
بعدما خرّ الإمام علي عليه السلام صريعاً في المسجد كانت بذرة التناقض في التجربة الإسلاميّة -التي تزعّم قيادتها لإعادة كامل الصيغة الإسلاميّة إلى الحياة- بدأت تستفحل وتشتدّ.
هذه البذرة هي التي سمّيناها في ما سبق بـ-«الشكّ»، ودرسنا الظروف الموضوعيّة والنفسيّة والتاريخيّة التي كوّنت هذا الشك. ونقصد من هذا الشكّ: الشكَّ في القائد، في نظريّة القائد واُطروحته التي يكافح من أجلها ويحارب على أساسها.
وكان هذا الشكّ - شكّاً مصطنعاً ولم يكن شكّاً حقيقيّاً، أي: بالرغم من أنّه كان يعيش وجدانات أكثر القطّاعات التي دخلت في حكم الإمام علي (عليه السلام)، إلّا أنّه لم يكن شكّاً بحكم المنطق أو بحكم سيرة الإمام علي (عليه السلام)، وإنّما كان شكّاً مستوحىً من إرهاق هؤلاء وانخفاض أنفاسهم بسبب خطّ الجهاد الطويل المتواصل.
اقتناع الاُمّة بالقضيّة شرط نجاحها:
وما من رسالةٍ وقائدٍ يحمل(1) اُطروحةً رساليّةً تكون فوق مصالح الأفراد وفوق حدود وجوداتهم، ما من رسالةٍ وقائدٍ يحمل رسالةً من هذا القبيل يمكن أن ينجح في خطّ عمله ما لم يحصل على اقتناع الاُمّة بالاُطروحة والقضيّة.القضيّة التي هي أكبر من مصالح هذا الفرد بالذات وذاك الفرد بالذات لا يمكن أن تضمن نجاح مصلحة هذا الفرد بالذات وهذا الفرد بالذات؛ فالمصالح المحدودة المقيّدة قد تتعارض مع قضيّة كبيرة.
وهذه القضيّة الكبيرة جدّاً -أيّ قضيّة كبيرة جدّاً تطرح على المسرح السياسي أو الاجتماعي- لا يمكن أن تنجح إلّا إذا حصلت على اقتناعٍ من الاُمّة بصحّتها ونبلها وواقعيّتها وضرورة تطبيقها.
وهنا لا يلزم أن يحصل هذا الاقتناع من الاُمّة ككلّ، بل يكفي أن يحصل هذا الاقتناع لدى جزءٍ مهمٍّ من الاُمّة، ثمّ يُحصِّل هذا الجزء باقي الأجزاء، فيكسبها بالتدريج إلى الاقتناع، كما وقع في أيّام النبي (صلّى الله عليه وآله):
في أيّام النبي (صلّى الله عليه وآله) كان هناك اقتناع من قبل جزءٍ من الاُمّة، وكان هناك استسلام وتجميد من قبل أجزاء اُخرى سمّاها القرآن بـ-«المنافقين»؛ الجزء المنافق من الاُمّة كان جمّد مهمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، والجزء المقتنع من الاُمّة هو الطليعة التي تحمل بيدها الرسالة، وتحارب من أجلها، وتبذل دمها في سبيل تحقيق الأهداف.
تحوّل الشكّ بعد عهد الإمام علي (عليه السلام) كيفيّاً وكميّاً:
هذا المنطق كان يقضي على التجربة التي خلّفها الإمام عليٌّ بأن تعيش حالة مضطربة من التناقض؛ لأنّ هذا الاقتناع -الذي هو شرطٌ ضروريٌّ في إنجاح أيّ اُطروحة رساليّة تتعدّى حدود ومصلحة الأفراد- لم يكن متوفّراً في أواخر عهد الإمام علي (عليه السلام)؛ بحكم الظروف التي كان يعيشها الإمام.وهذا الشكّ كان قد بدأ من عهد الإمام علي (عليه السلام)، واستمرّ بعده حينما تولّى الإمام الحسن (عليه السلام) مقاليد الحكم، غير أنّه تحوّل من شكّ سلبيٍّ على الأكثر إلى شكٍّ إيجابيٍّ على الأكثر:
1- كان هذا الشكّ في عصر الإمام علي (عليه السلام) شكّاً سلبيّاً إذا استثنينا قصّة الخوارج، هذا الشكّ في اُطروحة الإمام كان شكّاً سلبيّاً، يعني أنّه كان ينعكس على مستوى سلبي لا على مستوى إيجابي، ينعكس على مستوى التخاذل، والتميّع، والتثاقل عن الزحف، والتلكّؤ في تلبية الأوامر العسكريّة التي كان يصدرها الإمام علي (عليه السلام) بالالتحاق بخطّ الجهاد(قال الإمام علي (عليه السلام): «فإذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الحرّ قلتم: هذه حمارّة القيظ، أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ. وإذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء قلتم: هذه صبارّة القرّ، أمهلنا ينسلخ عنّا البرد. كلّ هذا فراراً من الحرّ والقرّ؛ فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرّون فأنتم واللّه من السّيف أفرّ» (1)، فكان ينعكس في مواقع سلبيّة على الأكثر، بينما أخذ هذا الشكّ ينعكس بعد الإمام عليٍّ انعكاساً إيجابيّاً.
