وانتصف النهار في ساحة القتال يوم عاشوراء وحان ميقات صلاة الظهر فوقف المؤمن المجاهد أبو ثمامة الصائدي فجعل يقلب وجهه في السماء كأنّه ينتظر أعزّ شيء عنده وهي أداء صلاة الظهر ، فلما رأى الشمس قد زالت التفت إلى الإمام الحسين عليه السلام قائلاً :
« نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربّي ، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها .. ».
لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى ، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه ، ولا عن أداء فرائضه ، وجميع أصحاب الإمام عليه السلام كانوا على هذا السمت إيماناً بالله ، وإخلاصاً في أداء فرائضه.
ورفع الإمام رأسه فجعل يتأمّل في الوقت فراى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة فقال له :
« ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها .. ».
وأمر الإمام عليه السلام أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً : « أنها لا تقبل » فقال لهُ حبيب بن مظاهر بسخرية :
« زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وتقبل منك يا حمار !! ».
وحمل عليه الحصين فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فثبت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه (١).
واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الإمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الإمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الإمام وأصحابه بالصلاة فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتخدته هدفاً لها ولم يكن يفرغ الإمام من صلاته حتى أثخن سعيد بالجراح فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه وهو يقول :
« اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك .. ».
والتفت إلى الإمام قائلاً له بصدق وإخلاص :
« أوفيت يا بن رسول الله ؟. ».
فأجابه الإمام شاكراً له :
« نعم أنت أمامي في الجنّة .. ».
وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الإمام ، ثم فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها فقد أصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن (2) وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء ، والإيمان ، والولاء للحقّ.
وقد وقف الإمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، فكان يقول :
« قتلة كقتلة النبيّين وآل النبيّين .. » (3).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجلوا شرفاً لهذه الأمة لا يساويه شرف ، وأعطوا للإنسانية أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التأريخ.
وعلى أيّ حال فقد شارك أبو الفضل العبّاس الأنصار الممجدين في جهادهم وخاض معهم غمار الحرب ، وكانوا يستمدّون منه البسالة ، وقوّة الإرادة والعزم على التضحية ، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الأموي.
« اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد صلى الله عليه و آله وسلم خلقاً وخُلُقاً ومنطقاً ، وكنّا اذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه ... اللهمّ امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدّوا علينا يقاتلوننا ... ».
لقد تجسّدت صفات الرسول الأعظم النفسية والخلقية بحفيده عليّ الأكبر عليه السلام ، وأعِظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطع قلب الإمام عليه السلام على ولده ، فصاح بابن سعد :
« مالك قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ثم تلا قوله تعالى : ( ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم ) (4) .. ».
وشيّع الإمام عليه السلام فلذة كبده وهو غارق بالأسى والحسرات وخلفه عقائل النبوة ، وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح وبرز الفتى مزهواً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، وشجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وبأس حمزة عمّ أبيه ، واباء الحسين ، وتوسّط حراب الأعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً :
أنا عليّ بن الحسين بن علي
نحن وربّ البيت أولى بالنبيّ
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (5)
أجل ـ يا بن الحسين ـ فخر هذه الأمة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي صلى الله عليه و آله وسلم وأولى بمركزه ومقامه من هؤلاء الأدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق.
وأعلن عليّ بن الحسين عليه السلام في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي ابن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الأباة في الأرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصرعنه الوصف ، ويقول المؤرّخون : انّه ذكرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، واُضر به الظمأ فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودعه الوداع الأخير واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً :
« يا أبة العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء ، .. ».
والتاع الإمام كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً :
« واغوثاه ، ما أسرع الملتقى بجدّك ، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً .. ».
وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه (6).
لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد اشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق :
يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى
ظمأ الحشا الا الى الظامي الصدي
كُلِّ حشاشته كصالية الغضا
ولسانه ظمأ كشقّة مبرد
فانصاع يؤثره عليه بريقه
لو كان ثمة ريقة لم يجمد
وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف وفتت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تطاق ، وانما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد أحيط به من كل جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطشة إلى سفك دمه لتتقرب به إلى ابن مرجانة ... وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :
الحـرب قد بانت لها حقائق
وظهرت من بعدها مصادق
والله رب العرش لا نفارق
جموعكم أو تغمد البوارق (7)
لقد تجلت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين إنما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي انما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للامويين يستغلون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن علي بن الحسين ـ في رجزه ـ أنه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتى تغمد البوارق.
