ظروف خلافة الامام الحسن عليه السلام

كان لا بدّ للإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) وهو يدرس أفضل الطرق من أن يدخل في حسابه كلّ اعتباراته وكلّ جوانب وجوده؛ لأنّ الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) كان يتمثّل فيه عدّة اعتبارات:
Tuesday, July 18, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
ظروف خلافة الامام الحسن عليه السلام
ظروف خلافة الامام الحسن عليه السلام



 

كان لا بدّ للإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) وهو يدرس أفضل الطرق من أن يدخل في حسابه كلّ اعتباراته وكلّ جوانب وجوده؛ لأنّ الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) كان يتمثّل فيه عدّة اعتبارات:
فقد كان هو الأمين على الصيغة الإسلاميّة الكاملة على الحياة بوصفها خطّاً فكريّاً وروحيّاً يجب أن يعيش، ويجب أن يستقطب بالتدريج، ويجب أن يمتدّ إلى أكبر قدرٍ ممكنٍ من القلوب والنفوس والعقول.
وكان من ناحية اُخرى الأمينَ على التجربة، يعني: الأمين على كيانٍ جسّد تلك الصيغة الإسلاميّة الكاملة. هذا الكيان الذي أنشأه الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) واستأنف به حياة رسول الله وعصر رسول الله، هذا الكيان خلّفه الإمام عليٌّ ليتزعّمه الإمام الحسن، فكان الإمام الحسن بالاعتبار الثاني أميناً على الواقع الحيّ الذي جسّد تلك الصيغة الإسلاميّة الكاملة.
أي: هو أمينٌ على النظريّة والتطبيق معاً، أمينٌ ووريثٌ للمفهوم والخطّ، ولتجسيد هذا الخطّ في واقع الحياة.
وكان هناك اعتبارٌ ثالثٌ من الاعتبارات التي يمثّلها الإمام الحسن (عليه أفضل الصلاة والسلام): فهو أمينٌ على كتلة، هذه الكتلة هي التي نسمّيها اليوم بـ-(الشيعة)، هذه الكتلة هي الجانب أو الجزء الذي آمن بنظريّة الإسلام في عليٍّ وفي إمامة عليٍّ وفي خطّ أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)...
هذه الكتلة التي وضع الرسول (صلّى الله عليه وآله) بذورها، ثمّ نمّاها الإمام علي، خصوصاً على عهد خلافته، وأخذها الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) ليتسلّم زعامتها وقيادتها ككتلة يجب أن تنمو على مرّ الزمن، وتشكّل الطليعة الواعية القادرة على قيادة المسلمين ككلّ في مستقبلٍ قريبٍ أو بعيد.

خروج الاعتبار العاطفي غير الرسالي عن حسابات الإمام الحسن (عليه السلام):

هذه اعتبارات ثلاثة كان يمثّلها جميعاً هذا الإمامُ الشابّ(عليه أفضل الصلاة والسلام)، فكان لا بدّ حينما يدرس أفضل الطريقين -طريق التضحية والموت، أو طريق تجميد الخطّ والحركة إلى وقتٍ ما- أن يدرس ذلك على أساس هذه الاعتبارات الثلاثة، دون أن يَدخُلَ إلى جانب هذه الاعتبارات الثلاثة اعتبارٌ رابعٌ يُطلق عليه عادةً أيُّ اسمٍ من الأسماء العاطفيّة أو الخُلُقيّة التي لا ترتبط بمصالح الرسالة، من قبيل أن يقال: «إباء الضيم»، «عدم الاستعداد لمصافحة الأعداء»، «الشعور بالعزّة».
كلّ هذه المشاعر هي اعتبارات عاطفيّة يجب أن لا تأخذ طريقها إلى قلب الإنسان الحقّ الذي يريد دائماً أن يرسم طريقه على أساس الاعتبارات الرساليّة.
فإباء الضيم مثلاً الذي ينسب عادةً إلى الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، هذا الإباء يجب أن يراد به حينما ينسب إلى إمامٍ حقٍّ كالإمام الحسين أو الإمام الحسن: إباءُ هذا الإمام عن أن تُنتَهَك حرمةُ الرسالة، وعن أن تُذَلَّ الرسالة، وعن أن تفقد الرسالة مكسباً كان بالإمكان أن يتحقّق بالنسبة إلى هذه الرسالة.
أمّا المفهوم العاطفي لإباء الضيم فهو مفهومٌ جاهليٌّ لا يقرّه الإسلام؛ فإنّ إباء الضيم حيث تقتضي الرسالة من الرسالي أن يُمتحن بتحمّل هذا الضيم، مثل هذا الإباء يكون موقفاً لا رساليّاً ولا إنسانيّاً. كما إنّ العكس صحيح.
فأيّ اعتبارٍ عاطفيٍّ أو خُلُقيٍّ غيرُ نابعٍ من واقع الرسالة وقِيَمها وأهدافها يجب أن لا يدخل في حساب الإنسان الحقّ. وأيّ إنسانٍ حقٍّ أحقُّ بهذا الوصف من هؤلاء القادة الذين اؤتمنوا على أشرف رسالات السماء؟!
وهذا ليس مجرّد مفهوم تاريخي، وإنّما أيضاً يجب أن يكون قاعدةً لعمل كلّ واحدٍ منّا، كلّ إنسانٍ يريد أن يسير على خطّ هؤلاء القادة (عليهم الصلاة والسلام) يجب -في بداية دراسة كلّ نقطةٍ من نقاط سلوكه على مفترق الطريق- أن يدرُسَ سلوكه واختياره على مفترق الطريق على أساس اعتبارات الرسالة، لا على أساس نوعٍ من العواطف التي يعيشها الإنسان الاعتيادي بقلبه لا برسالته.
وهكذا، كان أمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) ثلاثة خطوط لا بدّ من أن يدرس موقفه على أساسها:
الاعتبار الأوّل: كونه أميناً على الرسالة، أي على الاُطروحة النظريّة، أي على الصيغة الإسلاميّة الكاملة للحياة، نظريّاً، روحيّاً.
الاعتبار الثاني: كونه أميناً على التجربة السياسيّة التي جسّدت تلك الاُطروحة.
الاعتبار الثالث: كونه أميناً على الكتلة التي بذرها النبي ونمّاها الإمام عليٌّ، وكان من المفروض أن تمتدّ مع تاريخ الإسلام.

