
لو تاملنا الروايات والاحاديث الواردة في الکتب والصحاح والاسانيد لوجدنا ان السيدة عائشة تريد كلّ شأن وفضيلةٍ لنفسها وأبيها ومن تحبّ من قرابتها وذويها ... فكانت إذا رأت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يلاقي المحبّة من إحدى زوجاته ويمكث عندها ثارت عليها ... كما فعلت مع زينب بنت جحش ، إذ تواطأت مع حفصة أن أيتهما دخل عليها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فلتقل : « إنّي لأجد منك ريح مغافير حتّى يمتنع عن أن يمكث عند زينب ويشرب عندها عسلاً » (1) .
وإذا رأته يذكر خديجة عليها السلام بخير ويثني عليها قالت : « ما أكثر ما تذكر حمراء الشدق ؟! قد أبدلك الله عزّ وجلّ بها خيراً منها » (2) .
وإذا رأته مقدماً على الزواج من إمرأةٍ حالت دون ذلك بالكذب والخيانة ، فقد حدّثت أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أرسلها لتطلّع على امرأةٍ من كلب قد خطبها فقال لعائشة : « كيف رأيت؟ قالت : ما رأيت طائلاً ! فقال : لقد رأيت خالاً بخدّها اقشعرّ كلّ شعرةٍ من على حدة فقالت : ما دونك من سرّ » (3) .
ولقد ارتكبت ذلك حتّى بتوهّم زواجه صلّى الله عليه وآله وسلّم ... فقد ذكرت : أنّ عثمان جاء النبي في نحر الظهيرة . قالت : « فظننت أنّه جاءه في أمر النساء ، فحملتني الغيرة على أن أصغيت إليه » (4) .
أمّا بالنسبة إلى من تكرهه ... فكانت حرباً شعواء ... من تلك مواقفها من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ... فقد « جاء رجل فوقع في عليّ وفي عمّار رضي الله تعالى عنهما عند عائشة . فقالت : أمّا عليّ فلست قائلةً لك فيه شيئاً . وأمّا عمّار فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم يقول : لا يخيّر بين أمرين إلاّ اختار أرشدهما » (5) .
بل كانت تضع الحديث تأييداً ودعماً لجانب المناوئين له عليه السلام ... فقد قال النعمان بن بشير : « كتب معي معاوية إلى عائشة قال : فقدمت على عائشة فدفعت إليها كتاب معاوية . فقالت : يا بني ألا أحدّثك بشيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ؟
قلت : بلى .
قالت : فإنّي كنت وحفصة يوماً من ذاك عند رسول الله .
فقال : لو كان عندنا رجل يحدّثنا .
فقلت : يا رسول الله ، ألا أبعث لك إلى أبي بكر؟ فسكت .
ثمّ قال : لو كان عندنا رجل يحدّث .
فقالت : حفصة : ألا أرسل لك إلى عمر؟ فسكت .
ثمّ قال : لا . ثم دعا رجلاً فسارّه بشيء ، فما كان إلاّ أقبل عثمان ، فأقبل بوجهه وحديثه فسمعته يقول له : يا عثمان ، إنّ الله عزّ وجلّ لعلّه أن يقمصك قميصاً ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه ، ثلاث مرار .
فقلت : يأ أمّ المؤمنين ، فأين كنت عن هذا الحديث؟!
فقالت : يا بني ، والله لقد أنسيته حتّى ما ظننت أنّي سمعته » (6) .
قال النعمان بن بشير : « فأخبرته معاوية بن أبي سفيان . فلم يرض بالذي أخرته ، حتّى كتب إلى أمّ المؤمنين أن اكتبي إليّ به . فكتبت إليه به كتاباً » (7) .
فانظر كيف أيّدت ـ في تلك الأيّام ـ معاوية على مطالبته الكاذبة بدم عثمان ! وكيف اعتذرت عن تحريضها الناس على قتل عثمان ؟ولا تغفل عن كتمها اسم الرجل الذي دعاه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بعد أن أبي عن الإرسال خلف أبي بكر وعمر ـ وهو ليس إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام ... ولكنّها لا تطيب نفساً بعليّ كما قال ابن عبّاس ، وسيأتي .
فإذا كان هذه حالها وحال رواياتها في الأيّام العادية ... فإنّ من الطبيعي أن تصل هذه الحالة فيها إلى أعلى درجاتها في الأيام والساعات الأخيرة من حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأن تكون أخبارها عن أحواله في تلك الظروف أكثر حسّاسية ... فتراها تقول :
« لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قال رسول الله لعبد الرحمن ابن أبي بكر : إيتني بكتف ولوحٍ حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه . فلمّا ذهب عبدالرحمن ليقوم قال : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبابكر » (8) .
وتقول :
« لمّا ثقل رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة . فقال : مروا أبابكر فليصلّ بالناس » .
وتقول :
« قبض رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ورأسه بين سحري ونحري » (9) .
تقول هذا وأمثاله ...
