
الإنسان الذي يفترض أنّ معركة عليٍّ (عليه السلام) مع معاوية هي معركة اُسرة مع اُسرة، معركة عشيرة مع عشيرة، لا معركة رسالة مع رسالة.. الإطار القَبَلي للمعركة، هذا الإطار عزّزه أنّ الحسن (عليه السلام) تولّى الإمامة والخلافة بعد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
طبعاً، هذا التعزيز لم يكن ليوجد لو افترضنا أنّ الجماهير المسلمة كانت واعية، وكانت تعيش نظريّة الإسلام عن الإمام حقيقةً. ولكن، حيث إنّ الجماهير لم تكن واعية، وكانت هي جماهير السقيفة التي قالت: «من ينازعنا سلطان محمّد»(1)
هذه الجماهير كانت تحمل تلك الروح، ولهذا استوحت وتصوّرت أنّ تسلّم الإمام الحسن (عليه السلام) مقاليد الحكم عقيب استشهاد الإمام علي (عليه السلام) قرينةٌ على أنّ القصّة قصّة بيت في مقابل بيت، وليست قصّة رسالة في مقابل رسالة.
والذي منع الإمامَ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) من الإعلان الرسمي والسياسي على مستوى الجماهير عن خلافة الإمام الحسن (عليه السلام) له في المركز السياسي هو تفادي مثل هذا التصوّر. ولهذا أوصى إلى الحواريّين -الذين يؤمنون بالنظريّة الإسلاميّة الصحيحة للإمامة- بإمامة الحسن (عليه السلام)، وعرّفهم بأنّ الحسن (عليه السلام) هو الإمام، وهو الحجّة من قبل الله والوصيّ من بعده«عن سليم بن قيس الهلالي قال: شهدت أمير المؤمنين (عليه السلام) حين أوصى إلى ابنه الحسن وأشهد على وصيّته الحسين ومحمّداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثمّ دفع إليه الكتاب والسلاح» (2)، إلّا أنّه -بوصفه حاكماً ورئيساً للدولة- لم يعلن إعلاناً رسميّاً سياسيّاً أنّ الحسن (عليه السلام) هو الذي يتسلّم الأمر من بعده.
تردّد الاُمّة في سريان الشكّ إلى القائد نفسه:
من عوامل تعمّق الشكّ في نفوس المسلمين هو: أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) -لظروفٍ سوف نشرحها- لم يكن قد تسرّع للإعلان عن عزمه على الحرب مع معاوية والاشتباك المسلّح معه.عدم إعلان الإمام الحسن (عليه السلام) وعدم تسرّعه في الإعلان عن عزمه على الاشتباك المسلّح مع معاوية استغلّه معاوية، وأشاع على أساسه أنّ الحسن (عليه السلام) يفكّر في الصلح«وكان معاوية يدسّ إلى عسكر الحسن من يتحدّث أنّ قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه، ويوجّه إلى عسكر قيس من يتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه» (3).
كانت هذه الإشاعة قائمة على أساس هذه النقطة، وكانت لهذه الإشاعات مساهمة كبيرة جدّاً في توسيع نطاق الشكّ عند المسلمين، وتردّدهم في أن تكون هذه القضيّة التي يحاربون من أجلها قضيّةً يَشُكّ فيها القائد نفسُه.
هذه العوامل الخمسة أدّت إلى توسيع نطاق الشكّ، هذا الشكّ المصطنع بعد وفاة الإمام علي (عليه السلام) في تسلّم الإمام الحسن (عليه السلام) مقاليد الحكم والزعامة
-والذي اشتدّ على أساس هذه العوامل- تحوّل -كما قلنا- كيفيّاً من طاقة سلبيّة إلى طاقة إيجابيّة، وتحوّل كمّيّاً من شكٍّ يعيشه بعض الأفراد والجماعات إلى شكٍّ تعيشه الجماهير في مختلف قطّاعات هذا المجتمع الذي كان يحكمه الإمام الحسن (عليه السلام).
هذا الشكّ يبدو بكلّ وضوح ومنذ اللحظة الاُولى لتسلّم الإمام الحسن (عليه السلام) مقاليد الحكم، أو منذ اللحظة الاُولى التي فجع فيها الإمام (عليه السلام) باستشهاد أبيه إلى اللحظة الأخيرة التي تمّ فيها تسليم الأمر لمعاوية.
في كلّ هذه الفترة القصيرة -منذ اللحظة الاُولى إلى اللحظة الأخيرة- نحن نجد الشواهد تلو الشواهد والدلائل تلو الدلائل على هذا الشكّ -المرير، المتزايد، المتنامي في نفوس الجماهير- في القائد، وفي الاُطروحة، وفي الأهداف، وفي الرسالة.