أسباب زوال الاقتناع التدريجي بالصيغة الإسلاميّة للحياة:

أمّا على الاعتبار الأوّل من هذه الاعتبارات الثلاثة -يعني: بوصفه أميناً على الاُطروحة النظريّة، على الصيغة الإسلاميّة للحياة بوصفها خطّاً يجب أن يعيش في عقول وأرواح ونفوس المسلمين- فقد كانت أقسى المفارقات هذه المفارقةُ التي تبيّناها في ما سبق‏؛ حينما رأينا أنّ هذه الصيغة الإسلاميّة الكاملة للحياة كان وصولها إلى درجة الحكم وممارستها للحكم -بنفسه وبصورةٍ غير مباشرةٍ - السببَ في زوال الاقتناع بها من قبل القواعد الشعبيّة بالتدريج، لا لأنّ وصولها إلى الحكم كشّف‏ عن وجهٍ منحرفٍ، عن سلوكٍ غير منطبقٍ على النظريّة، غير منسجمٍ مع قيمها وأهدافها، بل لأنّ القاعدة الشعبيّة التي وصل على أكتافها قائدُ هذه النظريّة إلى الحكم لم تكن تستطيع أن تعيش حياة الكفاح والجهاد إلّا إلى مرحلة قصيرة من الزمن.
ولهذا، حينما مارس الإمام العظيم أبو الأئمّة (عليه أفضل الصلاة والسلام) تطبيقَ نظريّته على كلّ مستويات الحياة الإسلاميّة -اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وخُلُقيّاً أيضاً- بدأت المتاعب والمصائب، وبدأ الناس يشكّون؛ لأنّهم بدؤوا يُرهَقون بتكاليف هذه النظريّة، وبهذا زال الاقتناع بالتدريج بصحّةهذه النظريّة.
وكان لا بدّ للنظريّة -لكي تعيش في الاُمّة الإسلاميّة- من أن تسترجع هذا الاقتناع بأيّ ثمن، كان لا بدّ لها أن تسترجع هذا الاقتناع بكلّ ثمن، وكان ثمن استرجاع هذا الاقتناع هو أن ينحسر هذا الحكم الذي يمثّل هذه الاُطروحة، وأن يُخلى الميدان لحكمٍ آخر مثّله معاوية بن أبي سفيان، ومثّلته كلُّ القوى المتبقّية من السقيفة وقتئذٍ. كان لا بدّ لذلك الحكم من أن يبرز على الميدان، من أن يظهر؛ ليُبدِيَ وليُبرِزَ واقعَ مضمونه وحقيقة أهدافه وكلَّ أبعاده، وحينئذٍ تسترجع الاُطروحة اقتناع المسلمين بها وبصحّتها وضرورتها.

النظريّات الصالحة وشبهة القدر المحتوم:

هنا قد يبدو سؤال: أنّه هل هناك قَدَرٌ لازمٌ على كلّ نظريّة صالحة أنّها حينما تأخذ مجراها في التطبيق تفقد اقتناع قواعدها الشعبيّة بها بالتدريج؟! وحينئذٍ تبدأ من جديد، مضطرّةً إلى التخلّي عن الحكم؛ لتفسح المجال لآخرين ليمارسوا الحكم على أساس نظريّة اُخرى باطلةٍ كافرة، حتّى يكون ذلك منبّهاً للمسلمين إلى صحّة النظريّة الاُولى؟!
هل هذا قَدَر مفروضٌ على النظريّة الإسلاميّة دائماً؟ أنّها تدخل إلى الحياة فتقود وتحكم، ثمّ سرعان ما تهزم، وسرعان ما تضطرّ إلى الانسحاب، لكي تسترجع مرّةً اُخرى الاقتناعَ الذي فقدته خلال التطبيق؟

هل هذا قَدَرٌ لازمٌ على النظريّة الإسلاميّة؟

لا، هذا ليس قَدَراً لازماً على النظريّة الإسلاميّة، وإنّما كان هذا قَدَراً لازماً على النظريّة الإسلاميّة في الظروف الموضوعيّة الخاصّة التي تفتّق عنها حكم الإمام علي (عليه أفضل الصلاة والسلام)؛ ذلك لأنّ الإمام عليّاً حينما حكم، وحينما جاء ليمارس تطبيق هذه النظريّة كاملةً غير منقوصة، جاء معتمداً على شعبٍ لم يتفاعل معه ساعة، لم يعش معه يوماً، لم يصرف معه في سبيل إعداده لهذه النظريّة جهداً.
الشعب الذي قام بحماية هذا التطبيق وشكّل الجيش المحارب للإمام علي كان شعب العراق. وبالرغم من أنّ شعب العراق وقتئذٍ كان يبدو من أكثر شعوب الاُمّة الإسلاميّة إخلاصاً للإمام علي -ولهذا نادى أهل العراق بالإمام عليٍّ خليفتهم‏ (من كتاب عبد الله بن عبّاس إلى عمرو بن العاص: «فإنّ أهل العراق بايعوا عليّاً وهو خيرٌ منهم، وأهل الشام بايعوا معاوية وهم خيرٌ منه»)(1).
إلّا أنّ استجابة هذا الشعب واستجابة قطّاعات اُخرى مصريّة وفي الجزيرة العربيّة للإمام علي (عليه الصلاة والسلام) كانت استجابةً على أساس الرصيد الضخم الذي كان يتمتّع به الإمامُ علي، على أساس هذا النوع من التاريخ الكبير الذي كان يعيشه الإمامُ عليٌّ في أذهان المسلمين.
المسلمون حينما عاشوا محنة انحراف عثمان، ثمّ بعد هذا محنةَ مقتل عثمان، وحينما وجدوا أمامهم مشاكل كبيرةً فوق الحلّ من الإنسان الاعتيادي، اتّجهوا بأنظارهم -بطبيعتهم- إلى صحابيٍّ كبير، اتّجهوا ليفتّشوا عن صحابيٍّ كبيرٍ يستطيع -بما يحمل من تراث محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)- أن يتغلّب على هذه المشاكل الكبيرة، ويملأ هذا الفراغ الكبير، ويعيد الاُمور إلى وضعها الطبيعي. فكان أن وقع اختيار المسلمين بطبيعتهم على الإمام علي؛ لأنّه كان أبرز صحابيٍّ على المسرح السياسي، يتمتّع بما لا يتمتّع به أيّ صحابيٍّ آخر من سوابق وفضل وشهرة.
إذاً، فالاستجابة منذ البدء كانت استجابةً عاطفيّة قائمةً على أساس الشهرة لا على أساس التفاعل، على أساس التقديس الذاتي لا على أساس التربية المباشرة من قبل الإمام لهذه القواعد الشعبيّة.
