اللغة كائن حي

يتناول تاريخ اللغة فيتناول النظر في ألفاظها وتراكيبها بعد تمام تكوُّنها، فيبحث فيما طرأ عليهما من التغيير بالتجدُّد أو الدثور، فيبيِّن الألفاظ والتراكيب التي دثرت من اللغة بالاستعمال، وما قام مقامها من الألفاظ الجديدة والتراكيب
Tuesday, May 2, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
اللغة كائن حي
اللغة كائن حي

:

 
يتناول تاريخ اللغة فيتناول النظر في ألفاظها وتراكيبها بعد تمام تكوُّنها، فيبحث فيما طرأ عليهما من التغيير بالتجدُّد أو الدثور، فيبيِّن الألفاظ والتراكيب التي دثرت من اللغة بالاستعمال، وما قام مقامها من الألفاظ الجديدة والتراكيب الجديدة، بما تولَّد فيها أو اقتبستْه من سواها، مع بيان الأحوال التي قضت بدثور القديم وتولُّد الجديد، وأمثلة مما دثر أو أُهمِل أو تولَّد أو دخل. يمکن تقسيم الكلام فيه إلى ثمانية مراحل باعتبار الأدوار التي مرت على اللغة، وهي:
1- العصر الجاهلي: ويتناول تاريخ اللغة من أقدم أزمانها إلى ظهور الإسلام. أوردنا فيه أمثلة مما دخلها من الألفاظ الأعجمية من اللغات الحبشية، والفارسية، والسنسكريتية، والهيروغليفية، واليونانية وغيرها، وأسندنا ذلك إلى أسباب تاريخية. وذكرنا القاعدة في تعيين أصول تلك الألفاظ، وأمثلة مما تولَّد في اللغة نفسها من الألفاظ الجديدة، وأيَّدنا ذلك بمقابلة العربية بأخواتها، أو بالنظر إلى ألفاظها بحد ذاتها.
2- العصر الإسلامي: ونريد به ما حدث في اللغة بعد الإسلام من الألفاظ الإسلامية مما اقتضاه الشرع، والفقه، والعلوم اللغوية، ونحوها.
3- الألفاظ الإدارية في الدولة العربية: وتشمل ما دخل اللغة العربية من الألفاظ الإدارية التي اقتضاها التمدن الإسلامي عند إنشاء دولة العرب، وهي إما دخيلة وإما مُولَّدة. ويتخلَّل ذلك بحث في كيفية انتقال اللفظ من معنًى إلى آخر.
4- الألفاظ العلمية في الدولة العربية: ويدخل فيها الألفاظ والتراكيب التي اقتضاها نقل العلم والفلسفة من اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية في العصر العباسي.
5- الألفاظ العامة في الدولة العربية: وهي الألفاظ التي تولَّدت في اللغة، أو دخلتْها بغير طريق الشرع أو العلم، كالألفاظ الاجتماعية ونحوها.
6- الألفاظ النصرانية واليهودية: وهي ما دخل اللغة العربية من الألفاظ والتراكيب السريانية أو العبرانية، بنقل الكتب النصرانية إلى العربية.
7- الألفاظ الدخيلة في الدول الأعجمية: وتتناول ما اكتسبتْه اللغة من الألفاظ الأعجمية بعد زوال الدول العربية وتولِّي الدول التركية والكردية وغيرها.
8- النهضة الحديثة: وفيها ما اقتضاه التمدن الحديث من تولُّد الألفاظ الجديدة، واقتباس الألفاظ الإفرنجية للتعبير عما حدث من المعاني الجديدة في العلم، والصناعة، والتجارة، والإدارة، وغيرها.
وقد أصبحت اللغة بعد هذه النهضة في العلم والأدب والشعر في غاية الافتقار إليه، ليعلم حَمَلة الأقلام أن اللغة كائن حي نامٍ خاضع لناموس الارتقاء، تتجدد ألفاظها وتراكيبها على الدوام، فلا يتهيَّبون من استخدام لفظ جديد لم يستخدمه العرب له، وقد يكون تهيُّبهم مانعًا من استثمار قرائحهم، وربما ترتَّب على إطلاق سراح أقلامهم فوائد عظمى تعود على آداب اللغة العربية بالخير الجزيل. ولا بد من اعتبار القواعد العامة والروابط الأساسية مما أشرنا إليه في محلِّه، ناهيك بما ينجم عن معرفة أصل الكلمة وتاريخها من تفهُّم معناها الحقيقي.