وجعل نجل الحسين يقاتل أشد القتال وأعنفه حتى قتل تمام المائتين (8)
وقد ضج العسكر من شدة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرة بن منقذ العبدي عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (9) وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فطعنه بالرمح في ظهره وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته فاعتنق الفتى فرسه ظنا منه أنه سيرجعه إلى أبيه ليودعه الوداع الأخير إلا أن الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كل جانب ، فقطعوه بسيوفهم إربا إربا تشفيا منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته :
« عليك مني السلام أبا عبد الله ، هذا جدي رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : ان لك كأسا مذخورة ... ».
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى ابيه فقطعت قلبه ، ومزقت أحشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خد ولده ، وهو جثة هامدة ، قد قطعت شلوه السيوف فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق :
« قتل الله قوما قتلوك ، يا بني ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا ... (10) ».
وكان العباس عليه السلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه وذهبت نفسه حزنا وأسى على ما حل بهم من عظيم الكارثة وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم رزيته ، وما أجلّ مصابه !!
وهرعت الطاهرة حفيدة النبي صلى الله عليه و آله وسلم زينب عليها السلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبت عليه تضمخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة :
« وابن أخاه ... ».
« واثمرة فؤاداه .. ».
وأثر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردد بأسى :
« على الدنيا بعدك العفا يا ولدي ... ».
لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتز من هولها الجبال ، لقد تجرعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من الأمويين وعملائهم.
« اللهم اقتل قاتل آل عقيل ، صبرا آل عقيل ان موعدكم الجنة ... » (11). وقد ألحقوا بالعدو خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالأسود الضارية وعلوا بإرادتهم ، وعزمهم الجبار على جميع فصائل ذلك الجيش وقد استشهد منهم تسعة من أطائب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الأسرة النبوية ، وفيهم يقول الشاعر :
عين جودي بعبرة وعويل
واندبي إن ندبت آل الرسول
سبعة كلهم لصلب علي
قد أصيبوا وتسعة لعقيل (12)
وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقر النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وكان القاسم وبقية اخوانه يتطلعون إلى محنة عمهم ، ويودون أن يردوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمي وأنا حي » (13).
وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام ، وعيناه تفيضان دموعا ، وأبى أن يأذن له إلا أن الفتى ألح عليه ، وأخذ يقبل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له ، وانطلق رائد الفتوة الإسلامية إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لأولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم كأن المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال : والله لأشدن عليه ، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له :
« سبحان الله !! وما تريد بذلك ، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم ... ».
فلم يعن الخبيث به ، وشد عليه فضربه بالسيف على راسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته :
« يا عماه أدركني .. ».
وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضا ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :
« بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقل ناصره .. » (14).
وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (15) حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ، وسائر القتلى الممجدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم ، قائلا :
« اللهم احصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبدا صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ... » (16).
وبرز من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، ومحمد بن عبد الله بن جعفر وأمهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم زينب الكبرى عليها السلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبي وريحانته ، ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهمالسلام إلا أخوة الإمام الحسين عليه السلام وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العباس عليه السلام وكان إلى جانب أخيه كقوة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه.
المصادر :
1- تأريخ ابن الأثير ٣ : ٢٩١.
2- مقتل الحسين للمقرم : ٢٩٧.
3- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٣٩.
4- سورة آل عمران : ٣٣.
5- تأريخ ابن الأثير ٣ : ٢٩٣.
6- مقتل الخوارزمي ٢ : ٣٠.
7- حياة الامام الحسين ٣ : ٢٤٧.
8- مقتل الخوارزمي ٢ : ٣١.
9- مقتل المقرم : ٣١٦.
10- نسب قريش : ٥٧.
11- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٤٩.
12- المعارف : ٢٠٤.
13- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٥٥.
14- البداية والنهاية ٨ : ١٨٦.
15- حياة الامام الحسين ٣ : ٢٥٦.
16- مقتل الخوارزمي ٢ : ٢٨.
« نفسي لنفسك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، والله لا تقتل حتى أقتل دونك ، واحبّ أن ألقى ربّي ، وقد صلّيت هذه الصلاة التي قد دنا وقتها .. ».