ومن الطبيعي أن تكون هذه الاستجابة العاطفيّة القائمة على أساس الشهرة وعلى أساس السوابق وعلى أساس الفضل استجابةً ذات شوطٍ قصير، ذات موجةٍ قصيرةٍ، ثمّ تبدأ بالذوبان، تبدأ بعد هذا بالتميّع حينما تصطدم بما تصطدم به أعباءُ الجهاد من المصالح الشخصيّة للأفراد.
أمّا حينما تجي‏ء النظريّة الإسلاميّة إلى الحياة على أعقاب تفاعلٍ واسع النطاق مع جزءٍ كبير من الاُمّة، حينما تجي‏ء ويكون هناك جزءٌ كبيرٌ من الاُمّة مقتنعاً بهذه النظريّة اقتناعاً واعياً مدبِّراً صحيحاً، في مثل تلك الحالة سوف لن تحتاج هذه النظريّة مرّةً اُخرى إلى أن تتنازل عن الحكم لكي تكتسب الاقتناع. الاقتناع العاطفي هو الذي يتبخّر خلال غبار الجهاد، أمّا الاقتناع الواعي فهو الذي يتعمّق ويترسّخ خلال غبار الجهاد.
على أيّ حال، كانت الظروف الموضوعيّة وقتئذٍ تفرض هذا التلاشي وهذا الانحسار في الاقتناع حتّى فَقَد خطُّ عليٍّ وفقدت النظريّة الإسلاميّة الكاملة الصحيحة اقتناعَ المسلمين بها.
وحينما فقدت هذا الاقتناع كان لا بدّ لها من أن تسترجعه، وكان لا بدّ لكي تسترجعه من أن تفسح المجال لأعدائها لكي يعبّروا عن ذاتهم وعن نفسهم؛ لكي يقول معاوية بكلّ وضوح وبكلّ صراحة على المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين في تطبيق الحكم: يصعد على ذلك المنبر ويقول : «إنّي حاربتكم لا لكي تصلّوا وتصوموا ، وإنّما لكي أتأمّر عليكم‏، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لذلك كارهون»(«إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك. وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون»)(2).
الخيارات المتاحة أمام الحسن (عليه السلام) لسحب خطّ الإمام علي (عليه السلام) مؤقّتاً:
إلّا أنّ انحسارَ حكم الإمام عليٍّ وإعطاءَ الفرصة لمعاوية أو للأعداء لكي يمارسوا وجودهم على المسرح كان يمكن أن يتمّ بشكلين، كان يُمكن أن يتمّ باختيار أيِ‏ واحد من الطريقين اللذين وقف الإمام الحسن على مفترقهما:
1- الخيار الأوّل: مواصلة المحنة العسكريّة:
كان يمكن أن يتمّ بأن يواصل الإمام الحسن محنته العسكريّة حتّى يخرّ صريعاً في ميدان الجهاد، وحينئذٍ يفسح المجال لمعاوية بن أبي سفيان لكي يعيش وجوده كحاكم في العالم الإسلامي.
2- الخيار الثاني: تجميد الحركة وإيقاف العمل:
وكان يمكن أيضاً أن يتحقّق ذلك بتجميد حركته وإيقاف العمل ضدّ معاوية بن أبي سفيان.
كان يمكن أن يتحقّق هذا بأيٍ‏ من هذين الاُسلوبين.
الفوارق الأساسيّة بين موقِفَي الحسنين (عليهما السلام) على ضوء الاعتبارات الثلاثة:
ومن هنا قد يقفز إلى الذهن هذا السؤال: أنّه لماذا لم يختر الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) الطريق الأوّل من هذين الطريقين بعد أن كان كلٌّ من هذين الطريقين محقِّقاً لحاجة الرسالة في الانسحاب مؤقّتاً لكي تكتسب الاقتناع؟
ويزداد هذا السؤال جولاناً في الذهن حينما يُقارَن موقف الحسن (عليه الصلاة والسلام) بموقف الإمام الثالث (عليه أفضل الصلاة والسلام) حينما وقف بين الطريقين، فاختار أن يخرّ صريعاً بدلاً عن أن يوقف العمل ولو مؤقّتاً.
إنّ فرقاً أساسيّاً كبيراً بين موقف الحسن (عليه الصلاة والسلام) وموقف الإمام الحسين. وسوف نتبيّن هذا الفرق على مستوى الاعتبارات الثلاثة التي سوف ندرس على أساسها موقف الحسن (عليه الصلاة والسلام).
على كلّ واحدٍ من هذه الاعتبارات الثلاثة يبدو هناك فرقٌ كبيرٌ بين موقف الحسن وموقف الحسين، بين الظروف الموضوعيّة لموقف الإمام الحسن والظروف الموضوعيّة لموقف الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام):
1- الفرق بين موقفي الحسنين (عليهما السلام) على ضوء الاعتبار الأوّل:
أمّا على هذا الاعتبار الذي نحن نعالجه الآن -على مستوى الرسالة- فهناك فرقٌ كبيرٌ حتّم على الإمام الحسين أن يختار الطريق الأوّل، ولم يكن هناك هذا المحتِّم بالنسبة إلى الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)، بل كان ما يحتّم الطريق الثاني على أساس الاعتبارات الاُخرى.
الأمر الذي كان يحتّم على الإمام الحسين أن يختار الطريق الأوّل -وهو أن يواصل حتّى يخرّ صريعاً- هو أنّ الاُمّة وقتئذٍ لم تكن تعيش حالة الشكّ، بل كانت تعيش حالة موت الإرادة، وفرق بين المرضين:
أ- الإمام الحسن (عليه السلام) يواجه مرض الشكّ:
أنّ الاُمّة كانت تشكّ، كانت قد فقدت ثقتها وإيمانها واعتقادها برساليّة الاُطروحة، بموضوعيّة الاُطروحة، بإلهيّة دوافع هذه الاُطروحة، كانت قد فقدت هذا الإيمان حينما اصطدم الحسن مع معاوية بن أبي سفيان.
وفي مثل هذا الحال لو خرّ الإمام الحسن صريعاً، لو واصل الإمام الحسن الحرب حتّى يخرَّ صريعاً لمَا حقّق شيئاً من المكاسب العظيمة التي حقّقها الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)؛ لأنّه حينما يخرّ صريعاً في الميدان والاُمّة تشكّ في دوافعه، تشكّ في نظافة رسالته، تشكّ في صحّة موقفه، تشكّ في إلهيّة اُطروحته، حينما يخرّ صريعاً والاُمّة تشكّ في كلّ هذا، سوف لن يفعل هذا الدم الطاهر الذي يسكب على الأرض ما فعله الدم الطاهر الذي‏( سكب على أرض كربلاء، سوف لن يحرّك ضميراً في الاُمّة، سوف لن يغيّر شيئاً من الأوضاع الحقيقيّة للاُمّة.
