الظلم من أبشع الصفات في الإنسان أو حتّى المخلوقات ؛ ولذا فإنّ الظلم ظلمات كما في الرواية الشريفة. والظلم من شيم النفوس الضعيفة. وهذا يغلب على طبيعة بني البشر. وأمّا أصحاب النفوس الأبيّة الضيم ، والعالية الهمّة فإنّها تكره أن تظلم كما تأبى أن تُظلم.
ولذا كانت وصيته لولده الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهماالسلام : «أي بنيّ إيّاكَ وظُلم مَنْ لا يجد عليكَ ناصراً إلاّ الله عزَّ وجلَّ» (1).
وهذا نابع من وصية أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام لولديه الحسنين عليهماالسلام : «يا بنيّ كونا للظالمِ خَصماً وللمظلومِ عوناً» (2).
والذي يرفض الظلم لا بدّ أن يرفض الظالم ؛ سواء كان حاكماً أو محكوماً. والحاكم أولى بالمقاومة والرفض ؛ لما جاء في الحديث النبوي الشريف : «إنّ أفضلَ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند إمامٍ جائر» (3).
وهذا المجاهد هو واحد من سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظِلَّ إلاّ ظلُّه.
الإمام الحسين عليهالسلام رفض الحاكم الطاغية معاوية بن أبي سفيان قبل أن يرفض ولده يزيد الطاغية ، والروايات والخطب الحسينيّة بحضور معاوية ومراسلاته معه تؤكّد على هذه الحقيقة الرافضة للحاكم الظالم مهما كانت قوّته وعدد جنده.
وذات يوم وصف نافع بن جبير معاوية بقوله تزلّفاً إليه : إنّه كان يسكته الحلم وينطقه العلم ، فقال الإمام عليهالسلام : «بل كان ينطقه البَطَر ويسكته الحصر» (4).
فالغني يبطر ويحكي كما يحلو له لا سيما إذا كان حاكماً ومتسلّطاً على مقاليد الأُمّة ، وأمّا إذا سكت فإنّه عن حصر وعي وعدم إسعاف قريحته له بالكلام فيسكت رغم أنفه ، فأيّ علم كان عند ذاك الطليق ، وأيّ حلم كان عند مَنْ قتل الآلاف المؤلّفة ، لا لشيء إلاّ لحبّهم وولائهم لأهل البيت عليهمالسلام ، وصحبتهم لأمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام؟!
معاوية يعترف بالقتل
وإليك يا عزيزي القارئ هذه القصَّة التي تدلُّ على غباء الرجل ، وعدم معرفته بالدين الذي يحكم به أُّمته ، ويدَّعي أنّه خال المؤمنين ، أو أنّه خليفة رسول ربّ العالمين صلىاللهعليهوآله. يروي صالح بن كيسان يقول :لمّا قتل معاوية حجرَ بن عدي وأصحابه (رضوان الله عليهم) حجَّ ذلك العام فلقي الحسين بن علي عليهماالسلام ، فقال : يا أبا عبد الله ، هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه ، وأشياعه وشيعة أبيك؟!
فقال عليهالسلام : «وما صنعتَ بهم؟».
قال : قتلناهم وكفّناهم وصلَّينا عليهم.
فضحك الإمام الحسين عليهالسلام ثمّ قال :
«خَصَمَكَ القوم يا معاويةُ ، لكنّنا لو قتلنا شيعتك ما كفّناهم ولا صلّينا عليهم ولا قبرناهم ، ولقد بلغني وقيعتك في عليّ عليهالسلام وقيامك ببغضنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ، ثمّ سلها الحقّ عليها ولها ، فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر عيبك فيك ، وقد ظلمناك يا معاوية ، فلا توترنّ غير قوسك ، ولا ترمينّ غير غرضك ، ولا ترمنا بالعداوة من مكانٍ قريبٍ ؛ فإنّك والله لقد أطعت فينا رجلاً ما قدم إسلامه ولا حدث نفاقه ، ولا نظر لك ، فانظر لنفسك أو دع» (5).
يعني بقوله الأخير عمرو بن العاص ، ذاك الجلف المجافي عن الدين والإسلام والحقّ الذي كان أعدى أعداء الله وأهل بيت رسوله (صلوات الله عليه وآله أجميعن).
وخَصمَه القوم ، يعني أنّه اعترف بعظمة لسانه أنّه قتل أناساً مؤمنين من أهل الإسلام الحنيف ، ورغم قتلهم فإنّهم أهلٌ أن يُحترموا بالغسل والكفن والصلاة الواجبة لموتى المسلمين ، وكتاب الله وأحاديث الرسول صلىاللهعليهوآله تشدّد النكير على (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (6)
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) (7) ، فكيف مَنْ قتل عدداً غير قليل من المؤمنين المخلصين ظلماً وعدواناً؟!
