الحب إن ذقته ، فحلاوته لا تزول ، كله لذة ، وجميعه متعة ، فيه تستعمل الأرواح والحواس ، القلوب والعقول ، النفوس والمشاعر ، يمتزج الإحساس بالوجدان ويظهر المعنى الحقيقى لمهام ووظائف الخفقات والخلجات والزفرات والأنفاس ، ويحيا المحبون فى دنيا أخرى ، شقاؤها نعيم ، ونعيمها روضات ، عذابها متعة ، ومتعها جنات .
اللحظة الصادقة :
يعيش المحبون اللحظة الصادقة فتأخذهم فى عوالم كأنها سنوات ، تملأ عمرهم ، بل هى عمرهم وحياتهم ، ثم تكون ذكرى تحيا معهم ، تحييهم عند الابتعاد ، ويشربون سحرها فى الاقتراب ، وفى اللقاء حياة تتجدد وروح تكبر ومعانى يسبح المحبون فى جمالها ، وينهلون من روعها ، حيث الروح فى الروح ، والقلب بالقلب ، والجسد للجسد ، فى ظواهرها صور تتحرك .وفى حقيقتها أثير بهيج ، عجز عن وصفه الشارحون وقد استخدموا كل ما يعرفونه من نعيم الأرض ، من شمائل وعيون وروضات وأنهار ونجوم وسماء ، وأزهار ورياحين ، أو من أريج وريحان ، أو من شدوٍ وحداء ، أو من عطر ونسيم ...
الحب هو الحياة :
فالعين لا ترى ما تراه العيون ، واليد فى لمستها شىء آخر ، والأذن صُمّت إلا عن جو الحب فى لحظات الهوى والعشق والغرام ، وكلها أجواء فى سماء الحب فى تداخل شفاف وصفاء رقراق ، فالحب هو الحياة ، والحياة هى الحب .فما الحب إذن
كما يقولون الأعمال بخواتيمها ، والأشجار بثمارها ، والحركات بنتائجها ، وكذلك الحب ... الحب الحقيقى له علامات ، وفيه آثار وعنده تضحيات ، وأمامه عقبات ، وله حياته الخاصة به فى اللقاء والذكرى والجفاء ، وعلاقته بحياة الروح وحركة القلب واقتران الجسد ، حتى تتحقق الثمرة والنتيجة والمذاق .. هنالك يحق لك أن تعلن : هذا هو الحب .. وهو فى أمرين : طاعة وتجاوز .. فما معناها ؟طاعة وتجاوز :
فإن تحققا بدأ الحب الحقيقى يدخل فى دوائر أخرى تجعله قويًا متينًا ممتدًا متواصلاً ، لا يعترف بعقبات ولا يقرّ بعوائق ، كجنة بربوة إن لم يصبها وابل فطل ...نعم ( الطاعة ) وهى فى الحب حركة لا إرادية خارج دائرة الشعور ، يكون فيها المحب كالمسحور ، ينتظر من الحبيب الإيماءة ، ويفهم الإشارة ، فالطاعة تجرى فى عروقه متى وصلت إلى ركن فهو طائع ، العين فى نظرتها ، واليد فى لمستها ، والوجه فى قسماته ، والفم فى ارتعاشته والبدن فى انتظاره للموافقة ، وكل جزء ينبض بالطاعة فيلبى خافية الحبيب وإن لم يصرح ، بل كثيرًا ما يفعل ما يكون حديثًا فى نفس حبيبه ، الحب يصنع المعجزات والموافقة ثمرته المكنونة ، حتى يصل الأمر بالحبيب إلى أنه لا يطلب ، وتتحقق إراداته من محبوبه .
ومع الطاعة ( تجاوز ) الاثنان معًا ممتزجان ومعنى تجاوز الحبيب أنه لا يقف عند عيبه ، ولا يكبّر شوكه ، ولا يعظم ذنبه ، ولا يوسّع تقصيره ، ولا ينفش خطأه ، بل يمر عليه دون اعتبار ولا يعبره بنظر أو انتظار ، فإن قال قائل : أين التقويم ؟ قلنا له : يا هذا ليس من ذاق كمن عرف ! وليس من عايش كمن سمع ! الحبيبان ماء واحد يجرى فى الشعور والوجدان ، لا سرّ بينهما ولا خافية ، إن دق قلب فرنّاته عند الآخر ، حيث الأرواح فى خفقة واحدة ، والأفئدة فى سير واحد ، لا تستطيع أن تقول اثنين ، وهل الماء إلا شيء واحد ؟! .
