
من مطاعنهم في عثمان : إنّه ولّى أمور المسلمين من ظهر منهم الفسق والفساد ... وأنه صرف أموال بيت المال إلى أقاربه ... وأنه حمى لنفسه ... وأنه أحرق مصحف ابن مسعود وضربه ... وضرب عماراً ... وضرب أباذر ونفاه إلى الربذة ، وأنه ردّ الحكم ... وأنه أسقط القود عن عبيدالله بن عمر ... والجواب ..
لم يذكر ممّا نقم على عثمان إلاّ موارد ، وقد قسّم ما ذكره إلى أقسام :
فبعضها : ما لم يكذّبه إلا أنّه أجاب عنه بأنّه ( لا يقدح في إمامته ، كظهور الفسق والفساد من ولاة بعض البلاد ، إذ لا إطلاع له على السرائر ، وإنّما عليه الأخذ بالظاهر والعزل عند تحقّق الفسق ... ) .
فيه اعتراف بظهور الفسق والفساد منولاة بعض البلاد ، ولمّا كان بعضهم من الصحابة ، فقد أذعن بوجود الفسّاق والمفسدين فيهم ، وهذا إبطال لقول من قال بعدالة الصحابة كلّهم ...
( لا اطّلاع له على السرائر وإنما عليه الأخذ بالظاهر والعزل عند تحقق الفسق ) مردود بوجهين :
فأوّلاً : إنّ منهم من كان قد ظهر منه الفسق والفساد سابقاً ... فالوليد بن عقبة هو الذي وصفه الله سبحانه في كتابه بالفاسق في قوله عزّ وجلّ : ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ) (1) فالمؤمن علي والفاسق هو الوليد بن عقبة كما رواه ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والواقدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق (2) .
ومن المعلوم أن تولية الفاسق قادح في الامامة .
وثانياً : إنّه ـ وإن كان لا اطلاع له على السرائر وإنّما عليه « الأخذ بالظاهر » لكن عليه « العزل عند تحقّق الفسق » كما ذكر ... إلاّ أن عثمان لم يعزل من تحقّقّ عنده الفسق منهم ، وهذا قادح في الامامة . فسعيد بن العاص مثلاُ لم يعزله باختياره عن الكوفة بعد أن بأفعاله ، بل ردّه أميراً على الكوفة وأمره بالتضييق على أهلها ، فلمّا جاء ليدخل الكوفة خرج عليه بالسّلاح فتلّقوه فردّوه ، وكتبوا إلى عثمان : « لا حاجة لنا في سعيدك ولا وليدك » (3) .
وبعضها : ما كذّبه قائلاً : ( وبعضها افتراء محص كصرف ذلك القدر من بين المال إلى أقاربه ، واخذ الحمى لنفسه ، وضرب الصحابة إلى الحدّ المذكور ) .
أمّا إنكاره صرف الأموال من بيت المال فلم يعلم أنه ينكر أصل الصرّف أو كونه من بيت المال فيدّعي كونه من ماله الخاص كما زعم ابن روزبهان ؟ وكيف كان ففي رواية المؤرخين المعتمدين عندهم أنه صرفها بيت المال .(4).
وأمّا إنكاره أخذ الحمى فيردّه تسليم ابن حجر المكي في ( الصواعق )
والحلبي في ( سيرته ) وغيرهما صحّة ذلك الخبر المروي في كتبهم ...
وأمّا إنكاره ضرب الصّحابة إلى الحدّ المذكور فتقييده بـ ( إلى الحدّ المذكور ) يفهم قبوله أصل المطلب ، هذا كاف ، لكن ضرب ابن مسعود إلى حدّ كسر أضلاعه موجود في أخبار القوم وكتبهم ، ولذا قال بعض المتكلّفين بأنّ ضربه كان للتأديب وللإمام ذلك ، وقال آخر : ضربه بعض غلمان عثمان لمّا رأوه يقع فيه ، وكذا ضرب عمّار إلى حدّ الفتق فقد ذكره غير واحد منهم ، بل في رواية ابن عبدالبرّ ذلك مع إضافة حيث قال : « حتى انفتق له فتق في بطنه وكسروا ضلعاً من اضلاعه » بل ظاهر الخبر أنه كان مشرفاً على الموت ففيه : « فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : والله لئن مات لاقتلنا به أحداً غير عثمان » (5) .
وبعضها : ما لم يكذّبه ولم ينكر قدحه في الامامة فاضطرّ إلى الجواب بقوله : ( وبعضها أجتهاديّات مفوّضة إلى رأى الامام حسب ما يراه من المصلحة كالتأديب والتعزير ، ودرء الحدود والقصاص بالشبهات والتأويلات ) .
