![الحياة السياسية للامام الباقرعليه السلام الحياة السياسية للامام الباقرعليه السلام](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9,%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9%20,%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D9%82%D8%B1,%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87%20%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85.jpg)
الإمام الباقر عاصر حالة تمخّض مبدأٍ فكريٍّ جديد تجسّد فيه الانحراف السياسي؛ فكما أنّ العمل السياسي في الدور الأوّل لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) بدأ من الدور الثاني في إعطاء ملامح تفصيليّة للفرقة الناجية، فإنّ الانحراف السياسي الذي عاشه الدور الأوّل كان قد بدأ يتمخّض عن مبدأ فكري.
ما هو ذلك المبدأ؟ هو مبدأ مرجعيّة الصحابة، أو الصحابة والتابعين.
تعلمون بأنّ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أعطى المرجعيّة السياسيّة والمرجعيّة الفكريّة لعليِّ بن أبي طالب ولخلفائه (عليهم السلام) من بعده(1). وتعلمون أنّ المرجعيّة السياسيّة انتزعت من أمير المؤمنين (عليه السلام) إثر وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله). وأمّا المرجعيّة الفكريّة -كمرجعيّة رسميّة- فقد بقيت شاغرةً ومعطّلة، ولم يكن هناك تخطيطٌ واضحٌ لملء هذا الفراغ في عهد الخلفاء الثلاثة، وهذا ما سوف نبحثه في ترجمة أمير المؤمنين (عليه السلام).
وبعد انتهاء عصر الصحابة وبدء عصر التابعين، وانقراض كثيرٍ من التابعين أيضاً وبدء عصر تابعي التابعين، في هذا العصر واجهت الدولة الإسلاميّة والمجتمع الإسلامي ضرورة ملء هذا الفراغ؛ وذلك لأنّهم ابتعدوا عن مصادر الإسلام، ابتعدوا عن الكتاب والسنّة وعن عصر النبي (صلّى الله عليه وآله)، ابتعدوا عن لغة الكتاب ومناسباته وظروف الكتاب، وأصبح الكتاب لا يخلو من غموضٍ في نظرهم باعتبار البعد الزمني، وكذلك النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ حيث لم يبقَ لهم شخصٌ ينقل لهم النصوص عنه مباشرةً.
واتّسعت الحياة الإسلاميّة، واستجدّت فيها أنواع وأحداث وملابسات وتعقيدات، وفتحت الأبواب على مجالاتٍ جديدةٍ لم تكن بالحسبان، في كلّ ذلك كان يُحتاج إلى مرجعٍ فكري، فمن هو المرجع الفكري هناك؟
بطبيعة الحال لم يكن من الممكن للخلفاء أن يُقرّوا المرجعيّة الفكريّة لأهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنّهم وإن كان لا شغل لهم بالمرجعيّة الفكريّة، ولكنّ المرجعيّة الفكريّة كانت تمهيداً للمرجعيّة السياسيّة. ولو أنّهم أعطوا المرجعيّة الفكريّة لأهل البيت لأعطوهم أقوى سلاحٍ يمكن أن يصلوا به إلى الحكم، وأن يُرجعوا من جديدٍ حقّهم في المرجعيّة السياسيّة.
فكان لا بدّ إذاً من تسليط الأضواء على جهةٍ اُخرى، وكان لا بدّ إذاً من إشغال الرأي العام عن أهل البيت (عليهم السلام) مهما أمكن، وكان لا بدّ إذاً من تجميد منابع الصلة بين أهل البيت وبين المسلمين؛ لكي لا يفكّر هؤلاء في استرجاع الحكم بعد ذلك.