وهذا هو الهوى :
فالتجاوز طبيعة وطبع ، وليس تمثيل وصناعة ورسم .. ومن لم يذق فليجتهد ، وليحاول وسيصل .. حينما يسأل عينه : هل تلتقين بعين الحبيب ؟ وحينما يسأل جفنه : هل تخاطب قلب الحبيب ؟ والإجابة ليست بالكلام وإنما فى خفة الروح ، وانتفاضة الفؤاد ، وخفقان القلب ، وارتعاشة البدن ، وهذا هو الهوى : بداية الماء الواحد ، وحضانة الرداء الواحد ، ليس للهوى أوصاف يُعرف بها ، أو صفات يتميز بها ، أو سمات يسمو بها ، وإنما يُعرف فى الموصوف ويظهر فيمن حقق الهوى :وعندى الهوى موصوفه لا صفاته / وإذا سألونى ما الهوى قلت ما بيا
حالك يوسف أحلامها :
فهو حال يقيم فيه المحبون ، [ إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ] ، كذلك إذا رأيتم الحبيب فى حبيبه روحًا وقلبًا ونفسًا وعقلاً .. فاشهدوا له بالحب ، فإن ذاب من الضنى ، ولم يؤثر على الحب غالياً ، فقدم مهجته فدى مهجته ، فاشهدوا له بالهوى . فهل قدمت أيها المحب الروح رخيصة فى هوى المحبوب ، هل أرسلت دمعة الوصل ترجو المزيد ؟هل سار قلبلك بقلب المحبوب ؟ هل أرسلت من جفنك حركة قلبية أو استقبلت من جفنه نفس الرسالة ؟ هل من الانصهار والذوبان فى الحب أنتما كالماء ؟! إجابة الكلمات وردود الأقوال لا مكان لها فليس هذا ميدانها ، بل أنت ميدان الردود ، وحالك يوسف أحلامها .
ويسقى بماء واحد
الماء واحد والثمار يانعة ، وهذه هى آثار الحب ، ثمرات يانعات ، لكل حلاوتها ، ولكل حلاوة مذاق ، لا تستطيع أن تميز بينهن ، أو تستأثر بإحداهن ، أو تسوى بسحرهن .الحب هو الدواء :
فمن قائل : الحب هو الداء الذى فيه الدواء ، فهو يكابد ليستيقظ الإحساس ، ويعانى ليصحو به الشعور ، ويقاسى ليحيا القلب ، ويتحمل فتنتعش الروح .الحب هو الروح :
ومن قائل : الحب هو الذى يملأ علىّ نفسى وروحى وقلبى وعقلى وكيانى بل إننى أرى الحبيب هو هذه الأشياء فهو راحة الروح ومنى القلب وحلاوة الدنيا وبهجة الحياة ورجاء النفس ، وحياة الجوانح كلها .الحب هو المعاناة :
ومن قائل : الحب هو المعاناة والعذاب والشقاء ، فى الوقت الذى هو كله نعيم ولذة ، وليس فى الأمر مبالغة لأن الإحساس بأقل أثر من لمسة معاناة هى شقاء مع أنها قطرة فى بحر النعيم والمتعة ، وهذه ترجمة لإحساس المحب الذى يرى بشعوره ويتأثر بوجدانه .الحب هو اللقاء :
ومن قائل : الحب معاناة يتحقق فى اللقاء حيث تتوقف عجلة الزمان ، ويصمت الدهر ، وتُطوى السنون ، وتُمحى اللحظات ، لأن اللقاء هو العمر ، وغيره ليس محسوبًا من العمر ، وذلك لما يراه الحبيب من معاناة فى أيام لا يرى فيها حبيبه .الحب هو الولاء :
ومن قائل : الحب هو الولاء للحبيب ، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلا بالبحث الدائم عما يرضيه ويحقق رضاه ، وهذا هو عين الولاء للحبيب ، والرضا يكون : بالطاعة والموافقة مع الايثار والحب ، والتغافل عن العيب ، ومع ذلك فالرضا غاية لا تدرك إلا مع الله عز وجل .الحب هو الثقة :
ومن قائل : الحب أن تثق فى الحبيب ، والثقة لا تتحقق إلا بتبادل المشاعر ، فثقتك بأن حبّك فى قلب الحبيب بنفس ما هو فى قلبك ، يعطيك ويمنحك الاحساس بالحب ، ويزيل الكثير من المتاعب والظنون ، ويقطع الطريق أمام الحاسدين .الحب الانفراد بالحبيب :
ومن قائل : الحب هو الانفراد بالحبيب ، والغيرة عليه من أقل الأشياء ، حتى من جوارحه عليه فى وحدته ، وعلامة ذلك التعلق الدائم به ، وقطع الفيافى للوصول الدائم إليه فى كل الظروف والأحوال .
