليه السّلام) حديث مهمّ يدلّ على عمق اهتمام الإمام بهذا الأمر الهامّ :
قال جُعيد الهمدانيّ : أتيتُ الحسين بن عليّ وعلى صَدْره سكينة ابنتهُ ، فقال : «يا أُخْتَ كلب ، خذي ابنتك عنّي».
فساءلني ، فقال : «أخبرني عن شباب العرب؟».
قلتُ : أصحاب جُلاهقات ومجالس!
قال (عليه السّلام) : «فأخبرني عن الموالي؟»
قلتُ : آكل رِبا ، أو حريص على الدنيا!
قال (عليه السّلام) : (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) والله ، إنّهما لَلصِّنفان اللذانِ كنّا نتحدّثُ أنّ الله تبارك وتعالى ينتصرُ بهما لدينه.
يا جُعيد همدان : الناس أربعة :
فمنهم من له خَلاقٌ وليس له خُلُق.
ومنهم من له خُلقٌ وليس له خَلاق.
ومنهم من ليس له خُلُق ولا خلاق ، فذاك أشرّ الناس ومنهم من له خُلُق وخلاق ، فذاك أفضل الناس» (1).
وهذا الحديث يدلّ على مراقبة دقيقة من الحسين (عليه السّلام) لمجتمع عصره :
فقوله : «كُنّا نتحدّث» يدلّ بوضوح على تداول الأمر والتدبير الحكيم والمشورة المستمرة من الإمام (عليه السّلام) ومَن كان معه حول السُبل الكفيلة لنصرة الدين وإعزازه وتقوية جانبه ، وتهيئة الكوادر الكفوءة لهذه الأغراض وإنجاحها.
والتركيز على «شباب العرب» بالذات يعني الاعتماد على الجانب الكيفي في الكوادر العاملة ، إذ بالشباب يتحقّق التحرّك السريع والجري ، فهم عصب الحياة الفعّال ، وعليهم تُعقد الآمال ، وهم يمثلّون القوّة الضاربة.
وأمّا «الموالي» فهم القاعدة العريضة التي ترتفع أرقامها في أكثر المواجهات والحركات ، وهم أصحاب العمل والمال ، والّذين دخلوا هذا الدين عن قناعة بالحقّ ، وحاجة إلى العدل.
ولكن سياسة التهجين والتدجين الأُمويّة جرّت شباب العرب إلى اللهو واللعب ، وجرّت الموالي إلى الالتهاء بالأموال والتكاثر بها.
وهنا تأتي كلمة (إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) في موقعها المناسب ، لأنّها تُقالُ عند المصيبة ، والمصيبة الحقيقية أن تموت روحُ القوّة والتضحية والنضال في هذين القطّاعين المهمّين من الأُمّة.
وتقسيمه (عليه السّلام) المجتمع إلى :
مَنْ له «خُلُق» وكرامة وشرف ، يعتمد الأعراف الطيّبة ، وتدفعه المروءة إلى التزام العدل والانصاف ، ورفض الجور والفساد والامتهان ، ويرغب في الحياة الحرّة الكريمة في الدنيا.
وإلى من له «خَلاق» ودين وعمل صالح وضمير ووجدان وعقيدة ورجاء ثواب ، يدفعه كلّ ذلك إلى نبذ الباطل وبذل الجهد في سبيل إحقاق الحقّ.
فمن جمعَ الأمرين فهو أفضلُ الناس جميعاً ، وهو ممّن تكون له حميّة ، ويسعى في الدخول فيمن ينتصر الله به لدينه.
ومن تركهما معاً فهو من أذلّ الناس وأحقرهم ، وهل شرّ أشرّ من الذُلّ؟!
ومن التزمَ واحداً فقد أخطأ طريق العمل الصالح ، وهو في ذلّ ما ترك الآخر ، وهل يُرجى الخير من ذليل وإنْ كان محسناً أو صالحاً؟!