عبدالله بن الزبير أيضاً كان له موقفٌ في وجه جيش عبد الملك‏بن‏مروان، كان له موقف أيضاً يعتبر -بالمقاييس الشخصيّة، وبقطع النظر عن الرسالة- موقفاً بطوليّاً. واصل الحرب إلى أن خرّ صريعاً في الميدان، إلى أن قُتل، وقُتل معه كلّ أهله وكلّ ذويه القادرين على حمل السلاح تقريبا.
إلّا أنّه مع هذا، ماذا خلّف عبدالله بن الزبير؟ ماذا ترك في ضمير الاُمّة؟ ماذا حرّك من نفوس المسلمين؟ هل استطاع عبدالله بن الزبير بدمه أن يحقّق المكسب الذي حقّقه الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)؟ لا.
عثمان بن عفّان واصل الحكم، واصل التجربة، كلّما قال له أعداؤه:
«استقل، تنحَّ عن الحكم»، قال: «لا أنزع ثوباً ألبسني الله إيّاه»، حتّى قتل وهو يعلم أنّه لو تنحّى عن الحكم لما قتل.
إذاً، كان موقفاً شجاعاً من عثمان بن عفّان حينما واصل الحكم إلى أن قتل، يعني: بذل دمه في سبيل الحكم، بذل نفسه في سبيل الحكم. لكن، هل كان هناك إنسانٌ يتجاوب مع مثل هذه الشجاعة؟ هل استطاعت هذه الشجاعة الفاجرة الكافرة أن تهزَّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة أو أن تحرّك شيئاً من أوضاع المسلمين؟
لا، لماذا؟ لأنّ عبدالله بن الزبير، أو لأنّ عثمان بن عفّان، أو لأنّ أيّ شخصٍ آخر من هذا القبيل كان يحارب وكان يقاتل لنفسه لا للاُمّة، وكانت الاُمّة -على أقلّ تقدير- تشكّ في هذا، وتحتمل هذا.. كانت على أقلّ تقدير تشكّ في أنّ عبدالله بن الزبير هل كان يقاتل لنفسه؟ هل كان قد استسلم للموت لأنّه أبى الضيم، لأنّه أبى أن يطأطئ أمام عدوّ؟ أو أنّه واصل القتال لأجل الاُمّة، لأجل المظلومين والبائسين والمضلَّلين الذين كان يحكمهم عبدالملك بن مروان؟
الاُمّة حيث إنّها لم تكن تعيش ذلك الاقتناع بالنسبة إلى عبدالله بن الزبير أو بالنسبة إلى أمثال عبدالله بن الزبير، فلهذا(ذهبت ميتة عبدالله بن الزبير دون أن تخلّف أثراً حقيقيّاً في محتوى الاُمّة النفسي أو الفكري أو الروحي.
وكان مصير مقتل الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) نفس المصير تقريباً لو أنّه واصل القتال، لو اختار الطريق الأوّل من الطريقين والاُمّة هي على الحالة التي شرحناها بالأمس.
والشكّ الذي تحوّل إلى طاقة إيجابيّة ممتدّةٍ في أوسع نطاق، كان هذا الشكّ يجعل المسلمين ينظرون إلى هذه الاستماتة من الإمام الحسن على‏ أنّها استماتة من لونِ استماتة أيّ شخصٍ آخر يأبى الضيم، يأبى أن يطأطئ أمام عدوّه من الناحية العاطفيّة، ولهذا واصل المعركة حتّى قتل... لَما حرّك هذا الدمُ الطاهرُ شيئاً من نفوس المسلمين، ولَما غيّر شيئاً من أوضاعهم النفسيّة والروحيّة.
بـ- الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه مرض موت الإرادة:
بينما الإمام الحسين حينما اختار الطريق الأوّل كانت الاُمّة - أي: كانت القواعد الشعبيّة التي ترتبط بالإمام علي- قد تخلّصت من المرض الأوّل، من مرض الشكّ؛ لأنّ الاُسطورة -اُسطورة معاوية- قد تجلّت بكلّ وضوح؛ لأنّ الجاهليّة التي كان يمثّلها معاوية قد أسفرت عن وجهها على المسرح الاجتماعي والسياسي ورآها الناس، وعلم الناس بأنّ عليّاً (عليه الصلاة والسلام) كان يحارب في معاوية جاهليّةَ الأصنام والأوثان، ولم يكن يحارب في معاوية خصماً قَبَليّاً أو شخصاً معادياً له بالذات.
هذا عرفه المسلمون، يعني: عرفته القواعد الشعبيّة المرتبطة بالإمام، تخلّصت هذه القواعد من المرض الأوّل، لكنّها منيت بالمرض الثاني الذي سوف نتحدّث عنه بعد هذا، يعني في محاضرة اُخرى. هناك منيت بمرض آخر، وهو موت الإرادة، أصبحت الاُمّة الإسلاميّة لا تملك إرادتها.
نعم، هي تعي وتفهم أنّ عليّاً هو طريق الكفاح والجهاد، أنّ عليّاً هو رمز الاُطروحة الصالحة، أنّ حكم عليّ هو المثل الأعلى الذي يجب على المسلمين أن يكافحوا في سبيل تحقيقه، كلّ هذا أصبح واضحاً.. شعار «لا نريد إلّا حكم عليّ» هذا كان يتردّد على ألسنة الثائرين في أكثر الثورات التي وقعت في خطّ أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).
ولكن مع هذا لم يكن هؤلاء يملكون إرادتهم، كانوا قد فقدوا ضميرهم وإرادتهم، كانوا قد استكانوا، كانوا قد هانت عليهم قيمُهُم ومُثُلهم واعتباراتهم، لم يكن الشكّ في الكبرى وقتئذٍ، بل كان العيب في الصغرى، كانت الإرادة قد انطفأت، كانت الشعلة قد ماتت، كانت الدريهمات الصغيرة هي أكبر هموم هذا الإنسان الصغير، هذا الإنسان القزم، ولهذا كان لا بدّ من أن يُحرَّك ضميرُ هذا الإنسان لكي يسترجع إرادته.
قلت في ما سبق‏: إنّ أفضل وأروع تمثيل لفقدان الإرادة قول ذاك للإمام الحسين (عليه السلام): «سيوفهم مع عدوّك وقلوبهم معك»(3).