2- ومن ناحيةٍ اُخرى أيضاً اتّسع نطاقه، فشمل قطّاعاتٍ أكثر من المجتمع الذي كانت تحكمه التجربة.
يعني: طرأ على هذه التجربة:
ألف- تحوّلٌ كيفيٌّ ينعكس إيجابيّاً على الأكثر، كما كان ينعكس سلبيّاً على الأكثر.
بـ- وتحوّلٌ كيفيٌّ جعله يطغى ويشتدّ بالتدريج في الجماهير التي كان من المفروض أن تساهم في مواصلة العمل والجهاد في إنجاح التجربة.
أرضيّة بذرة الشكّ في عهد ما بعد الإمام علي (عليه السلام):
أمّا لماذا طغى هذا الشكّ كيفيّاً وكميّاً بعد الإمام علي (عليه السلام)؟ فهذا هو السؤال الذي يجب أن يجاب عنه.والجواب ينحصر في النقاط التي ذكرناها في أبحاثنا السابقة.
هذا الشكّ بدأ في عهد الإمام علي (عليه السلام)، وكان فحوى هذا الشكّ ومضمونه هو تشكيك الإنسان العراقي المجاهد تحت لواء الإمام عليٍّ (عليه السلام) في أن تكون معركة الإمام عليٍّ (عليه السلام) مع معاوية هي معركة الإسلام مع الجاهليّة في قالبها الجديد.
هذا المفهوم الذي كان يعطيه الإمام علي (عليه السلام) بقوله، بوجوده، بسلوكه، بكلّ جوانبه ومشاعره.. هو أنّ معركته مع معاوية كانت معركة بالصيغة الإسلاميّة الكاملة الشاملة للحياة مع الجاهليّة، ولكن بالثوب الجديد وعلى مستوى جديد؛ لأنّ الجاهليّة بالأمس لم تكن تقتنع إلّا بإنكار الصيغة الإسلاميّة رأساً، بإنكار النبوّة رأساً، ولكن بعد ذلك، وبعد أن سيطر الإسلام على مقاليد كسرى وقيصر ومَلَك المعمورة، بعد هذا أصبحت الجاهليّة بإزاء أمرٍ واقعٍ استشعرت في مقابله بالخطر، فعدّلت من موقفها: فبينما كانت تريد أن تنكر الإسلام ككلّ، بدأت تحاول أن تنكر جزءاً من الإسلام، وهو الجزء الذي يتعارض مع واقع مصالحها السياسيّة والاجتماعيّة وفهمها لأساليب الحياة وتقييمها للسلوك.
هذه المعركة كان يعطيها الإمام لا بقوله فقط، بل بسلوكه ووجوده وتصديقه بهذا المفهوم. استطاع الإمام علي أن يصنع المعجزة في سبيل أن يجعل شعباً يواكب هذا المفهوم ويقتنع به، وهو شعبٌ لم يعِش أيّام الرسالة الاُولى، ولم يعِش قضيّة الإسلام على عهد النبوّة.
شعب العراق دخل الإسلام منذ سنين(2)، ولم تكن أكثر القواعد الشعبيّة التي اعتمد عليها الإمام علي (عليه السلام) قد عاشت أكثر أيّام الإسلام الاُولى، أيّام الوحي الاُولى، مع هذا كسب الإمام هذا الاقتناع إلى درجةٍ ما وإلى وقتٍ ما.
