
الحج هو العبادة الوحيدة المفروضة على مستطيعي الأُمّة ولمرّة واحدة في العمر. إنّ الحجّ في الحقيقة أكبر مؤتمر إسلامي سنوي في العالم ، بل وأكبر ظاهرة إيمانيّة أخلاقيّة في الحياة ؛
لأنّها تمثيل للقيامة والمحشر بكلّ ما فيه من عظمة ومهابة وقداسة. والمسلمون يجب عليهم أن يهتمّوا أيّما اهتمام بهذا المؤتمر النوراني المبارك ، وأن يعيدوه إلى مجده وإلى أصله التشريعي ؛ فإنّ القوم في هذه الأيام لا سيما وبعد تسلّط الحركة الوهابيّة على مقاليد الأمور هناك ، يفرغون الحجّ والعبادات من معانيها ومقاصدها الشرعيّة.
فتحوّل الحجّ إلى قشر لا لبّ فيه ، وذكر لساني لا معنى في القلب له ، هكذا أراد لنا السلفيون وأتباع محمد بن عبد الوهاب ، وما يخطّطها الاستعمار لضرب كلّ مقدّساتنا الإسلاميّة وعقائدنا الإيمانيّة ؛ ليسهل عليهم التسلّط والسيطرة علينا وعلى بلادنا وخيراتها كلّها.
فالحجّ أخلاق إنسانيّة ، ورسالة إيمانيّة رحمانيّة ، لا سيما شعائره الجملية البهيّة المنظّمة التي ترهب العالم المستكبر عندما يرون هذه الجموع المليونيّة بلباس واحد ، وطواف واحد ، وموقف واحد ، وهتاف وتلبية واحدة ، فيتساءلون : ماذا لو هتفت هذه الجموع بسقوطنا أو أعلنوا الحرب علينا؟
نعم ، هذا المؤتمر المبارك يبيّن أخلاقيّات رفيعة من أخلاقيّات الإمام الحسين عليهالسلام ، واحترامه لجدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله وأبيه المرتضى عليهالسلام ، والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ، فتراه يخطابهم بكلّ إجلال وتقدير واحترام وتبجيل ، ويذكّرهم بالقيادة الربانيّة والرسالة الإيمانيّة وواجبهم الشرعي تجاه ذلك كلّه ، ويأخذ اعترافهم وإقرارهم على كلّ ما يقول ، ويأمرهم بتبليغ الرسالة إلى أهل الصلاح والإيمان في كلّ البلدان.
وإليك أخي المؤمن تفاصيل المؤتمر كما ترويها الكتب المعتبرة لدينا :
لمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن علي (صلوات الله عليه) وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر معه ، فجمع الحسين عليهالسلام بني هاشم ؛ رجالهم ونساءهم ومواليهم ، ومن الأنصار ممّن يعرفه الحسين عليهالسلام وأهل بيته. ثمّ أرسل رسلاً قال لهم : «لا تَدَعوا أحداً ممّن حجّ العام من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجتمعوا لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادقة عامّتهم من التابعين ، ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله ، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
«أمّا بعدُ ، فإنَّ هذا الطاغيةَ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أريدُ أن أسألكم عن شيءٍ ، فإن صدقتُ فصدّقوني وإن كذبتُ فكذّبوني ، وأسألكم بحقّ الله عليكم وحقّ رسوله صلىاللهعليهوآله وقرابتي من نبيّكم لما سيّرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ، ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم ومَنْ أمنتم من الناس».
وفي رواية أُخرى بعد قوله : فكذّبوني قال :
اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثُمَّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمَنْ أمنتم من النّاس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ؛ فإنّي أتخوّف أن يدرسَ هذا الأمر ، ويذهب الحقُ ويُغلبُ (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (1).
وما ترك شيئاً ممّا أنزل الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسَّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله صلىاللهعليهوآله في أبيه وأخيه وأُمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمَّ نعم ، وقد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللّهمَّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه من الصحابة. فقال : «أُنشدكم الله إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه» (2).