وموقف آخر :
قال بشر بن غالب الأسدي : قدم على الحسين بن علي اُناس من أنطاكية فسألهم عن حال بلادهم؟ وعن سيرة أميرهم فيهم؟ فذكروا خيراً ، إلاّ أنّهم شكوا البَرد (2).
فالإمام (عليه السّلام) يستكشف الأوضاع السائدة في بلاد المسلمين حتى أبعد نقطة شمالية ، وهي أنطاكية! وهي رقابة تنبع من قيادة الإمام للاُمّة ، فمع فراغ يده من السلطة القائمة فهو لا يتخلّى عن موقعه ، ويخطّط له.
25 ـ مواقف قبل كربلاء
التزم الحسينُ (عليه السّلام) بمواقف أخيه مدّة إمامة الحسن (عليه السّلام) ، لأنّ الحسين (عليه السّلام) من رعاياه ، وتجب عليه طاعته والانقيادُ له ، لما هو من الثابت أنّ الإمام إنّما يتصرّف حسب المصالح اللازمة ، وطبقاً للموازين الشرعيّة التي تمليها عليه الظروف وبالأدوات والإمكانات المتيسّرة له.
وقد استغلّ معاويةُ حلم الإمام الحسن (عليه السّلام) ليتمادى في غيّه ، ويزيدَ في تجاوزاته وتعدّياته ، فخطّطَ لذلك خططاً جهنّميّة تؤدّي نتائجها إلى هدم كيان الإسلام ، وضرب قواعده ، بدءاً بتحريف الحقائق ونشر البدع ، ومنع الحديث النبوي وإبطال السُنّة في بلاط الأُمراء والحكّام ، ثم محاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الإسلاميّة الواسعة.
لكنّ الذي كان يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحقّ وأعوان الإمام عليّ (عليه السّلام) الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسن (عليه السّلام) بمخطّطه العظيم ومواقفه الصائبة بالتزام الصلح المفروض ، والشروط التي كانت هي قيوداً تُكبّل معاوية لو التزمها ، وتُخزيه لو خرقها.
ولقد خالفَ معاوية كثيراً من بنود الصلح ، فأخزى نفسه في مخالفة العهد الموقّع من قبله ، وكان أخطر ما قام به هو الفتك بالصلحاء من الشيعة الّذين كانُوا يتصدّون لمُنْكره ، وللبدع التي كان ينشرها ، وللأحاديث المكذوبة التي كان يُذيعها على ألسنة وُلاته ووعّاظ بلاطه.
فلمّا ماتَ الحسنُ بن عليّ ـ والكلام من هُنا لسليم بن قيس الهلالي ، المؤرّخ الذي عاش الأحداث وسجّلها بدقّة ـ :
ازداد البلاءُ والفتنةُ ، فلم يَبْقَ لله وليٌّ إلاّ خائف على نفسه ، أو مقتول ، أو طريد ، أو شريد (3).
وكانت الفترة التالية عصر إمامة الحُسين (عليه السّلام) ، وكانت مزاولات معاوية التعسّفية بلغت أوْجَ ما يتصوّر ، وكادت مخطّطاته أن تُثمِر ، وقد اتضّح لجميع الأُمّة ـ صالحها وطالحها ـ استهتار معاوية بالمواثيق التي ألزم بها نفسه في وثيقة الصلح ، والعهود التي قطعها على نفسه أمام الأُمّة ، وتبين للجميع أنّ ما يزاوله إنّما هو الملك والسلطة ، وليس هو الخلافة عن الله ورسوله ، فقد انفتحت أمام
الحسين (عليه السّلام) آفاق جديدة وأُتيحت له ظروف مغايرة ، ووجب عليه التصّدي لاستثمارات معاوية من خططه الجهنّميّة التي أعدّها طوال السنين التي حكم فيها من 40 للهجرة وحتّى أواخر أيام ملكه.
اجتماع «منى» العظيم
قال سليم في تتمّة كلامه السابق : فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين حَجّ الحسين بن عليّ (عليه السّلام) وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عبّاس معه.