لكن عندما يأمر صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بأن يدعى له عليّ لا يمتثل أمره ، بل يقترح عليه أن يدعى أبوبكر وعمر! يقول ابن عبّاس :
« لمّا مرض رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم مرضه الذي مات فيه كان في بيت عائشة ، فقال : ادعوالي عليّاً . قالت عائشة : ندعو لك أبابكر ؟ قال : ادعوا قالت حفصة : يا رسول الله ، ندعو الك عمر ؟ قال ادعوه . قالت أمّ الفضلّ : يا رسول الله ، ندعو لك العبّاس ؟ قال : ادعوه . فلمّا اجتمعوا رفع رأسه فلم ير عليّاً فسكت . فقال عمر : قوموا عن رسول الله ... » (10) .
وعندما يخرج إلى الصلاة ـ وهو يتهادى بين رجلين ـ تقول عائشة : « خرج يتهادى بين رجلين أحدهما العبّاس » فلا تذكر الآخر . فيقول ابن عبّاس :
« هو عليّ ولكن عائشة لا تقدر على أن تذكره بخير » (11) .
فإذا عرفناها تبغض عليّاً إلى حدٍ لا تقدر أن تذكره بخير ، ولا تطيب نفسها به ... وتحاول إبعاده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ... وتدّعي لأبيها ولنفسها ما لا أصل له ... بل لقد حدّثت أمّ سلمة بالأمر الواقع فقالت :
« والذي أحلف به ، إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم . قالت : عدنا رسول الله غداة بعد غداة فكان يقول : جاء علي؟!! ـ مراراً ـ قالت : أظنّه كان بعثه في حاجة قالت : فجاء بعد ، فظننت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت ، فقعدنا عند الباب ، فكنت أدناهم إلى الباب ، فأكبّ عليه عليّ فجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض رسول الله ... (12) .
إذا عرفنا هذا كلّه ـ وهو قليل من كثير ـ استيقنّا أنّ خبرها في أنّ صلاة أبيها كان بأمر من النبي صلّى الله عليه وآله ، وأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج فصلّى خلفه ـ كما في بعض الأخبار عنها ـ ... من هذا القبيل ... وممّا يؤكّد ذلك اختلاف النقل عنها في القضية وهي واحدة ... كما سنرى عن قريب ...
تأمّلات في متن الحديث ومدلوله
قد عرفت أنّ الحديث بجميع طرقه وأسانيده المذكورة ساقط عن الإعتبار ...
فإن قلت : إنّه ممّا اتّفق عليه أرباب الصحاح والمسانيد والمعاجم وغيرهم ، ورووه عن جمع من الصحابة ، فكيف تقول بسقوطه بجميع طرقه ؟
قلت : أولاً : لقد رأيت في « النظر في الأسانيد والطرق » أنّ رجال أسانيده مجروحون بأنواع الجرح ولم نكن نعتمد في « النظر » إلاّ على أشهر كتب القوم في الجرح والتعديل ، وعلى كلمات أكابر علمائهم في هذا الباب .
وثانياً : إنّ الذي عليه المحقّقون من علماء الحديث والرجال والكلام أنّ الكتب الستّة فيها الصحيح والضعيف والموضوع ، وإنّ الصحابة فيهم العدل والمنافق والفاسق .
نعم ، المشهور عندهم القول بأصالة العدالة في الصحابة ، والقول بصحّة ما أخرج في كتابي البخاري ومسلم ...
أمّا بالنسبة إلى حديث « صلاة أبي بكر » فلم أجد أحداً يطعن فيه ، لكن لا لكونه في الصحاح ، بل الأصل في قبوله وتصحيحه كونه من أدلّة خلافة أبي بكر عندهم ، ولذا تراهم يستدلّون به في الكتب الكلامية وغيرها :
من كلمات المستدلّين بالحديث على الإمامة :
قال القاضي عضد الدين الايجي ـ في الأدلّة الدالّة على إمامة أبي بكر ـ :
« الثامن : إنّه صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم استخلف أبابكر في الصّلاة ومان عزله فيبقى إماماً فيها : فكذا في غيرها ، إذا لا قائل بالفصل ، ولذلك قال عليّ رضي الله عنه : قدّمك رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في أمر ديننا ، أفلا نقدّمك في أمر دنيانا ؟! (13) .
وقال الفخر الرازي ـ في حجج خلافة أبي بكر ـ :
« الحجّة التاسعة : إنّه عليه السلام استخلفه على الصلاة أيّام مرض موته وما عزله عن ذلك ، فوجب أن يبقى بعد موته خليفةً له في الصلاة ، وإذا ثبت خلافته في الصلاة ثبت خلافته في سائر الأمور ، ضرورة أنّه قائل بالفراق » (14) .
وقال الأصفهاني :
« الثالث : النبي استخلف أبابكر في الصلاة أيّام مرضه ، فثبت استخلافه في الصلاة بالنقل الصحيح ، وما عزل النبي أبابكر عن خلافته في الصلاة ، فبقي كون أبي بكر خليفةً في الصلاة بعد وفاته ، وإذا ثبت خلافة أبي بكر بعد وفاته في الصلاة ثبت خلافة أبي بكر بعد وفاته في غير الصلاة لعدم القائل بالفصل » (15) .
