إمامة الصلاة دليل على الخلافة

على فرض صحّة حديث أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أبابكر بالصلاة مقامه ، فإنّه لا دلالة لذلك على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى . لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا خرج عن المدينة ترك فيها من يصلّى بالناس
Saturday, May 13, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
إمامة الصلاة دليل على الخلافة
إمامة الصلاة دليل على الخلافة




 
على فرض صحّة حديث أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أبابكر بالصلاة مقامه ، فإنّه لا دلالة لذلك على الإمامة الكبرى والخلافة العظمى . لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا خرج عن المدينة ترك فيها من يصلّى بالناس ... بل إنّه استخلف ـ فيما يروون ـ ابن أمّ مكتوم للإمامة وهوأعمى ، وقد عقد أبو داود في ( سننه ) باباً بهذا العنوان فروى فيه هذا الخبر ...
وهذه عبارته : « باب إمامة الأعمى حدّثنا محمّد بن عبدالرحمن العنبري أبو عبدالله ، ثنا ابن مهدي ، ثنا عمران القطّان ، عن قتادة ، عن أنس : أنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم استخلف ابن أمّ مكتوم يؤمّ الناس وهو أعمى » (1) ... فهل يقول أحد بإمامة ... ابن أمّ مكتوم لأنّه استخلفه في الصلاة؟!
ولقد اعترف بما ذكرنا ابن تيميّة ـ الملقب بـ « شيخ الإسلام » ـ حيث قال : « الاستخلاف في الحياة نوع نيابة لابدّ لكلّ وليّ أمر ، وليس كلّ من يصلح للاستخلاف في الحياة على بعض الأمّة يصلح أن يستخلف بعد الموت ، فإنّ النبي استخلف غير واحد ، ومنهم من لا يصلح للخلافة بعد موته ، كما استعمل ابن أمّ مكتوم الأعمى في حياته وهو لا يصلح للخلافة بعد موته ، وكذلك بشير بن عبدالمنذر وغيره » (2) .
بل لقد رووا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم خلف عبدالرحمن بن عوف وهو ـ لو صحّ ـ لم يدلّ على استحقاقه الخلافة من بعده ، ولذا لم يدّعها أحد له ... لكنّه حديث باطل لمخالفته للضرورة القاضية بأنّ النبي لا يصلّي خلف أحد من أمّته ... فلا حاجة إلى النظر في سنده .
وعلى الجملة ، فإنّه لا دلالة لحديث أمر أبي بكر بالصلاة ، ولا لحديث صلاته صلّى الله عليه وآله وسلّم خلفه حتّى لو تمّ الحديثان سنداً ...
وأمّا سائر الدلالات الاعتقادية والفقهية والاصولية ... التي يذكرونها مستفيدين إياّها من حديث الأمر بالصلاة في الشروح والتعاليق ... فكلّها متوقفة على ثبوت أصل القضية وتماميّة الأسانيد الحاكية لها ... وقد عرفت أن لا شيء من تلك الأسانيد بصحيح ، فأمره صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرضه أبابكر بالصلاة في موضعة غير ثابت ...

وجوه كذب أصل القضيّة :

بل الثابت عدمه ... وذلك لوجوه عديدةٍ يستخرجها الناظر المحقّق في القضيّة وملابساتها من خلال كتب الحديث والتاريخ والسيرة ... وهي وجوه قويّة معتمدة ، تفيد ـ بمجموعها ـ أنّ القضيّة مختلقة من أصلها ، وأنّ الذي أمر أبابكر بالصلاة في مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في أيّام مرضه ليس النبي بل غيره ...
فلنذكر تلك الوجوه باختصار :

1ـ كون أبي بكر في أن جيش أسامة :