وقد جمع الحسين بن علي (عليه السّلام) بني هاشم : رجالَهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم ، مَن حجّ منهم ومَن لم يحجّ ، ومن الأنصار ممّن يعرفونه وأهل بيته.
ثم لم يَدَع أحداً من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن أبنائهم والتابعين ، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنُّسُك إلاّ جمعهم.
فاجتمع عليه بـ «مِنَى» أكثر من ألف رجل (4).
ويمكن اعتبار اجتماع مِنى هذا العظيم موقفاً سياسياً هامّاً ، من وجهين :
1 ـ أنَّه تظاهرةٌ كبيرة تجمع عَدَداً كبيراً من ذوي الشهرة ، والوجهاء المعروفين بين الأُمّة ، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع الناس من التساؤلات حولها.
2 ـ أنّه أكبر «مَجْلِس» يضمُّ أصحابَ الرأي من رجالات الأُمّة وشخصيّاتها ممّن له الحقّ في إبداء الرأي وسنّ القانون ، وهم النّخْبة المقدّمة من أهل الحلّ والعقد ، ومن جميع القطّاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم : العلويّون ، والصحابة ـ المهاجرون والأنصار ـ والتابعون ، ومن النساء ، وطبقة الأبناء ، وطبقة الموالي.
بحيث يمكن أن يعتبر ذلك «استفتاءً شعبيّاً عامّاً» من خلال وجود ممثّلين لكلّ طبقات الشعب المسلم.
وتبدو الحكمة والحنكة في انتخاب الزمان والمكان لعقد ذلك المجمع العظيم.
فأرض «منى» المفتوحة الواسعة ، وهي جزء من الحرم ـ تسع لمثل هذا الاجتماع العظيم في ساحة واحدة ، وفي وسط كلّ الوافدين عليها من الحجّاج المؤدّين للواجب ، أو غيرهم القائمين بأعمال أُخرى ، واجتماع رهيب مثل ذلك لا يخفى على كلّ الحاضرين في تلك الأرض المفتوحة ، وبذلك ينتشر الخبر ولا يُحصَر بين الأبواب المغلقة أو جدران مكان خاص.
ولا بدّ أنْ يكونَ الاجتماعُ في زمان الحضور في مِنى وهو يوم العيد الأكبر (يوم الأضحى) العاشر من ذي الحجّة ، فما بعد ، إذ على الجميع الناسكين والعاملين معهم الوجود على أرض مِنى لأداء مناسكها أو تقديم الخدمات إلى الوافدين.
وفي انتخاب مثل هذا المكان ، في مثل ذلك الزمان ، مع نوعية الأشخاص المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع دلالات واضحة على التدبير والاهتمام البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف.
وأمّا محتوى الخطاب التاريخي الذي ألقاه الإمام الحسين (عليه السّلام) فهو ما سنقرؤه معاً.
خطبة الإمام (عليه السّلام) بمنى
«أمّا بعدُ ، فإنَّ هذا الطّاغية قد فَعَلَ بنا وبشيعتِنا ما قد رأيتُم وعلِمتُم وشهِدتُم. وإنّي أُريد أن أسألَكُم عن شيء ، فإنْ صدقتُ فصدِّقوني ، وإن كذبتُ فكذِّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصارِكُم وقبائِلِكُم ، فَمَن أمِنْتُم من النّاسِ وَوَثِقْتُم بهِ فاِدعوهم إلى ما تعلمونَ من حقِّنا. فإنّي أتخوَّفُ أن يُدرسَ هذا الأمرُ ، ويذهبَ الحقُّ ويُغلَب (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ).
أنشدكم الله : أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين آخى بين أصحابِهِ فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا أخوك في الدّنيا والآخرة؟».