نواميس الحياة

من أهم نواميس الحياة النمو أو التجدد، وهو ينطوي على دثور الأنسجة وتولُّد ما يحلُّ محلَّها، ومعنى ذلك أن الجسم الحي مؤلَّف من خلايا لكلٍّ منها حياة مستقلة إذا انفضَّتْ ماتت الخلية وانحلَّت أجزاؤها وانصرَفَت، وتولَّدت في مكانها خلية جديدة تتكون من العصارات الغذائية كالدم ونحوه، فالجسم الحي في انحلال وتولُّد دائمَيْن، حتى قالوا: إن جسم الإنسان يتجدد كله في بضع سنين، أي لا يبقى فيه شيء من المواد التي كان يتألَّف منها قبلًا. وبغير هذا التجدد لا يكون الجسم حيًّا، وإذا حدث في جسم الحيوان ما يمنع من تجدد الأنسجة أسرع إليه الفناء، فالتجدُّد ضروري للحياة.
وحياة الأمة مثل حياة الفرد بل هي ظاهرة فيها أكثر من ظهورها فيه، لأن الأمة إنما تحيا بدثور القديم وتولُّد الجديد، فكأن أفراد الأمة خلايا يتألَّف منها بدن تلك الأمة، وهو يتجدد في قرن كما يتجدد جسم الإنسان في عَقْد من عقود تلك القرون.
وإذا تتبَّعنا نمو الأمة بتوالي الأجيال رأيناها تتفرع وتتشعب، فتصير الأمة الواحدة أممًا يتفاوت البُعْد بينها بتفاوت الأزمان والأحوال. وكل أمة من هذه تتشعَّب بتوالي الدهور إلى أمم أخرى وهكذا إلى غير حدٍّ، وهو ما يعبِّرون عنه بناموس الارتقاء العام.