لقد كان الموت منه كقاب قوسين أو أدنى ، وهو لم يغفل عن ذكر ربّه ، ولا عن أداء فرائضه ، وجميع أصحاب الإمام عليه السلام كانوا على هذا السمت إيماناً بالله ، وإخلاصاً في أداء فرائضه.
ورفع الإمام رأسه فجعل يتأمّل في الوقت فراى أن قد حلّ وقت أداء الفريضة فقال له :
« ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلّين الذاكرين ، نعم هذا أول وقتها .. ».
وأمر الإمام عليه السلام أصحابه أن يطلبوا من معسكر ابن زياد أن يكفّوا عنهم القتال ليصلّوا لربّهم ، فسألوهم ذلك فانبرى الرجس الخبيث الحصين ابن نمير قائلاً : « أنها لا تقبل » فقال لهُ حبيب بن مظاهر بسخرية :
« زعمت أن لا تقبل الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وتقبل منك يا حمار !! ».
وحمل عليه الحصين فسارع إليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فثبت به الفرس فسقط عنها ، وبادر إليه أصحابه فاستنقذوه (١).
واستجاب أعداء الله ـ مكيدة ـ لطلب الإمام فسمحوا له أن يؤدّي فريضة الصلاة ، وانبرى الإمام للصلاة ، وتقدّم أمامه سعيد بن عبد الله الحنفي يقيه بنفسه السهام والرماح واغتنم أعداء الله انشغال الإمام وأصحابه بالصلاة فراحوا يرشقونهم بسهامهم وكان سعيد الحنفي يبادر نحو السهام فيتقيها بصدره ونحره ، ووقف ثابتاً كالجبل لم تزحزحه السهام ، ولا الرماح والحجارة التي اتخدته هدفاً لها ولم يكن يفرغ الإمام من صلاته حتى أثخن سعيد بالجراح فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه وهو يقول :
« اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود ، وأبلغ نبيّك منّي السلام ، وابلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإنّي أردت بذلك ثوابك ونصرة ذريّة نبيّك .. ».
والتفت إلى الإمام قائلاً له بصدق وإخلاص :
« أوفيت يا بن رسول الله ؟. ».
فأجابه الإمام شاكراً له :
« نعم أنت أمامي في الجنّة .. ».
وملئت نفسه فرحاً حينما سمع قول الإمام ، ثم فاضت نفسه العظيمة إلى بارئها فقد أصيب بثلاثة عشر سهماً عدا الضرب والطعن (2) وكان هذا منتهى ما وصل إليه الوفاء ، والإيمان ، والولاء للحقّ.
مصرع بقيّة الأنصار :
وتسابقت البقيّة الباقية من أصحاب الإمام من شيوخ وشباب ، وأطفال إلى ساحات المعركة ، وقد أبلوا بلاءً حسناً يقصر عنه كل وصف واطراء ، وقد جاهدوا جهاداً لم يعرف التأريخ له نظيراً في جميع عمليات الحروب التي جرت في الأرض ، فقد قابلوا على قلّة عددهم الجيوش المكثفة ، وانزلوا بها أفدح الخسائر ، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة ، ولم تلن لهم قناة ، وقد خضبوا جميعاً بالدماء ، وهم يشعرون الغبطة ، ويشعرون بالفخار.وقد وقف الإمام العظيم على مصارعهم ، فكان يتأمّل بوجهه الوديع فيهم ، فيراهم مضمخين بدم الشهادة ، فكان يقول :
« قتلة كقتلة النبيّين وآل النبيّين .. » (3).
لقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى ، وقد حازوا الفخر الذي لا فخر مثله ، فقد سجلوا شرفاً لهذه الأمة لا يساويه شرف ، وأعطوا للإنسانية أفضل ما قُدّم لها من عطاء على امتداد التأريخ.
وعلى أيّ حال فقد شارك أبو الفضل العبّاس الأنصار الممجدين في جهادهم وخاض معهم غمار الحرب ، وكانوا يستمدّون منه البسالة ، وقوّة الإرادة والعزم على التضحية ، وقد أنقذ بعضهم حينما وقع عليه التفاف من بعض قطعات الجيش الأموي.