هذه قمّة فقدان الإرادة.. أن يكون الإنسان حبيباً لك، يحبّك، ولكنّه يحمل السيف عليك، يعني: قلبه لا يستطيع أن يمسك يده عن حمل السيف، هذه قمّة فقدان الإرادة، حينما تبلغ الاُمّة قمّة فقدان الإرادة فلا بدّ لشخص من أن يُرجع إلى الاُمّة إرادتها.
الإمام الحسن بانحساره عن ميدان الحكم وفسح المجال للاُطروحة الاُخرى لكي تبرز بكلّ أبعادها أرجع إلى الاُمّة اقتناعها بموضوعيّة اُطروحة عليّ.
والإمام الحسين بمواصلته الطريق الأوّل حتّى خرّ صريعاً أرجع إلى الاُمّة إرادتها، تنبّه الإنسان المسلم الاعتيادي الذي كان أكبر همّه هو هذه الدريهمات، الذي حوّله بنو اُميّة من إنسان يحمل هموم الأرض شرق الأرض وغرب الأرض، من إنسان يحمل هموم المظلومين والممتحنين في أقصى الأرض‏ إلى إنسان لا يعيش إلّا همّ راتبه الشهري وهمّ مصالحه الشخصيّة، هذا الإنسان الذي تحوّل إلى هذا المسخ هزّه مقتل الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، قال: «أنا الذي لا أتحرّك، أنا الذي أرى الإسلام يُنتَهَك، أرى الشريعة تمزّق، أرى المسلمين تهدر كرامتهم، أرى الآلاف بعد الآلاف يُعذَّبون، يهانون، يُشرَّدون، ثمّ أسكت، وذلك توفيراً، وذلك طمعاً، وذلك حرصاً على حياة رخيصة؟!».
إلّا أنّ هذا الرجل الذي توفّرت له كلّ مُتع الحياة، هذا الرجل الذي هو من أغنى الناس مالاً، من أكثر الناس جاها، هذا الرجل الذي إذا برز إلى المسلمين تسابق عشرات الآلاف من المسلمين إلى تقبيل يديه، هذا الرجل الذي لم يكن جوعاناً لا إلى شهرة ولا إلى مجد ولا إلى مال كان شخصاً منعّماً، كان شخصاً لم يعش أيَّ ظلامة من الظلامات التي عاشها المسلمون؛ لأنّ معاوية لم يكن يحاول أن يمتدّ بظلمه إلى شخص الحسين مثلاً، كان يحاول أن يرفِّهَ على الحسين وأمثال الحسين من السادة الإسلاميّين الكبار.
كان الناس تحت السياط، أمّا الحسين لم يكن تحت السياط، لم ينله سوطٌ واحد من تلك السياط التي نالت ظهورَ الناس، بالرغم من هذا خرج الحسين نفسه، بذل دمه في سبيل اُولئك الذين هم تحت السياط، والذين لم يفكّر واحد منهم في أن يبذل دمه في سبيل الآخرين الذين يشاركونه في أنّهم تحت السياط.
من هنا تحرّك الضمير الإسلامي، من هنا تحرّكت الإرادة في نفوس المسلمين، من هنا فجّر الإمام الحسين الثورة في يوم عاشوراء، وبقيت الثورة متفجّرةً على تعاقب، إلى أن طاح عرشُ بني اُميّة.
إذاً، فكان هناك فرقٌ موضوعيٌّ كبير بين الظرف الذي عاشه الإمام الحسن والظرف الذي سوف يعيشه بعد عشرين عاماً الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام). كان هناك فرق في نوعيّة مرض الاُمّة: مرض الاُمّة في المرحلة الاُولى كان هو الشكّ، وأمّا مرض الاُمّة في المرحلة الثانية كان هو فقدان الإرادة.
وكان لا بدّ للمرض الثاني أن يختار الطريق الأوّل، بينما المرض الأوّل لَمّا كان هو الشكّ، فلم يكن اختيار الطريق الأوّل في ظلّ مرضٍ من هذا القبيل يحقّق ذلك المكسب الذي حقّقه اختيار الطريق الأوّل من قبل الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام).
إذاً، فعلى أساس الاعتبار الأوّل من الاعتبارات الثلاثة التي كان يمثّلها الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) بوصفه أميناً على النظريّة، على التراث الفكري، على الإسلام بوصفه خطّاً يجب أن يمتدّ مع الأجيال روحيّاً وذهنيّاً، بهذا الاعتبار كان لا بدّ أن يكسب الاقتناع بهذا الخطّ.
هذا الاقتناع توقّف على أن ينحسر، فكان لا بدّ أن ينحسر، لا بدّ أن يُخْلي الميدان لعدوّه، وكان يُمكن أن يتحقّق‏ هذا الإخلاء بأحد طريقين: إمّا بأن يواصل حتّى يخرّ صريعاً في ميدان المعركة، وإمّا أن يوقّف‏، وكان الطريق الأوّل سلبيّاً تجاه المكاسب التي حقّقها الإمام الحسين حينما سلك نفس هذا الطريق.
هذا كلّه على الاعتبار الأوّل.
2- الفرق بين موقِفَي الحسنين (عليهما السلام) على ضوء الاعتبار الثاني:
وأمّا الاعتبار الثاني من اعتبارات الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)، وهو اعتباره بوصفه أميناً على التجربة، أميناً على الواقع السياسي الحيّ الذي كان يجسّد تلك الصيغة الإسلاميّة الكاملة للحياة.. فبوصفه أميناً على هذه التجربة كان لا بدّ أن يدرس موقفه أيضاً ليختار أحد هذين الطريقين.
أصبح واضحاً على ضوء ما سبق‏ أنّ التجربة كان من المستحيل أن تبقى وأن تواصل وجودها، كان من المستحيل افتراض النصر في هذه المعركة -الذي هو معنى بقاء التجربة- ومواصلة وجودها؛ لأنّ أيّ تجربةٍ باُطروحةٍ رساليّة تعيش مستوىً أكبر من مستوى مصالح هذا الفرد بالذات وهذا الفرد بالذات لا يمكن أن تواصل وجودها، ولن يمكن في ما يأتي من الزمان أن تواصل وجودها إلّا إذا كانت قد حظيت‏ باقتناع كبير واسع النطاق في قواعد شعبيّة قادرةٍ على أن تحمي هذه التجربة، وأن تُسنِد هذه التجربة، وأن تضحّي بدمها في سبيل هذه التجربة.
