
نريد بهذا العصر المدة التي كانت فيها الدولة الإسلامية في أيدي العرب، وكانت سياستها عربية وقوادها عربًا وعمالها عربًا، وكانت السيادة فيها للعنصر العربي. والعصر المذكور يبتدئ بالإسلام وينقضي بانقضاء الدولة الأموية.
وهو ينقسم إلى دولتين: دولة الراشدين، ودولة الأمويين، ولكل منهما أحكام خاصة بها في السياسة وشؤون الحكومة سيأتي بيانها. ولا بد لنا تمهيدًا لذلك أن نأتي بفذلكة في حال العرب قبل الإسلام، من حيث ما يهمنا بيانه في هذا الباب …
البدو والحضر
البدو أهل البادية، والحضر أهل المدن. والبداوة أقدم من الحضارة؛ لأنها أقرب منها إلى الفطرة الطبيعية. فالإنسان كان في أول أدواره بدويًّا يحترف الزراعة والفلاحة، أو ينتحل القيام على تربية الحيوان من الغنم والبقر والماعز أو النحل والدود لنتاجها واستخراج فضلاتها، مما لا تتسع له المدن من المزارع للغرس والمراعي للمرعى.
فالتجأوا إلى السهول والبراري، وكان همهم بلوغ الضروري من القوت والسكن والدفء بالمقدار الذي يحفظ الحياة ويمكِّن من مواصلة العيش. فلما تقدمت أحوالهم وحصلوا على ما هو أكثر من ذلك من أسباب الغنى والرفاهية، عمدوا إلى السكون والدعة وتأنقوا وتمدَّنوا وأترفوا.
فالبداوة تقوم إما على الفلاحة والزرع، أو على تربية الحيوان. فالبدو أهل الفلاحة مضطرون للاستقرار في مواطنهم ينتظرون الغلة وهم سكان المداشر. والقرى والجبال، وكانوا قليلين في بادية العرب.
وإنما يكثر هذا الصنف من البدو في بلاد البربر بشمالي أفريقيا، وفيما يجاور المدن العامرة بمصر وفارس والشام وغيرها. وأما البدو الذين يحترفون تربية الحيوان فدأبهم الظعن والارتحال، لارتياد المسارح والمياه لحيواناتهم. وهم صنفان: أهل سائمة، وأهل إبل. فأهل السائمة هم القائمون على الشاء والبقر، ولا يبعدون في القفر لقلة المراعي الطيبة، ويقال لهم: الشاوية نسبة إلى الشاء.
وهؤلاء مثل البربر في شمالي أفريقيا، والترك وإخوانهم التركمان والصقالبة، وغيرهم ممن يقطنون بوادي تركستان وخراسان ونحوهما.
وأما أهل الإبل فأشهرهم بدو العرب، وهم أكثر ظعنًا وأبعد في القفار مجالًا من أهل السائمة؛ لأن مسارح التلول ونباتها وشجرها لا تستغني بها الإبل في قوام حياتهم عن مراعي الشجر بالقفار، وورود مياهه الملحة والتقلب في فصل الشتاء في نواحيه فرارًا من أذى البرد إلى دفء هوائه وطلبًا لما خض النتاج في رماله؛
لأن الإبل أصعب الحيوانات فصالًا ومخاضًا وأحوجها في ذلك إلى الدفء. فاضطروا إلى إبعاد النجعة والإيغال في القفار، فهم ينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه، والمفترس من الحيوان، لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وقيامهم بالدفاع عن أنفسهم. فهم دائمًا يحملون السلاح، ويتلفتون في الطرق، ويتجافون عن الهجوع، إلا غرارًا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتفردون في القفار والبيداء واثقين ببأسهم، حتى صار البأس لهم خلقًا، ولذلك كان أكثر البدو توغلًا في القفار أشدهم بأسًا وأصبرهم على المشاق.
فسكان جزيرة العرب معظمهم من البدو الرُّحَّل؛ ولذلك كانت المدن قليلة في تلك الجزيرة، ولا سيما في أواسطها. وأشهر المدن العربية قبل الإسلام مكة والمدينة والطائف في الحجاز، ومأرب وصنعاء في اليمن. وسكانها أخلاط من العرب والفرس والأحباش واليهود وغيرهم، يرتزقون بالبيع والشراء على من يفد عليهم من أهل البادية.