ثمّ بدأ الشكّ في ذلك، بدأ الشكّ في قضية عليٍّ (عليه السلام) مع معاوية: هل هي قضيّة الإسلام مع الجاهليّة بثوب جديد؟ أو هي قضيّة صراع بين شخصين، بين اُسرتين، بين اتجاهين كانا يتحاربان قبل الإسلام واستأنفا الحرب بعد الإسلام؟
كان هاشم مع اُميّة، كان عبد المطلب مع اُمويٍّ آخر، كان محمّد مع أبي سفيان، كان عليٌّ مع معاوية، هل هذه الحرب هي استمراريّة لاتجاهين تاريخيّين وعلاقة تاريخيّة متأخّرة بين هاتين القبيلتين؟
هذا الشكّ بدأ يوجد وينمو في عصر الإمام علي (عليه السلام)، لكن هل المنمّي له هو الإمام علي (عليه السلام) أو سياسة الإمام علي (عليه السلام)؟
بل هو الإرهاق الشعبي، انقطاع النفس، رغبة الشعب، حبّ السلامة.. هذا هو الذي نمّى هذا الشكّ.
عوامل طغيان الشكّ كيفيّاً وكميّاً بعد الإمام علي (عليه السلام):
هذا الشكّ بدأ يشتدّ ويقوى بعد الإمام علي (عليه السلام)؛ فإنّ موت الإمام كان مثيراً لعوامل عديدة، هذه العوامل العديدة أدّت إلى تنمية هذا الشكّ كيفيّاً وكميّاً.العامل الأوّل: الفراغ الذي خلّفه رحيل الإمام علي (عليه السلام):
أوّل هذه العوامل: لحظة الفراغ؛ فالإمام علي (عليه السلام) ملأ المركز السياسي للتجربة، وكان كلّ إنسان في التجربة مشدوداً بواقع حياته إلى الاعتراف بسلطته وشرعيّته وأحقيّته.
ثمّ فُقد الإمام في لحظة مفاجئة من دون سابقِ تمهيدٍ أو إعدادٍ لهذا الخطّ. وهذا الاغتيال الذي أودى بحياة هذا الإمام العظيم أدّى بالمسلمين الذين عاشوا في كنف التجربة التي تزعمّها الإمام علي (عليه السلام) إلى أن يعيشوا لحظة فراغٍ سياسي.
حينما انطفأت الشعلة، حينما خلت الساحة من الإمام، أخذوا يحسّون بأنّهم يفقدون اختيارهم، بأنّهم أصبحوا في مركز لا بدّ لهم فيه من أن يفكّروا من جديدٍ في أنّ أيّ الطريقين لا بدّ أن يختاروا! بينما كانت استمراريّة الحاكم تمنع من أن يشعروا بأنّهم في موقفٍ يتيح لهم التفكير من جديد.
إنّ انطفاء الشعلة وخلوّ الساحة من الإمام القائد (عليه السلام) أدّى بهؤلاء إلى أن أصبحوا يشعرون بأنّهم في موقفٍ جديد، وأنّ عليهم أن يدرسوا قضيّتهم الجديدة، ويدرسوا -على ضوء مصالحهم- الاتجاهَ والسلوكَ الذي يجب أن يُطبَّق بالنسبة إلى مستقبلهم.
العامل الثاني: نظرة الاُمّة إلى كيان الحسن (عليه السلام) بوصفه الكيان الطارئ:
إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) حينما تسلّم مقاليد الحكم كان هناك كيانٌ سياسيٌّ قائمٌ يحكم في العالم الإسلامي، وهذا الكيان يتمثّل في حكم الشام الذي كان يقوده معاوية.
كان هناك كيانان سياسيّان حاكمان في العالم الإسلامي:
أحدهما: يقوده الإمام الحسن (عليه السلام).
والآخر: يقوده معاوية.
وهذا الكيان الذي يقوده معاوية اكتسب في نظر معاوية وأهل الشام شرعيّة ثوب الخلافة بعد التحكيم في أعقاب معركة صفّين. ولهذا أخذ معاوية يعيش مع قاعدته كما يعيش الخليفة مع رعيّته.
والإمام علي (عليه السلام) كان استمراريّة لوجودٍ سياسيٍّ أسبق وخلافة شرعيّة أسبق زمنيّاً من هذا الكيان السياسي القائم بالشام.
لكن بعد أن خلا الميدان من الإمام علي (عليه السلام) وجاء الحسن (عليه السلام) يتسلّم مقاليد الحكم، كان في الذهنيّة العامّة والتصوّر العام للإنسان العادي المسلم بأنّ هناك شيئاً يملأ الفراغ إلى حدّ ما، فلا بدّ من التفكير من جديد؛ لأنّه من اللازم بناء كيانٍ سياسيٍّ جديد، أو الالتحاق بهذا الكيان القائم.