لقد أجمعت المصادر على قضية سرية أسامة بن زيد ، وأجمعت على أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر مشايخ القوم : أبابكر وعمرو ... وبالخروج معه ... وهذا أمر ثابت محقّق ... وبه اعترف ابن حجر العسقلاني في ( شرح البخاري ) وأكّده بشرح « باب بعث النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أسامة بن زيد رضي الله عنهما في مرضه الذي توفّي فيه « فقال : « كان تجهيز أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بيومين ... فبدأ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجعه في اليوم الثالث ، فعقد لأسامة لواءً بيده ، فأخذه أسامة فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرب ، وكان ممّن انتدب مع اسامة كبار المهاجرين والانصار منهم أبوبكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ، فتكلّم في ذلك قوم ... ثمّ اشتدّ برسول الله وجعه فقال : أنفذوا بعث أسامة .
وقد روي ذلك من الواقدي وابن سعيد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر ... » (3) .
فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمربخروج أبي بكر مع أسامة ، وقال في آخر لحظةٍ من حياته : « أنفذوا بعث أسامة » بل في بعض المصادر « لعن الله من تخلّف عن بعث أسامة » (4) .
هذا أوّلاً :
وثانياً : لقد جاء في صريح بعض الروايات كون أبي بكر غائباً عن المدينة . ففي ( سنن أبي داود ) عن ابن زمعة : « وكان أبوبكر غائباً ، فقلت : يا عمر ، قم فصلّ بالناس » .
وثالثاً : في كثير من ألفاظ الحديث « فأرسلنا إلى أبي بكر » ونحو ذلك ، ممّا هو ظاهر في كونه غائباً .
وعلى كلّ حال فالنبي الذي بعث أسامة ، وأكّد على بعثه ، بل لعن من تخلفّ عنه ... لا يعود فيأمر بعض من منعه بالصلاة بالناس ، وقد عرفت أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا غاب أو لم يمكنه الحضور للصلاة استخلف واحداً من المسلمين وإن كان ابن أمّ مكتوم الأعمى .

2 ـ التزامه بالحضور للصلاة بنفسه ما أمكنه :

وكما ذكرنا فالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان يستخلف للصلاة إلاّ في حال خروجه عن المدينة ، أو في حالٍ لم يمكنه الخروج معها إلى الصلاة ... وإلاّ فقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم ملتزماً بالحضور بنفسه ... ويدّل عليه ما جاء في بعض الأحاديث أنّه لمّا ثقل قال : « أصلّى الناس ؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك . قال : ضعوا لي ماءً ... » فوضعوا له ماءً فاغتسل ، فذهب لبنوء فأغمي عليه وهكذا إلى ثلاث مرّات ... وفي هذه الحالة صلّى أبوبكر بالناس ، فهل كانت بأمرٍ منه ؟!
بل في بعض الأحاديث أنّه كان إذا لم يخرج لعارضٍ حضره المسلمون إلى البيت فصلّوا خلفه :
فقد أخرج مسلم عن عائشة ، قالت : « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه ، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم جالساً فصلّوا بصلاته قياماً » (5) .
وعن جابر : « اشتكى رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فصلّينا وراءه وهو قاعد وأبوبكر يسمع الناس تكبيرة » (6) .
وأخرج أحمد عن عائشة : « أنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم صلّى في مرضه وهو جالس وخلفه قوم ... » (7) .
ويشهد لما ذكرنا ـ من ملازمته للحضور إلى المسجد والصلاة بالمسلمين بنفسه ـ ما جاء في كثير من أحاديث القصّة من أنّ بلالاً دعاء إلى الصلاة ، أو آذنه بالصلاة ، فهو كان يجيء متى حان وقت الصلاة إلى النبي صلّى الله عله وآله وسلّم ويعلمه بالصلاة ، فكان يخرج بأبي هو وأمّي بنفسه ـ وفي أيّ حالٍ من الأحوال كان ـ إلى الصلاة ويصلّي بالناس .

3 ـ استدعاؤه عليّاً عليه السلام :

فأبو بكر وغيره كانوا بالجرف ... الموضع الذي عسكر فيه أسامة خارج المدينة ...
وهو صلّى الله عليه وآله وسّلم كان يصلّي بالمسلمين ... وعليّ عنده ... إذ لم يذكر أحد أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أمره بالخروج مع أسامة ...
حتى اشتدّ به الوجع ... ولم يمكنه الخروج ... فقال بلال : « يا رسول الله ، بأبي وأمي من يصلّي بالناس؟ » (8) ... هنالك دعا عليّاً عليه السلام ... قائلاً : « أدعوا لي عليّاً » قالت عائشة : « ندعو لك أبابكر ؟ » وقالت حفصة : « ندعوا لك عمر؟ » ... فما دعي عليّ ولكن القوم حضروا أو أحضروا!! « فاجتمعوا عنده جميعاً . فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : انصرفوا . فإن تك لي حاجة أبعث إليكم ، فانصرفوا » (9) .
إنّه كان يريد عليّاً عليه السلام ولا يريد أحداً من القوم ، وكيف يريدهم وقد أمرهم بالخروج مع اسامة ، ولم يعدل عن أمره؟!

