
يذکر علماء السنة ان ابا بکر لم يكن عالماً بالقرآن حتى شك في موت النبي ... فالجواب : إنّ ذلك كان ... ) .
ذکر ذلک السعد في کتابه و لابدّ للسّعد ـ كغيره ـ من الاعتذار له بكلّ وجه ، فتراه يذكر له عذرين بينهما بعد المشرقين ، لأنّ حاصل الأوّل كون السبب لإنكاره موت النبي ـ خروجه عن حال الفهم والمعرفة لتشوّش باله واضطراب حاله . وحاصل الثاني : كون إنكاره لذلك عن فهمٍ للقرآن وتأمّلٍ في آياته ! لكن كليهما بارد باطل .
أمّا الأوّل فلأنّه لو كان تشوش باله واضطراب حاله بمجرّد سماع قولهم مات النبي ، للزم يزول عقله بالكليّة لمّا تحقّق عنده موت النّبي بقول أبي بكر ، لكنه بادر إلى السقيفة مرتاح البال ، وجعل يزوّر في نفسه كلاماً ليقوله للأنصار فيخصمهم به ، ثم حضرها وفعل هناك ثم خارجها ما فعل حتّى أتمّ الأمر لأبي بكر .
ثمّ إنّ السّعد لم يذكر السبب « لتشوش البال واضطراب الحال والذّهول عن جليّات الأحوال » فإن كان السبب محبّة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والتألّم من فقده ، كان اللازم أن يكون من جملة الذين تولّوا تجهيز النّبي ودفنه ، لا المعرضين عن ذلك ، الغاصبين لتراثه ...
وأيضاً : لو كان السبب في الإنكار ما ذكر لما جعل القوم كلام أبي بكر له دليلاً على أعلميته كما في كلام الكرماني في شرح الحديث في ( الكواكب الدراري ) : « وفيه فضيلة عظيمة لأبي بكر ورجحان علمه على عمر وغيره » .
وأيضاً : لو كان ما ذكر هو السبب فلما ذا لم يكذّب خبر موته صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد ؟ قال السّيوطي : « أخرج ابن جرير عن القاسم بن عبدالرحمن ابن رافع أخي بني عدي بني النجار قال : إنتهى أنس بن النصر عم أنس بن مالك إلى عمر وطلحة بن عبيدالله في رجالٍ من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا ما بأيديهم فقال : ما يجلسكم ؟ قالوا : قتل محمد رسول الله . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، واستقبل القوم فقائل حتى قتل » (1) .
وأمّا الثاني فلأنّ المعنى الذي يزعم أنّه فهمه من الآيات لا ينافيه الآية : ( انّك ميّت وانّهم ميّتون ) فلماذا سكن حين تلاها أبوبكر عليه ولم يقل له : لا دلالة في الآية على من جوّز بالآيات الموت عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم في المستقبل وأنكره في هذه الحال ؟
تصرّفه في بيت المال
( ومنها : إنّه تصرّف في بيت المال بغير حق ... والجواب ... ) .
إنّ الإشكال هو : تصرّفه في بيت المال بغير الحق وإعطاؤه منه ما لا يجوز وما ذكر من إطائه كذا وكذا ، ومن تفضيله لبعض الناس على بعض ، جملة من موارد تلك التصرّفات ... وقد عكس الأمر بالنسبة إلى أهل البيت حتّى منعهم خمسهم الذي هو ذوي القربى ، ومنع فاطمة عليها السلام إرثها ونحلتها التي وهبها رسول الله لها .
وقد جعل السّعد « التفضيل » في مقابل « التصرّف » ثم أوجز الكلام في الجواب فقال :
( إنّ حديث التصّرف في الأموال محض افتراء ) .
فإن أراد حديث إعطاء عائشة وحفصة فهذا ما رواه الحاكم (2) والطبري (3) وابن الأثير (4) وغيرهم من محدّثين ومؤرّخين ... فإن كانوا مفترين فما ذنبنا ؟ وإن أراد حديث استقراضه من بيت المال ، فهو في كتب الحديث والتاريخ أيضاً ... (6) فإن كانوا مفترين عليه فما ذنبنا ؟
وقال : ( وأمّا التفضيل فله ذلك بحسب ما يرى من المصلحة ) فجوّز التفضيل في العطاء من بيت المال لبعض الناس على البعض الآخر « بحسب ما يرى من المصلحة » ولم يبيّن المراد من المصلحة ، فهل المراد منها مصلحة الإسلام والمسلمين ؟ أو مصلحته الشّخصيّة ؟
وأجاب عن منع أهل البيت خمسهم بما حاصله « أنّه اجتهد » .
فيقال له : أيّ اجتهادٍ هذا يؤدّي إلى مخالفة حكم الكتاب بمنع أهل البيت حقّهم ، في الوقت الذي يؤدّي إلى إعطاء كلٍ من عائشة وحفصة عشرات الآلات من أموال المسلمين .
