تتكون قريش من خمسة وعشرين بطناً (1) واشرف هذه البطون على الاطلاق وافضلها بالنص الشرعي بنو هاشم بن عبد مناف (2) ويليهم بالشرف بنو عبد المطلب بن عبد مناف ، و ... بنو الحارث بن عبد مناف و ... بنو امية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وبنو نوفل بن عبد مناف ، وبنو هاشم هم سادة قريش ، فقد سادوا بعد ابيهم ويقال لهم : المجبرون ، وهم اول من اخذ العصم لقريش ، فانتشروا من الحرم . فقد اخذ لهم هاشم حبلاً من ملوك الشام ، واخذ عبد شمس حبلاً من النجاشي ، واخذ نوفل حبلاً من الاكاسرة ، واخذ عبد المطلب حبلا من حمير ، فاختلفت قريش بهذه الاسباب الى بلاد العالم ، وكان يقال لهم : اقداح النضار لفخرهم وسيادتهم على العرب (3) .
الصيغة السياسية
توصلت بطون قريش الى صيغة سياسية قائمة على اقتسام مناصب الشرف فيما بينها ـ المناصب السياسية ـ من قيادة ولواء وندوة وسقاية ورفادة وسفارة ... الخ ، والاسهم السياسية المحددة في هذه الصيغة اقصى ما استطاعت البطون ان تنتزعه ، ولاح لهذه البطون انها افضل صيغة سياسية على الاطلاق ، اذ ليس فيها غالب ولا مغلوب . فالمناصب السياسية قدر مشترك بين البطون ولا مصلحة لاي بطن بتغيير هذه الصيغة ، لانه لو حاول التغيير فلا يعرف على وجه الجزم واليقين عواقب محاولته . فقد يفقد ما حققه ، ثم ان الامور قد استقامت ونظمت امور ولاية البيت الحرام ، فارتاحت كل البطون لهذه الصيغة ، ومع الايام اصبحت عنوان عقيدة سياسية واثراً مأثوراً مما تركه الاولون ، ومن غير الجائز الخروج عليه من قبل اي كان .محاولات لزعزعة الصيغة
في السنين العجاف لم يكن لمكة غير هاشم ، يطعم الناس ويشبعهم ، وقيل له : ابو البطحاء وسيد البطحاء ، ولم تزل مائدته منصوبة في السراء والضراء ، وكان يحمل ابن السبيل ويؤمن الخائف (4) فخشي امية بن عبد شمس منه وحسده ، فتكلف ان يصنع ما يصنع هاشم ، فعجز عن ذلك ، فعيرته قريش فدعا هاشماً للمنافرة فأبى ، ثم تنافرا على خمسين ناقة وعلى الجلاء عن مكة عشر سنين ، فقضى الحكم بأن هاشماً اشرف من امية ، فنحرت النوق وجلا امية الى الشام ، فكانت هذه بذرة العداء الاولى بين البيتين الهاشمي والاموي . ولعل الذي دفع امية هو الحسد لهاشم والخشية من ان يشكل هاشم خطراً على هذه الصيغة ، لان القيادة بيد بني عبد شمس ، وبروز نجم مثل هاشم قد يزعزع الصيغة كلها ويستخف الناس (5) .اشاعة النبوة
اشيع في مكة ان نبياً سيبعث ، وانه سيكون من سلالة عبد مناف ، وممن استقرت في اذهانهم هذه الاشاعة ابو سفيان ، فقد كان على علاقة وطيدة بأمية بن ابي الصلت .وابو سفيان موقن ان هذا النبي سينسف الصيغة السياسية ، وسيأخذ منه القيادة . وطالما ان القيادة لبني امية فان هذه النبوة من اكبر الاخطار ولكنه اطمأن بعد عذاب ومعاناة ، فالشائعة تقول ( ان النبي من بني عبد مناف ) ولا يوجد ـ حسب رأيه ـ من هو جدير بالنبوة سواه (6) فمن المؤكد انه سيكون النبي المرتقب .
اعلان النبوة
اعلن محمد الهاشمي انه النبي المرتقب الذي اختاره الله لهداية العرب خاصة والجنس البشري عامة ، وان برهانه على هذه النبوة هو كلام الله . واتبعه نفر قليل ممن عرفوا بالحصافة وبعد النظر ، ومن اولئك الذين مستهم البشرية مساً اليماً .احتضان الهاشميين للنبي
احتضن الهاشميون محمداً بكل قوة ، وهددت زعامة قريش بقتل محمد ، واشيع انه قتل ، فجمع ابو طالب بني هاشم واعطى كل واحد منهم حديدة صارمة وسار مع الهاشميين والمطلبيين ونادى : يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به ؟ قالوا : لا ، فأخبر الخبر وقال للفتيان : اكشفوا عما في ايديكم فكشفوا ، فاذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة . فقال ابو طالب : والله لو قتلتموه ما ابقيت منكم احداً حتى نتفانى واياكم ، فانكسر القوم وكان اشدهم انكساراً ابو جهل (7) .حفاظاً على الصيغة السياسية وحسداً لا حباً بالأصنام
قاومت بطون قريش بقيادة ابي سفيان محمداً وبكل اساليب المقاومة ، ولم ينثن ، وامام اصرار ورفض بني هاشم لفكرة تسليمه اتفقت بطون قريش بدون استثناء على ما يلي :1 ـ مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة ، فقاطعتهم قريش كلها بما فيهم بني عدي وبني تيم وحصروهم في شعاب ابي طالب ثلاث سنين واضطروهم ان يأكلوا ورق الشجر من الجوع ، واضطر اطفالهم ان يمصوا الرمان من العطش . تلك حقيقة كالشمس لا يجادل بها احد . ولم يركع محمد ، ولم يركع الهاشميون ، وابطل الله كيد بطون قريش وزعامتها ، وفشل الحصار بعد مقاطعة استمرت ثلاث سنين .