هل كان مما فوّض إلى رأيه ضرب مثل أبي ذر ونفيه إلى الرّبذة ؟ وهل يسمّى مثل هذا تأديباً وتعزيراً ؟ ولما ذا ؟
روى البلاذري وغيره : « لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبوذر يقول : بشّر الكانزين بعذابٍ أليم ، ويتلو قول الله عزّ وجلّ ( والذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم ) .
فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذر ناتلاً مولاه أن أنته عمّا يبلغني عنك . فقال : أينهاني عثمان عن قرائة كتاب الله وعيب من ترك أمرالله ؟! ...
وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال : يا معاوية ، إن كانت هذا الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك ، فهذا الإسراف . فسكت معاوية » .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث زيد بن وهب قال : « مررت بالربذة فقلت لأبي ذر : أنزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذا الآية : ( الذين يكنزون الذهب والفضّة ) فقال : نزلت في أهل الكتاب فقلت : فينا وفيهم ، فكتب يشكوني إلى عثمان ، فكتب عثمان : أقدم المدينة فقدمت ، فكثر الناس عليّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك . فذكر ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحيّت فكنت قريباً . فذلك الذي أنزلني هذا المنزل » .
قال ابن حجر بشرحه : « وفي رواية الطبري : إنهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه الشام ، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام ... وفي رواية الطبري : تنحّ قريباً . قال : والله لن أدع ما كنت أقوله . ولابن مردويه : لا أدع ما قلت » .
وفي حوادث سنة ثلاثين من تاريخي الطبري وابن الأثير : كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة ، وقد ذكر في سبب ذلك امور كثيرة ، من سبّ معاوية إيّاه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير وطاء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ... أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها ... » .
وعلى الجملة فإنّ نكير سيدنا أبي ذر رضي الله عنه كان موجّهاً إلى معاوية ومروان وعبدالرحمن بن عوف وزيد بن ثابت وطلحة بن عبيد الله وأمثالهم الذين خضموا على عهد عثمان مال الله خضمة الإبل نبتة الرّبيع ... إلى أن أسكنه عثمان الربذة فما فمات بها ... وقد نصّ على تسيير عثمان أباذر قهراً جمهور المؤرّخين والمحدّثين ، حتى أرسله غير واحد منهم كالشهرستاني في ( الملل والنحل ) والحلبي في ( سيرته ) وابن حجر المكي في ( صواعقه ) ولم ينكره السّعد في الكتاب .
هذا قضية أبي ذر وعلى هذه فقس ما سواها ...
وهل كان ممّا فوّض إلى رأي الامام تعطيل القصاص ؟ وهل يسمّى تعطيله درء له بالشبهة ؟ وما هي الشبهة في قضية عبيدالله بن عمرو والهرمزان ؟
لقد قتل عبيدالله بن عمر الهرمزان وجفينة وبنت أبي لؤلؤة وهما مسلمان بلا ذنب أتيا به ، بل أراد ألاّ يترك سبياً بالمدينة إلاّ قتله وأمسك عثمان عن القصاص ، وهذا ممّا أكثر الناس فيه وأعظموه حتى قال أمير المؤمنين عليه السلام له : يا فاسق لئن ظفرت بك يوما لأقتلنّك .(6)
فلو كان في القضية شبهة دارئة لما كان ذلك الموقف من المسلمين ومن أمير المؤمنين عليه السّلام ، حتّى أنّه لّما ولي الأمر تطلّب عبيدالله ليقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام ، وقتل بصفّين ... كما في الاستيعاب .
ولو كان في القضية شبهة دارئة لما افتعل القوم له المعاذير المختلفة ... كما لا يخفى على من راجع كتب الحديث والكلام ...
هذه قضيّة عبيدالله بن عمر ... وعلى هذه فقس ما سواها .
وبعضها : ما زعم كونه بإذن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : ( وبعضها كان بإذن النبيّ ، كردّ الحكم بن أبي العاص ، على ما روي أنّه ذكر ذلك لأبي بكر وعمر فقالا : إنك شاهد واحد ، فلمّا آل الأمر إليه حكم بعلمه ) .
أقول : لا خلاف في أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعن الحكم وولده وأنه طردهم عن المدينة المنوّرة ... وهذان الأمران موجودان في كافّة المصادر ...
كما أنّ من الثابت أنهم لم يزالوا طرداء حتّى ردّهم عثمان ... هذان الأمران أيضاً موجودان في كافة المصادر ... وفي غير واحد منها : إنه آواه وأعطاه مائة ألف .