قالوا : اللّهمّ نعم ،
قال : «أنشدكم الله : هل تعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اشترى موضعَ مسجدِهِ ومنازِلِهِ فَاْبتناهُ ثُمّ اْبتنى فيه عشرةَ منازل ، تسعة له وجعل عاشرها في وسطِها لأبي ثمّ سَدَّ كُلَّ باب إلى المسجد غيرَ بابِه ، فتكلَّمَ في ذلك مَن تكلَّمَ ،
فقال : ما أنَا سددتُ أبوابَكُمْ وفتحتُ بابَهُ ولكنّ الله أمرني بسدِّ أبوابِكُم وفتحِ بابِه ، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يُجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فوُلِدَ لرسولِ الله (صلّى الله عليه وآله) وله فيه أولادٌ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حَرصَ على كُوَّةٍ قَدْرَ عينهِ يَدَعُها في منزلهِ إلى المسجد فأبى عليه ، ثُمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً «طاهراً» لا يسكُنُهُ غيري وغير أخي وبنيه؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصبه يوم غدير خمّ فنادى له بالولايةِ وقال : ليبلّغ الشّاهدُ الغائب؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال له في غزوة تبوك : أنت منّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى ، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حين دعا النّصارى من أهل نجرانَ إلى المباهلةِ لم يأتِ إلاّ بهِ وبصاحبَتِهِ وابنيهِ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنَّهُ دفع إليه اللّواء يومَ خيبر ثمّ قال : لأدفعه إلى رجل يحبُّهُ الله ورسولُهُ ويُحِبُّ الله ورسولَهُ كرّارٌ غير فرّار ، يفتحُها الله على يديه؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببراءَة وقال : لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجلٌ منّي؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم تنزل به شدّةٌ قطُّ إلاّ قدّمَهُ لها ثقةً بهِ وأنّه لم يدْعُهُ باسمِهِ قطُّ إلاّ يقول : يا أخي ، وادعُوا لي أخي؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنّ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) قضى بينَهُ وبينَ جعفر وزيد فقال : يا عليُّ أنتَ منّي وأنا منك ، وأنت وليُّ كُلِّ مُؤمن بعدي؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنَّهُ كانت مِنْ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله) كلَّ يوم خلوةٌ وكُلَّ ليلة دخْلَةٌ ، إذا سألَهُ أعطاهُ وإذا سكت ابتدأه؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة (عليها السّلام) : زوّجْتُكِ خيرَ أهلِ بيتي ، أقدمَهُمْ سِلْماً ، وأعظَمَهُمْ حِلْماً ، وأكثَرَهُم عِلْماً؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : أنا سيّدُ وُلْدِ بني آدَم ، وأخي عليّ سيّدُ العرَبِ ، وفاطمةُ سيّدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ ، والحسنُ والحسينُ ابناي سيّدا شبابِ أهلِ الجنةِ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمره بغسلِهِ وأخبَرهُ أنّ جبرئيلَ يُعينُهُ عَلَيْهِ؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
قال : «أتعلمونَ أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في آخر خطبةٍ خَطَبَها : إنّي تركتُ فيكُمُ الثّقَلَيْن كتابَ الله وأهلَ بيتي ، فتمسَّكُوا بِهما لن تَضِلُّوا؟».
قالوا : الّلهمّ نعم.
ثمّ ناشَدَهُم أنّهم قد سمعوه يقول : «مَن زَعَم أنَّهُ يُحبُّني ويُبغِضُ عليّاً فقد كَذِبَ ، ليسَ يُحبّني ويُبغضُ علّياً ، فقال له قائل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال : لأنّه منّي وأنا منهُ ، مَن أحبَّهُ فقد أحبَّني ، ومَن أحبَّني فقد أحبَّ الله ، ومَن أبغضَهُ فقد أبغضَني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟».
قالوا : الّلهمّ نعم ، قد سمعنا ...
«اعتبروا أيُّها النَّاسُ بما وَعظَ الله به أولياءَهُ من سُوءِ ثَنائِهِ على الأحبار إذْ يقول : (لَوْلا ينهاهُمُ الرَّبَّانيّوُنَ وَالأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهُم الإثْمَ) وقال : (لُعِنَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائيلَ ـ إلى قوله ـ لبئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون).