هناك كان يتمخّض الفكر المنحرف في حياة الاُمّة الإسلاميّة عن وضع مبدأ، وهو مبدأ مرجعيّة الصحابة، وأن يكون قولُ الصحابي حجّة، وأن يكون أصلاً برأسه؛ باعتبار أنّ الصحابي يعرف ذوق الإسلام وقد فهمه وعاش قضاياه، فلا بدّ وأن لا يكون في أقواله وانطباعاته مخالفاً مع الإسلام، وكان مثل هذا المبدأ مقبولاً من الناحية الذوقيّة بحسب الظاهر.
وحيث إنّ المبدأ بنفسه أيضاً لم يكن يَملأُ كلّ الفراغ؛ لأنّ الصحابة أنفسهم في معالجاتهم للمشاكل وفي أحكامهم وقضاياهم لم يكونوا يستوعبون الفراغ هذا أيضاً، فكان الفكر المنحرف في الحياة الإسلاميّة يتمخّض عن وضع (متمّم الجعل) لمرجعيّة الصحابة،(2)
ومتمّم الجعل كان هو الاجتهاد والرأي، هذا المبدأ الذي قامت على أساسه بعد هذا مدارس القياس والاستحسان والمصالح المرسلة ونحو ذلك من المدارس التي استحدثها فقهاء المسلمين من أهل السنّة.
هذا كان يتمخّض حينما كان الإمام الباقر (عليه السلام) يعلن عن المبدأ الصحيح، حينما كان يواجه المسلمين بالإطار الحقّ للفرقة الناجية، ويعطي هذا الإطار المعالم المحدّدة.
وهذا الإمام كان يواجه صعوبةً كبيرةً من هذه الناحية، وفي الروايات الواردة عن مناقشة الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّك ترسل عن رسول الله، وكيف يصحّ هذا الإرسال؟»، وهذه المناقشة استبطانٌ لمرجعيّة الصحابة، فبالنتيجة المرجع هو الصحابة، ولا بدّ أن تُسند عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)( عن سالم بن أبي حفصة قال: «لمّا هلك أبو جعفر محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) قلت لأصحابي: انتظروني حتّى أدخل على أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليه السلام) فأعزّيه، فدخلت عليه فعزّيته، ثمّ قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ذهب والله من كان يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلا يُسأل عمّن بينه وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لا والله! لا يرى مثله أبداً، قال: فسكت أبو عبد الله (عليه السلام) ساعةً ثمّ قال: قال الله عزّ وجلّ:... فخرجت إلى أصحابي فقلت: ما رأيت أعجب من هذا! كنّا نستعظم قول أبي جعفر (عليه السلام) (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)) بلا واسطة، فقال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (قال الله عزّ وجلّ) بلا واسطة»)(3).
التقيّة من ذهنيّة الرأي العام:
وبالرغم من أنّ الإمام الباقر (عليه السلام) تحدّى الفكرة العامّة، وأعطى فكرة مرجعيّة أهل البيت بشكلٍ واضح، وصرّح بذلك في أقسى المجالس من وجهةٍ سياسيّة، لكن في حالاته الاعتياديّة كان هو ومن جاء بعده في تقيّةٍ شديدةٍ من ناحية هذا المبدأ بالذات، وأنا أعتقد أنّ الأئمّة كانوا في تقيّة من ذهنيّة الرأي العام أكثر ممّا كانوا في تقيّة من ناحية خلفاء الجور والظلم.لم يكن الأئمّة في تقيّة من ناحية خلفاء الجور بتلك الدرجة التي نراها في الروايات والأخبار، لا أظنّ أنّها بتمامها كانت مستندةً إلى اتّقاء خطر خلفاء الجور، وماذا يهمّ خلفاء الجور أن تكون الفتوى هكذا أو هكذا في مسائل الطهارة والصلاة والصوم، ونحو ذلك من الاُمور التي لا ترتبط بلهوهم واُنسهم وسياستهم وشهواتهم التي تهمّهم، لم يكونوا يهتمّون بهذه الناحية بالمقدار الذي يجعل الإمام يتّقي هذا الاتّقاء الذي يبدو من الروايات.