كما أنّ المصادر كلّها متّفقة على أنّ ردّ الحكم كان مما نقم على عثمان ... (7)
بقي أن نعرف إذن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعثمان بردّ الحكم وإيوائه ، فأين الخبر في ذلك ؟ ومن الذي رواه ؟ يقول السّعد : ( على ما روي ... ) وهو أيضاً لا علم له بالرواية ! بل أخذ هذا الجواب ـ مثل كثير من المواضع ـ من عبد الجبار المعتزلي حيث قال في ( المغني ) : « قد نقل أن عثمان لمّا عوتب على ذلك أنه استأذن رسول الله » لكن المعتزلي أيضاً يقول : « قد نقل » . وقد اعترضه السيّد المرتضى في ( الشافي ) بأنّ هذا لم يسمع من أحد ولا نقل في كتاب ، ولا نعلم من أين نقله ؟ وفي أبي كتاب وجده ؟ فإنّ الناس كلّهم رووا خلافه !
ثم إن أبابكر وعمر لم يردّا عثمان لكونه شاهداً واحداً ، وإنّما ردّاه لأنّهما لم يصدّقاه ، حتى قال له عمر : « ويحك يا عثمان !! » وهذا نصّ الخبر كما رواه الحلبي ، قال : « كان يقال له : طريد رسول الله ولعينه وقد كان طرده إلى الطائف ومكث به مدة رسول الله ومدّة أبي بكر معد أن سأله عثمان في إدخاله المدينة ، فأبي فقال له عثمان : عمي ، فقال : عمّك إلى النار ، هيهات هيهات أن أغيّر شيئاً فعله رسول الله ، والله لا رددته أبداً ، فلمّا توفي أبوبكر وولي عمر كلّمه عثمان في ذلك فقال له : ويحك يا عثمان ! تتكلّم في لعين رسول الله وطريده وعدّو الله وعدوّ رسوله ، فلمّا وليّ عثمان ردّه إلى المدينة ، فاشتدّ ذلك على المهاجرين والأنصار ، فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة ، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه ... » (8) .
فلو كان هناك إذن من رسول الله حقّاً لعلمه أبوبكر وعمر وأعيان الصحابة من المهاجرين والأنصار ولما قال له : « يحك يا عثمان »؟ ولو كان عند شهادة لما قالوا له : تتكلّم في لعين رسول الله وطريده ... ».
على أنّه قد روي عن عثمان الاعتذار بالقرابة ، قال ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) : « لمّا ردّ عثمان الحكم طريد أبي بكر وعمر إلى المدينة تكلّم الناس في ذلك ، فقال عثمان : ما ينقم الناس منّي ؟ إني وصلت رحماً وقريّت عيناً » .
وبعد فهنا مطالب :
الأول : إنه من هذه المطالب ونظائرها المستندة إلى كتب أهل السنة وأخبارها يظهر أنّ السّبب في قيام النّاس على عثمان هو مخالفاته للكتاب والسنّة .
والثاني : إن الذين قاموا عليه كانوا من أعيان الصّحابة من المهاجرين والأنصار ، بعد أن نصحوه وذكّروه فلم تنفعه النصيحة ولم يرتدع عن أفعاله القبيحة .
والثالث : إنه لا مجال لحسن الظن بعد هذه التفاصيل ، وكيف يحسن الظن بالصّحابة والحال أنّه لم يكن فيما بينهم أنفسهم حسن الظن ؟
المصادر :
1- سورة السجدة : 18 .
2- الدر المنثور 5 / 177 ـ 178 .
3- تاريخ الطبري 5 / 94 ، الكامل في التاريخ 3 / 73 ، الاستيعاب ترجمة سعيد بن العاص 2 / 621 .
4- تاريخ الطبري 5 / 49 ، 113 والكامل 3 / 43 ، والمعارف لابن قتيبة : 84 وتاريخ ابن كثير 7 / 152 ، وتاريخ أبي الفداء 1 / 168 والعقد الفريد 3 / 77 والسيرة الحلبيّة 2 / 82 ... فإنّ كانوا مفترين عليه فما ذنبنا ؟
5- الاستيعاب ـ ترجمة عمّار 3 / 1135 .
6- الطبري 5 / 42 ، الإصابة 3 / 619 ، سنن البيهقي 8 / 61 ، طبقات ابن سعد 5 / 8 ، الكامل 3 / 32 ...
7- الأنساب 5 / 28 ، والمعارف 84 ومرآة الجنان 1 / 85 والعقد الفريد2 / 261 وغيرها
8- السيرة الحلبية 2 / 85 .