وإنَّما عابَ الله ذلك عليهم لأنّهم كانوا يَرَوْنَ من الظَّلَمَةِ الّذين بين أظْهُرِهِم المُنكرَ والفَساد فلا ينهونهم عن ذلك رَغبةً فيما كانوا ينالونَ منهم ، ورهبةً ممّا يحذرون ، والله يقول : (فلا تَخْشواْ النَّاسَ وَاْخشَوْن) وقال : (المُؤْمِنُونَ واْلمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بَعْض يأمرونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ).
فبدأ الله بالأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكر فريضةً منه لعلمِه بأنَّها إذا أُدِّيَتْ وأُقيمت استقامتِ الفرائضُ كلُّها هَيِّنُها وصَعْبُها ، وذلك أنّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَن المُنْكر دعاءٌ إلى الإسلام مع ردِّ المَظَالِم ومخالفةِ الظّالمِ وقسمةِ الفَيء والغنائمِ وأخذِ الصَّدَقاتِ من مواضِعِها ووضعِها في حقّها.
ثمّ أنتم أيّتُها العصابةُ عصابةٌ بالعِلْمِ مشهورةٌ وبالخيرِ مذكورةٌ وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفُسِ النّاسِ مهابةٌ ، يهابُكُمُ الشّريفُ وَيُكْرِمُكُمُ الضعيفُ وَيُؤْثُِركُم مَنْ لا فضلَ لكم عليه ولا يدَ لكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِنْ طُلابِها ، وتمشُونَ في الطّريقِ بهيبة الملوك وكرامة الأكابرِ.
أليس كُلّ ذلك إنّما نِلتُموهُ بما يُرجى عندكُم من القيامِ بحقِّ الله وإن كنتم عن أكثر حقّهِ تقصُرونَ؟ فاسْتَخْفَفْتُمْ بحقّ الأئمّة ، فأمّا حقّ الضُّعَفاءِ فَضَيَّعْتُمْ ، وأمّا حقّكم بزعْمِكُمْ فَطَلَبْتُم ، فَلا مالاً بذلتموه ، ولا نفساً خاطَرْتُم بِها للّذي خلَقَها ، ولا عشيرةً عاديتموها في ذاتِ الله.
أنتُم تتمنّونَ على الله جَنَّتَهُ ومجاورةَ رُسُلِهِ وأماناً من عذابهِ!
لقد خشيتُ عليكم ـ أيُّها المُتَمَنّونَ على الله ـ أن تَحِلَّ بكُم نقمةٌ مِن نقماتِهِ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتمْ بها ، ومن يُعرَفُ بالله لا تُكْرِمُونَ ، وأنتُم بالله في عباده تُكْرَمُونَ.
وقد تَرَوْنَ عهودَ الله منقوضَةً فلا تَفزَعُون ، وأنتُم لبعضِ ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُون! وَذِمّةُ رسولِ الله مخفورةٌ ، والعُميُ والبُكُم والزّمنى في المدائنِ مهملة! لا تَرحَمُونَ ولا في مَنزِلَتِكُم تعملون ، ولا مَنْ عَمِلَ فيها تُعينون. وبالادّهانِ والمُصَانَعَةِ عند الظلَمَةِ تأمنون.
كُلّ ذلك ممّا أمركم الله بهِ من النّهي والتّناهي وأنتم عنه غافلونَ!