مثل هذا التفكير لم يكن موجوداً في أيّام الإمام علي (عليه السلام)، بل إنّ هذا الكيان السياسي القائم في الشام طرأ في أيّام علي (عليه السلام)، بينما الآن كيان الحسن (عليه السلام) يعتبر في ذهن الإنسان العادي هو الطارئ على الكيان السياسي.
فقد استغلّ معاوية هذه النقطة في كتابه إلى الإمام الحسن (عليه السلام) حيث قال ما مضمونه: «قد تمّت الخلافة لي ولزمتك منذ يوم التحكيم، وأنت الآن لا بدّ لك أن تدخل في ما دخل الناس».
معاوية يتكلّم بلغة الخليفة، بينما لم يكن يمكنه أن يتكلّم بلغة الخليفة في عهد عليٍّ (عليه السلام)؛ لأنّه هو الذي شقّ عصا الطاعة عليه (عليه السلام)، فلو تكلّم لم يكن مثل هذا الكلام قادراً على أن يزرع الشكّ قدرةَ كلامه مع الإمام الحسن (عليه السلام) على فعل ذلك.
فهذا العامل الثاني يثير الشكّ في أذهان العاديّين غير الواعين في أنّه: هل من الضروري الحفاظ على هذا الكيان؟ أو هل من الضروري بناء هذا الكيان إلى جانب ذلك الكيان؟ أو بالإمكان الانسحاب من ذلك الكيان؟
العامل الثالث: الاعتبارات الشخصيّة القائمة في أمير المؤمنين (عليه السلام):
العامل الثالث هو الاعتبارات الشخصيّة القائمة في أمير المؤمنين؛ فالإمام الحسن والإمام علي (عليهما السلام) في منطق العصمة سواء، وفي منطق النصّ الإلهي سواء، ولكنّهما في منطق الجماهير وقتئذٍ لم يكونا سواء.
ونحن نعلم بأنّ التجربة والحكم الذي كان يمارسه الإمام علي (عليه السلام) لم يكن قائماً على أساس نصٍّ إلهيٍّ أو على أساس العصمة، وإنّما كان استمراراً لخطّ السقيفة، غاية الأمر أنّ هذه الجماهير التي أخطأت حظّها في المرّة الاُولى وفي المرّة الثانية وفي المرّة الثالثة، أصابت حظّها في المرّة الرابعة. فهذه التجربة كانت تقوم على أساس مفهومٍ جماهيري، لا على أساس نظريّة العصمة والنصّ الإلهي.
وهنا يدخل في تقييم الحاكم اعتبارات كثيرة كانت الجماهير تعيشها؛ فالجماهير كانت تعيش اعتباراتٍ عديدةً عن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، ولا تعيش مثل هذه الاعتبارات عن الإمام الحسن (عليه السلام):
أ- فمن ناحية نجد أنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) سوابقه من أيّام الرسول، صحبته الطويلة، مواقفه العظيمة في الأيّام الاُولى من الإسلام، سلطته الروحيّة والعلميّة في آفاق الصحابة، كلّ هذا يجعل من الإمام علي (عليه السلام) رجلاً عظيماً في أنظار المسلمين، رجلاً أهلاً لِأنْ تُسلَّم إليه مقاليد الاُمور، حتّى في اللحظة الحرجة.
أمّا الإمام الحسن (عليه السلام)، فلصغر سنّه وعدم وجود تاريخٍ مماثلٍ لديه من هذا القبيل لم يكن يملك القدرة على الإخضاع النفسي -على إخضاع المسلمين نفسيّاً- بالشكل الذي كان يتاح للإمام علي (عليه السلام).
بـ- من ناحيةٍ اُخرى، فإنّ البيعة التي حصل عليها الإمام علي (عليه السلام) كانت أوضح شرعيّةً -في نظر الجماهير التي تؤمن باتجاه السقيفة- من بيعة الإمام الحسن (عليه السلام)؛ لأنّ بيعة الإمام علي (عليه السلام) تمّت في المدينة، وتمّت على يد الصحابة، ولم يختلف في ذلك إلّا قليلون، والباقون كلّهم بايعوا الإمام عليّاً (عليه السلام) وكانوا القاعدة الاُولى لبيعته، وكان هناك عددٌ كبير من الصحابة لا يزال موجوداً على المسرح الاجتماعي والسياسي.
كلُّ هذا يعطي لحاكميّة الإمام علي (عليه السلام) البهاء والشرعيّة والقدرة على التأثير والنفوذ والإخضاع لنفوس الآخرين، ومثل هذا لم يكن متوفّراً للإمام الحسن (عليه السلام).
المصادر:
1- نهج البلاغة: 70، الخطبة 27.
2- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 343 :3؛ الفتوح 72 :1.