قال سليم : فكان فيما ناشدهم الحسين عليهالسلام وذكّرهم ، أن قال :
«أُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله صلىاللهعليهوآله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنتَ أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل ، تسعةً له وجعل عاشرها في وسطها لأبي ، ثمّ سدَّ كلّ بابٍ شارعٍ إلى المسجد غيرَ بابه ، فتكلّم في ذلك مَنْ تكلّم فقال : ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحتُ بابه ، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه.
ثمّ نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يُجنبُ في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فولِدَ لرسول الله صلىاللهعليهوآله وله فيه أولاد؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حرص على كوّةٍ قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى عليه ، ثمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن ابني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وابنيه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله نصبهُ يوم غدير خُمٍّ فنادى له بالولاية ، وقال : ليبلّغ الشَّاهدُ الغائبَ؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال له في غزوةِ تبوك : أنتَ منّي بمنزلة هارونَ من موسى ، وأنتَ وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله حين دعا النصارى مِنْ أهلِ نجرانَ إلى المباهلة لم يأتِ إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنّه دفع إليه اللواء يوم خيبرٍ ، ثمّ قال : لأدفعنَّه إلى رجلٍ يحبّه الله ورسوله ويُحبُّ الله ورسوله ، كرّار غير فرار ، يفتحها الله على يديه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله بعثهُ ببراءة وقال : لا يبلِّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟».
قالوا : اللّهمَّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لم تنزل به شدةٌ قطٌ إلاّ قدَّمه لها ثقةً به ، وأنّه لم يدعه باسمه قطّ إلاّ أن يقول : يا أخي ، وادعوا لي أخي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قضى بينه وبين جعفرٍ وزيدٍ ، فقال : يا علي ، أنت منّي وأنا منك ، وأنت وليُّ كلّ مؤمنٍ بعدي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّه كانت له من رسول الله صلىاللهعليهوآله كلّ يومٍ خلوةٌ ، وكلّ ليلةٍ دخلةٌ ، إذا سأله أعطاه ، وإذا سكت ابتدأه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله فضّله على جعفرٍ وحمزة حين قال لفاطمة عليهاالسلام : زوّجتكِ خير أهل بيتي ، أقدمهم سلماً ، وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : أنا سيّدُ ولد آدم ، وأخي عليّ سيّد العرب ، وفاطمةُ سيّدةُ نساء أهل الجنّة ، والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنّة».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أمرهُ بغسلهِ ، وأخبرهُ أنّ جبرائيل عليهالسلام يُعينُهُ عليه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قالَ في آخر خُطبةٍ خطبها : إنّي تركتُ فيكم الثَّقلين ؛ كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسَّكوا بهما لن تضلوا؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
فلم يدع شيئاً أنزله الله في علي بن أبي طالب عليهالسلام خاصّة ، وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه صلىاللهعليهوآله إلاّ ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة : اللّهمّ نعم ، قد سمعنا ، ويقول التابع : اللّهمّ قد حدثنيه مَنْ أثق به فلان وفلان.
ثمَّ ناشدهم أنَّهم قد سمعوه يقول : «مَنْ زعمَ أنّه يُحبّني ويبغض علياً فقد كذب ، ليس يُحبني ويبغض علياً ، فقال له قائل : يا رسول الله وكيف ذلك؟
قال : لأنّه منّي وأنا منه ، مَنْ أحبّه فقد أحبني ، ومَنْ أحبّني فقد أحبّ الله ، ومَنْ أبغضه فقد أبغضني ومَنْ أبغضني فقد أبغض الله».
فقالوا : اللّهمَّ نعم ، قد سمعنا. وتفرّقوا على ذلك (3).
هذا هو الكلام الفصل ، والحجّة من حجّة الله على الخلق في ذاك اليوم المهيب ، وتحت ظلّ الحكم الأموي الرهيب الذي طغى فيه معاوية بن أبي سفيان ، وراح يقتل الناس لا سيما شيعة أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ سعياً منه لإبادة الإيمان ، ودفن الإسلام دفناً ، كما صرّح بذلك لصاحبه المغيرة بن شعبة ذات يوم.