اللغة كائن حي

ويتبع الأحياء في الخضوع لهذه النواميس ما هو من قَبِيل ظواهر الحياة أو توابعها، وخاصة ما يتعلق منها بأعمال العقل في الإنسان كاللغة، والعادات، والديانات، والشرائع، والعلوم، والآداب، ونحوها. فهذه تُعَدُّ من ظواهر حياة الأمة، وهي خاضعة لناموس النمو والتجدد ولناموس الارتقاء العام. ولكلٍّ من هذه الظواهر تاريخ فلسفي طويل، نعبِّر عنه بتاريخ تمدُّن الأمة أو تاريخ آدابها أو علومها أو حكومتها أو أديانها أو نحو ذلك، وهي أبحاث شائقة فيها فلسفة ونظر، ومن هذا القَبِيل تاريخ اللغة وآدابها.
والبحث في تاريخ اللغة على العموم يتناول:
• أولًا: النظر في نشأتها منذ تكوُّنها مع ما مرَّ عليها من الأحوال قبل زمن التاريخ، كتكوُّن الأفعال والأسماء والحروف، وتولُّد صيغ الاشتقاق وأساليب التعبير ونحو ذلك. والبحث في هذا كله من شأن الفلسفة اللغوية، وقد فصَّلناه في كتابنا «الفلسفة اللغوية».
• ثانيًا: النظر فيما طرأ على اللغة من التأثيرات الخارجية بعد اختلاط أصحابها بالأمم الأخرى، فاكتسبت من لغاتهم ألفاظًا وتعبيرات جديدة كما يقتبس أهلها من عادات تلك الأمم وأخلاقهم وآدابهم، وما يرافق ذلك من تنوع معاني الألفاظ بتنوع الأحوال مع حدوث صيغ جديدة وألفاظ جديدة.
• ثالثًا: النظر في تاريخ ما حوتْه اللغة من العلوم والآداب باختلاف العصور وهو «تاريخ آداب اللغة».
وهذا التقسيم تقريبي، إذ لا تجد حدًّا فاصلًا بين هذه الأقسام.
وإذا تدبرتَ تاريخ كل ظاهرة من ظواهر الأمة كالآداب أو اللغة أو الشرائع أو غيرها، باعتبار ما مرَّ بها من الأحوال في أثناء نموِّها وارتقائها وتفرُّعها؛ رأَيْتَها تسير في نموها سيرًا خفيًّا لا يشعر به المرء إلَّا بعد انقضاء الزمن الطويل. ويتخلل ذلك السير البطيء وَثَباتٌ قوية تأتي دفعة واحدة فتغير الشئون تغييرًا ظاهرًا، وهو ما يعبِّرون عنه بالنهضة. وسبب تلك النهضات على الغالب احتكاك الأفكار بالاختلاط بين الأمم على أثر مهاجرة اقتضتها الطبيعة من قحط أو خوف، أو يكون سبب الاختلاط ظهور نبي أو مشرِّع أو فيلسوف كبير، أو نبوغ قائد طَموح يحمل الناس على الفتح والغزو، أو أمثال ذلك من أسباب الاختلاط. فتتحاكُّ الأفكار وتتمازج الطباع، فتتنوَّع العادات والأخلاق والأديان والآداب، واللغة تابعة لكل ذلك بل هي الحافظة لآثار ذلك التغيير، فتحتفظ بها قرونًا بعد زوال تلك العادات أو الآداب أو الشرائع، وإذا تبدَّل شيء منها حفظت آثار تبدُّله.