وأنتُم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازلِ العلماء لو كنتُم تشعرون ، ذلك بأنّ مجاريَ الأُمورِ والأحكامِ عَلَى أيدي العُلَماء بالله الاُمناءِ عَلَى حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ ، فأنتُم المَسْلُوبونَ تلك المنزلةِ وَما سُلِبْتُم ذلك إلاّ بتفرُّقِكُم عن الحقِّ واْختلافِكُم في السُّنّة بعد البيّنة الواضحة ، وَلَوْ صَبَرْتُم علَى الأذَى وتحمّلْتُم المؤونة في ذاتِ الله كانت أُمور الله عليكُم تَرِدُ وعنكم تصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجعُ ، ولكنَّكُم مكّنتُم الظَّلَمَة مِنْ منزِلَتِكُمْ ، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم ، يَعملون بالشُّبُهاتِ ، ويَسيرونَ في الشَّهَواتِ ، سلّطهم على ذلك فرارُكُم مِنَ الموتِ وإعجابُكُم بالحياة التّي هي مفارقتُكُم ، فأسلمتم الضُّعفاءَ في أيديهم فمن بين مُستعبَد مقهور وبين مستضعَف على معيشتِهِ مغلوب ، يتقلّبون في المُلكِ بآرائِهم ، ويستشعِرونَ الخِزْيَ بأهوائهم ، اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجّبارِ! في كُلّ بَلَد منهم على مِنْبَرِهِ خطيبٌ مُصْقعٌ
فالأرضُ لهم شاغرةٌ ، وأيديهم فيها مبسوطة ، والنّاسُ لهم خَوَل ، لا يدفعون يد لامس ، فمن بين جبّار عنيد ، وذي سطوة على الضعفةِ شديد ، مُطَاع لا يَعْرِفُ المُبْدِئ المعيد.
فيا عجباً! وما لي لا أعجبُ والأرض من غاشٍّ غَشُوم ، ومتصدِّق ظلوم ، وعامِل على المُؤمنينَ بهم غيرُ رحيم ، فالله الحاكمُ فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.
الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تَنافُساً في سُلْطان ، ولا اْلتِماساً من فضول الحطامِ ، ولكن لنُرِيَ المعالِمَ من دينك ، ونُظْهِر الإصلاحَ في بلادِك ، ويأمن المظلُومونَ مِنْ عبادِك ، ويُعْمَل بفرائِضِكَ وسُنَنِك وأحكامِك.
فإنَّكُم إن لا تَنْصُرونا وتنصفونا قويت الظّلمة عليكم ، وعَمِلَوا في إطفاءِ نُورِنَبيِّكُم. وحسبُنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنَبْنَا وإليه المصيرُ».
إنّ هذا الموقف يعتبر أقوى معارضة علنية أقدم عليها الحسين (عليه السّلام) في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب طول حكمه ـ بعد استيلائه على أريكة الحكم في سنة 40 للهجرة ـ على العمل بكلّ دهاء وتدبير لتأسيس دولته المنحرفة عن سنن الهدى والصلاح والتقى ، فحاول في الردّة عن الإسلام إلى إحياء الجاهليّة الأُولى بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله ، والقول بالجبر والإرجاء وما إلى ذلك من الأفكار التي تؤدّي إلى تحميق الناس وإخماد جذوة الحركة الثورية الإسلاميّة ، والتوحيدية الإصلاحية.
فكانت حركة الحسين (عليه السّلام) ، وبهذا الأُسلوب المحكم الرصين ، وفي الزمان والمكان المنتخبين بدقّة ، أوّل معارضة معلنة ضّد كلّ الإجراءات تلك.
وإن كان الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يكفّ مدّة إمامته عن مواجهة معاوية بشكل خاصّ في القضايا الجزئيّة ، وفي اللقاءات الخاصّة ، لكنّ هذا الإجراء العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة مُعْلنة ، وتحرّكاً سياسياً خَطِراً على الدولة ، ومؤدّياً إلى تبخير كلّ الجهود والآمال والطموحات التي عملوا من أجلها طوال عشرين سنة من حكمهم الفاسد.
المصادر :
1- تاريخ دمشق ـ ترجمة الإمام الحسن (عليه السّلام) ص 159 رقم (272) .
2- تاريخ بغداد 3 / 36.
3- كتاب سليم ص 165 والاحتجاج للطبرسي ص 296.
4- كتاب سليم بن قيس ص 165 والاحتجاج للطبرسي ص 296.