الحب هو التضحية :
ومن قائل : الحب هو التضحية ، فآثار الحب تظهر بما يقدمه المحبون من تضحيات ، والصدق فى تحقيقها أن تقدمها من أجل المحب وسعادته وسروره ، فيكفى أن يكون الحبيب سعيدًا مسرورًا ، يرغد فى الهناء وإن كلفنى ذلك العنت والتعب والسهر والسهاد والدمع والبكاء .الحب عدم تحمل البُعد :
ومن قائل : الحب هو عدم تحمل البُعد ، فالحب يعيش حين ينصهر الحبيبان ، فى الشعور والإحساس والروح ، فكأنهما جسد واحد بدماء واحدة ، أو كالماء الواحد ، أو كالرداء الواحد ، فلو فصل أحدهما عن الآخر بالبعد فهى فترة عصيبة ، ومشاهد رعيبة ، ومشاعر مروعة ...كالماء الواحد أصبحنا / وكلانا صار يقول أنا
كل هذه الثمار : هى حياة الحب وعلامة تحقيقه وآثار وجوده ، وكلها تجتمع على المحبين فى لحظات التلاقى والتصافى ، ولذلك فرسالتنا إلى كل حبيبين ذاقا وتمتعا ، ويريدان تحقيق هذه الثمار .
بأن يعلما أن الطريق إلى ذلك بهذه النصائح القلبية الثلاثة :
الطريق إلى الحب
أولاً : احيوا الأرواح باللقاء
حياة الأرواح وعودتها إلى الأبدان تكون باللقاء وفيه ، وللقاء روح تعود بالأرواح وتردّها ، وإلا كان لقاء ميتاًا مقبورًا لا نفع منه ، وكم من اثنين تحققت بينهما المعاشرة لسنوات ولم يتم بينهما لقاء واحد ، فاللقاء الحقيقي هو ما فيه حياة الروح ، وليست له لحظات معدودة ومعلومة ، عدّها بعضهم من أحسن أيامه لأن القُرب بالروح وليس القُرب بالجسم ، فقال :
رُدّت الروح على المضنى معك / أحسنُ الأيام يومٌ أَرْجَعَكْ
ثانيًا : احيوا الحب بالصفاء :
للبعد مرارة ، وفيه معاناة ، وله روعات ، فإن تحقق الحب الصافى ( عند البُعد وفى البُعد ) إذا بهذه المرارة وتلك المعاناة ومكابدة الروعات تزيده صفاءً وتقوية وتجعله متماسكًا متينًا ، وإن لم يكن صافيًا أظهر البُعد زيفه ، وكشف غن خبثه .
ثالثًا : احيوا الهوى بالحال
لا تكتموا حالكم عن الحبيب ، صارحوه بما تكابدونه ، فى غيابه وحضوره ، فى بعده وقربه ، وصارحوه بسهر الليالى وسهاد الشهور ، حدثوه عن شكوى البُعد بالليل ، كلموه عن الانتظار إلى الفجر والعين لا تنام ، والقلب مكلوم ، والروح حزين ، أرسلوا له الشوق ، واختاروا من العبارات ما يظهر الحال ويبينه ويوضحه ، من لهيب ونار وإحراق ، اعلموه بالمآقى الباكية والدموع الهادرة ، والدمعات المسكوبة ، وماذا تقول له ؟ وبم تشعر نحوه ؟ ومارسالتها إلى الحبيب ؟
كل هذه المظاهر بوصفها وحالتها ومرارتها وسعادتها , انقلوها لشعوره ليحيا الهوى وتؤتى الثمار , وهذا هو الماء الواحد .
المصدر :
راسخون2017