4 ـ أمره بأن يصلّي بالمسلمين أحدهم :

فإذ لم يحضر عليّ ، ولم يتمكّن من الحضور للصلاة بنفسه ، والمفروض خروج المشايخ وغيرهم إلى جيش أسامة ، أمر بأن يصلّي بالناس أحدهم ... وذاك ما أخرجه أبو داود عن ابن زمعة فقال :
« لما استعزّ برسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وأنا عنده في نفرٍ من المسلمين دعاه بلال إلى الصلاة . فقال : مروا من يصلّي بالناس » .
وفي حديث أخرجه ابن سعد عنه قال : « عدت رسول الله في مرضه الذي توفّي فيه ، فجاءه بلال يؤذنه بالصلاة فقال لي رسول الله : مر الناس فليصلّوا .
قال عبدالله : فخرجت فلقيت ناساً لا أكلّمهم ، فلمّا لقيت عمر بن الخطّاب لم أبغ من وراءه ، وكان أبوبكر غائباً ، فقلت له : صلّ بالناس يا عمر . فقام عمر في المقام ... فقال عمر : ما كنت أظنّ حين أمرتني إلاّ أنّ رسول الله أمرك بذلك ، ولولا ذلك ما صلّيت بالناس .
فقال عبدالله : لمّا لم أر أبابكر رأيتك أحقّ من غيره بالصلاة » (10) .
وفي خبر عن سالم بن عبيد الأشجعي قال : « إنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لمّا اشتدّ مرضه أغمي عليه ، فكان كلّما أفاق قال : مروا بلالاً فليؤذّن ، ومروا بلالاً فليصلّ بالناس » (11) .
وقد كان من قبل قد استخلف ابن أمّ مكتوم ـ وهو مؤذّنه ـ في الصلاة بالناس كما عرفت .

5 ـ قوله : إنّكنّ لصويحبات يوسف :

