
لم يكن للعرب دولة في جاهليتهم، إلا ما كان في اليمن من دول التبابعة مما لا يدخل في بحثنا. وإنما نريد بسياسة الدولة عندهم القواعد التي كانت تدور عليها أحكامهم ومعاملاتهم لحفظ علاقاتهم السياسية وآدابهم الاجتماعية، مما يقوم مقام القوانين الإدارية والسياسية الدولية في الأمم المتمدنة.
فالرياسة عندهم أو الإمارة إنما ينالها أهل العصبية والجاه، وإذا تساوت العصبية في جماعة قدموا أكبرهم سنًّا؛ ولذلك كان لفظ «الشيخ» عندهم يدل على الشيخوخة والرياسة معًا، وإذا أشكل عليهم الانتخاب لأي سبب عمدوا إلى الاقتراع.
وكذلك إذا اجتمعت عدة قبائل في محالفة على حرب، واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعًا فإنهم يقترعون بين أهل الرياسة، فمن وقعت عليه القرعة أسندوا إليه الرياسة …
ذلك هو شأن بدو العرب وهم معظمهم. وأما حضرهم في مكة فالرياسة فيهم لسادن الكعبة .
وكان في كل قبيلة بالجاهلية بيوتات تشتهر بالرياسة والشرف، فتمتاز عن سائر القبيلة وتكون الرياسة فيها، كبيت هاشم بن عبد مناف من قبيلة قريش، وبيت آل حذيفة بن بدر الفزاري من قيس، وبيت آل زرارة بن عدي من تميم، وبيت آل ذي الجدين بن عبد الله بن همام من شيبان، وبيت بني الريان من بني الحرث بن كعب من اليمن. وقد امتازت هذه البيوتات على قبائلها بالشرف؛ لتوالي ثلاثة آباء منها في الرياسة على الأقل. ولأهل البيوتات نفوذ على سائر القبيلة: وكان أهل السياسة من رجال المسلمين يلاحظون ذلك في تولية الحكام. ومن هذا القبيل وصية ابن عباس للحسن بن علي: «ول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم».
والأمير البدوي مع سلطته المطلقة قلما يستبد في أحكامه، ويغلب أن يستشير أهل بطانته وخاصته، على أنه لم يكن يحتجب عن أحد ولا يمتهن أحدًا. يجالس جميع الناس ويخالطهم، رفيعهم ووضيعهم. وهم لا يعرفون ألقاب التفخيم ولا نعوت التملق، فإذا خاطب البدوي أميره ناداه باسمه وطالبه بحقه، بعبارات تشف عن عزة النفس وإباء الضيم، أو هي أنفة البداوة، على أنهم كانوا يتكلمون على الأسنان، والأمير يخاطب رعاياه بألقاب الوقار، كالأب والعم والخال والابن أو ابن الأخ، على ما تقتضيه الأسنان والأنساب.
وظل ذلك شأنهم في صدر الإسلام، ينادون الخليفة باسمه ويحاجونه في شؤونه، حتى إذا تحضروا احتجبوا وتكبروا، فاتسع الفاصل بين المحكوم والحاكم.
مناقب العرب في الجاهلية
الوفاء
على أن العرب قلما كانوا يحتاجون إلى حاكم يفصل في الخصومة بينهم، لما فطروا عليه من المناقب الجميلة التي تقوم فيهم مقام الحاكم الصارم، وتنزههم عن ارتكاب الدنايا مما يغنيهم عن القضاء. وسيد هذه المناقب «الوفاء»؛ لأنه إذا تأصل في أمة أغناها عن القضاء — والحكومة إنما تقضي بين الذين لا يعرفون الوفاء. وكان الوفاء متمكنًا في خلق العربي، ويزيد تمكنا فيه كلما بعُد عن المدن وأوغل في الصحراء؛ لأن الغدر والنكث لا يعيشان إلا في القصور الشماء في ظل الحدائق الغناء.وترى الوفاء مطبوعًا في أقوال أهل البادية وأشعارهم وأمثالهم، ويتجلى في عاداتهم وأخلاقهم وفي سائر أعمالهم، وهو فيهم سجية وفي سواهم صناعة وتكلف. وحكاية حنظلة الطائلي والنعمان بن المنذر تمثل هذه الخلة أحسن تمثيل، فإن حنظلة وعد النعمان بالرجوع بعد عام لاستقبال الموت، فطلب النعمان من يضمنه فضمنه شريك بن عدي، ولم يقدم شريك على ذلك إلا وهو يعتقد صدق البدو لاشتهارهم به. وقد وفى حنظلة فجاء في الوقت المعين، لا جند يقوده ولا حراس تخفره، مما حمل النعمان على العفو عنه وقصته مشهورة.(1)
وأغرب من ذلك وفاء السموأل (صموئيل) بن عادياء، وكان امرؤ القيس الكندي قد استودعه سلاحًا وأمتعة تساوي مالًا كثيرًا، وسافر إلى بلاد الروم ومات قبل رجوعه، فبعث ملك كندة يطلب الأسلحة والأمتعة المودعة عند السموأل، فلم يسلمها. ولما ألح عليه أجابه: «لا أغدر بذمتي ولا أخون أمانتي ولا أترك الوفاء الواجب علي». فجرد الملك عليه جيشًا وحاصره في حصنه، فوقع ابن السموأل أسيرًا عند الملك، فهدد السموأل بقتل ابنه أن لم يسلم الوديعة، فأبى التسليم وقال: «ما كنت لأخفر ذمامي وأبطل وفائي فافعل ما شئت». فذبح ولده و السموأل ينظر. فلما امتنع الحصن على ملك كندة عاد خائبًا، وأما السموأل فصبر على ما تحمله من الثكل محافظة على الوفاء، ولم يسلم الوديعة إلا إلى ورثة امرئ القيس.