ظروف بيعة الإمام الحسن (عليه السلام):
الإمام علي (عليه السلام) يستشهد، ويعلن الإمام الحسن (عليه السلام) عن وفاة الإمام العظيم، ولم يعلن عن مسألة الخليفة لتعيين ما يملأ به الفراغ السياسي الذي تركه الإمام علي (عليه السلام)، بل يذهب الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المسجد يؤبّن الإمام عليّاً، يقرّظ أباه وينعاه، وفي هذا التقريظ يحاول أن يدفع الشكّ بقدر ما يمكن لكلماتٍ أن تدفع الشكّ. أراد أن يستعرض صورةً ملخّصةً عن هذا الإمام العظيم الذي خرّ شهيداً في المسجد بين المسلمين، أراد أن يقدّم بين المسلمين صورةً موجزةً عن هذا الرجل النظيف الذي لم يعش لحظةً إلّا لرسالته ولإسلامه.بعد أن ألقى الخطبة التي أراد فيها أن يدفع الشكّ -بقدر ما يمكن لخطبةٍ أن تدفع الشكّ- عن الإمام عليّ (عليه السلام)، بعد هذا وقف ساكتاً يتأمّل ليرى ماذا سيكون ردّ الفعل؟ ماذا يكون موقف المسلمين من هذه اللحظة، من ملء الفراغ، من القضيّة المطروحة الآن؟ وهي قضيّة ملء الفراغ الذي تركه الإمام علي (عليه السلام).. لمن يتوجّه المسلمون الآن؟
كلّ المسلمين سكتوا، لم يقم أحد، لم يجب أحد، لم يُبرِز أحدٌ شيئاً، هؤلاء المسلمون المجتمعون في المسجد، هؤلاء هم الاُمناء على التجربة، هم أصحاب علي، هم قادة هذا المجتمع، هم الطليعة التي كان بها يصول وبها يكافح وبها يجاهد هذا الإمامُ العظيم، كلّهم سكتوا، لم يجب أحد، لم يقل أحدٌ شيئاً أبداً.
قام ابن عمّه عبدالله بن عبّاس فقدّم اُطروحة خلافة الإمام: قال بأنّ عليّاً (عليه السلام) إن كان قد ذهب فهناك ابنه الحسن (عليه السلام) سوف يواصل طريقه، سوف يسير في خطّه، سوف يحمل اللواء، سوف نسير في كنفه.
حينما قدّم هذا الشعار أو هذه الاُطروحة بدؤوا: شخصٌ يقوم من زاوية المسجد، وشخصٌ من زاوية اُخرى، وهكذا.. فاستجابوا مع هذا الشعار وبويع الإمام (عليه السلام)(4).
لماذا قَبِل الإمام الحسن (عليه السلام) بأنْ يُبايَع في ظلّ تنامي مرض الشكّ؟
وهنا قد يقول القائل: إنّ الإمام الحسن لماذا قبل أن يبايَع وهو يشعر بهذا الشكّ المتزايد المتنامي؟ هذا الشكّ الذي يُعجز القيادة عن إنجاح أهدافها والوصول إلى أغراضها. لماذا وافق أن يبايَع وأن يتسلّم زمام الحكم في لحظةٍ يائسة؟
والجواب: أنّه لو لم يقبل بذلك، لو أنّه رفض أن يبايَع، لو أنّه لم يتسلّم مقاليد الحكم بعد الإمام علي (عليه السلام)، لقيل بأنّ هذا الشكّ الذي يعيشه المسلمون يتسرّب إلى نفس القادة أنفسهم، إلى الحسن (عليه السلام) نفسه، وبأنّ الحسن (عليه السلام) أصبح يعيش هذا الشكّ في صحّة هذه المعركة، في ضرورة هذه المعركة، في أهميّة هذه المعركة، فكان لا بدّ لكي يثبت الإمام الحسن (عليه السلام) أنّ القادة لا يزالون يؤمنون بقضيّتهم واُطروحتهم على المستوى الذي كانوا يؤمنون به من الساعة الاُولى أن يبادر ويقبل البيعة التي عرضها المسلمون وقتئذٍ، ويتحمّل المسؤوليّة، مسؤوليّة الحكم.
وهكذا كان، تحمّل (عليه الصلاة والسلام) مسؤوليّة الحكم بالرغم من هذا الشكّ؛ لأجل أن لا يُتّهم القائد بأنّه أيضاً بدأ يشكّ.