وجاء في الأحاديث أنّه صلّى الله عليه وأله وسلّم قال لعائشة وحفصة : « إنّكنّ لصويحبات يوسف! » وهو يدلّ على أنّه قد وقع من المرأتين ـ مع الإلحال الشديد والحرص الأكيد ـ ما لا يرضاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ... فما كان ذلك ؟ ومتى كان ؟
إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لمّا عجز عن الحضور للصلاة بنفسه ، وطلب عليّاً فلم يدع له ـ بل وجد الإلحال والإصرار من المرأتين على استدعاء أبي بكر وعمر ـ ثمّ أمر من يصلّي بالناس ـ والمفروض كون المشايخ في جيش أسامة ـ أغمي عليه ـ كما في الحديث ـ وما أفاق إلاّ والناس في المسجد وأبوبكر يصلّي بهم
ترجم له الذهبي واليافعي وابن العماد في تواريخهم وأثنوا عليه . وقال ابن شاكر الكتبي : « كان محدّثاً فاضلاً حافظاً مؤرّخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كتاباً محموداً » فوات الوفيات 2 / 220 .
... فعلم أنّ المرأتين قامتا بما كانتا ملحّتين عليه ... فقال : « إنّكنّ لصويحبات يوسف » ثمّ بادر إلى الخروج معجّلاً معتمداً على رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض ... كما سيأتي .
فمن تشبيه حالهنّ بحال صويحبات يوسف يعلم ما كان في ضميرهن ، ويستفاد عدم رضاه صلّى الله عليه وآله وسلّم بفعلهن مضافاً إلى خروجه ...
فلو كان هو الذي أمر أبابكر بالصلاة لما رجع باللوم عليهنّ ، ولا بادر إلى الخروج وهو على تلك الحال ...
ولكن شرّاح الحديث ـ الّذين لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة ـ اضطربوا في شرح الكلمة ومناسبتها للمقام :
قال ابن حجر : « إنّ عائشة أظهرت أنّ سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه ، ومرادها زيادة على ذلك هو أن لا يتشاءم الناس به ، وقد صرّحت هي فيما بعد بذلك . وبهذا التقرير يندفع إشكال من قال : إنّ صواحب يوسف لم يقع منهنّ إظهار يخالف ما في الباطن » (12) .
قلت : لكنّه كلام بارد ، وتأويل فاسد .
أمّا أوّلاً : ففيه اعتراف بأنّ قول عائشة : « إنّ أبابكر رجل أسيف فمر عمر أن يصلّي بالناس » مخالفة للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وردّ عليه منها ، بحيث لم يتحمّله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال هذا الكلام .
وأمّا ثانياً : فلأنّه لا يتناسب مع فصاحة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحكمته ، إذ لم يكن صلّى الله عليه وآله وسلّم يشبّه الشيء بخلافة ويمثّله بضدّه ، وإنّما كان يضع المثل في موضعه ... ولا ريب أنّ صويحبات يوسف إنّما عصين الله بأن أرادت كلّ واحدة منهنّ من يوسف ما أرادته الأخرى وفتنت به كما فتنت به صاحبتها ، فلو كانت عائشة قد دفعت النبي عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام الجليل له ، ولم تفتتن بمحبّة الرئاسة وعلوّ المقام ، لكان النبي في تشبيهها بصويحبات يوسف قد وضع المثل في غير موضعه ، وهو أجلّ من ذلك ، فإنّه نقص ... وحينئذٍ يثبت أنّ ما قاله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إنّما كان لمخالفة المرأة وتقديمها بالأمر ـ بغير إذن منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لأبيها ، لأنّها مفتونة بمحبّة الاستطاعة والرغبة في تحصيل الفضيلة واختصاصها وأهلها بالمناقب كما قدّمناه في بيان طرف من أحوالها .
وأمّا ثالثاً : فقد جاء في بعض الأخبار أنّه لمّا قالت عائشة : « إنّه رجل رقيق فمر عمر » لم يجبها بتلك الكلمة بل قال : « مروا عمر » (13) ومنه يظهر أنّ السبب في قوله ذلك لم يكن قولها : « إنّه رجل أسيف » .
وقال النووي بشرح الكلمة :
« أيّ : في التظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكنّ في طلب ما تردنه وتملن إليه ، وفي مراجعة عائشة : جواز مراجعة وليّ ألأمر على سبيل العرض والمشاورة والإشارة بما يظهر أنّه مصلحة وتكون المراجعة بعبارة لطيفة ، ومثل هذه المراجعة مراجعة عمر في قوله : لا تبشّرهم فيتّكلوا . وأشباهه كثيرة مشهورة » (14) .
قلت : وهذا أسخف من سابقه ، وجوابه يظهر ممّا ذكرنا حوله ، ومن الغريب استشهاده لعمل عائشة بعمل عمر ومعارضته لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مواقف كثيرة!!
وممّا يؤكّد ما ذكرناه من عدم تماميّة ما تكلّفوا به في بيان وجه المناسبة ، أنّ بعضهم ـ كابن العربي المالكي ـ التجأ إلى تحريف الحديث حتّى تتمّ المناسبة ، فإنّه على أساس تحريفه تتمّ بكلّ وضوح ، لكنّ الكلام في التحريف الذي ارتكبه ... وسنذكر نصّ عبارته فانتظر .

6 ـ تقديم أبي بكر عمر :