منعه عن المتعتين
( ومنها : إنه منع متعة النكاح ... ومتعة الحج ... والجواب ) .
لم ينكر أصل تحريم المتعتين كما فعل بعضهم مكابرةً ... قال عمر : « متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما »(6)
فعمر ينسب التحريم إلى نفسه ويتوعّد المخالف ، فلا يدّعي ألنّسخ في حياة النبي ، ولا قيام الدليل عنده على ذلك ، فهو ليس إلاّ بدعة أو اجتهاداً في مقابل النصّ ، وكلاهما محرّم قطعاً ، فهذا جواب قوله : ( إن هذه مسائل اجتهادية ) وقوله : ومعنى أحرمهنّ : أحكم بحرمتهنّ وأعتقد ذلك لقيام الدليل كما يقال : حرّم المثلّث الشّافعي وأباحه أبو حنيفة ) .
وأمّا قوله : ( وقد ثبت نسخ إباحة متعة النساء بالآثار المشهورة ، إجماعاً من الصّحابة على ما روى محمد بن الحنفية عن علي : إن منادي رسول الله نادى يوم خيبر ... ) ففيه :
أوّلاً :
ثبوت النسخ موقوف على دليل قاطع وهو غير موجود ولا أثر مشهور بذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولو كان لما كان الإختلاف بين الصحابة وعامة المسلمين حتّى اليوم .
وثانياً : قد اشتهر القول بحلّية المتعة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أمير المؤمنين عليه السّلام وأهل البيت وابن عباس ، وجماعة من الصحابة ، منهم : ابن مسعود وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري وسلمة بن أمية ومعبد بن أميّة وعمرو بن حريث ومعاوية وأسماء بنت أبي بكر ، ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله ومدّة أبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر . وعليه من التابعين : طاووس وعطاء وسعيد بن جبير وسائر فقهاء مكة أعزّها الله (7) وذكر القرطبي من الصّحابة عمران بن حصين وأضاف عن ابن عبدالبر : « أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن كلّهم يرون المتعة حلالاً على مذهب ابن عباس » (8) ومن أشهرهم الامام ابن جريج المكي المتوفى سنة 149 وهو فقيه كبير ومحدّث ثقة من رجال الصحيحين ، فقد ذكروا بترجمته أنه تزوّج من تسعين امرأة بنكاح المتعة .
وثالثاً : الخبر الذي ذكره عن محمد بن الحنفية عن أبيه كذب من وجوه :
الأول : إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان على رأس المنكرين لتحريم نكاح المتعة .
والثاني : إنّه معارض بما وضعوه على لسانه بنفس السند وأنّ التحريم كان يوم حنين (9) وآخر أنّه كان في غزوة تبوك (10) وثالث أنّه كان في حجّة الوداع (11) .
والثالث : إنه قد روي هذا الحديث بنفس السند ولم يذكر في إلاّ تحريم الحمر الإنسية في يوم خيبر (12) .
والرابع : إن تحريم متعة النساء يوم خيبر « شيء لا يعرفه أحد من أهل السّير ورواة الأثر » كما نصّ عليه كبار الأئمّة كالسهيلي وابن عبدالبر والبيهقي وابن حجر والقسطلاني وابن القيّم والعيني وابن كثير (13) .
والخامس : إنّ الرّاوي للخبر عن « محمد بن الحنفية » هو « محمد بن شهاب الزهري » وهو من الوضّاعين على أهل البيت .
وأمّا دعوى رجوع ابن عباس عن قوله في المتعة فمن أعاجيب الأكاذيب أيضاً . فقد عرفت مذهب ابن عباس وأنّ فقهاء مكة واليمن على مذهبه ، بل في صحيح مسلم باب نكاح المتعة : إنه كان يفتي بها في حكومة عبدالله بن الزبير بمكة وأن ابن الزبير هدّده بالرّجم ... وقال ابن حجر العسقلاني : « روي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة » (14) وقال ابن كثير : « ما رجع ابن عباس عمّا كان يذهب اليه من إباحتها » (15) .
فالعجب من السّعد ؟ إن كان روى حديثاً ورآى محدّثاً فما هذه الأباطيل ؟ وإلاّ فلماذا الدخول في هذه التفاصيل ؟
هذا وقد حققنا الموضوع في رسالة منفردة مطبوعة
جعله الخلافة شورى
( ومنها : إنه جعل الخلافة شورى بين ستة ... والجواب ... ) .
قال العلامة الحلي رحمه الله :
« ومنها : قصّة الشورى ، وقد أبدع فيها أموراً ، فإنّه خرج بها عن الاختيار والنصّ جميعاً وحصرها في ستة ، وذمّ كلّ واحد منهم بأن ذكر فيه طعناً لا يصلح معه للامامة ثم أهّله بعد أن طعن فيه ، وجعل الأمر إلى ستّة ثم إلى أربعة ثم إلى واحد وصفه بالضّعف والقصور ، وقال : إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه ، وإن صاروا ثلاثة وثلاثة فالقول للّذين فيهم عبدالرحمن ، وذلك لعلمه ، بأنّ علياً وعثمان لا يجتمعان ، وأن عبدالرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمه ، وأنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخّروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام ، وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم أو الذين ليس فيهم عبدالرحمن .