وأمّا الإمام عليهالسلام ، فلو قتلهم أو قتل أحداً من أصحاب معاوية لما قام له بأيّ شيء ولا حتّى الدفن ، وهذه شهادة بأنّ معاوية وأصحابه ليسوا من الإسلام في شيء.
والشجاعة الأدبيّة في كلمات أبي الأحرار الحسين عليهالسلام كانت عالية ، بحيث لم يترك معاوية يتيه ويفخر بأنّه قتل شيعة أمير المؤمنين عليهالسلام وأصحابه ، فبعد الصفعة الأولى وقبل أن يستيقظ معاوية من ألمها ثنّى عليه الإمام الحسين عليهالسلام بالصفعة الأخرى لتكون أشدّ ألماً وقوّة.
فقال له : «لقد بلغني وقيعتك في عليّ عليهالسلام» أي أنّك تسبّه ، وهذِهِ سُنّة سيئّة أنت محاسب عنْها ، وقد استمرت هذه السُنّة في الأُمّةِ الإسلاميّة عشرات السنوات ، وتصل بالعيب إلى بني هاشم وهَمْ مَنْ هم في دنيا الفضائل والإسلام. فإنْ فعلتَ ذلكَ فعليكَ أنْ ترجعَ إلى نفسِكَ وتقف معها وقفةً صادقةً ، ألستَ تَراها مَحشوَّةً بالعيوبِ العظامِ ، وأعظم عيوب بني هاشم هي أصغر عيوبك فيك؟!
فإيَاكَ أنْ تشدَّ وِترَ القوسِ الذي لا تملكه ، وتصطادَ غيرَ هدفِكَ ، فإنَّ ذلكَ دلالةٌ على قلّةِ العقلِ ، والجهلِ وسوء التدبير ، والطاعة لابن النابغة عمرو بن العاص شانئ رسول الله صلىاللهعليهوآله وأهل بيتهِ في العداوة والمحاربة للإمام عليهالسلام وأهل بيته الكرام جميعاً.
وفي الرسالة التي سبق أن نقلناها قرأت قول الإمام الحسين عليهالسلام فيها : «وإنّي لا أعلمُ فتنةً أعظم على هذه الأُمّة من ولايتك عليها ، ولا أعلمُ نظراً لنفسي ولديني ولأُمّة محمد صلىاللهعليهوآله وعلينا أفضل من أن أجاهدك ، فإن فعلت فإنّه قربةٌ إلى الله ، وإنْ تركتُهُ فإنّي أستغفر الله لذنبي وأسأله توفيقه لإرشاد أمري» (8).
وفي نهاية تلك الرسالة يعلن رفضه ليزيد اللعين بقوله : «وأخذك الناس ببيعة ابنك غلامٍ حدث ، يشربُ الخمر ، ويلعب بالكلاب ، لا أعلمك إلاّ وقد خسرت نفسك ، وتبّرت دينك ، وغششت رعيّتك ، وأخربت أمانتك» (9).
هل يوجد أقوى وأصرح من هذه الكلمات الحسينيّة في رفض بيعة معاوية وابنه يزيد؟
إنّه يرى وجوب الجهاد لهم ؛ ولذا يستغفر الله بالتقصير من ذلك ، لأنّ جهادهم من أقرب القربات إلى الله ، ولكنّ الحين لم يحن ، وصلح أخيه الإمام الحسن عليهالسلام أجدر بالوفاء.
ولذا فإنّ الإمام الحسين عليهالسلام رفض في المدينة المنوّرة بيعة يزيد رفضاً قاطعاً ، وأعلنها نهضة ربّانيّة مباركة لإيقاظ الأُمّة إلى وجوب جهاد الحاكم الظالم ، وتنحية الطاغية عن دفّة القيادة للأُمّة الإسلاميّة ، فقال عليهالسلام : «مثلي لا يبايع مثله» ، وكان هذا هو البيان الأوّل للنهضة الحسينيّة ، وقد تقدّم.
المصادر:
1- كلمة الإمام الحسين ص 337.
2- مستدرك الوسائل 12 ص 180 ، بحار الأنوار 97 ص 90 ، نهج البلاغة ص 421.
3- الفروع من الكافي 5 ص 59 ح16 ، التهذيب 6 ص 177 ، وسائل الشيعة 16 ص 126.
4- بحار الأنوار 33 ص 219 ، كنز الفوائد 2 ص 32.
5- الاحتجاج 2 ص 19 ، كشف الغمّة 2 ص 205 ، وسائل الشيعة 2 ص 704 ح3.
6- سورة المائدة : الآية 32.
7- سورة النساء : الآية 93.
8- بحار الأنوار 44 ص 213 ، رجال الكشي ص 50.
9- رجال الكشي ص 32 ، أعيان الشيعة 1 ص 582.