2 ـ عندما سمعت قريش ان محمداً سيهاجر الى يثرب بعد ان تمكن من ايجاد قاعدة له قررت بطون مكة بالاجماع ان تقتل محمداً ، فاختاروا من كل قبيلة رجلاً حتى يضربه هؤلاء الرجال ضربة واحدة فيضيع دمه بين القبائل ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه ، لانه ان ذهب الى يثرب نجح وسلبهم القيادة والشرف .
وفي اللحظة التي اجمعوا بها امرهم دخلوا فوجدوا علي بن ابي طالب نائماً في فراشه . وجن جنون القيادة المكية وخصصت الجوائز لم يقبض عليه حياً او ميتاً .
وفي الطرف الآخر كان محمد وصاحبه ودليلهما المشرك يشقون طريقهم سالمين باذن الله . وتلك حقيقة ساطعة كالشمس لا تحتاج الى دليل (8) .
حروب من اجل الصيغة السياسية وحسداً لا حباً بالاصنام
لم تيأس بطون قريش وقيادتها الاموية من هزيمة محمد وبني هاشم ودينهم ، ولم ييأس محمد والهاشميون واصحابه من هزيمة الشرك وقيادته . وانقسم العرب اثلاثاً ، قسم مع قريش وقيادتها المشركة ، وقسم قليل مع محمد ، والقسم الثالث تربص ليتبع الغالب . واشتغلت الحروب في بدر واُحد ، وجيشت زعامة قريش بالتحالف مع اليهود جيش الاحزاب ، وزحفت الى المدينة المنورة عاصمة النبي ، وفشلت الاحزاب ، ثم فوجئت قريش وقيادة الشرك بجند الله يدخل مكة عاصمة الشرك ، وركعت زعامة مكة واضطرت للدخول في الاسلام . وبركوعها ركع كل العرب ودانت الجزيرة لدولة النبي واخذ العرب يدخلون في دين الله افواجا .النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه
رفضت بطون قريش بزعامتها الاموية الدين المحمدي ونبوة محمد الهاشمي بكل اصناف الرفض والوانه ، وقاومت بكل فنون المقاومة ، لا وفاء للاصنام ، ولكنها تكره ان يأتي الدين عن طريق هاشمي ، وتكره ان تكون للهاشميين القيادة ، وان تهتز الصيغة السياسية ، واخيرا فوجىء ابو سفيان بجند الله قرب مكة ، ويوقفه العباس فيرى جند الله ، فيدخل الرعب في قلبه وينتزع منه فتيل المقاومة ويفصح قائد الحزب عن حقيقة تصوراته لدعوة محمد صلی الله عليهواله وسلم فيقول :ما رأيت ملكاً مثل هذا ، لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الاصفر ويجره العباس الى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول له ( ويحك يا ابا سفيان الم يأن لك ان تعلم انه لا اله الا الله ؟ ) فيقول ابو سفيان : لقد ظننت انه لو كان مع الله اله غيره لما اغنى عني شيئا . قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( يا ابا سفيان الم يأن لك ان تعلم اني رسول الله ؟ ) قال ابو سفيان : اما والله فان في النفس حتى الآن منها شيء .
صاح العباس : ويحك يا ابا سفيان اسلم واشهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله قبل ان تضرب عنقك ، هنا فقط بعد ذكر ضرب العنق وبعد الاحاطة وضعف الحيلة اسلم لينجو بنفسه . ودهش ابو سفيان وهو ينظر للنبي فقال في نفسه : ليت شعري بأي شيء غلبني ؟ فأوحى الله الى نبيه بما في صدر ابي سفيان ، فقال له الرسول ( غلبتك بالله ) (9) .