فمن كانت هذه مناقبهم قلت حاجتهم إلى القوانين، واستغنوا عن الجند والحرس وخصوصًا إذا أضفنا إليها علو الهمة وطيب النفس، وقلة احتمال الذل والسماحة والكرم والنزاهة عن الدنايا … فهذه كلها مناقب العرب أهل البادية.
الجوار
ومن قبيل الوفاء بالعهد وحفظ الذمام أيضًا «الجوار»، فإن البدوي يحافظ على جاره محافظته على نفسه. والمقصود بالجوار في الأصل أن يحافظ الرجل على جاره القريب، وهو من قبيل التعاون الطبيعي حتى قيل: «جارك القريب ولا أخوك البعيد». ولكن العرب توسعوا في ذلك حتى شقوا منه الإجارة والاستجارة والجوار، وكلها بمعنى الحماية والحفاظ، مع أن أصل المادة «جار» يفيد عكس ذلك. واستعاروا الجوار للحماية على الإطلاق، فإذا خاف أحدهم سوءًا جاء إلى رجل يحميه، ويكفي أن يقول له: «أجرني» فيجيره بقدر طاقته، وقد يفرط في أهله ولا يفرط في جاره. ومن أمثلة ذلك أن الأعشى امتدح الأسود العنسي فأعطاه جائزة من الحلل والعنبر، فرجع وطريقه على بني عامر فخافهم على ما معه من المال، فأتى علقمة بن علاثة فقال له:«أجرني …»،
فقال: «قد أجرتك …»،
قال: «من الجن والإنس …»،
قال: «نعم …»،
قال: «ومن الموت …»
قال: «لا …»،
فتركه وأتى عامر بن الطفيل فقال له:
«أجرني …»،
قال: «قد أجرتك …»،
قال: «من الإنس والجن …»،
قال: «نعم …»،
قال: «ومن الموت …»،
قال: «نعم …»،
قال: «وكيف تجيرني من الموت؟» قال: «إذا مت وأنت جاري بعثت إلى أهلك الدية»،
فقال: «الآن علمت أنك تجيرني».(2)
وقد يجئ بعضهم ليستجير برجل فلا يجده في بيته، فيكفي أن يعقد طرف ثوبه إلى جانب طنب البيت، فإذا فعل ذلك صار جارًا ووجب على المعقود بطنب بيته للمستجير به أن يجيره وأن يطلب له بظلامته.(3)
ومن قبيل تعظيم الجوار والمحافظة عليه أن عامر بن الطفيل لما مات نصبت بنو عامر أنصابًا ميلًا في ميل على قبره، لا ينشر فيه ماشية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماشٍ، إشارة إلى ما كان عليه من المحافظة على الجوار في حياته.(4)
وما زال الجوار مرعيًّا عند العرب بعد الإسلام، إلا من خالط الأمم الأخرى في البلاد المفتوحة. على أن تأييد الدولة اقتضى ضعف الجوار؛ لأن أهل الوجاهة أصبحوا من أهل الدولة، والرجل يومئذ إنما يستجير من حاكم يطلبه.
فإذا استجار به مظلوم قالوا: «إنما يجير الرجل على عشيرته، وأما على سلطانه فلا» خوفًا على مناصبهم، كما أصاب ابن مفرغ لما هجا بني زياد واستجار بالأحنف بن قيس على عبيد الله بن زياد، وهو يومئذ أمير البصرة فأبى الأحنف خوف العزل، وقال له: «إذا شئت أن أجيرك من بني سعد فعلت»، فذهب إلى غيره من وجهاء العرب فأبوا إجارته لنفس هذا السبب.(5)
الأريحية
ومن المناقب التي تغني العرب عن الوازع القهري أو القوة الحاكم «الأريحية»، وهي من مقتضيات العصور الجاهلية البدوية، أو ما يجري مجراها من أحوال الفروسية التي يعبر عنها الإفرنج بقولهم: Chevalerie، ومرجع ذلك إلى التفاخر بالشجاعة والكرم وحسن الأحدوثة.وكان للأريحية شأن عظيم عند العرب، لدقة شعورهم وسرعة تأثرهم؛ لأنهم أهل خيال وذوو نفوس حساسة، يقيمهم البيت من الشعر ويقعدهم، وقد يسمعون الكلمة فتطير لها نفوسهم، وربما بذل العربي حياته في سبيل كلمة يقولها، أو فرارًا من كلمة يسمعها؛ ولذلك كثرت عندهم ضروب المفاخرة، والمباهاة في المواسم والأندية، مما يرغب في الفضائل ويغني عن زجر الحكام.
ومناقب العرب كثيرة، كالكرم والضيافة وعلو الهمة، مما لا دخل له في موضوعنا.
المصادر :
1- المستطرف ١٦١ ج١.
2- الأغاني ٨٣ ج٨.
3- الأغاني ١٨٤ ج٢.
4- الأغاني ١٣٩ ج١٥.
5- الأغاني ٥٦ ج١٧.