و/ ثمّ إنّه جاء في بعض تلك الأحاديث المذكورة تقديم أبي بكر لعمر ـ بل ذكر ابن حجر أنّ إلحاق عائشة كان بطلبٍ من أبيها أبي بكر (15) ـ ... وقد وقع القول من أبي بكر ـ قوله لعمر : صلّ بالناس ـ موقع الإشكال كذلك ، لأنّه لو كان الآمر بصلاة أبي بكر هو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف يقول أبوبكر لعمر : صلّ بالناس ؟ فذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : ما تأوّله بعضهم على أنّه قاله تواضعاً .
والثاني : ما اختاره النووي ـ بعد الردّ على الأوّل ـ وهوأنّه قاله للعذر المذكور ، أي كونه رقيق القلب كثير البكاء ، فخشي أن لا يسمع الناس !
والثالث : ما احتمله ابن حجر ،وهو : أن يكون فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى ، وعلم ما في تحمّلها من الخطر ، وعلم قوّة عمر على ذلك فاختاره (16) .
وهذا الوجوه ذكرها الكرماني قائلاً : « فإن قلت : كيف جاز للصدّيق مخالفة أمر الرسول ونصب الغير للإمامة؟ قلت : كأنّه فهم أنّ الأمر ليس للإيجاب . أو أنّه قال للعذر المذكور ، وهو أنّه رجل رقيق كثير البكاء لا يملك عينه . وقد تأوّله بعضهم بأنّه قال تواضعاً » (17) .
قلت : أمّا الوجه الأوّل فتأويل ـ وهكذا أوّلوا قوله عند ما استخلفه الناس وبايعوه : « ولّيتكم ولست بخيركم » (18) ـ لكنّه ـ كما ترى ـ تأويل لا يلتزم به ذو مسكة ، ولذا قال النووي : « وليس كذلك » .
وأمّا الوجه الثاني فقد عرفت ما فيه من كلام النبي .
وأمّا الوجه الثالث فأظرف الوجوه ، فإنّه احتمال أن يكون فهم أبوبكر !! الإمامة العظمى!! وعلم ما في تحتّلها من الخطر ؟! علم قوة عمر على ذلك فاختاره!! ولم يعلم النبي بقوّة عمر على ذلك فلم يختره!! وإذا كان علم من عمر ذلك فعمر أفضل منه وأحقّ بالإمامة العظمى!!
لكنّ الوجه الوجيه أنّه كان يعلم بأنّ الأمر لم يكن من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وعمر كان يعلم ـ أيضاً ـ بذلك ، ولذا قال له في الجواب : « أنت أحقّ بذلك » ، وقوله لعمر : « صلّ بالناس » يشبه قوله للناس في السقيفة : « بايعوا أيّ الرجلين شئتم » يعني : عمر وأبا عبيدة ...

7 ـ خروجه معتمداً على رجلين :

إنّه وإن لم يتعرّض في بعض ألفاظ الحديث لخروج النبي إلى الصلاة أصلاً وفي بعضها إشارة إليه ولكن بلا ذكرٍ لكيفيّة الخروج ... إلاّ أنّ في اللفظ المفصّل ـ وهو خبر عبيدالله عن عائشة ، حيث طلب منها أن تحدّثه عن مرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ جاء : « ثمّ إنّ النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وجد من نفسه خفّةً ، فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس » .
وفي حديث آخر عنها : « وخرج النبي يهادي بين رجلين ، كأنّي أنظر إليه يخطّ برجليه الأرض » .
وفي ثالث : « فلمّا دخل في الصلاة وجد رسول الله في نفسه خفّةً ، فقام يهادي بين رجلين ، ورجلاه تخطّان في الأرض حتّى دخل المسجد » .
وفي رابع : « فوجد رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم من نفسه خفّةً ، فخرج وإذا أبوبكر يؤمّ الناس » .
وفي خامس : « فخرج أبوبكر فصلّى بالناس ، فوجد رسول الله من نفسه خفّةً ، فخرج يهادى بين رجلين ورجلاه تخطّان في الأرض » .
أقول : هنا نقاط نلفت إليها الأنظار على ضوء هذه الأخبار :

1 ـ متى خرج أبوبكر إلى الصلاة؟

إنّه خرج إليها والنبي في حال غشوةٍ ، لأنّه لمّا وجد في نفسه خفّةً خرج معتمداً على رجلين ...

2 ـ متى خرج رسول الله ؟

إنّه خرج عند دخول أبي بكر في الصلاة ، فهل كانت الخفّة التي وجدها في نفسه في تلك اللحظات صدفةً ، بأن رأى نفسه متمكّناً من الخروج فخرج على عادته أو أنّه خرج عندما علم بصلاة أبي بكر إمّا بإخبار مخبر ، أو بسماع صوت أبي بكر ؟ إنّه لا فرق بين الوجهين من حيث النتيجة ، فإنّه لو كان قد أمر أبابكر بالصلاة في مقامه لما بادر إلى الخروج وهو على الحال التي وصفتها الأخبار!