وادركت بطون قريش ان النبوة الهاشمية قدر لا مفر منه ولا محيد عنه ، ولا علاقة لها باختيارها ، ولو كان لها اي دور بهذا الاختيار لما قبلت ابداً ان يكون النبي من بني هاشم ، والنبوة ظاهرة لن تتكرر ، وانه لن يلحق اي بطن من بطون قريش ببني هاشم ، فقد سبقوا تماماً ، وادركت بطون قريش ان صيغتها السياسية قد اهتزت ونسفت تماماً واضمرت العمل على وقف ما تعتبره زحفاً هاشمياً للجمع بين النبوة والملك وحيازة الشرف كله .
أكثر البطون اندفاعاً لوقف ما يسمى بالزحف الهاشمي
كل بطون قريش مجمعة على ان النبوة الهاشمية قد هزت هزاً عنيفاً الصيغة السياسية التي كانت قائمة على اقتسام مناصب الشرف بين القبائل المكية . وكل البطون رفضت هذه النبوة الهاشمية باستثناء بني المطلب بن عبد مناف حيث وقفوا مع الهاشميين . لكن
اكثر البطون رفضا واندفاعاً لوقف الزحف الهاشمي والحيلولة بين جمع الهاشميين الملك والنبوة هم بنو امية وذلك لعدة اسباب :
1 ـ ماض طويل من الشحناء والعداوة والحسد لبني هاشم قبل الاسلام .
2 ـ بسبب النبوة الهاشمية فقد الامويون القيادة .
3 ـ الهاشميون قتلوا سادات بني امية فعتبة والوليد وشيبة قتلهم حمزة وعلي وعبيد الله ، فالامويون لا يكرهون الهاشميين فحسب بل يحقدون عليهم . وهند ام معاوية وزوجة ابي سفيان عكست مقدار هذا الحقد . فهي لم تكتف بقتل حمزة ، انما مثلت بجثمانه الطاهر . ولكن مع انتصار النبوة وشمول نور الاسلام وتأخر الامويين عن دخوله ، وذكريات باعهم الطويلة في محاربته ، فانه يتعذر عليهم الجهر والمناداة علناً بمنع الهاشميين من ان يجمعوا مع النبوة الملك .
التيار الغلاب
لقد تحولت مقولة لا ينبغي ان يجمع الهاشميون النبوة مع الملك الى تيار غلاب ، ولكنه ساكن ومستقر في النفوس وملجوم بوجوده صلى الله عليه وآله وسلم ، وبالشرعية وبوحدة الصحابة الصادقين تحت قيادته . فلو فقد عنصر من هذه العناصر الثلاثة فستهتز الشرعية ، وسيتحول الصحابة الصادقون الى شعرة بيضاء في جلد ثور اسود ـ على حد تعبير معاوية ـ وسيأخذ الامر من يغلب .القرابة الطاهرة الاساس الشرعي للخلافة الراشدة
عندما دخل المهاجرون الثلاثة الى سقيفة بني ساعدة احتجوا بما يلي :
قال ابو بكر : نحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وانتم وزراؤه ، ووزراؤنا في الدين . وقال عمر : لا يجتمع سيفان في غمد واحد ، والله لا ترضى العرب ان تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي ان تولي هذا الامر الا من كانت النبوة فيهم ... لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن اولياؤه وعشيرته الا مدل بباطل او متجانف لاثم او متورط في هلكة (10) .
قالت الانصار كلها : لا نبايع الا علياً ، وعلي غائب . قال بعض الانصار : لا نبايع الا علياً (11) .
وسريعاً ، ابرم الامر للصديق ، ودعي علي لمبايعة ابي بكر فقال علي : ( انا احق بهذا الامر منكم ، لا ابايعكم وانتم اولى بالبيعة لي ، اخذتم هذا الامر من الانصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأخذونه منا غصباً اهل البيت ؟ الستم زعمتم للانصار انكم اولى بهذا الامر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة وسلموا اليكم الامارة ، وانا احتج عليكم ما احتججتم به على الانصار ، نحن اولى برسول الله حياً وميتاً ... )
المصادر :
1- مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 291 .
2- السيرة الحلبية ج 1 ص 3 ـ 4 لعلي برهان الدين الحلبي وراجع الجامع للاصول في احاديث الرسول لعلي ناصيف مجلد 3 ص 419 وما فوق وراجع الخطبة 185 ص 156 ج 2 من شرح النهج لابن ابي الحديد .
3- الطبقات ج 1 ص 75 وراجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 93 .
4- تاريخ الطبري ج 2 ص 180 والسيرة الحلبية ج 1 ص 5 والطبقات لابن سعد ج 1 ص 76 .
5- السيرة الحلبية ج 1 ص 15 وكتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 170 ـ 172 .
6- السيرة الحلبية ج 1 ص 80 .
7- الطبقات لابن سعد ج 1 ص 202 ـ 203 .
8- على سبيل المثال السيرة الحلبية ج 1 ص 80 وج 1 ص 332 .
9- السيرة الحلبية ج 3 ص 79 وما فوق وراجعنا كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
10- الامامة والسياسة ص 6 ـ 7 ـ 8 .
11- تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وراجع شرح النهج لابن ابي الحديد ج 2 ص 266 .