العصبية العربية قبل الإسلام
قلنا: إن العرب جمهورهم من البدو، والعصبية ضرورية لأهل البادية؛ لأن الناس مفطورون على المطامع، ودأبهم التخاصم والتنازع، فأهل المدن يدفع عدوانهم الحكام وأهل الدولة من أن يظلم بعضهم بعضًا، وهي أيضًا تدفع غارات الأعداء بما تقيمه من الأسوار وتعده من الجند والسلاح. وأما البدو فيحكم بينهم مشايخهم وكبراؤهم، بما وقر في نفوس أهل القبيلة أو الحي من الوقار لهم … وإكرام السن من تقاليد البدو.وإذا سطا عليهم عدو في منازلهم قام بالدفاع عنها فتيانهم وشجعانهم، وهؤلاء لا يصدق دفاعهم إلا إذا كانوا عصبية تشتد بها شوكتهم ويُخشى جانبهم.
وأهل البلد الواحد، أو المصلحة الواحدة، لا بد لهم من جامعة تجمع بين أفرادهم. والجامعة تختلف في الأمم باختلاف أحوالهم، فبعض الأمم يجمعهم الوطن، وآخرون يجمعهم الدين، وغيرهم يجمعهم النسب أو اللغة.
وقد رأيت أن البدو لا وطن لهم، وكانوا قبل الإسلام لا دين لهم، فلم يكن لهم ما يجمعهم غير العصبية واللغة، وهما متلازمتان خصوصًا في البداوة؛ لذلك عني العرب بحفظ أنسابهم وضبطها، وتفاخروا بها، وبالغوا في استقصائها، حتى ردوها إلى الآباء الأولين.
فأقرب أسباب العصبية عندهم الأخوة والأبوة والعمومة، ومنها تتألف العائلة أو الأسرة، ومن العائلات تتألف الفصيلة، كآل أبي طالب وآل العباس مثلًا، فإن كلًّا منهما فصيلة مؤلفة من عائلات، وكلاهما من بني هاشم. ومن الفصائل تتألف الأفخاذ، مثل بني هاشم وبني أمية، وكلاهما من بني عبد مناف.
ومن الأفخاذ تتألف البطون، مثل بني عبد مناف وبني مخزوم، وكلاهما من قريش. ومن البطون تتألف العمائر (جمع عمارة) مثل بني قريش وبني كنانة، وكلاهما من مضر. ومن العمائر تتألف القبائل، مثل ربيعة ومضر، وكلاهما من عدنان. ومن القبائل يتألف الشعب، وهو النسب الأبعد، مثل عدنان وقحطان.
أنساب العرب
والذي عليه النسابون أن سكان جزيرة العرب قبل الإسلام يرجعون في أصولهم إلى قسمين: العرب البائدة، والعرب الباقية. فالقبائل البائدة هي التي بادت وضاعت أخبارها قبل ظهور الإسلام، مثل عاد وثمود وطسم وجديس وعمليق وجرهم وجاسم.وقد بحثنا بحثًا تحليليًّا في نسب هذه القبائل وأماكنها في مقالة نشرت في الهلال العشرين من السنة الخامسة لا محل لها هنا. وأما العرب الباقية فهي القبائل التي ظهر الإسلام وهي موجودة، فقامت به ونشرته وأنشأت الدولة الإسلامية. والقبائل الباقية فرقتان، ترجع كل منهما إلى أب واحد يضمها وطن تنسب إليه:
الفرقة الأولى القحطانية، وترجع في أنسابها إلى قحطان وهو يقطان الذي ينتهي نسبه إلى أرفكشاد (أبو أرفخشد) من آباء التوراة، ومقر القبائل القحطانية في اليمن؛ ولذلك عُرفت أيضًا بالقبائل اليمنية أو عرب اليمن. والفرقة الثانية العدنانية، نسبة إلى عدنان من بعض أعقاب إسماعيل بن إبراهيم الخليل وتعرف أيضًا بالإسماعيلية، ولما كان مقر أكثرها في الحجاز ونجد عُرفت بالقبائل الحجازية، أو بعرب الحجاز ونجد أو عرب الشمال.
