
تفرقوا الناس بالمهاجرة بأهلهم وخيامهم وأنعامهم، التماسًا لسعة العيش في البلاد العامرة من مملكتهم الجديدة. فقد جلت بطون من خزاعة إلى مصر والشام في صدر الإسلام؛ لأن أرضهم أجدبت فمشوا يطلبون الغيث والمرعى(1)
وكذلك كانت تفعل العرب كلما أصابها جدب، حتى كانت لهم أعوام خاصة يجلون فيها إلى مصر والشام، يسمونها أعوام الجلاء(2) وكانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام: إذا أجدبت أرضهم يمموا العراق وفارس، فيعطيهم الفرس التمر والشعير، ولكنهم كانوا لا يقيمون هناك بل يرجعون إلى بلادهمخوفًا من الذل في سلطان دولة أعجمية. أما بعد الإسلام فكان المقام يطيب لهم في بلاد فتحها آباؤهم أو أعمامهم أو أخوالهم، وغرسوا عليها أعلامهم وجعلوها فيئًا لهم. (3)
على أن الغالب في نزوح العرب عن أحيائهم وانتجاعهم المدن أو أكنافها، أن يكون بإيعاز بعض الخلفاء أو الأمراء، وخصوصًا بعد رجوع العرب إلى عصبية النسب بين قحطان وعدنان، أو مضر وقيس في عهد الدولة الأموية. فكان الأمير أو الخليفة إذا تولَّى بلدًا وخاف على سلطانه من أمير آخر ذي عصبية أخرى، استقدم جماعة من قبيلته، أو من ينتمي إليها بالحلف ونحوه، يُسكنهم في ضواحي بلده لاستنصارهم عند الحاجة، فيطلق لهم المرعى ويفرض لهم العطاء، كما حدث في ولاية الوليد بن رفاعة على مصر في خلافة هشام بن عبد الملك الأموي، وكان هشام يقرب قبيلة قيس (العدنانية)؛ لأنهم نصروه وأيَّدوا خلافته، ولم يكن منهم في مصر إلا بعض البطون، وقيس قبيلة كبيرة تحتها عدة قبائل وبطون وأفخاذ، وأول من نبَّه هشام إلى نقلهم عبيد الله بن الحبحاب، فإنه وفد عليه فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتًا، فأذن له في إلحاق ثلاثة آلاف منهم وتحويل ديوانهم إلى مصر، أي: أن يقبضوا رواتبهم من حكومة مصر، على أن لا ينزلهم في الفسطاط، فأنزلهم في الحوف الشرقي (الشرقية والدقهلية) ولا سيما في بلبيس وأمرهم بالزرع،(4) ثم تقاطروا بعد ذلك وتكاثروا فيها.
بنو سليم وبنو هلال
وقد يكون الباعث على استقدامهم وإقرارهم رغبة الأمير أو الخليفة في التخلص من شرهم، كما فعل العزيز بالله الفاطمي ببني سليم وبني هلال، وهما بطنان من مضر، كان رجالهما إلى زمن العزيز المذكور في القرن الرابع للهجرة لا يزالون أحياء ناجعة أهل بادية، محلاتهم وراء الحجاز مما يلي نجد: بنو سليم من جهة المدينة، وبنو هلال من جبل غزوان عند الطائف فكانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام، فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة، وربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. ثم ظهر القرامطة فتحيز بنو سليم لهم، وعاثوا في البلاد، وقد عجز الخلفاء العباسيون عن قمعهم. فلما أفضت خلافة مصر إلى العزيز بالله الفاطمي، كان القرامطة قد تغلبوا على الشام، فانتزعها العزيز منهم وردهم إلى قراهم في البحرين، ونقل أشياعهم من بني هلال وسليم وأنزلهم بالصعيد، في العدوة الشرقية من نهر النيل، فأقاموا هناك.وكان لهم أضرار في البلاد، والخلفاء يدارونهم ويبحثون عن وسيلة يتخلصون بها منهم. فاتفق بعد سنين أن المعز بن زيري عامل الفاطميين في أفريقية، شق عصا الطاعة وبايع للدولة العباسية، وقطع اسم الخليفة الفاطمي من الخطبة والطراز والرايات، فعظم الأمر على الخليفة بالقاهرة، وهو يومئذ المستنصر بالله، فأشار عليه وزيره أبو محمد الحسن بن علي اليازوري، أن يقرب إليه أحياء هلال وسليم المذكورين، ويصطنع مشايخهم ويوليهم أعمال أفريقية، ويرسلهم لاستلام أمورها، فإذا فازوا كانت إحدى الحُسنيين، وإلا فإنه يتخلص من شرهم. فبعث الخليفة وزيره إلى هذه الأحياء سنة ٤٤١ﻫ وحرَّضهم على الذهاب إلى المغرب وتملكه، ففرحوا وأجازوا النيل وساروا برًّا إلى برقة ففتوحها. ثم تبعهم غيرهم من بطون دياب وزغب طمعًا في الكسب، وأصبحت أفريقية مقر هذه القبائل من ذلك الحين، فاقتسموا البلاد فيما بينهم.(5)
وقس على ذلك ما كان من انتقال العرب المسلمين إلى الأندلس بعد إتمام فتحها، إذ صرف عرب الشام وغيرهم الهمم إلى الحلول بها لخصبها وطيب هوائها، فنزل بها من أصول العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم، وفيهم قبائل من العدنانية والقحطانية(6)
وكل قبيلة كانت تنزل البلد الذي يشبه بلدها بإقليمه ومرعاه. ناهيك بما كان يتنقل من القبائل أو البطون في أثناء الحروب في عصر الأمويين للنجدة أو نحوها.