هل كان الإمام يتّقي في الموارد التي لا ترتبط لا من قريب ولا من بعيد بمسألةٍ سياسيّة؟ حتّى في هذه المواضيع كان الإمام يتّقي؟ ولماذا كان يتّقي؟(4)
الإمام كان -في نظر المسلمين أجمع- رجلاً عالماً كاملاً عاملاً عادلاً متديّناً، وكان لا يُشكّ في أنّه في طليعة أهل العلم والورع والتقوى، فلماذا لم يكن يقول في مسألةٍ: «إنّ هذا حرام» أو «إنّ هذا حلال»، ولا يهمّ ذلك الخليفة الجالس في قصره أن يكون هذا حراماً أو أن يكون ذلك حلالاً ما دام الخراج بيده وما دام الأمر أمره ونهيه؟
الذي أراه هو أنّ ذهنيّة المسلمين التي كرّسها الانحراف السياسي المستمرّ المتدرّج نشأت بنحوٍ تستغرب مرجعيّة أهل البيت، وتستنكر هذه الفكرة. فبالرغم من إعظامها لأشخاص أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنّها تستغرب فكرة أنّ الإسلام قد اُعطي أمانةً بيد هذه الاُسرة الخاصّة، أو بيد أشخاصٍ متسلسلين من هذه الاُسرة الخاصّة.
بعد وفاة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بأربعين أو بخمسين سنة أصبحت هذه الفكرة تبدو غريبة، وعمّق غرابتها وشذوذها معاوية وخلفاء معاوية؛ وذلك بقطعهم الصلة بين المسلمين وبين كثيرٍ من الروايات المأثورة عن النبي (صلّى الله عليه وآله). وفكرة أنّ الإسلام اُعطي أمانةً بيد أهل البيت، وأنّ أهل البيت هم اُمناء بصورة مباشرة على الإسلام، وأنّهم علماء بصورة مباشرة للإسلام، هذا المطلب أصبح شيئاً غريباً، بل أصبح شيئاً تمجّه الطباع وتضيق به.
خيارات الإمام الباقر (عليه السلام) في مواجهة هذه العقبة:
هنا الإمام الباقر (عليه السلام) الذي عاش محنة هذا الدور الثاني الذي نتكلّم عنه كان له طريقان:
1 - إمّا أن ينصب له مدرسةً فقهيّة كما ينصب غيره من الفقهاء مدرسة فقهيّة، وحينئذٍ يفتي على أساس الرواية المسندة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) تارةً، وعلى أساس الاجتهاد والمصالح اُخرى، غاية الأمر بطبيعة الحال أنّه لا يفتي بخلاف الواقع، بل يفتي بالواقع، لكن يُلبِس الواقع هذا الثوب المعترف به بحسب الذهنيّة العامّة.
فحينئذٍ: هل كان سيشكّل خطراً من هذه الناحية، أو كان سيشكّل من هذه الناحية شيئاً يستفزّ الخليفة بمجرّد أن خالف الفقيه الفلاني مع أنّه نهج نفس المنهج، واتّبع نفس الإطار العامّ الذي اتّبعه الفقيه الآخر؟
لو كان (عليه السلام) قد سلك هذا السلوك لما استفزّ الخليفة، ولما استفزّ السياسة الحاكمة، ولكان هذا يجعله في مصاف بقيّة الفقهاء، بل يجعله أكبر من بقيّة الفقهاء الآخرين الذين كانوا كلّهم بالنظر العامّ أهبط من مستوى الأئمّة.
يقول ذلك الشخص: «ما رأيت العلماء أمام شخصٍ هم أصغر وأحقر منهم أمام محمّد الباقر»(5).
لو كان ينهج نفس المنهج ويتّخذ نفس الإطار ويُلبس الفتوى الواقعيّة هذه الأثواب إذاً لنجح، ولما وجد هناك تقيّة بهذا المعنى الذي قلناه.
نعم، توجد تقيّة في مجالاتٍ خاصّةٍ ترتبط بمصالح الحاكم لا أكثر من ذلك.