مصارع آل النبيّ :
وبعدما سقطت الصفوة الطيّبة من أصحاب الإمام عليه السلام صرعى وهي معطرة بدم الشهادة والكرامة ، هبّت أبناء الأسرة النبوية كالأسود الضارية للدفاع عن ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم والذبّ عن عقائل النبوة ومخدّرات الرسالة ، وأول من تقدّم إلى البراز منهم شبيه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم خلقاً وخُلقاً عليّ الأكبر عليه السلام فقد آثر الموت وسخر من الحياة في سبيل كرامته ، ولا يخضع لحكم الدعيّ ابن الدعيّ ، ولما رآه الإمام أخذ يطيل النظر إليه ، وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات ، وأشرف على الاحتضار ، فرفع شيبته الكريمة نحو السماء وراح يقول بحرارة وألم ممض :« اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد صلى الله عليه و آله وسلم خلقاً وخُلُقاً ومنطقاً ، وكنّا اذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه ... اللهمّ امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقاً ، ومزّقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قددا ولا ترضي الولاة عنهم أبداً ، فانّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدّوا علينا يقاتلوننا ... ».
لقد تجسّدت صفات الرسول الأعظم النفسية والخلقية بحفيده عليّ الأكبر عليه السلام ، وأعِظم بهذه الثروة التي ملكها سليل هاشم وفخر عدنان ، وقد تقطع قلب الإمام عليه السلام على ولده ، فصاح بابن سعد :
« مالك قطع الله رحمك ، ولا بارك لك في أمرك ، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك ، كما قطعت رحمي ، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ثم تلا قوله تعالى : ( ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم ) (4) .. ».
وشيّع الإمام عليه السلام فلذة كبده وهو غارق بالأسى والحسرات وخلفه عقائل النبوة ، وقد علا منهنّ الصراخ والعويل على شبيه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم الذي ستتناهب شلوه السيوف والرماح وبرز الفتى مزهواً إلى حومة الحرب ، لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب ، وهو يحمل هيبة جدّه الرسول صلى الله عليه و آله وسلم ، وشجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وبأس حمزة عمّ أبيه ، واباء الحسين ، وتوسّط حراب الأعداء ، وهو يرتجز بفخر وعزّة قائلاً :
أنا عليّ بن الحسين بن علي
نحن وربّ البيت أولى بالنبيّ
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي (5)
أجل ـ يا بن الحسين ـ فخر هذه الأمة ، ورائد نهضتها وكرامتها ، أنت وأبوك أحقّ بالنبي صلى الله عليه و آله وسلم وأولى بمركزه ومقامه من هؤلاء الأدعياء الذين حوّلوا حياة المسلمين إلى جحيم لا يطاق.
وأعلن عليّ بن الحسين عليه السلام في رجزه عن عزمه الجبّار وإرادته الصلبة ، وانّه يؤثر الموت على الذلّ والخنوع للدعي ابن الدعيّ ، وقد ورث هذه الظاهرة من أبيه سيّد الأباة في الأرض ، والتحم فخر هاشم مع أعداء الله ، وقد ملأ قلوبهم رعباً وفزعاً ، وقد أبدى من الشجاعة والبسالة ما يقصرعنه الوصف ، ويقول المؤرّخون : انّه ذكرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو أشجع إنسان خلقه الله ، فقد قتل فيما يقول المؤرّخون مائة وعشرين فارساً سوى المجروحين ، وألحّ عليه العطش ، واُضر به الظمأ فقفل راجعاً إلى أبيه يطلب منه جرعة من الماء ، ويودعه الوداع الأخير واستقبله أبوه بأسى ، فبادر عليّ قائلاً :
« يا أبة العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل الى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء ، .. ».
والتاع الإمام كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة ، فقال له بصوت خافت ، وعيناه تفيضان دموعاً :
« واغوثاه ، ما أسرع الملتقى بجدّك ، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً .. ».
وأخذ لسانه فمصّه ليريه ظمأه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه (6).