الموالي في الإسلام
والباقون في الأسر إذا اعتنقوا الإسلام نجوا من الرِّق غالبًا، إذ يغلب أن يعتقوهم مكافأة لهم، ومن أعتق منهم صار مولى؛ ولذلك كان الموالي من المسلمين غير العرب، استنكافًا من استرقاق المسلم، ثم أطلقه بنو أمية على كل مسلم غير عربي، فإذا قالوا: «الموالي» أرادوا المسلمين من الفرس وغيرهم الذين كانوا مجوسًا أو ذميين واعتنقوا الإسلام، أو كانوا ممن لازم العرب أو التجأوا إليهم، ويسمونهم «الحمراء» فإذا قالوا: «الحمراء» أرادوا الموالي. والحمراء في القاموس العجم، وهم كل من سوى العرب.وأصبح الموالي في الإسلام طبقة خاصة من طبقات الهيئة الاجتماعية، كان لها شأن عظيم في تاريخ الإسلام، ويمكن اعتبارهم من قبيل العصبية العربية، لقول النبي صلی الله عليه واله وسلم: «مولى القوم منهم»(7)
وقوله: «من ادَّعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(8)
وأهل الرجل عند العرب الموالي والذراري. ويثق الرجل بمولاه كما يثق بابنه؛ لأنه لم يعتقه إلا حبّا فيه، والموالي يعد عتقه منة لمولاه عليه، فيترك نسبه إلى أهله وينتسب إلى مولاه، فيقال: فلان مولى فلان ولا يقال: ابن فلان. أو ينتسب إلى قبيلته فيقال مثلًا: ابن سريج مولى بني نوفل، ومحرز مولى عبد الدار، وحكم الوادي مولى الوليد بن عبد الملك، وابن عياد مولى بني مخزوم، وقس عليه؛ ولذلك كانت رابطة المولى بمولاه وثيقة، وخصوصًا من يعيش من الموالي في بيت مواليهم، ولكن الغالب أن يخرجوا لعمل يعملونه، حتى إذا انتشبت حرب اجتمعوا تحت لوائهم.
وللموالي فضل كبير في الإسلام؛ لأن معظم الحفاظ وأهل التفسير واللغة والشعر وسائر العلماء وأكثر التابعين منهم، لاشتغال العرب عن هذه العلوم بالسياسة والسيادة والتنازع على السلطة(9)
ومعظم الموالي الذين خدموا العرب في صدر الإسلام من بقايا الفيء والغنائم في فارس وغيرها. وأكثرهم كانوا غلمانًا في جملة السبي، فربوا في الإسلام ونبغوا فيه أو نبغ أولادهم — منهم أربعون غلامًا كانوا يتعلمون الإنجيل في عين التمر لما فتحها خالد بن الوليد، فغنمهم وبعثهم إلى أبي بكر بالمدينة ففرقهم في أهل البلاد من جملة الغنائم، فاعتنقوا الإسلام وأعتقهم مواليهم فنبغ من أولادهم جماعة كانوا عونًا كبيرًا للمسلمين في السياسة والحرب والعلم والدين، منهم موسى بن نصير فاتح المغرب والأندلس فإن أباه منهم، وحمران مولى عثمان بن عفان(10)
وأيضًا محمد بن إسحق صاحب المغازي والسير، فإن جده يسار منهم وقس على ذلك سائر مشاهير الموالي الذين أصلهم من السبي في أثناء الفتح أو بعده.
فأبو صفر من سبى دبا في أيام أبي بكر، وحماد الراوية أصل أبيه ديلمي من سبي مكنف بن زيد الخيل(11)
وسائب خاثر أصله من فيء كسرى، ومروان بن أبي حفصة الشاعر الشهير أصله يهودي من سبي اصطخر(12)
والهروي اللغوي المشهور أسير وقع في سهم عرب نشأوا في البادية(13)
وابن الأعرابي سندي الأصل، وأبو دلامة كوفي أسود كان عبدًا لرجل من بني أسد فأعتقه(14)
وقل نحو ذلك عن سائر حملة العلم في الإسلام.