2 - لكنّ هذا كان يتنافى مع طبيعة الذات؛ لأنّ هذا إمضاءٌ ضمنيٌّ لهذه الأثواب، إمضاءٌ ضمنيٌّ لهذا الإطار، إمضاءٌ ضمنيٌّ لهذه الذهنيّة العامّة المنحرفة عند المسلمين، وتعطيلٌ ضمنيٌّ لمبدأ مرجعيّة أهل البيت (عليهم السلام).
إنّ المسألة الجهاديّة وقتئذٍ لم تكن مسألةَ أن ينقل الفتوى الواقعيّة في هذه القضيّة أو في تلك القضيّة، وإنّما أنْ تُعطى في إطار مرجعيّة أهل البيت، هذه كانت هي المسألة الجهاديّة، وهذه المسألة الجهاديّة هي التي تستفزّ السلطان، وتستفزّ الذهنيّة العامّة للمسلمين أيضاً؛ لأنّ الذهنيّة العامّة للمسلمين غير مستعدّةٍ لِأنْ تسمع مثل هذا.
نعم، هي مستعدّة لِأنْ تسمع من الإمام على قدر ما تسمعه من مالك وأبي حنيفة وغيرهم، ولكنّها غير مستعدّة لِأنْ تسمع ذلك على نحوٍ غيبيٍّ إلهي، وإنّما تقول حينئذٍ: «إنّ هذا ساحر، إنّ هذا كذّاب» كما قال الجاهليّون عن جدّه (صلّى الله عليه وآله)!
إذاً، ففي الوقت الذي كان فيه الإمام يجاهد فيه بإعطاء هذا الإطار، كان في الوقت نفسه يتّقي عن إعطاء هذا الإطار إلّا في الحدود التي تحقّق مكسباً جديداً للفرقة، من دون أن يستفزّ أذواق الآخرين بما يعود على الفرقة بالوبال وبالخسارة.
وكثيرٌ من الإفتاءات الفقهيّة أنا أظنّها على هذا الأساس؛ لأنّ أمر الإمام كان يدور بين أن يُظهر الواقع لكن في إطارهم، وبين أن لا يُظهر الواقع. في المقام لم يظهر الواقع، وتابعهم بحسب الصورة، بل كان إمّا أن يعطي الواقع بثوبه الإلهي، وإمّا أن يتظاهر بالتبعيّة المطلقة للفقهاء الآخرين وأنّه ليس له كلامٌ إلّا كلامهم، كلّ هذا كان لأجل دقّة الموقف بكلا قسميه.
هذه هي المشكلة التي كان يواجهها الإمام الباقر (عليه السلام) بحسب الخارج، مشكلة تمخّض الانحراف في الحياة الإسلاميّة عن وضع مبدأ آخر في مقابل هذا المبدأ.
وهذا المبدأ عاصره الإمام الباقر (عليه السلام) في حياة مخاض، ثمّ يعاصره الإمام الصادق وهو في حالة عنفوانه، ويواجهه بعد أن اشتدّ ساعدُه ونما وأصبح شيئاً رسميّاً مقهراً مفروغاً عنه، على ما يأتي في حياة الإمام الصادق (عليه السلام).
العقبة التي اصطدم بها الإمام الباقر (عليه السلام) من الداخل :
وأمّا المشكلة التي كان يواجهها من الداخل فهي المشكلة التي كان يواجهها (عليه السلام) في داخل الإطار الشيعي.
حينما بدأ القادة بإعطاء المناهج التفصيليّة وإعطاء الخطوط التفصيليّة للتشيّع بوصفه الوريث الحقيقي للإسلام ومعبّراً حقيقيّاً عنه، في هذا المقام كان من الطبيعي أن يوجد شيءٌ من التشويش والاضطراب في داخل الكيان الشيعي أيضاً؛ لأنّ هذه الحدود وهذه المعالم لم تكن تُعطى بصورة خاصّة واضحة منشورة، بلا خوف ولا تقيّة ولا وجل، مع التخطيط اللازم والشرح اللازم، وإنّما كانت تعطى في ظروف جهادية معقّدة ومحتفّة بالمشاكل التي شرحناهاوالتي لم نشرحها.
