التنصل من المهام الکبيرة

لا أدري، هل جَرَّب أحدكم أو لم يُجرّب هذا الإيحاء النفسي حينما تكون المهمّة صعبةً على الإنسان وثقيلةً على الإنسان، توسوس له نفسه بالتشكيك في صحّة هذه المهمّة بمختلف التشكيكات، يوسوس في صحّة هذه المهمّة: من قال هكذا؟!
Monday, May 29, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
التنصل من المهام الکبيرة
التنصل من المهام الکبيرة



 

لا أدري، هل جَرَّب أحدكم أو لم يُجرّب هذا الإيحاء النفسي حينما تكون المهمّة صعبةً على الإنسان وثقيلةً على الإنسان، توسوس له نفسه بالتشكيك في صحّة هذه المهمّة بمختلف التشكيكات، يوسوس في صحّة هذه المهمّة: من قال هكذا؟!
حينما يكون من الصعب عليه أن يأمر بالمعروف، حينما يكون من الصعب عليه كلمةُ حقٍّ أمام رجلٍ مبطل، حينئذٍ يأخذ بالوسوسة: من قال بأنّ هذا الرجل مبطل؟ من قال بأنّي‏ أنا قادر على أن أقول له هذا الكلام؟ من قال بأنّ شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تامّة؟! يوسوس في هذا لأجل أن يستريح من هذه المهمّة، لأجل أن يلقي عن ظهره هذا العب‏ء الكبير.
كلّ إنسانٍ يميل بطبيعته إلى الدعة، إلى الكسل، إلى الراحة، إلى الاستقرار، فإذا وضعت أمامه المهام الكبيرة، حينئذٍ إذا وجد مجالاً للشكّ في صحّة هذه المهام فسوف يكون عنده دافعٌ نفسيٌّ مسبقٌ إلى أن يشكّ، يشكّ لأجل أنّه يريد أن يشكّ، ويشكّ لأجل أنّ من مصلحته أن يشكّ.
وهذا كان موجوداً على عهد الإمام علي (عليه الصلاة والسلام).
العراقيّون قدّموا من التضحيات الشي‏ءَ الكثير، بذلوا أموالهم ونفوسهم ودماءهم في حروب ثلاثة، بذلوا هذه الدماء، وبذلوا هذه الأموال، وبذلوا هذه النفوس.. آلافٌ من العراقيين ماتوا وقتلوا، عشرات الآلاف من الأطفال اُيتموا، آلاف من النساء أصبحن أرامل، آلاف من البيوت والعوائل تهدّمت، كثيرٌ من المدن والقرى غارت عليها جيوش معاوية فنسفتها وحطّمتها، كثيرٌ من هذه المآسي والويلات، كثيرٌ من ألوان الدمار والخراب حلَّ بهؤلاء المسلمين، نتيجةً لماذا؟ ولأجل ماذا؟!
لأجل أن يزداد مالهم؟ لا؛ فإنّ أهل الشام لم يسرقوا منهم شيئاً.
لأجل أن يزداد جاههم؟ لا؛ فإنّهم لا يشعرون بأنّ أهل الشام سرقوا من جاههم شيئاً.
وإنّما لحساب الرسالة، لحساب الخطّ، لحساب المجتمع الإسلامي وتوحيد كلمة المسلمين، لهذا الحساب، لأجل هذا الهدف الكبير. وهذا هدف كبير، هو أعزُّ من كلّ النفوس، وأعزُّ من كلّ الدماء، وأعزُّ من كلّ الأموال.
لكن نحن يجب أن نقدّر موقف هؤلاء، هؤلاء ضحّوا وبذلوا وقدّموا، ثمّ أصبحوا يشكّكون لأنّ من مصلحتهم أن يشكّكوا، وأصبح أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يحاول أن يدفعهم فلا يندفعون، ويحرّكهم فلا يتحرّكون‏( قال عليه السلام: «كلّما أطلّ عليكم مَنسِرٌ من مناسر أهل الشام أغلق كلُّ رجل منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في جحرها، والضبع في وِجارها، الذليلُ»)(1)
لماذا؟! لأنّ من مصلحتهم أن يتصوّروا المعركة بتصوّرٍ جديد، أن يعطوا للمعركة مفهوماً جديداً،
وهو أنّ القصّة قصّة زعامة علي ومعاوية: ما بالنا وعليٌّ ومعاوية، إمّا هذا يكون زعيماً وإمّا ذاك يكون زعيماً، نحن نقف على التلّ ونتفرّج، فإمّا أن يتمّ الأمر لهذا وإمّا أن يتمَّ الأمر لذاك.
هذا التفسير بدت بداياته في ذهن الناس، وهذا التفسير الذي أوحت به مصلحةُ هؤلاء إلى هؤلاء هو الذي كان يشكّل عقبةً كؤوداً دون أن يتحرّك هؤلاء من جديد إلى خطّ الجهاد.
هذا التفسير هو الذي جعل أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يبكي وهو على المنبر وينعى أصحابه الذين ذهبوا، اُولئك الذين لم يشكّوا فيه لحظة، اُولئك الذين آمنوا به إلى آخر لحظة، اُولئك الذين كانوا ينظرون إليه كامتدادٍ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كان يبكي عمّاراً وأمثال عمّار(لعلّه (قدّس سرّه) قصد من بكائه (عليه السلام) من على المنبر بكاءه (عليه السلام) مالكاً الأشتر، الذي نعاه من على المنبر مشيراً إلى شدّة يقينه وعدم شكّه بقوله: «لو كان حجراً لكان صلداً، ولو كان جبلاً لكان فنداً»)(2).