إنّ الإسلام كلّه أخلاق وقيم ومثل عُليا ، وكلّ ذلك تمثّله القيادة الربّانيّة ، والإمامة الشرعيّة المتمثّلة بأهل البيت الأطهار عليهمالسلام ، وأبو عبد الله الحسين عليهالسلام خامس أصحاب الكساء يبيّن الحقائق ، ويضع النقاط على الحروف ، وكأنّه (روحي له الفداء) يُهيّئ الأُمّة الإسلاميّة ليوم عصيب ، سيحلّ يوم عاشوراء ، وموقف عجيب سيقفه على تراب كربلاء.
أليس هذا كلّه أخلاق وقيم يجب على الأُمّة تمثّله في حياتها إذا أرادت السعادة والخير لها ، والخروج من هذه الشرنقة التي حصرت نفسها فيها في هذا الزمان الأغبر.
نعم ، بنهضة الحسين عليهالسلام وأخلاقيّاته ، ومناقبيّاته النموذجية الصادقة يكون الإنقاذ والخلاص.
الحسين عليهالسلام وصلة الرحم
بقي علينا أن نتحدّث عن مفردة واحدة من مناقبيّات الإمام الحسين عليهالسلام في هذا الباب ؛ لنكون قد حاولنا إعطاء صورة واضحة عن معظم الجوانب الاجتماعيّة لحياة المولى عليهالسلام الذي له كلمة رائعة يقول فيها : «مَنْ سرّه أن يُنسأ في أجله ويُزاد في رزقه ، فليصل رحمه» (4).
عرَّف علماء الأخلاق الصلة بأنّها ضدّ القطيعة.
وصلة الرحم : هي إشراك ذوي اللحمة والقرابات بما ناله من المال والجاه وسائر خيرات الدنيا ، وهو أعظم القربات ، وأفضل الطاعات (5). قال سبحانه في كتابه العزيز : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (6).
وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) (7).
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (8).
وكم هي الأحاديث النبويّة والإماميّة حول الرحم وصلتها ، وثواب ذلك الوصل الذي أمر الله به. ففي الحديث النبوي الشريف : «أوصي الشاهدَ مِنْ أُمّتي والغائب ، ومَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة ، أنْ يصلَ الرَّحمَ وإن كانت منه على مسيرة سنة ؛ فإنَّ ذلك من الدِّين» (9).
وأمير المؤمنين عليهالسلام يقول : «صِلوا أرحامكم ولو بالتّسليم».
والإمام الباقر عليهالسلام يقول : «إنَّ الرحم متعلّقةٌ يوم القيامة بالعرش ، وهي تقول : اللّهمَّ صل مَنْ وصلني ، واقطع مَنْ قطعني».
والإمام الصادق عليهالسلام يقول : «صلة الرَّحم تهوِّن الحساب يوم القيامة ، وهي منسأةٌ في العمر ، وتقي مصارع السُّوء».
فالرحم : ربما تكون من الرحمة والتراحم ، فإذا وصلت كانت سبباً لنزول الرحمة الإلهيّة على اُولئك المتراحمين ، فيرحمهم الله ؛ لأنّهم تراحموا فيما بينهم ، ولهذا تكون منسأة ، مطوّلة للعمر والأجل المحتوم (الموت) ، وتزيد في الأرزاق ، وتبارك الأعمار ، وتبني البلاد ، وتزدهر أحوال العباد.
والعقوق والقطيعة : من أهم أسباب التنازع والخصام ، وهي في ذوي الأرحام تكون الحالقة ؛ لأنّها تحلق الأعمار والأرزاق ، وتدع الديار لا خير فيها ، ولا بركة تنزل عليها من الباري تعالى : «ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء» (10).
المصادر :
1- سورة الصف : الآية 8.
2- موسوعة الغدير 1 ص 198 ، كتاب سليم بن قيس ص 168.
3- كتاب سليم بن قيس ص 168 ـ 171.
4- عيون أخبار الرضا عليهالسلام 2 ص 44 ح157 ، موسوعة البحار 74 ص 91 ح15.
5- جامع السعادات 2 ص 259.
6- سورة النساء : الآية 36.
7- سورة النساء : الآية 1.
8- سورة رعد : الآية 1.
9- جامع السعادات 2 ص 260.
10- موسوعة البحار 77 ص 167 ، كنز العمال ص ح5969.