أمّا حينما تفقد التجربة هذا الاقتناع، حينما تصبح حالة الاقتناع‏ بالنسبة إليها صفراً، تصبح هذه التجربة مشلولةً عن العمل، غير قادرةٍ على الدفاع عن ذاتها ونفسها؛ لأنّها بِمَ تستهوي الناس؟ هل تستهوي الناس بالمصالح الخاصّة؟ هذا خروج عن مضمونها الحقيقي.
نعم، كان بالإمكان أن يستهوي الإمام الحسن الناس عن طريق مصالحهم الخاصّة، كان بإمكان الحسن أن يدخل المداخل التي دخلها معاوية، أن يشتري ضمائر الناس، أن يكتب إلى رؤساء الشام كما كتب معاوية إلى رؤساء العراق، أن يخدع، أن يماطل، أن يقوم بتوزيع الأموال على غير الأساس الإسلامي الصحيح.. إلّا أنّ هذا خروج عن المضمون الحقيقي للنظريّة.
إذاً، فكان يتوقّف بقاء التجربة -ويتوقّف بقاء كلّ تجربةٍ رساليةٍ طاهرةٍ نظيفة- على أن يوجد هناك مؤمنون بنظافتها، مؤمنون بطهارتها، مؤمنون بضرورتها، مستعدّون للدفاع عنها.
وحيث إنّ هذا الاقتناع زال في ظروف الشكّ التي شرحناها، فلهذا كان محتّماً ومقضيّاً على هذه‏ التجربة أن تنتهي.
ولكن هل تنتهي بأنْ يواصل الإمام الحسن الطريق الأوّل، يواصل الكفاح والجهاد حتّى يخرّ صريعاً في مسكَن أو في المدائن؟ أو تنتهي بطريقٍ آخر؟
كان لا بدّ من أن تدرس مصلحة هذه التجربة أيضاً في تحديد أحد هذين الطريقين.
الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) في هذا أيضاً نجد أنّه يختلف اختلافاً كبيراً عن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام):
الإمام الحسين لم يكن قائداً لتجربةٍ سياسيّة قائمةٍ بالفعل، لم يكن رئيساً لدولة قائمة بالفعل، لم يكن أميناً على حكم قائم بالفعل، وإنّما كان شخصاً مستضعفاً ومضطهداً في الأرض، لم يكن معه إلّا ثلّة من أصحابه.
أمّا الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) فقد كان يمثّل جبهةً سياسيّة قائمةً بالفعل، إلّا أنّ هذه الجبهة بالرغم من ضخامتها المظهريّة، بالرغم من تخوّف معاوية منها، بالرغم من أنّ معاوية بقي يفضّل مئة مرّةٍ أن‏ يدخل إلى ساحة هذه الجبهة عن طريق الحيلة على أن‏يدخلها عن طريق السيف؛ لأنّه كان يقدّر، كان يشكّ، كان يحتمل أن تكون الجبهة ملغّمة عليه إلى حدٍّ ما، هذه الجبهة بالرغم من ضخامتها المظهريّة كانت منكوبةً من الداخل، كانت فراغاً من الداخل.
إلّا أنّ هذه الضخامة المظهريّة لهذه التجربة كانت تعطي فرصة للإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) أن يدخل مع معاوية بن أبي سفيان في تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من المكسب لهذه التجربة، ولأهداف هذه التجربة، ولرسالة هذه التجربة.
لم يكن هناك بالإمكان أن يدخل الحسين في تحقيق مكاسب عن طريق المفاوضة السياسيّة مع يزيد والحسين شخصٌ عاديٌّ من أفراد المسلمين، بينما كان بإمكان الإمام الحسن وهو يتزعّم جبهةً مخيفةً لمعاوية من هذا القبيل لا تزال حتّى الآن تذكّر معاوية بسيوف ليلة الهرير(4)، هذه الجبهة التي كانت تذكّر معاويةَ بسيوف ليلة الهرير كان بإمكان زعيمها أن يفرض على معاوية بعض التنازلات في مقابل إيقاف العمل مؤقّتاً.
وهكذا كان، يعني: كان من الأفضل بالنسبة إلى مصلحة هذه التجربة أن توقَف وأن تنحسر -مع ضمان رجوعها ولو رسميّاً وقانونيّاً- على أن تنتهي انتهاءً كاملاً باستمرار القتال واستشهاد الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام).
كان هناك طريقان:
أ- إمّا أن يواصل الإمام الحسن الجهاد والكفاح، فيقتل دون قيد أو شرط؛ لأنّه يعلم أنّ التجربة مقضيٌّ عليها بالفناء. وسواءٌ علم معاوية بذلك أو لم يعلم، فالإمام الحسن -الذي يعيش الأوضاع الداخليّة لمجتمعه- هو أعلم بهذا، وأدرى به، ولهذا كان معنى المواصلة أن يُقتل. ومعنى أن يقتل: أن تنتهي التجربة دون أن يكون هناك أيُّ أساسٍ -يعني أيّ أساسٍ قانوني، أقصد: شرعي- لإمكانيّة رجوعها بعد هذا.
بـ- وإمّا أن يدخل الإمام الحسن عن طريق هذه الهيبة المظهريّة لهذه الجبهة، أن يدخل في حديثٍ مع معاوية لاستبقاء ما يمكن استبقاؤه من مكاسب هذه التجربة.
وقد اختار الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) الطريق الثاني، وكان لا بدّ لكلّ إنسان يعيش ظروف الإمام الحسن أن يختار الطريق الثاني، إلّا إذا ركبته تلك الاعتبارات العاطفيّة التي ذكرناها في بداية الحديث، إنّها لا تدخل في حساب الإنسان الحقّ‏.
ولهذا، الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) اشترط لمعاوية على نفسه أن ينسحب عن ميدان الحكم، ولم ينصّ هذا الشرط على نوعٍ من البيعة والتبعيّة السياسيّة الصريحة في الروايات الصحيحة الواردة عنه (عليه أفضل الصلاة والسلام). لا يوجد في الروايات الصحيحة الواردة عن الإمام الحسن أنّه اشترط لمعاوية على نفسه البيعة والتبعيّة السياسيّة بالمعنى الذي كان موجوداً لعليٍّ (عليه الصلاة والسلام) بالنسبة إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان‏، وإنّما كان هناك إيقافٌ للعمل، إيقافٌ للمعركة وللقتال.