إذاً، فمن طبيعة هذا أنّ مثل هذه المعطيات سوف يدخل عليها كثيرٌ من التغيير والتبديل والتطوير في داخل الجهاز، في داخل الكتلة.
هذا المفهوم حينما ينطلق من عند الإمام (عليه السلام) لا يسمعه الكلّ على مستوىً واحد وبدرجة واحدة، وإنّما يبقى يمشي من إنسانٍ إلى إنسانٍ بتُؤَدَةٍ وببطءٍ إلى أن يستوعب كلَّ الكتلة. هذا المفهوم حينما يمشي شأنه شأن الماء حينما يمشي على الأرض؛ يأخذ من تراب الأرض ومن أوساخها، وهكذا.. حتّى يخرج عن كونه ماءً مطلقاً إلى كونه ماءً مضافاً أو ماءً متغيّراً، هذه المفاهيم كانت حالها هكذا.
نشوء اتّجاهات التحريف والغلوّ داخل الإطار الخاص:
في مثل هذا الجوّ وجدت هناك فرصٌ وإمكانيّات في داخل جهاز الفرقة الناجية للتحريف والانحراف، ولبناءات باطلة ضالّة في داخل هذه الفرقة الناجية. والتاريخ يقول بأنّ اتّجاهات جديدةً للغلوّ نشأت في فترةٍ مقاربة لحياة الإمام الباقر (عليه السلام) وفي حياته.
وكان من جملة المعمّقين لهذه الاتجاهات في داخل الفرقة هم الأشخاص الذين اكتسبوا بعد ذلك اسم (الحنفيّين) أو (المذهب الحنفي) أو نحو ذلك؛ يعني الأشخاص الذين انتسبوا إلى دعوى إمامة محمّد بن الحنفيّة وبعده إمامة أبيهاشم، نفس محمّد بن الحنفية لم يثبت بوجهٍ من الوجوه أنّه ادّعى الإمامة، وإنّما شُوّش عنه بهذا المفهوم في عملٍ قام به المختار في الكوفة وبعد محمّد بن الحنفية جاء ابنه أبو هاشم.(6)
ويبدو أنّ أبا هاشم كان رجلاً غير واضح وغير منسجم مع خطّ أهل البيت (عليهم السلام)، فقولبت هذه الاُمور التي أحاطت أباه بشكل مذهب، ثمّ أخذ يضيف إلى هذا المذهب من المعطيات التي كان يعطيها الأئمّة (عليهم السلام) بعد تحريفها وتشويشها؛ فالأئمّة كانوا يعطون الحدود الواقعيّة لمرجعيّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو كان يأخذ هذه الحدود ويتفاعل معها ويشوّهها، ثمّ بعد هذا تنعكس في إطارٍ عقائديٍّ بشكلٍ غير صحيح.
ويذكر النوبختي في (فرق الشيعة) اضطرار الإمام الباقر عدّة مرّاتٍ لِأن يصدر قراراً بالكفر والتكفير -أو بشيءٍ من هذا القبيل- على بعض دعاة الشيعة داخل الإطار الشيعي، من أتباع محمّد بن الحنفيّة ومن غير أتباع محمّدبنالحنفيّة(7)، هؤلاء الذين رأوا في هذه المفاهيم وسيلةً للتشويه والانحراف والجهد من جديد، فأخذوا يدّعون النبوّة تارةً، والاُلوهيّة اُخرى، وينسبون الاُلوهيّة له، أو لشخصٍ ميّت، أو للإمام الحيّ الذي هو يعطي المفاهيم الصحيحة ثالثةً، وهكذا(8).. حتّى اضطرّ الإمام الباقر إلى أن يطرد بعض أصحابه ويلعنهم ويكرّر لعنهم، من قبيل المغيرة بن سعيد.