ولكل من القحطانية والعدنانية فروع من القبائل والعمائر والبطون والأفخاذ والفصائل لا يحصيها عدٌّ ولا محل لذكرها، ولكننا نأتي بما يهمنا منها في هذا المقام — فالعرب القحطانية أقدم من العدنانية، أو تمدنت قبلها على الأقل، ومنها بنو حمير الذين أنشأوا تمدنا في اليمن، ومنهم الملوك التبابعة وآثارهم في حضر موت وخرائب اليمن، لا يزال أكثرها مدفونًا في الرمال وعليه نقوش بالقلم المسند. وقد تفقد آثار ذلك التمدن غير واحد من المستشرقين، ولكنهم لم يتمكنوا من الاطلاع على شيء كثير لصعوبة السلوك في تلك القفار.
على أن بعضهم ألف الكتب في هذا الموضوع، وذهب إلى أن التمدن اليمني أقدم من التمدن المصري، وأن الفراعنة أخذوا أصول تمدنهم عن أولئك العرب القحطانية. والمظنون أن ملكة سبأ التي زارت سليمان الحكيم نحو القرن العاشر قبل الميلاد إنما هي من ملوك هذه الدولة.
وما زال اليمنية في بلاد اليمن وحضرموت، حتى كان سيل العرم أو انبثاق السد المعروف بسد مأرب. وهو عبارة عن حائط كان موصلًا بين جبلين، يحجز الماء الذي كان يسيل بينهما، فيرتفع ويروي السفحين إلى أعلاهما.
بناه بعض ملوك تلك الدولة بناءً متينًا، فصبر على صدمات الماء وتأثير الهواء عدة قرون. فلما دنا القرن الثاني للميلاد (تقريبًا) وكانت الدولة قد شاخت، أحسوا بقرب سقوط السد، فخافوا الطوفان والقحط، فنزحوا من ذلك المكان وتفرقوا في البلاد، بحسب قبائلهم وبطونهم، ومنهم بنو غسان في الشام، وبنو لخم في العراق، وبنو الأوس والخزرج في المدينة، والأزد في منى، وخزاعة بجوار مكة. ثم انفجر السد فهاجر من بقي هناك من القبائل اليمنية. وفي نحو القرن الخامس للميلاد استولى الأحباش على بلاد اليمن.
فلما ظهر الإسلام، كانت دولة العرب القحطانية قد دالت، وهم الحضر وسكان المدن. وأما البدو القحطانية فكانوا لا يزالون كثيرين، غير من بقي من القحطانية الحضر في يثرب وغيرها من مدن الحجاز واليمن. وإليك أشهر القبائل القحطانية عند ظهور الإسلام وهي: سبأ وحمير وكهلان والأزد ومازن وغسان والأوس والخزرج وخزاعة وبجيلة وخثعم وهمدان وطيء ولخم وكندة وقضاعة وكلب وتنوخ ومراد والأشعر وغيرها.
وأما القبائل العدنانية، أو عرب الحجاز ونجد أو عرب الشمال، فلم يظهروا قبل الإسلام إلا قليلًا، ولم ينشؤوا دولة إلا بعد الإسلام. وهم قبائل عديدة، مواطنهم غالبًا في نجد والحجاز والعراق وتهامة، وكلها بادية رحالة إلا قريشًا فقد كانوا حضرًا يقيمون في مكة، وبعض أهل الطائف. وأعظم القبائل العدنانية قبيلة «معد»، ومنها تسلسلت قبائل عدنان كلها، ويقال: أنه كان معاصرًا لأرميا النبي.١وتفرع من معد إياد ونزار، وسكنت إياد العراق وتشعبت إلى بطون وأفخاذ. وأما نزار ففيها العظمة والقوة، ولها الفضل الأعظم على العرب؛ لأن منها جاءهم النبي صلی الله عليه وآله وسلم.