وفي مقابل هذا الإيقاف كان هناك شي‏ء، كان هناك تعهّدات اشترطها على معاوية، بعض هذه التعهّدات ترجع إلى الكتلة، وهذا هو الاعتبار الثالث الذي سوف نتكلّم عنه في ما بعد، وبعضها ترجع إلى التجربة، يعني ترجع إلى الحكم وإلى الكيان السياسي.
وأهمّ هذه التعهّدات: أنّه اشترط على معاوية أن لا يوصي إلى أحدٍ غير الإمام الحسن بالأمر من بعده‏. وفي روايةٍ اُخرى: أن يوصي إلى الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام).
وبهذا كان الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) يريد أن ينحسر عن الحكم لكي يكسب اقتناع المسلمين بصحّة الاُطروحة، ثمّ لكي يضع أساساً جديداً، يمكن للاُطروحة على هذا الأساس الجديد أن تحوز مرّةً اُخرى على الميدان
السياسي، وتصارع على أساس هذا الحقّ المكتسب من ناحية هذا الشرط.
أنّه كانت هناك شكوك، يعني بعض أسباب الشكوك كانت في شرعيّة خلافة الإمام الحسن بالنحو الذي شرحنا، وكان هذا الشرط يقضي على كلّ شكٍّ -في نظريّة الجماهير عن الحكم- في صحّة خلافة الإمام الحسن.
لو أنّ معاوية قد اُصيب بسكتة تامّة بعد هذا الشرط بشهر أو بشهرين وانتهى أمره لاسترجع بذلك الإمام الحسن في ذهنيّة الجماهير كلّ المبرّرات الشرعية لأنْ يحكم ولأن يُستَخلَف.
فكان معنى هذا الاختيار تجميد التجربة مؤقّتاً، ووضع قاعدة شرعيّة وقانونيّة يمكن على أساسها مواصلةُ الكفاح والجهاد بعد هذا لإرجاعها إلى مستوى الحياة، إلى مسرح الحياة، بعد أن تكون قد استرجعت الاقتناع المطلوب بها من القواعد الشعبيّة التي فقدت الاقتناع في ظلّ الظروف السابقة.
إذاً، فعلى أساس الاعتبار الثاني أيضاً نجد أنّ هذا الاعتبار الثاني كان يحتّم على هذا الإمام القائد الممتحن (عليه أفضل الصلاة والسلام) أن يفضّل الطريق الثاني على الطريق الأوّل، بينما الإمام الحسين لم يكن يوجد لديه مثل هذا الاعتبار لكي يدرس طريقَيْه على أساس هذا الاعتبار.
3- الفرق بين موقِفَي الحسنين (عليهما السلام) على ضوء الاعتبار الثالث:
الاعتبار الثالث هو اعتباره زعيماً للكتلة. الوقت انتهى‏، فلأختصر الاعتبار الثالث، وأنا تعبت.
إنّ الاعتبار الثالث من اعتبارات الإمام الحسن هو اعتباره بوصفه أميناً على الكتلة التي وضع بذورَها النبيُّ ونمّاها الإمامُ علي. هذه الكتلة التي تمثّل الجزء الواعي من الاُمّة الإسلاميّة التي تسمّى اليوم بـ-(الشيعة)، والتي كان من المفروض أن تكون طليعة الاُمّة الإسلاميّة على مرّ التاريخ، تحمل إلى الأجيال الإسلام بكامل صيغته ومضمونه.
هذا الاعتبار الثالث أيضاً كان لا بدّ من إدخاله في الحساب حينما يُدرَسُ أفضلُ الطريقين: الطريق الأوّل أو الطريق الثاني.
وفي هذا المجال كان يبدو -حينما تدرس المسألة على هذا الضوء الجديد- أنّ هناك أيضاً فرقاً كبيراً بين الإمام الحسن والإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام). الإمام الحسين كان مشاركاً للإمام الحسن في هذا الاعتبار؛ لأنّ الإمام الحسين كان هو الزعيم الثالث لهذه الكتلة، كان هو الأمين على هذه الكتلة في مرحلته كما كان الإمام الحسن هو الأمين على هذه الكتلة في مرحلته، إلّا أنّ بينهما فرقاً.
وحاصل هذا الفرق: أنّ الإمام الحسن كان يستقطب كلّ هذه الكتلة، بينما الإمام الحسين لم يكن يستقطب كلّ هذه الكتلة، الإمام الحسن كان يحارب وهو رئيس دولة، كان يحارب وهذه الكتلة داخلة ضمن إطار دولته، ولم يكن من المعقول أن يحارب رئيسُ دولةٍ وأن يواصل الحرب إلّا بأن تستنفد هذه الحرب كلّ قواه وكلَّ طاقاته، وكلَّ رصيده الشعبي الموجود في الدولة حتّى يخرّ صريعاً.
الإمام الحسين لم يخرّ صريعاً إلّا بعد أن استنفدت كلّ قواه الصغيرة المتمثّلة في تلك المجموعة الطاهرة، حتّى خرّ الأطفال‏ صرعى، ثمّ خرّ الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) صريعاً.
فكيف برئيس دولة يريد أن يواصل الحرب إلى الموت؟
كان لا بدّ لكي يواصل الحرب إلى الموت من أن يعتصر كلّ طاقات قواعده الشعبيّة، وكلّ ما يملك من حول وطَول في هذه القواعد الشعبيّة. وكان معنى هذا أنّه سوف لن يبقى هناك وجودٌ إسلاميٌّ قادرٌ على أن يسترجع ذلك الاقتناع الذي فُقِد، ذلك الاقتناع بالاُطروحة.
ذلك الاقتناع بالاُطروحة إلى من رجع؟
رجع إلى حجر بن عدي وأمثال حجر بن عدي: هؤلاء هم أوّل من بدأ يقتنع بعد أن شكّ -لو قلنا بأنّ حجراً شكّ‏، أنا على سبيل المثال أقول بأنّ حجراً شكّ‏- ، يعني هؤلاء الأشخاص الذين عاشوا ظلم معاوية وقتلوا بسيف معاوية، هؤلاء هم أوّل جزءٍ من القاعدة الشعبيّة الذين رجع إليهم الاقتناع، وعن طريق دمهم وعن طريق إيمانهم وعن طريق اقتناعهم سرى هذا الاقتناع إلى الآخرين، وسرى هذا الاقتناع عبر الأجيال، وسرى إلينا؛ فكنّا شيعةً بفضل هذا الاقتناع، وبفضل هذه الدماء، وبفضل هذا الإصرار المستميت من هؤلاء الأوائل (عليهم السلام) على اُطروحتهم وعقيدتهم.