المغيرة شخص أخذ هذه المفاهيم وكدّرها وأضاف إليها من عِنْدِيّاته، ثمّ انحرف وأخذ يعطي المفهوم الشيعي مع شيءٍ كثيرٍ من الغلوّ، حتّى جعل الإمام (عليه السلام) يتأ لّم ويتأثّر ويلعنه(9)، وكذلك الإمام الصادق في ما بعد(10).
وكان الإمام الباقر (عليه السلام)يقول: «ما لهؤلاء يقولون عنّا؟! ونحن أشخاص ورثنا من محمّد (صلّى الله عليه وآله)، لكن ما صحبنا معنا براءةً من النار، ونحن نخاف من الله ونهتزّ خوفاً منه كما تهتزّ الورقة من الريح، ونحن إن أطعنا الله أدخلنا الجنّة، وإن عصينا الله أدخلنا النار، ولا براءة من الله تعالى إلّا على أساس عملنا»(11).
كلّ هذا كان من قبله (عليه السلام) كعلاجٍ للمشاكل الداخليّة.
إعطاء أئمّة هذه المرحلة المفهوم الصحيح بصورة مشتّتة غير مجموعة:
قدّروا موقف شخصٍ داعيةٍ يريد أن يعطي الاُمّة مفهوماً، هذا المفهوم يقيم به الدنيا والآخرة، ويعارض فيه السلطة الحاكمة، ويعارض الذهنيّة العامّة للمسلمين التي يريد الإمام أن يبقى محتفظاً بمكانته فيها لأجل أن يحتلّها بالتدريج؛ فهو يعطي هذا المفهوم في مثل هذا الجو، ويعطيه كتلةً متشتّتةً غير مجتمعة، متفرّقةً مكاناً ووضعاً وحالاً، ولا بدّ له أيضاً من الحفاظ على صحّة هذه المفاهيم التي يعطيها، ومن مقاومة الانحرافات التي تنشأ من محاولة حلّ هذه المفاهيم.
هذه المهمّة التي هي مهمّة من أدقّ المهمّات وأصعبها في التاريخ على الدعاة العقائديّين قام بها الإمام الباقر (عليه السلام).
هذا كلّه في ما يرتبط بالخطّ الرئيسي في هذا الدور الثاني، وهو خطّ إعطاء معالم الحدود والإطار المحدّد للفرقة الناجية ومجابهة المصائب والمشاكل من الخارج ومن الداخل في سبيل إعطاء هذا الإطار.
المصادر :
1- التشيّع والإسلام (بحث حول الولاية): 56، المرجعيّة الفكريّة والقياديّة لأهل البيت (عليهم السلام).
2- دروس في علم الاُصول (الحلقة الثالثة): 258 - 259.
3- الأمالي (المفيد):354، الحديث 7؛ الأمالي (الطوسي): 125، الحديث 8.
4- بحوث في شرح العروة الوثقى 441 :3.
5- تاريخ مدينة دمشق278 :54؛ مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 280. وفي: تذكرة الخواص: 302 أنّ القائل: عطاء.
6- فرق الشيعة: 23 وما بعد.
7- فرق الشيعة : 28 .
8- فرق الشيعة: 63.
9- اختيار معرفة الرجال: 227، الحديث 406.
10- اختيار معرفة الرجال: 191، 223 وما بعد، الأحاديث 336، 400، 401، 402، 403، 404، 511، 542، 543، 549. وكذلك الإمام الكاظم (عليه السلام)، فراجع: المصدر نفسه: 482، الحديث 909. وكذلك الإمام الرضا (عليه السلام)، فراجع: المصدر نفسه: 223، 502، الحديثان 399 و544.
11- الكافي 74 :2 و75، الحديثان 3 و6.