لأنّها تمثيل للقيامة والمحشر بكلّ ما فيه من عظمة ومهابة وقداسة. والمسلمون يجب عليهم أن يهتمّوا أيّما اهتمام بهذا المؤتمر النوراني المبارك ، وأن يعيدوه إلى مجده وإلى أصله التشريعي ؛ فإنّ القوم في هذه الأيام لا سيما وبعد تسلّط الحركة الوهابيّة على مقاليد الأمور هناك ، يفرغون الحجّ والعبادات من معانيها ومقاصدها الشرعيّة.
فتحوّل الحجّ إلى قشر لا لبّ فيه ، وذكر لساني لا معنى في القلب له ، هكذا أراد لنا السلفيون وأتباع محمد بن عبد الوهاب ، وما يخطّطها الاستعمار لضرب كلّ مقدّساتنا الإسلاميّة وعقائدنا الإيمانيّة ؛ ليسهل عليهم التسلّط والسيطرة علينا وعلى بلادنا وخيراتها كلّها.
فالحجّ أخلاق إنسانيّة ، ورسالة إيمانيّة رحمانيّة ، لا سيما شعائره الجملية البهيّة المنظّمة التي ترهب العالم المستكبر عندما يرون هذه الجموع المليونيّة بلباس واحد ، وطواف واحد ، وموقف واحد ، وهتاف وتلبية واحدة ، فيتساءلون : ماذا لو هتفت هذه الجموع بسقوطنا أو أعلنوا الحرب علينا؟
نعم ، هذا المؤتمر المبارك يبيّن أخلاقيّات رفيعة من أخلاقيّات الإمام الحسين عليهالسلام ، واحترامه لجدّه المصطفى صلىاللهعليهوآله وأبيه المرتضى عليهالسلام ، والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ، فتراه يخطابهم بكلّ إجلال وتقدير واحترام وتبجيل ، ويذكّرهم بالقيادة الربانيّة والرسالة الإيمانيّة وواجبهم الشرعي تجاه ذلك كلّه ، ويأخذ اعترافهم وإقرارهم على كلّ ما يقول ، ويأمرهم بتبليغ الرسالة إلى أهل الصلاح والإيمان في كلّ البلدان.
وإليك أخي المؤمن تفاصيل المؤتمر كما ترويها الكتب المعتبرة لدينا :
لمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن علي (صلوات الله عليه) وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر معه ، فجمع الحسين عليهالسلام بني هاشم ؛ رجالهم ونساءهم ومواليهم ، ومن الأنصار ممّن يعرفه الحسين عليهالسلام وأهل بيته. ثمّ أرسل رسلاً قال لهم : «لا تَدَعوا أحداً ممّن حجّ العام من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجتمعوا لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمئة رجل وهم في سرادقة عامّتهم من التابعين ، ونحو من مئتي رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله ، فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال :
«أمّا بعدُ ، فإنَّ هذا الطاغيةَ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أريدُ أن أسألكم عن شيءٍ ، فإن صدقتُ فصدّقوني وإن كذبتُ فكذّبوني ، وأسألكم بحقّ الله عليكم وحقّ رسوله صلىاللهعليهوآله وقرابتي من نبيّكم لما سيّرتم مقامي هذا ووصفتم مقالتي ، ودعوتم أجمعين في أمصاركم من قبائلكم ومَنْ أمنتم من الناس».
وفي رواية أُخرى بعد قوله : فكذّبوني قال :
اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثُمَّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمَنْ أمنتم من النّاس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا ؛ فإنّي أتخوّف أن يدرسَ هذا الأمر ، ويذهب الحقُ ويُغلبُ (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (1).
وما ترك شيئاً ممّا أنزل الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسَّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله صلىاللهعليهوآله في أبيه وأخيه وأُمّه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللّهمَّ نعم ، وقد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللّهمَّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه من الصحابة. فقال : «أُنشدكم الله إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه» (2).
قال سليم : فكان فيما ناشدهم الحسين عليهالسلام وذكّرهم ، أن قال :
«أُنشدكم الله ، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله صلىاللهعليهوآله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنتَ أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أُنشدكم الله ، هل تعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ، ثمّ ابتنى فيه عشرة منازل ، تسعةً له وجعل عاشرها في وسطها لأبي ، ثمّ سدَّ كلّ بابٍ شارعٍ إلى المسجد غيرَ بابه ، فتكلّم في ذلك مَنْ تكلّم فقال : ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحتُ بابه ، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه.