الحسن (عليه السلام) يعتزم تأخير المعركة بهدف التفرّغ للقضاء على الشكّ:
أنا اُقدّر وأظنّ أنّ الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) حينما تسلّم مسؤوليّة الحكم كان عازماً على أن لا يُسرع في خوض معركة مسلّحة مع معاوية بن أبي سفيان، كان يودّ أن تؤجّل المعركة المسلّحة إلى أمدٍ طويل؛ وذلك لكي يصفّي -أو لكي يحاول أن يصفّي- هذا الشكّ في الداخل، لكي يتفرّغ للظروف الداخليّة وللمجتمع الذي يحكمه، ويحاول أن يخفّف من حدّة هذا الشكّ، ويقضي على بعض منابعه، ويعالج بعض أسبابه، وينعش من جديد نفسيّة الفرد المسلم في داخل هذا المجتمع، حتّى إذا استطاع في نهاية الشوط أن يكسب درجةً معقولةً من الاقتناع بالقضيّة والاُطروحة، حينئذٍ يبدأ معركته المسلّحة مع معاوية بنأبي سفيان، وهذا هو الذي جعله لا يعلن عزمه على الحرب منذ اللحظة الاُولى.جاءه بعض خواصّه، طلبوا منه الإعلان السريع عن الحرب، والسفر السريع إلى ميدان القتال قبل أن يتقدّم معاوية، وقبل أن يخرج معاوية من بلاده. إلّا أنّه (عليه الصلاة والسلام) رفض ذلك «وإذا بكتاب عبدالله بن عبّاس قد ورد عليه من البصرة وإذا فيه: لعبد الله الحسن أمير المؤمنين من عبدالله بن عبّاس: أمّا بعد، يا ابن رسول الله! فإنّ المسلمين ولّوك أمرهم بعد أبيك رضي الله عنه، وقد أنكروا أمر قعودك عن معاوية وطلبك لحقّك، فشمّر للحرب وجاهد عدوّك» (5)، وكان رفضه مرتبطاً -على ما أظنّ- ارتباطاً وثيقاً بالظروف النفسيّة التي يعيشها المجتمع الإسلامي الذي يحكمه وقتئذٍ.
كانت هذه الظروف النفسيّة بحاجة إلى علاج أكثر ممّا هي بحاجة إلى حرب، بحاجة إلى توعية أكثر ممّا هي بحاجةٍ إلى قتال، بحاجة إلى إعطاء فرصة جديدة لكي يدرسوا من جديد الاُطروحةَ ونبلَها وأهدافَها وخيراتِها وبركاتِها قبل أن يكلَّفوا بقتال جديد. ولهذا تمهَّل الإمام الحسن (عليه السلام) وتريّث في موضوع القتال، إلّا أنّ معاوية بن أبي سفيان لم يتمهّل ولم يتريّث.
معاوية يدخل الحرب ولا يوفّر خياراته الاُخرى:
معاوية بن أبي سفيان بعد مقتل الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) بشهرٍ أو أقلّ أو شهرين أو ثلاثة -على اختلاف التقادير في الروايات «وأقام الحسن بن علي بعد أبيه شهرين، وقيل: أربعة أشهر... وأقبل معاوية لمّا انتهى إليه الخبر بقتل علي، فسار إلى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً» (6)- خرج مع جيشٍ ليغزو العراق.معاوية بن أبي سفيان طبعاً كان يقدّر -بفهمه للظروف وقتئذٍ- أنّ الظروف مؤاتية -باعتبار ما خلّفه الإمام علي من فراغات سياسيّة ونفسيّة وفكريّة- لأنْ يوقع ضرراً كبيراً بالمجتمع الذي يحكمه عليٌّ، وأن يحقّق مكسباً سياسيّاً جديداً له، وقد يمكن ارتفاع هذا المكسب إلى درجة تصفية المعركة نهائيّاً.
إلّا أنّه -مع هذا- لم يكن عند معاوية فكرةٌ كاملةٌ عن كلّ الظروف النفسيّة والأبعاد التي يعيشها المجتمع الإسلامي الذي يحكمه الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام).
ولهذا، في نفس الوقت الذي تهيّأ فيه للمعركة المسلّحة كان يحاول -إلى جانب المعركة المسلّحة- أن يستخدم الوسائل الاُخرى التي بإمكانه أن ينتصر بها على عدوّه.
المصادر:
1- الإمامة والسياسة 25 :1، 29؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 220 :3.
2- الكافي 297 :1، الحديث 1؛ معاني الأخبار: 306، الحديث 1.
3- تاريخ اليعقوبي 214:2؛ وانظر كذلك: مقاتل الطالبيّين: 73.
4- مقاتل الطالبيّين: 62؛ الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 7 :2 - 9؛ شرح نهج البلاغة 30 :16. وفي الأوّل: «ابن عبّاس»، وفي الثاني والثالث: «عبدالله بن العبّاس»، غير أنّ في: صلح الحسن (عليه السلام): 58 نقلاً عن (شرح نهج البلاغة ط.ق 11 :4): «عبيد الله بن العبّاس»؛ باعتبار أنّ عبدالله بن العبّاس لم يكن بالكوفة يومئذٍ. وفي: الحدائق الورديّة في مناقب الأئمّة الزيديّة 1:166 أنّ القائل: «قيس بن سعد بن عبادة».
5- الفتوح 283:4؛ «قال جندب: ..قلت له: إنّ الرجل سائرٌ إليك، فابدأ أنت بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله» مقاتل الطالبيّين: 68.
6- تاريخ اليعقوبي 214 :2.