وقد يكون المولى من أصل رفيع واسترقه الأسر ولم يتوفق له الفداء، فإن بعض موالي المنصور من أولاد المرازبة(15)
وأبو علي بن بذيمة الذي يروى عنه، وأبو زهير جد المطلب بن زياد أصلهما من أبناء الأكاسرة، وقعا في الأسر يوم المدائن فأهداهما سعد الفاتح إلى سمرة بن جنادة الصاحبي فأعتقهما ابنه جابر.(16)
وانتقى أبو موسى الأشعري ستين غلامًا من أولاد الدهاقين من سبي بيروذ بفارس، وفرق بعضهم في المسلمين، غير الذين افتداهم أهلهم.(17)
وكان للخلفاء والأمراء ثقة كبرى بمواليهم، يعهدون إليهم بكل شؤونهم، فأكثر حجاب الخلفاء الراشدين من مواليهم، لا فرق في أن يكون أصلهم فارسيًّا أو ديلميًّا أو حبشيًّا أو روميًّا، فموالي أبو بكر أولهم بلال بن رباح كان عبدًا حبشيًّا لرجل من مكة، اشتراه أبو بكر بخمس أواق وأعتقه. وهو أول من أذن في المدينة، وكان له مقام رفيع في الإسلام، وكذلك عامر بن فهيرة، وأبو نافع ومرة بن أبي عثمان وغيرهم(18)
وقس على ذلك موالي عمر وعثمان وعلي وغيرهم من الخلفاء وكبار الصحابة. وكلهم يستهلكون في سبيل مواليهم؛ لاعتقادهم الفضل لهم عليهم، وفي التاريخ شواهد كثيرة من هذا القبيل على اختلاف الأعصر - من ذلك أن محمد بن يزيد المهلبي، لما نشبت الفتنة بين الأمين والمأمون، كان هو من حزب الأمين، وأراد أن يحفظ له الأهواز من أصحاب طاهر بن الحسين قائد جند المأمون فباغته طاهر بجنده قبل أن يتحصن وضايقه، فالتفت المهلبي المذكور إلى مواليه وقال لهم: «ما رأيكم؟ إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن خذلانهم ولا أرجو رجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي حتى يقضي الله بما أحب، فمن أراد الانصراف فلينصرف، فوالله لأن تبقوا أحب إليَّ من أن تموتوا».
فقالوا: «والله ما أنصفناك إذن … تكون قد أعتقتنا من الرق، ورفعتنا من الضعة، وأغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذا الحال؟ فلعن الله الدنيا والعيش بعدك؟». ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم واستقتلوا بين يديه.(19)
على أن المولى لا يزال أحط مقامًا من سیده. وكان الموالي في صدر الإسلام يتولون كثيرًا من مصالح الدولة التي تفتقر إلى أمانة وثقة، فضلًا عن العلم والدين. ولهم الرواتب السنية لكنهم كانوا محرومين من المناصب الرفيعة التي تحتاج إلى شرف وعصبية، كالقضاء مثلًا، فإنهم كانوا يعدونه فوق مرتبتهم، فإن عمر بن عبد العزيز لما أراد أن يولي مكحولًا القضاء أبى وقال: «قال النبي: لا يقضي بين الناس إلا ذو الشرف في قومه، وأنا مولى».(20)
المصادر :
1- الأغاني ٦ ج١٣.
2- ٤١ الأغاني ٤٧ ج١١.
3- ٤٢ ابن الأثير ٢٢٨ ج٢.
4- ٤٣ المقريزي ٨٠ ج١.
5- ٤٤ ابن خلدون ١٤ ج٦.
6- ٤٥ نفح الطيب ١٣٧ ج١.
7- ٦٣ العقد الفريد ١١١ ج٢.
8- ٦٤ ابن هشام ٧٧ ج٣ والبيان والتبيين ١٦٤ ج١.
9- ٦٥ الجزء الثالث من هذا الكتاب.
10- ٦٦ ابن الأثير ١٩٢ ج٢.
11- ٦٧ ابن خلكان ٤٨٣ ج١ والمعارف ١٦٨.
12- ٦٨ المعارف ١٢٠ ج٩.
13- ٦٩ الأغاني ٣٦ ج٩.
14- ٧٠ ابن خلكان ٥٠١ ج١.
15- ٧١ الأغاني ١٢٠ ج٩.
16- ٧٢ الأغاني ٨٢ ج٢٠.
17- ٧٣ المعارف ١٠٣.
18- ٧٤ ابن الأثير ٢٣ ج٣.
19- ٧٥ المعارف ٥٨.
20- ٧٦ ابن الأثير ١٠٦ ج٦.