3 ـ كيف خرج رسول الله؟

لم يكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقادر على المشي بنفسه ، ولا كان يكفيه الرجل الواحد بل خرج معتمداً على رجلين ، بل إنّهما أيضاً لم يكفياه ، فرجلاه كانتا تخطّان في الأرض ، وإنّ خروجاً ـ كهذا ـ ليس إلاّ لأمرٍ يهمّ الإسلام والمسلمين ، وإلاّ فقد كان معذوراً عن الخروج للصلاة جماعةً ، كما هو واضح ... فإن كان خروج أبي بكر إلى الصلاة بأمرٍ منه فقد جاء ليعزله ، كما كان في قضيّة إبلاغ سورة التوبة حيث أمر أبابكر بذلك ثمّ أمر بعزله وذاك من القضايا الثابتة المتّفق عليها ، لكنّه لم يكن بأمرٍ منه للوجوه التي ذكرناها ...

4 ـ على من كان معتمداً ؟

واختلفت الألفاظ التي ذكرناها فيمن كان معتمداً عليه ـ مع الاتّفاق على كونهما أثنين ـ فمنها : « رجلين أحدهما العبّاس » ومنها : « رجلين » ومنها : « فقال : انظروا لي من أتّكى عليه ، فجاءت بريرة ، ورجل آخر فاتّكأ عليهما » . وهناك روايات فيها أسماء أشخاص آخرين ...
ومن هنا اضطربت كلمات الشرّاح ...
فقال النووي بشرح « فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس » :
وفسّر ابن عبّاس الآخر بعليّ بن أبي طالب . وفي الطريق الآخر : فخرج ويد له على رجلٍ آخر ، وجاء في غير مسلم : بين رجلين أحدهما أسامة بن زيد : وطريق الجمع بين هذا كلّه : إنّهم كانوا يتناوبون الأخذ بيده الكريمة تارةً هذا وتارةً ذاك وذاك ، ويتنافسون في ذلك . وأكرموا العبّاس باختصاصه بيد واستمرارها له ، لما له من السنّ والعمومة وغيرها ، ولهذا ذكرته عائشة مسمّئ وأبهمت الرجل الآخر ، إذ لم يكن أحد الثلاثة الباقين ملازماً في جميع الطريق ولا معظمه ، بخلاف العبّاس ، والله أعلم » (19) .
وفي خبر آخر عند ابن خزيمة عن سالم بن عبيد : « فجاءوا ببريرة ورجل آخر فاعتمد علهيما ثم خرج إلى الصلاة » (20) .
ترى أنّ « الرجل الآخر » في جميع هذه الطرق غير مذكور ، فاضطرّ النووي إلى ذكر توجيه لذلك ، بعد أن ذكر طريق الجمع بين ذلك كلّه ، لئلاً يسقط شيء منها عن الاعتبار!! بعد أن كانت القضيّة واحدة ...
وروى أبو حاتم أنّه خرج بين جاريتين ، فجمع بين الخبرين بأنّه « خرج بين الجاريتين إلى الباب ، ومن الباب ، ومن الباب أخذه العبّاس وعليّ ، حتّى دخلا به المسجد » (21) .
لكنّ خبر خروجه بين جاريتين وهم صدر من الذهبي أيضاً (22)
وذكر العيني الجمع الذي اختاره النووي قائلاً : « وزعم بعض الناس » ثمّ أشكل عليه بقوله : « فإن قلت : ليس بين المسجد وبيته مسافة تقتضي التناوب ... » فأجاب بقوله : « قلت : يحتمل أن يكون ذلك لزيادةٍ في إكرامه أو لالتماس البركة من يده » (23) .
وأنت تستشمّ من عبارته « وزعم بعض الناس » ثمّ من الإشكال والجواب عدم ارتضائه لما قاله النووي ، وكذلك ابن حجر ردّ ـ كما ستعلم ـ على ما ذكره النووي فيما جاء في رواية معمر : « ولكنّ عائشة لا تطيب نفساً له بخير » ورواية الزهري : « ولكنّها لا تقدر على أن تذكره بخير » .
والتحقيق : إنّ القضيّة واحدة ، و« الرجل الآخر » هو عليّ عليه السلام « ولكن عائشة ... » أمّا ما ذكره النووي فقد عرفت ما فيه ، وقد أورد العيني ما في رواية معمر والزهري ثمّ قال : « وقال بعضهم : وفي هذا ردّ على من زعم أنها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة ولا معظمها » قال العيني : « أشار بهذا إلى الردّ على النووي ولكنّه ما صرّح باسمه لاعتنائه به ومحاماته له » (24) .