ثمّ نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يُجنبُ في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فولِدَ لرسول الله صلىاللهعليهوآله وله فيه أولاد؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حرص على كوّةٍ قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى عليه ، ثمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن ابني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وابنيه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله نصبهُ يوم غدير خُمٍّ فنادى له بالولاية ، وقال : ليبلّغ الشَّاهدُ الغائبَ؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال له في غزوةِ تبوك : أنتَ منّي بمنزلة هارونَ من موسى ، وأنتَ وليُّ كلِّ مؤمنٍ بعدي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله حين دعا النصارى مِنْ أهلِ نجرانَ إلى المباهلة لم يأتِ إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أنشدكم الله ، أتعلمون أنّه دفع إليه اللواء يوم خيبرٍ ، ثمّ قال : لأدفعنَّه إلى رجلٍ يحبّه الله ورسوله ويُحبُّ الله ورسوله ، كرّار غير فرار ، يفتحها الله على يديه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله بعثهُ ببراءة وقال : لا يبلِّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟».
قالوا : اللّهمَّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لم تنزل به شدةٌ قطٌ إلاّ قدَّمه لها ثقةً به ، وأنّه لم يدعه باسمه قطّ إلاّ أن يقول : يا أخي ، وادعوا لي أخي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قضى بينه وبين جعفرٍ وزيدٍ ، فقال : يا علي ، أنت منّي وأنا منك ، وأنت وليُّ كلّ مؤمنٍ بعدي؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّه كانت له من رسول الله صلىاللهعليهوآله كلّ يومٍ خلوةٌ ، وكلّ ليلةٍ دخلةٌ ، إذا سأله أعطاه ، وإذا سكت ابتدأه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله فضّله على جعفرٍ وحمزة حين قال لفاطمة عليهاالسلام : زوّجتكِ خير أهل بيتي ، أقدمهم سلماً ، وأعظمهم حلماً ، وأكثرهم علماً؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : أنا سيّدُ ولد آدم ، وأخي عليّ سيّد العرب ، وفاطمةُ سيّدةُ نساء أهل الجنّة ، والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنّة».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أمرهُ بغسلهِ ، وأخبرهُ أنّ جبرائيل عليهالسلام يُعينُهُ عليه؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
قال : «أتعلمون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قالَ في آخر خُطبةٍ خطبها : إنّي تركتُ فيكم الثَّقلين ؛ كتاب الله وأهل بيتي ، فتمسَّكوا بهما لن تضلوا؟».
قالوا : اللّهمّ نعم.
فلم يدع شيئاً أنزله الله في علي بن أبي طالب عليهالسلام خاصّة ، وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه صلىاللهعليهوآله إلاّ ناشدهم فيه ، فيقول الصحابة : اللّهمّ نعم ، قد سمعنا ، ويقول التابع : اللّهمّ قد حدثنيه مَنْ أثق به فلان وفلان.
ثمَّ ناشدهم أنَّهم قد سمعوه يقول : «مَنْ زعمَ أنّه يُحبّني ويبغض علياً فقد كذب ، ليس يُحبني ويبغض علياً ، فقال له قائل : يا رسول الله وكيف ذلك؟
قال : لأنّه منّي وأنا منه ، مَنْ أحبّه فقد أحبني ، ومَنْ أحبّني فقد أحبّ الله ، ومَنْ أبغضه فقد أبغضني ومَنْ أبغضني فقد أبغض الله».
فقالوا : اللّهمَّ نعم ، قد سمعنا. وتفرّقوا على ذلك (3).
هذا هو الكلام الفصل ، والحجّة من حجّة الله على الخلق في ذاك اليوم المهيب ، وتحت ظلّ الحكم الأموي الرهيب الذي طغى فيه معاوية بن أبي سفيان ، وراح يقتل الناس لا سيما شيعة أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ سعياً منه لإبادة الإيمان ، ودفن الإسلام دفناً ، كما صرّح بذلك لصاحبه المغيرة بن شعبة ذات يوم.