لقد كان هذا المنظر الرهيب من أقسى ما فجع به ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم لقد رأى فلذة كبده وهو في ريعان الشباب وغضارة العمر كالبدر في بهائه قد استوعبت الجراحات جسمه الشريف ، وقد اشرف على الموت من شدّة العطش ، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق :
يشكو لخير أب ظماه وما اشتكى
ظمأ الحشا الا الى الظامي الصدي
كُلِّ حشاشته كصالية الغضا
ولسانه ظمأ كشقّة مبرد
فانصاع يؤثره عليه بريقه
لو كان ثمة ريقة لم يجمد
وقفل فخر هاشم إلى ساحة الحرب ، قد فتكت الجروح بجسمه الشريف وفتت العطش قلبه ، وهو لم يحفل بما هو فيه من آلام لا تطاق ، وانما استوعبت مشاعره وعواطفه وحدة أبيه يراه وقد أحيط به من كل جانب ومكان ، وجميع قطعات الجيش متعطشة إلى سفك دمه لتتقرب به إلى ابن مرجانة ... وجعل عليّ بن الحسين يرتجز أمام الأعداء :
الحـرب قد بانت لها حقائق
وظهرت من بعدها مصادق
والله رب العرش لا نفارق
جموعكم أو تغمد البوارق (7)
لقد تجلت حقائق الحرب ، وبرزت معالمها وأهدافها بين الفريقين ، فالإمام الحسين إنما يناضل من أجل رفع الغبن الاجتماعي ، وضمان حقوق المظلومين والمضطهدين وتوفير الحياة الكريمة لهم ، والجيش الأموي انما يقاتل من أجل استعباد الناس وجعل المجتمع بستاناً للامويين يستغلون جهودهم ، ويرغمونهم على ما يكرهون ، وأعلن علي بن الحسين ـ في رجزه ـ أنه سيبقى يناضل عن الأهداف النبيلة والمبادئ العليا حتى تغمد البوارق.
وجعل نجل الحسين يقاتل أشد القتال وأعنفه حتى قتل تمام المائتين (8)
وقد ضج العسكر من شدة الخسائر الفادحة التي مُني بها ، فقال الرجس الخبيث مرة بن منقذ العبدي عليّ آثام العرب إن لم أثكل أباه (9) وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم فطعنه بالرمح في ظهره وضربة ضربة غادرة بالسيف على رأسه ، ففلق هامته فاعتنق الفتى فرسه ظنا منه أنه سيرجعه إلى أبيه ليودعه الوداع الأخير إلا أن الفرس حمله إلى معسكر الأعداء ، فأحاطوا به من كل جانب ، فقطعوه بسيوفهم إربا إربا تشفيا منه لما ألحقه بهم من الخسائر الفادحة ، ورفع الفتى صوته :
« عليك مني السلام أبا عبد الله ، هذا جدي رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها ، وهو يقول : ان لك كأسا مذخورة ... ».
وحمل الأثير هذه الكلمات إلى ابيه فقطعت قلبه ، ومزقت أحشاءه ففزع إليه وهو خائر القوى مهندّ الركن ، قد أشرف على الموت ، فوضع خدّه على خد ولده ، وهو جثة هامدة ، قد قطعت شلوه السيوف فأخذ يذرف أحرّ الدموع ، وهو يقول بصوت خافت قد حمل شظايا قلبه الممزق :
« قتل الله قوما قتلوك ، يا بني ما أجرأهم على الله ، وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا ... (10) ».
وكان العباس عليه السلام إلى جانب أخيه ، وقد ذاب قلبه وذهبت نفسه حزنا وأسى على ما حل بهم من عظيم الكارثة وأليم المصاب ، لقد قتل ابن أخيه الذي كان ملء فم الدنيا في فضائله ومآثره ، فما أعظم رزيته ، وما أجلّ مصابه !!
وهرعت الطاهرة حفيدة النبي صلى الله عليه و آله وسلم زينب عليها السلام إلى جثمان ابن أخيها فانكبت عليه تضمخه بدموعها ، وهي صارخة معولة تندبه بأشجى ما تكون الندبة قائلة :
« وابن أخاه ... ».
« واثمرة فؤاداه .. ».
وأثر منظرها الحزين في نفس الإمام ، فجعل يعزيها بمصابها الأليم وهو بحالة المحتضر ، ويردد بأسى :
« على الدنيا بعدك العفا يا ولدي ... ».
لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي تميد بالصبر ، وتهتز من هولها الجبال ، لقد تجرعتها في سبيل هذا الدين الذي عبثت به العصابة المجرمة من الأمويين وعملائهم.