قلت : والعيني أيضاً لم يذكر اسم القائل وهو ابن حجر ، ولا نصّ عبارته لشدّتها ، ولنذكرها كاملةً ، فإنّه كما لم يصرّح باسم النووي كذلك لم يصرّح باسم الكرماني الذي اكتفى هنا بأن قال : « لم يكن تحقيراً أو عداوةً ، حاشاها من ذلك » (25) وهي هذه بعد روايتي معمر والزهري :
« وفي هذا ردّ على من تنطّع فقال : لا يجوز أن يظنّ ذلك بعائشة ، بعائشة ، وردّ من زعم أنّها أبهمت الثاني لكونه لم يتعيّن في جميع المسافة ... وفي جميع ذلك الرجل الآخر هوالعبّاس ، واختصّ بذلك إكراماً له . وهذا توهّم ممّن قاله ، والواقع خلافه ، لأنّ ابن عبّاس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأنّ المبهم عليّ فهو المعتمد » (26) .
إلاّ أنّ من القوم من حملته العصبيّة لعائشة على أن ينكر ما جاء في رواية معمر والزهري ، وقد أجاب عن ذلك ابن حجر حاملاً الإنكار على الصحّة فقال : « ولم يقف الكرماني على هذه الزيادة فعبّر عنها بعبارة شنيعة » (27) .
وحديث أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أئتمّ في تلك الصلاة بأبي بكر ـ بالإضافة إلى أنّه في نفسه كذب كما سيأتي ـ دليل آخر على أنّ أصل القضية ـ أعني أمره أبابكر بالصلاة ـ كذب ... وبيان ذلك في الوجوه الآتية .
هذا ، وينافي حديث الأمر بالصلاة منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ما ثبت عنه من وجوب تقديم الأقرأ في الإمامة إذا استووا في القراءة ، وفي الصحاح أحاديث متعدّدة دالّة على ذلك ، وقد عقد البخاري « باب إذا استووا في القراءة فليؤمّهم أكبرهم » (28) .
وذلك ، لأنّ أبابكر لم يكن الأقرأ بالإجماع .
المصادر:
1- سنن أبي داود 1 / 98 .
2- منهاج السنة 4 / 91
3- فتح الباري 8 / 124 .
4- شرح المواقف 8 / 376 الملل والنحل 1 / 29 لأبي الفتح الشهرستاني /وفيات الأعيان 1 / 610 ، تذكرة الحفّاظ 4 / 104 طبقات الشافعية للسبكي 4 / 87 ، شذرات الذهب 4 / 149 ، مرآة الجنان 3 / 289 وغيرها .
5- صحيح مسلم بشرح النووي ، هامش إرشاد الساري 3 / 51 .
6- صحيح مسلم بشرح النووي ، هامش إرشاد الساري 3 / 51 .
7- مسند أحمد 6 / 57 .
8- مسند أحمد 3 / 202 .
9- تاريخ الطبري 2 / 439 .
10- الطبقات الكبرى 2 / 220 .
11- بغية الطلب في تاريخ حلب ، مخطوط . الورقة 194 ، لكمال الدين ابن العديم الحنفي ، المتوفّى سنة 660 هـ .
12- فتح الباري 2 / 120 .
13- تاريخ الطبري 2 / 439 .
14- المنهاج بشرح صحيح مسلم ، هامش القسطلاني 3 / 60 .
15- فتح الباري 1 / 123 .
16- فتح الباري 1 / 123 .
17- الكواكب الدراري ـ شرح البخاري 5 / 70 .
18- طبقات ابن سعد 3 / 182 .
19- المنهاج شرح مسلم هامش إرشاد الساري 3 / 57 .
20- عمدة القاري 5 / 187 .
21- عمدة القاري 5 / 187 .
22- عمدة القاري 5 / 190 .
23- عمدة القاري 5 / 187 .
24- عمدة القاري 5 / 191 .
25- الكواكب الدراري 5 / 52 .
26- فتح الباري 2 / 123 .
27- فتح الباري 2 / 123 .
28- صحيح البخاري بشرح العيني 5 / 212 .
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.