إنّ الإسلام كلّه أخلاق وقيم ومثل عُليا ، وكلّ ذلك تمثّله القيادة الربّانيّة ، والإمامة الشرعيّة المتمثّلة بأهل البيت الأطهار عليهمالسلام ، وأبو عبد الله الحسين عليهالسلام خامس أصحاب الكساء يبيّن الحقائق ، ويضع النقاط على الحروف ، وكأنّه (روحي له الفداء) يُهيّئ الأُمّة الإسلاميّة ليوم عصيب ، سيحلّ يوم عاشوراء ، وموقف عجيب سيقفه على تراب كربلاء.
أليس هذا كلّه أخلاق وقيم يجب على الأُمّة تمثّله في حياتها إذا أرادت السعادة والخير لها ، والخروج من هذه الشرنقة التي حصرت نفسها فيها في هذا الزمان الأغبر.
نعم ، بنهضة الحسين عليهالسلام وأخلاقيّاته ، ومناقبيّاته النموذجية الصادقة يكون الإنقاذ والخلاص.
الحسين عليهالسلام وصلة الرحم
بقي علينا أن نتحدّث عن مفردة واحدة من مناقبيّات الإمام الحسين عليهالسلام في هذا الباب ؛ لنكون قد حاولنا إعطاء صورة واضحة عن معظم الجوانب الاجتماعيّة لحياة المولى عليهالسلام الذي له كلمة رائعة يقول فيها : «مَنْ سرّه أن يُنسأ في أجله ويُزاد في رزقه ، فليصل رحمه» (4).
عرَّف علماء الأخلاق الصلة بأنّها ضدّ القطيعة.
وصلة الرحم : هي إشراك ذوي اللحمة والقرابات بما ناله من المال والجاه وسائر خيرات الدنيا ، وهو أعظم القربات ، وأفضل الطاعات (5). قال سبحانه في كتابه العزيز : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى) (6).
وقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) (7).
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (8).
وكم هي الأحاديث النبويّة والإماميّة حول الرحم وصلتها ، وثواب ذلك الوصل الذي أمر الله به. ففي الحديث النبوي الشريف : «أوصي الشاهدَ مِنْ أُمّتي والغائب ، ومَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة ، أنْ يصلَ الرَّحمَ وإن كانت منه على مسيرة سنة ؛ فإنَّ ذلك من الدِّين» (9).
وأمير المؤمنين عليهالسلام يقول : «صِلوا أرحامكم ولو بالتّسليم».
والإمام الباقر عليهالسلام يقول : «إنَّ الرحم متعلّقةٌ يوم القيامة بالعرش ، وهي تقول : اللّهمَّ صل مَنْ وصلني ، واقطع مَنْ قطعني».
والإمام الصادق عليهالسلام يقول : «صلة الرَّحم تهوِّن الحساب يوم القيامة ، وهي منسأةٌ في العمر ، وتقي مصارع السُّوء».
فالرحم : ربما تكون من الرحمة والتراحم ، فإذا وصلت كانت سبباً لنزول الرحمة الإلهيّة على اُولئك المتراحمين ، فيرحمهم الله ؛ لأنّهم تراحموا فيما بينهم ، ولهذا تكون منسأة ، مطوّلة للعمر والأجل المحتوم (الموت) ، وتزيد في الأرزاق ، وتبارك الأعمار ، وتبني البلاد ، وتزدهر أحوال العباد.
والعقوق والقطيعة : من أهم أسباب التنازع والخصام ، وهي في ذوي الأرحام تكون الحالقة ؛ لأنّها تحلق الأعمار والأرزاق ، وتدع الديار لا خير فيها ، ولا بركة تنزل عليها من الباري تعالى : «ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء» (10).
المصادر :
1- سورة الصف : الآية 8.
2- موسوعة الغدير 1 ص 198 ، كتاب سليم بن قيس ص 168.
3- كتاب سليم بن قيس ص 168 ـ 171.
4- عيون أخبار الرضا عليهالسلام 2 ص 44 ح157 ، موسوعة البحار 74 ص 91 ح15.
5- جامع السعادات 2 ص 259.
6- سورة النساء : الآية 36.
7- سورة النساء : الآية 1.
8- سورة رعد : الآية 1.
9- جامع السعادات 2 ص 260.
10- موسوعة البحار 77 ص 167 ، كنز العمال ص ح5969.