وقال النيسابوري صاحب التفسير ، بتفسير آية الغار :
« استدلّ اهل السنّة بالآية على أفضليّة أبي بكر وغاية اتّحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنة وظاهره ، وإلاّ لم يعتمد عليه الرسول في مثل تلك الحاجة . وإنّه كان ثاني رسول الله في الغار ، وفي العلم لقوله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ما صبّ في صدري شيء إلاّ وصببته في صدر أبي بكر (16) .
وفي الدعوة إلى الله ، إنّه عرض الإيمان أولاّ على أبي بكر فآمن ، ثمّ عرض أبوبكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان ابن عفّان وجماعة أخرى من أجلّة الصحابة ، وكان لا يفارق رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجليس والمحافل . وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة ...» (17) .
وقال الكرماني بشرح الحديث :
« فيه فضيلة لأبي بكر ، وترجيحه على جميع الصحابة ، وتنبيه على أنّه أحقّ بخلافة رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم من غيره » (18) .
وقال العيني :
« ذكر ما يستفاد منه ، وهو على وجوه : الأول : فيه دلالة على فضل أبي بكر . الثاني : فيه أنّ أبابكر صلّى بالناس في حياة النبي ، وكانت في هذه الإمامة التي هي الصغرى دلالة على الإمامة الكبرى . الثالث : فيه أنّ الأحقّ بالإمامة هو الأعلم » (19) .
وقال النووي :
« فيه فوائد : منها : فضيلة أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله وتنبيه على أنّه أحقّ بخلافة رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم من غيره ، وأنّ الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلّي بهم ، وإنّه لا يستخلف إلاّ أفضلهم . ومنها : فضيلة (4) عمر بعد أبي بكر لأنّ أبابكر لم يعدل إلى غيره » (20) .
وقال المناوي بشرحه :
« تنبيه : قال أصحابنا في الأصول : يجوز أن يجمع عن قياس ، كإمامة أبي بكر هنا ، فإنّ الصحب أجمعوا على الخلافته ـ وهي الإمامة العظمى ـ ومستندهم القياس على الإمامة الصغرى ، وهي الصلاة بالناس بتعيين المصطفى » (21) .
وفي « فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت » في مبحث الإجماع :
« مسألة : جاز كون المستند قياساً . خلافاً للظاهرية وابن جرير الطبري ، فيعضهم منع الجواز عقلاً ، وبعضهم منع الوقوع وإن جاز عقلاً . والآحاد أي أخبار الآحاد قيل كالقياس اختلافاً . لنا : لا مانع ... وقد وقع قياس الإمامة الكبرى وهي الخلافة العامة على إمامة الصلاة ... والحقّ أن أمره إيّاه بإمامة الصلاة كان إشارة إلى تقدّمه في الإمامة الكبرى على ما يقتضيه ما في صحيح مسلم ... » (22) .
لكنّك قد عرفت أنّ الحديث ليس له سند معتبر في الصحاح فضلاً عن غيرها ، ومجرّد كونه فيها ـ وحتّى في كتابي البخاري ومسلم ـ لا يغني عن النظر في سنده ... وعلى هذا فلا أصل لجميع ما ذكروا ، ولا أساس لجميع ما بنوا ... في العقائد وفي الفقه وفي علم الأصول ...
المصادر :
1- هذه من القضايا المشهورة فراجع كتب الحديث والتفسير بتفسير سورة التحريم .
2- مسند أحمد 6 / 117 .
3- طبقات ابن سعد 8 / 115 ، كنز العمّال 6 / 264 .
4- مسند أحمد 6 / 114 .
5- مسند أحمد 6 / 113 .
6- مسند أحمد 6 / 149 .
7- مسند أحمد 6 / 87 .
8- مسند أحمد 6 / 47 .
9- مسند أحمد 6 / 121 .
10- مسند أحمد 1 / 356 .
11- عمدة القاري 5 / 191 .
12- مسند أحمد 6 / 300 ، المستدرك على الصحيحين 3 / 138 ، ابن عساكر 3 / 16 ، الخصائص : 130 وغيرها .
13- هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام قطعاً ، والذي جاء به ... مرسلاً كما في الاستيعاب 3 / 971 هو الحسن البصري المعروف بالإرسال والتدليس والانحراف عن أمير المؤمنين عليه السلام!!
14- الاربعين : 284 .
15- شرح طوالع الأنوار ، في علم الكلام : مخطوط .
16- هذا من أحاديث سلسلتنا في ( الأحاديث الموضوعة ) .
17- تفسير النيسابوري ، سورة التوبة .
18- الكواكب الدراري ـ شرح البخاري 5 / 52 .
19- عمدة القاري ـ شرح البخاري 5 / 187 ـ 188 .
20- وذلك لأنّ أبابكر قال لعمر : صلّ الناس ... وكأنّ أقوال أبي بكر وأفعاله حجّه؟! على أنّهم وقعوا في إشكال في هذه الناحية ، .
21- المنهاج ، شرح صحيح مسلم ، هامش الرشاد الساري 3 / 56 .
22- فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 5 \ 521 .
23- فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ، في علم الاصول 2 / 239 هامش المستصفى للغزّالي .