لو أنّ هذا الجزء الذي كان فيه استعدادٌ لأنْ يرجع إلى الاقتناع بنحوٍ أفضل، لو أنّ ذاك الجزء الأكثر ضآلةً الذي كان لا يزال حتّى الفعل مقتنعاً إلى حدٍّ ما، لو أنّ هذه الأجزاء الصغيرة التي كانت إمّا مقتنعةً بالقوّة أو مقتنعة بالفعل بدرجاتٍ ضئيلةٍ، لو أنّ الإمام الحسن كان قد أهدر كلّ هذه الأجزاء، قد أعطى كلّ هذه الأجزاء، إذاً لكان بهذا يعطي كلّ إمكانيّات استرجاع هذا الاقتناع للاُمّة الإسلاميّة.
فكان لا بدّ للإمام الحسن -حفاظاً على قاعدة يمكن أن يرجع على أساسها الاقتناعُ بالاُطروحة في يوم ما، ويمكن أن تسترجع اعتقادها الراسخ بأنّ خطّ عليٍّ هو خطّ الإسلام استرجاعاً يدفعها إلى بذل الدم، واسترخاص الروح في هذا السبيل- من أن يفكّر في الحفاظ على أجزاء وعلى قطّاعاتٍ من هذه القاعدة الشعبيّة. وهذا هو الذي كان يعبّر عنه بحقن الدماء، وكان يعبّر عنه بحفظ الشيعة، ونحو ذلك من التعابير.
بينما الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) اُخذ في معزلٍ، اُخذ واستشهد معه صفوةٌ من خيرة خلق الله، إلّا أنّ هذه الصفوة لم تكن تستوعب كلّ القواعد الشعبيّة الواعية.
ولهذا عقيب شهادته (سلام الله عليه) بدأت ثورة التوّابين‏(5)، ثمّ بدأت الثورات تترى من قبل اُناسٍ كان يتزعّمهم عددٌ كبيرٌ من الشيعة الواعين والمؤمنين بأهداف الحسين (عليه الصلاة والسلام).

ملخّص القول:

ملخّص القول: أنّه كان لا بدّ للإمام الحسن أن يدرس موقفه على أساس هذه الاعتبارات الثلاثة، وكان لا بدّ أن لا يُدخل في حسابه أيَّ اعتبارٍ آخر غير هذه الاعتبارات الثلاثة.
وقد رأينا أنّ هذه الاعتبارات الثلاثة -بمجموعها ككلّ- تشير إلى تعيين الطريق الثاني، ولا يشير شي‏ءٌ منها إلى تعيين الطريق الأوّل. فكان لا بدّ من اختيار الطريق الثاني بدلاً عن الطريق الأوّل مهما كان هذا الطريق قاسياً وصعباً، ومهما كان فيه أقسى ألوان التحدّي للنفس البشريّة الاعتياديّة التي لم تَعْتَد منطق الحقّ وسلوك الحقّ في كلّ سلوكها وتصوّراتها وأفكارها ومشاعرها،
إلّا أنّ هذا الشابَّ العظيم الذي كان يمثّل الدور الحقّ في كلّ آناته وخلجاته لم يتردّد لحظةً ولم يتأمّل لحظةً في أن يتحمّل كلَّ هذا الأذى وكلّ هذا الضيم في سبيل أن يحقّق أقصى درجةٍ ممكنةٍ من المكاسب للاعتبارات الثلاثة، أو أن يبعدها عن أقصى درجةٍ ممكنةٍ من الضرر.
وعلى هذا الأساس، تمّ نوعٌ من إيقاف العمل، جسّده ذلك الموقف المشؤوم في مسجد الكوفة؛ حينما دخل معاوية بن أبي سفيان إلى مسجد الإمام علي (عليه أفضل الصلاة والسلام) وصعد إلى هذا المنبر الذي كان يجسّد آمال المسلمين في حكم الإسلام، إلى هذا المنبر الذي كان يعلوه محمّد (صلّى الله عليه وآله) بوجوده الثاني، وهو عليّ (عليه الصلاة والسلام).
صعد عليه معاوية بن أبي سفيان ليستهين بمُثُلِ هذا المنبر وكرامة هذا المنبر، وليطعن صريحاً ومكشوفاً من فوق هذا المنبر في الشخص الذي كان يعيش فوق هذا المنبر كلَّ هموم المسلمين وكلَّ آلام المسلمين، الذي كان يعيش من فوق هذا المنبر كلَّ قضيّةٍ من قضايا الرسالة، وكلَّ اعتبارٍ من اعتباراتها، هذا الشخص صعد إلى هذا المنبر ليقول للناس بكلّ وقاحة وجرأة وصراحة:
«أنا حاربتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون».
وكان من منطق هذه الجلسة أن يخطب كلا الطرفين، أن يخطب معاوية وأن يخطب الإمام الحسن؛ باعتبارهما الطرفين الملتقيين في هذا المسجد. لكنْ بِمَ يخطب الإمام الحسن في مقابل هذا النوع من الاستهتار؟ في مقابل ضياع‏ الآمال! في مقابل‏ تهدّم كلّ ما كان يفترضه الإنسان المسلم من قِيَم ومُثُل واعتبارات!
ماذا يقول الإمام الحسن؟ وبِمَ يجيب على مثل هذا الاعتداء؟
الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) حينما انتهى معاوية بن أبي سفيان من خطبته‏ قام فقال: «يا معاوية! أنت معاوية وأنا الحسن، وأنت ابن أبي سفيان وأنا ابن علي، وأنت حفيد حرب وأنا حفيد محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وأنت ابن هند وأنا ابن فاطمة، وأنت حفيدُ فلانة وأنا حفيد خديجة، اللهمّ فالعن ألأمنا حسباً»، فقال الناس:«آمين».
المصادر :
1- الفتوح 150 :3 - 151.
2- مقاتل الطالبيّين: 77.
3- المعروف أنّه قولُ الفرزدق، فراجع: الأخبار الطوال: 245؛ مقاتل الطالبيّين: 111؛ دلائل الإمامة: 74؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 386 :5. وقد نسب إلى بشر بن غالب الأسدي (الفتوح 70 :5) ومجمع بن عبدالله العائذي أنساب الأشراف 172 :3؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 405 :5؛ تجارب الاُمم 65 :2؛ الكامل في التاريخ 49 :4.
4- وقعة صفّين: 479؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 42 :5؛ الفتوح 174 :3.
5- أنساب الأشراف 363 :6؛ تاريخ اليعقوبي 257 :2؛ الفتوح 112 :7؛ تجارب الاُمم 107 :2.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.