وروى الجمهور إنّ عمر لمّا نظر إليهم قال : قد جاءني كلّ واحد منهم يهزّ عفريته يرجو أن يكون خليفة .
وأمّا أنت يا طلحة أفلست القائل : إن قبض النبي للنكحنّ أزواجه من بعده ، فما جعل الله محمداً أحق ببنات أعمامنا ، فأنزل الله فيك : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ) .
وأمّا أنت يا زبير فوالله ما لان قلبك يوماً ولا ليلة وما زلت جلفاً جافياً مؤمن الرّضا كافر الغضب ، يوماً شيطان ويوماً رحمان ، شحيح .
وأمّا أنت يا عثمان لروثة خير منك ، ولئن وليّتها لتحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس ولئن فعلتها لتقتلنّ ، ثلاث مرات .
وأما أنت يا عبدالرحمن فإنّك رجل عاجز تحب قومك جميعاً .
وأمّا أنت يا سعد فصاحب عصبيّة ومقنب وقتال ، لا تقوم بقربة لو حملت أمرها .
وأمر أنت يا علي فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم .
فقام علي مولياً يخرج ، فقال عمر : والله إنّي لأعلم مكان الرجل ، لو وليّتموه أمركم حملكم على المحجة البيضاء ، قالوا : من هو ؟ قال : هذا المولى عنكم ، إن ولّوها الأجلح سلك بكم الطريق المستقيم . قالوا : فما يمنعك من ذلك ؟ قال : ليس إلى ذلك سبيل . قال له ابنه عبدالله : فما يمنعك منه ؟ قال : أكره أن أتحمّلها حياً وميّتاً ، وفي رواية : لا أجمع لبني هاشم بين النبوة والخلافة .
وكيف وصف كلّ واحد بوصف قبيح كما ترى زعم أنه يمنع من الامامة ، ثم جعل الأمر فيمن له تلك الأوصاف ، وأيّ تقليد أعظم من الحصر في ستة ثم تعيين من أختاره عبدالرحمن ، والأمر بضرب رقاب من يخالف منهم ؟
وكيف أمر بضرب أعناقهم أن تأخّروا عن البيعة أكثر من ثلاثة أيّام ؟ ومن المعلوم أنّهم لا يستحقّون ذلك ، لأنّهم إن كلّفوا أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الامام ، فربما طال زمان الاجتهاد وربما نقص ، بحسب ما يعرض فيه من العوارض ، فكيف يسوغ الأمر والقتل إذا تجاوزت الثلاثة ؟ ثم أم بقتل من يخالف الأربعة ، ومن يخالف العدد فيه عبدالرحمن وكل ذلك ممّا لا يستحق به القتل .
ومن العجب اعتذار قاضي القضاء بأنّ المراد القتل إذا تأخّروا على طريق شق العصى وطلبوا الأمر من غير وجهه ، فإنّ هذا مناف لظاهر الخبر ، لأنّهم إذا شقّوا العصى وطلبوا الأمر من غير وجهه أول الأمر وجب قتالهم » (16) .
فكم فرق بين هذا وما ذكره السّعد عن لسان أصحابنا ؟ وأيّ جواب يكون له أو لغيره عن هذا الذي ذكره العلامة الحلّي مستند إلى أخبار القوم ورواياتهم ؟
المصادر :
1- الدر المنثور 2 / 81 .
2- المستدرك 4 / 8 .
3- تاريخ الطبري 4 / 162 .
4- الكامل في التاريخ 2 / 247 .
5- تاريخ الطبري 5 / 22 ، الكامل 3 / 29 ، كنز العمّال 6 / 362 ـ 363 .
6- الطحاوي في شرح معاني الآثار 374 ، والبيهقي في سننه 7 / 206 ، وابن رشد في البداية 1 / 346 والرازي في تفسيره 2 / 167 وابن حزم في المحلّى 7 / 107 والجصّاص في أحكام القرآن 1 / 279 والقرطبي في تفسيره 2 / 370 .
7- المحلّى 9 / 519 .
8- تفسير القرطبي 5 / 133 .
9- سنن النسائي 6 / 126 .
10- المنهاج في شرح مسلم هامش القسطلاني 6 / 130 .
11- مجمع الزوائد 4 / 265 .
12- عمدة القاري شرح البخاري ـ كتاب المتعة .
13- زاد المعاد 2 / 184 تاريخ ابن كثير 4 / 193 فتح الباري 9 / 138 عمدة القاري 17 / 246 إرشاد الساري 6 / 536 .
14- فتح الباري 9 / 139 .
15- تاريخ ابن كثير 4 / 193 .
16- نهج الحق وكشف الصدق : 285 ـ 288 .