هذا عمّار الذي وقف بين الصفّين، ووضع سيفه على بطنه، وقال: «والله أنت تعلم لو كان رضاك في أن اُغمد سيفي هذا في بطني حتّى اُخرجه من ظهري لفعلت. والله! إنّك تعلم أنّي لا أعلم لك رضاً إلّا في قتال هؤلاء المارقين المنحرفين»(قال عمّار: «اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت. اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أعلم أنّ رضاك أن أضع ظبّة سيفي في بطني ثمّ أنحنى عليها حتّى يخرج من ظهري لفعلت. اللهمّ وإنّي أعلم ممّا أعلمتني أنّي لا أعمل اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم اليوم عملاً أرضى لك منه لفعلته)(3).
كان يبكي أمثال عمّار؛ لأنّ عمّاراً وأمثال عمّار كانوا قد ارتفعوا عن‏ مستوى هذه الشكوك، كانوا قد طلّقوا مصالحهم الشخصيّة في سبيل مصلحة الرسالة، كانوا قد غضّوا النظر عن كلّ الاعتبارات الخاصّة في سبيل حماية كيان الإسلام، وفي سبيل إعادة مجد المجتمع الإسلامي ووحدة المجتمع الإسلامي، أين اُولئك؟!
كان إذا التفت يمنةً أو يسرةً لا يجد إلّا شخصاً يفكّر في أبٍ له قتيل، أو في ابنٍ له -طفلٍ صغير- كيف يتركه؟ أو في زوجة كيف يرمّلها؟
أصبح هؤلاء الذين كانوا يفكّرون في الهموم الكبيرة، أصبحوا يفكّرون في الهموم الصغيرة، أصبحوا يفكّرون في قضاياهم.
الاُمّة وقائدها شريكان في الامتحان العصيب:
يجب أن لا نعتب عليهم، فنحن أسوأ منهم؛ لأنّنا لم نرتفع لحظةً هكذا ثمّ نهبط، هؤلاء ارتفعوا لحظةً ثمّ هبطوا، هؤلاء خرجوا من بلادهم وطلّقوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم في سبيل الله تعالى، وفي سبيل قضيّةٍ لا تدرّ عليهم ربحاً ماديّاً على الإطلاق، هؤلاء فعلوا هذا ساعةً من الزمان ثمّ أدركهم الشيطان.
أمّا نحن، لا ندري إذا وقفنا مثل هذا الموقف: هل نفعل ولو ساعة؟! هل نطير ولو لحظة؟! أو أنّنا سوف نبقى في الحضيض؟!
على أيّ حالٍ هؤلاء كانوا بشراً، لم يكونوا كعمّار بن ياسر، هؤلاء بدأ الشكّ يتسرّب إلى نفوسهم‏( وقد قال عثمان بن حنيف في قضيّة التحكيم: «إنّا والله ما عدلنا الحيَّ بالحي، ولا القتيل بالقتيل، ولا الشامي بالعراقي، ولا معاوية بعليٍّ، وإنّه لأمرٌ منعُه غير نافع، وإعطاؤه غير ضائر، وقد كلّت البصائر التي كنّا نقاتل بها، وقد حمل الشكّ اليقين الذي كنّا نؤول إليه، وذهب الحياء الذي كنّا نماري به»
وقال صعصع بن صوحان: «قد كلّت البصائر وذهب الصبر» الإمامة والسياسة 140 - 142،
وقال الأشعث بن قيس: «وكلّت البصائر»)(4)
بدؤوا يشكّون في هذا الإمام الصالح حتّى تمنّى الموت‏(الظاهر -بقرينة ما يأتي منه (قدّس سرّه) في المحاضرة الثانية عشرة، تحت عنوان: المقارنة بين عصرنا وبين عصر سيّد الشهداء (عليه السلام)- أنّه يقصد قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة الجهاد: «فلو أنّ امرءاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً» (5)
لأنّه أصبح يحسّ أنّه انقطعت صلته الروحيّة بهؤلاء، أنّه أصبح منفصلاً عن هؤلاء، أنّهم أصبحوا لا يفهمونه، ولا يفهمون أهدافه، ولا يفهمون رسالته.
ومن أمرّ ما يمكن -أصعب ما يُمكن- أن يقاسيه زعيمٌ أو قائدٌ صاحبُ منهج وحياة: أن يعيش في جماعة لا تتفاعل معه فكريّاً، ولا تعيش مع أهدافه، ولا تعيش مع خطّه، مع اُناسٍ يبذل كلّ ما لديه في سبيلهم، ثمّ هم لا يحسّون بأنّ هذا كلَّه في سبيلهم، وإنّما يشكّون فيه، يشكّون في نيّته، يشكّون في دوافعه، هذا كان هو الامتحان العسير الذي قاساه (عليه أفضل الصلاة والسلام).
لكنّه بالرغم من هذا الامتحان العسير لم تضعف قوّته، لم تهن عزيمته، بقي إلى آخر لحظةٍ يحاول أن يبثّ من روحه الكبيرة في هذا المجتمع المتفتّت الذي بدأ يشكّ، والذي بدأ يتوقّف. كان يحاول أن يبثّ في هذا المجتمع من روحه الكبيرة، إلى أن خرّ شهيداً صريعاً في المسجد، في مسجد الكوفة، عليه أفضل الصلاة والسلام.
المصادر :
1- نهج البلاغة
2- الاختصاص: 81. وانظر حول بكاء عليٍّ (عليه السلام) عمّاراً يوم صفّين: كفاية الأثر: 122.
3- وقعة صفّين: 320؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 38 :5؛ الفتوح 158 :3.
4- مروج الذهب 390 :2.
5- نهج البلاغة: 69، الخطبة 27.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.