مصارع آل عقيل :
وهبت الفتية الأماجد من آل عقيل إلى الجهاد لتفدي إمام المسلمين وريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم وهي ساخرة من الحياة ومستهينة بالموت وقد نظر الإمام عليه السلام إلى بسالتهم واندفاعهم بشوق إلى الذب عنه ، فقال :« اللهم اقتل قاتل آل عقيل ، صبرا آل عقيل ان موعدكم الجنة ... » (11). وقد ألحقوا بالعدو خسائر فادحة ، فقد قاتلوا كالأسود الضارية وعلوا بإرادتهم ، وعزمهم الجبار على جميع فصائل ذلك الجيش وقد استشهد منهم تسعة من أطائب الشباب ، ومن مفاخر أبناء الأسرة النبوية ، وفيهم يقول الشاعر :
عين جودي بعبرة وعويل
واندبي إن ندبت آل الرسول
سبعة كلهم لصلب علي
قد أصيبوا وتسعة لعقيل (12)
وقد صعدت أرواحهم الطاهرة إلى الفردوس الأعلى حيث مقر النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
مصارع أبناء الحسن :
وسارعت الفتية من أبناء الامام الزكي أبي محمد عليه السلام إلى نصرة عمهم والذب عنه ، وقلوبهم تنزف دماً على ما حل به من عظيم الكوارث والخطوب وكان من بينهم القاسم ، وقد وصفه المؤرخون بأنه كالقمر في جمال طلعته وبهائه وقد غذاه عمه بمواهبه ، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار من أمثلة الكمال والآداب.وكان القاسم وبقية اخوانه يتطلعون إلى محنة عمهم ، ويودون أن يردوا عنه عوادي الأعداء بدمائهم وأرواحهم ، وكان القاسم يقول : « لا يقتل عمي وأنا حي » (13).
وانبرى القاسم يطلب الإذن من عمه ليجاهد بين يديه ، فاعتنقه الإمام ، وعيناه تفيضان دموعا ، وأبى أن يأذن له إلا أن الفتى ألح عليه ، وأخذ يقبل يديه ورجليه ليسمح له بالجهاد ، فأذن له ، وانطلق رائد الفتوة الإسلامية إلى ساحة الحرب ، ولم يضف على جسده الشريف لامة حرب ، محتقراً لأولئك الوحوش ، وقد التحم معهم يحصد رؤوسهم ، ويجندل أبطالهم كأن المنايا كانت طوع إرادته ، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله الذي هو أشرف من ذلك الجيش ، وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم ، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال : والله لأشدن عليه ، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم ، وقال له :
« سبحان الله !! وما تريد بذلك ، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم ... ».
فلم يعن الخبيث به ، وشد عليه فضربه بالسيف على راسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني ، ونادى بأعلى صوته :
« يا عماه أدركني .. ».
وكان الموت أهون على الإمام من هذا النداء ، فقد تقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات ، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف ، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق ، وطرحه أرضا ، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافر الخيل ، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطير المذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه :
« بعدا لقوم قتلوك ، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك ، عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك فلا ينفعك صوت ، والله هذا يوم كثر واتره ، وقل ناصره .. » (14).
وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه ، وهو يفحص بيديه ورجليه (15) حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر ، وسائر القتلى الممجدين من أهل بيته ، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه ، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم ، قائلا :
« اللهم احصهم عددا ، ولا تغادر منهم أحداً ، ولا تغفر لهم أبدا صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ... » (16).
وبرز من بعده عون بن عبد الله بن جعفر ، ومحمد بن عبد الله بن جعفر وأمهما العقيلة الطاهرة حفيدة الرسول صلى الله عليه و آله وسلم زينب الكبرى عليها السلام وقد نالا شرف الشهادة مع حفيد النبي وريحانته ، ولم يبق بعد هؤلاء الصفوة من أهل البيت عليهمالسلام إلا أخوة الإمام الحسين عليه السلام وفي طليعتهم أخوه أبو الفضل العباس عليه السلام وكان إلى جانب أخيه كقوة ضاربة يحميه من أي اعتداء عليه ، وقد شاركه في جميع آلامه وأحزانه.
المصادر :
1- تأريخ ابن الأثير ٣ : ٢٩١.
2- مقتل الحسين للمقرم : ٢٩٧.
3- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٣٩.
4- سورة آل عمران : ٣٣.
5- تأريخ ابن الأثير ٣ : ٢٩٣.
6- مقتل الخوارزمي ٢ : ٣٠.
7- حياة الامام الحسين ٣ : ٢٤٧.
8- مقتل الخوارزمي ٢ : ٣١.
9- مقتل المقرم : ٣١٦.
10- نسب قريش : ٥٧.
11- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٤٩.
12- المعارف : ٢٠٤.
13- حياة الإمام الحسين ٣ : ٢٥٥.
14- البداية والنهاية ٨ : ١٨٦.
15- حياة الامام الحسين ٣ : ٢٥٦.
16- مقتل الخوارزمي ٢ : ٢٨.