وانقسمت نزار إلى قبيلتي ربيعة ومضر، فسكنت ربيعة في جزيرة العراق، ومن بطونها ضبيعة وأسد وعنزة وجديلة والنمر وتغلب وبكر بن وائل وغيرهم. وأما مضر بن نزار فهم أهل الكثرة والغلب بالحجاز، أكثر من سائر بني عدنان، وكانت لهم الرياسة بمكة. ومن مضر تشعبت عدة عمائر من جملتها قريش، وتشعبت قريش إلى ٢٥ بطنًا من جملتها بنو عبد مناف، ومنهم بنو هاشم رهط النبي صلی الله عليه وآله وسلم، وبه شرفت مضر بعد الإسلام على سائر العرب قحطانيها وعدنانيها.
وأشهر القبائل العدنانية، غير ما تقدم، خزيمة وكنانة والنضر وشيبان وقيس وهوازن وسليم وغطفان وذبيان وثقيف وكلاب وعقيل وتميم وهلال وباهلة ومخزوم وأمية وعبد القيس وغيرها، وبعضها فروع للبعض الآخر. ولكل قبيلة أو عمارة شؤون خاصة وحكومة خاصة وشارة خاصة. ولكل منها سمة خاصة تمتاز بها عن سائر القبائل، تعرف بها رايتها وتسم بها أبلها، أي: تنقش عليها علامة خاصة بها كيًّا بالنار يقال لها: الميسم٢ وكانت القبيلة تمتاز بشيء تُعرف به ويذاع بين القبائل خبره، وتفاخر به سواها.
فكانت مضر مثلًا تفتخر بفصاحتها، وربيعة تفتخر بفروسيتها ونجدتها٣ واشتهر بعض القبائل بالعز والمنعة دون سواها، كقبيلة بهدلة من العدنانية، فقد ذكروا أن العز والقوة تسلسلًا إليها من معد إلى نزار فمضر فخندف فتميم فسعد فكعب فعوف فبهدلة.
عصبية النسب
وبين القبائل، أو أفخاذها أو بطونها أو عمائرها، عصبية النسب تجمعها بعضها على بعض — الأقرب فالأقرب إلى الأبعد فالأبعد. فتجتمع الفصيلتان من الفخذ الواحد على فخذ آخر ولو كانوا جميعًا من بطن واحدة، وتجتمع البطنان من عمارة واحدة على عمارة أخرى ولو كانوا جميعًا من قبيلة واحدة، على حد قول المثل: «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، فالقحطاني يتعصَّب على العدناني وهذه أوسع العصبيات، ثم إن القبائل يتعصب بعضها على بعض. والعمائر من قبيلة واحدة تتعصب بعضها على بعض، ويقال نحو ذلك في البطون من عمارة واحدة، أو الأفخاذ من بطن واحدة، حتى تصل إلى الفصائل والعائلات.
فبنو العباس وبنو أبي طالب مثلًا تخاصما، وكلاهما من بني هاشم، وبنو هاشم وبنو أمية تخاصما، وكلاهما من بني عبد مناف، وقِسْ على ذلك.
وكل من القبائل أو البطون أو الأفخاذ يفاخر سواه بحسنات قومه ويذكر مثالب الآخرين. ولهم في ذلك مفاخرات يطول بنا شرحها. على أن أشهر حوادث المنافسة بين العرب إنما هو بين القبائل القحطانية (أو اليمنية) والقبائل العدنانية، وقد يرد ذكر ذلك في التاريخ ولا ينتبه له القارئ؛ لأنهم قلما يذكرون انتساب القبائل إلى إحدى هاتين العصبيتين فيقولون مثلًا: «انتشبت الحرب بين قيس وكلب»، ولا يذكرون أن قيسًا من العدنانية وكلبًا من القحطانية، لاعتقادهم أن القارئ يعرف ذلك. وقِسْ عليه قولهم: تفاخرت قحطان ونزار، أو معد واليمن، أو مضر وحمير، أو هوازن وكهلان، أو قيس وهمدان، أو نحو ذلك.
المصادر:
راسخون 2017