أدوار تاريخ اللغة

باعتبار ما طرأ من التغيير على ألفاظها وتراكيبها بعد تكوُّنها وارتقائها
إذا تدبرنا ما مرَّ على اللغة العربية من المؤثرات الخارجية بعد تكونها وارتقائها حتى اكتسبت ما اكتسبته من الألفاظ وضروب التعبير؛ رأيناها قد مرَّت في ثمانية أدوار أو عصور، هي:
1- العصر الجاهلي: وفيه ما لحق اللغة من التنوع والتغير في ألفاظها وتراكيبها قبل الإسلام.
2- العصر الإسلامي: أي أثر الإسلام في ألفاظ اللغة وتراكيبها.
3- الألفاظ الإدارية في الدولة العربية.
4- الألفاظ العلمية في الدولة العربية.
5- الألفاظ الاجتماعية ونحوها.
6- الألفاظ النصرانية.
7- الألفاظ الأعجمية في دول الأعاجم.
8- النهضة الحديثة.
العصر الجاهلي
ويراد به الزمن الذي مرَّ على اللغة العربية قبل الإسلام، ولا يمكن تعيين أوله لضياع ذلك في ثنيات الدهور التي مرت قبل زمن التاريخ. ولكننا نعتقد أن اللغة العربية نشأت ونَمَت، أي تميَّزت فيها الأسماء والأفعال والحروف، وتكوَّنت فيها معظم الاشتقاقات والمَزِيدات؛ وهي لا تزال في حجر أُمِّها، أي قبل انفصالها عن أخواتها الكلدانية والعبرانية والفينيقية، وغيرها من اللغات السامية.
وبعبارة أخرى إن أم هذه اللغات، ويسمُّونها اللغة السامية أو الآرامية، تمَّ نموُّها فتكوَّنت أفعالها وأسماؤها وحروفها واشتقاقاتها ومَزِيداتها، قبل أن تشتَّتَ أهلها أو نزحوا إلى فينيقية وجزيرة العرب وما بين النهرين، حيث اختلفت لغة كل قوم منهم بعد ذلك النزوح باختلاف أحوالهم، فتولَّدت منها اللغات السامية المعروفة.
فالساميون الذين نزلوا جزيرة العرب تنوَّعت لغتهم تنوُّعًا يناسب ما يحيط بهم من الأحوال أو يجاورهم من الأمم، فتميَّزت عن أخواتها بأمور خاصة هي خصائص اللغة العربية. وتشعَّبت هذه اللغة في أثناء ذلك إلى فروع يختلف بعضها عن بعض باختلاف الأصقاع، وهي لغات الحجاز واليمن والحبشة، وتفرَّعت لغة كلٍّ من تلك البقاع إلى فروع باعتبار القبائل والبطون مما لا يمكن حصره، كلُّ ذلك حدث قبل زمن التاريخ.
ويكفينا في هذا المقام البحث في لغة الحجاز وحدها، وهي اللغة العربية التي وصلت إلينا. لقد كانت قبل تدوينها — أي قبل الإسلام — لغات عديدة تُعرَف بلغات القبائل، وبينها اختلاف في اللفظ والتركيب، كلغات تميم وربيعة ومُضَر وقَيْس وهُذَيْل وقُضاعة وغيرها كما هو مشهور. وأقرب هذه اللغات شبهًا باللغة السامية الأصلية أبعدها عن الاختلاط، وبعكس ذلك القبائل التي كانت تختلط بالأمم الأخرى كأهل الحجاز مما يلي الشام وخاصة أهل مكة، وبالأخص قريش فقد كانوا أهل تجارة وسفر شمالًا إلى الشام والعراق ومصر، وجنوبًا إلى بلاد اليمن، وشرقًا إلى خليج فارس وما وراءه، وغربًا إلى بلاد الحبشة.
فضلًا عما كان يجتمع حول الكعبة من الأمم المختلفة، وفيهم الهنود والفرس والأنباط واليمنية والأحباش والمصريون، عدا الذين كانوا ينزحون إليها من جالية اليهود والنصارى. فدعا ذلك كله إلى ارتقاء اللغة بما تولَّد فيها أو دخلها من الاشتقاقات والتراكيب مما لا مثيل له في اللغات الأخرى.
وزاد ذلك الاقتباس خاصة على أثر النهضة التي حدثت في القرنين الأول والثاني قبل الإسلام بنزول الحبشة والفرس في اليمن والحجاز، على أثر استبداد ذي نواس مَلِك اليمن وكان يهوديًّا فاضطَهَد نصارى اليمن في القرن الخامس للميلاد وخاصة أهل نجران، فطلب إليهم اعتناق اليهودية فلما أَبَوْا قتلهم حرقًا وذبحًا، فاستنجد بعضهم بالحبشة فحَمَل الأحباش على اليمن وفتحوها واستعمروها حينًا وأذلُّوا ملوكها أعوامًا، ثم أَنِف أحدُ ملوكها ذو يَزَن فاستنجَد بالفرس على عهد كسرى أنوشروان فأنجَدَه طمعًا في الفتح، فأخرج الأحباش من اليمن بعد أن ملَكوها ٧٢ عامًا.
وكانوا في أثناء ذلك يترددون إلى الحجاز وحاولوا فتحه في أواسط القرن السادس، فجاءوا مكة بأفيالهم ورجالهم ولم يفلحوا، واهتمَّ أهل الحجاز بقدوم الحبشة إلى مكة حتى أرَّخوا منه وهو عام الفيل. ولما فتح الفرس اليمن أقاموا فيها واختلطوا بأهلها بالمبايعة والمزاوجة وتوطَّنوا، وكانوا يَقدَمون إلى الحجاز وأهل الحجاز يترددون إليهم.
المصدر : بتصرف من کتاب / اللغة العربية كائن حي / جُرجي زيدان
 


نظرات کاربران
ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.