
الاُمّة حينما تنهزم وتُنتزع منها شخصيّتها وتموت إرادتها تنسج بالتدريج أخلاقيّةً معيّنةً تنسجم مع الهزيمة النفسيّة التي تعيشها بوصفها اُمّة بدون إرادة، اُمّة لا تشعر بكرامتها وشخصيّتها.
بالرغم من وضوح الطريق وجلاء الأهداف وقدرتها على التمييز المنطقي بين الحقّ والباطل، وبالرغم من أنّ اُطروحة معاوية كانت قد تكشّفت كاُطروحةٍ جاهليّةٍ في ثوب الإسلام
وأنّ اُطروحة عليّ (عليه الصلاة والسلام) كان قد اتّضح أنّها التعبير الأصيل عن الإسلام في معركة ثانية مع الجاهليّة، بالرغم من وضوح كلّ ذلك بعد الهدنة التي أعلنها الإمام الحسن (عليه السلام)، بدأت الاُمّة -نتيجةً لفقدان إرادتها- تنسج أخلاقيّةً معيّنةً تنسجم مع هزيمتها النفسيّة والروحيّة والأخلاقيّة.
الإمام الحسين (عليه السلام) بين أخلاقيّة الهزيمة وأخلاقيّة الإرادة:
وبهذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) بين أخلاقيّتين: بين أخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة قبل أن تُهزم فعليّاً يوم عاشوراء، وبين الأخلاقيّة الاُخرى التي كان يريد أن يبثّها وأن ينشرها في الاُمّة الإسلاميّة، أخلاقيّة الإرادة والتضحية والعزيمة والكرامة.كان الإمام الحسين (عليه السلام) يواجه تلك الأخلاقيّة التي ترسّخت، ورسّخت من المفاهيم عن العمل و(السلب والإيجاب) و(الإثبات والنفي) ما يشلُّ طاقات التحرّك، وكان يريد أن يغيّر تلك الأخلاقيّة دون أن يستفزّها.
ألف - كان يواجه الأخلاقيّة التي تمثّلت في كلامٍ للأحنف بن قيس حينما وصف المتحرّكين في ركاب الإمام الحسين بأنّهم اُولئك «الذين لا يوقنون»، وبأنّهم اُولئك الأشخاص الذين يتسرّعون قبل أن يتثبّتوا من وضوح الطريق.
هذا المفهوم من الأحنف بن قيس كان يعبّر عن موقف أخلاقيّة الهزيمة من التضحية، وهو أنّ التضحية والإقدام على طريقٍ قد يؤدّي إلى الموت هو نوعٌ من التسرّع وقلّة الأناة، والخروجِ عن العرف المنطقي للسلوك.
هذا المفهوم هو معطى أخلاقيّة الهزيمة، هذا المفهوم الذي تبدّل بعد حركة الحسين (عليه الصلاة والسلام) وحلَ بديله، أي مفهومُ التضحية، الذي على أساسه قامت حركة التوّابين، حركةُ أربعةِ آلافٍ لا يرون لهم هدفاً في طريقهم إلّا التضحية؛ لكي يكفّروا بذلك عن سيّئاتهم وموقفهم السلبي تجاه الإمام الحسين(1).
ب - أخلاقيّة الهزيمة هي هذه الأخلاقيّة التي انعكست في كلام لأخي الحسين عمر الأطرف، حينما قال للإمام الحسين (عليه السلام): «أنْ تبايع يزيد خيرٌ لك من أن تقتل»(2)، من أن تموت.
أخلاقيّة الهزيمة هذه هي التي تبدّلت بعد هذا خلال خطّ حركة الحسين (عليه السلام)، وانعكست في مفهومٍ لعليِّ بن الحسين حينما قال لأبيه: «أوَ لسنا على الحقّ؟»، قال: «بلى»، قال: «إذاً لا نبالي، أوَقعنا على الموت أو وقع الموت علينا»(3).
ج - أخلاقيّة الهزيمة التي كان يواجهها الإمام الحسين (عليه السلام) هي الأخلاقيّة التي انعكست في كلامٍ لمحمّد بن الحنفيّة حينما كان ينصح الإمام الحسين ويقول له:
«إنّ أخشى ما أخشى أن تدخل إلى مصرٍ وبلدٍ من بلاد المسلمين فيختلف عليك المسلمون، فبعضٌ يقفونمعك وبعضٌ يقفون ضدّك، ويقع القتال بين أنصارك وأعدائك، فتكون أضيع الناس دماً، الأفضل من ذلك أن تقف بعيداً عن المعترك، ثمّ تبثّ رسُلك وعيونك في الناس، فإن استجابوا فهو، وإلّا كنت في أمنٍ من عقلك ودينك وفضلك ورجاحتك»(4).
هذه هي أخلاقية الهزيمة التي تحوّلت في ما بعد.. حينما أصبح دمُ الحسين (عليه السلام) -هذا الدم الذي كان يتصوّره محمّد بن الحنفيّة أنّه سوف يكون أضيع دم- مفتاحَ تحريك الاُمّة حينما قال المختار في سجن عبيداللهبنزياد: «إنّي أعرف كلمةً أستطيع بها أن أملك العرب»(5)
هذا الدم الذي كان يتصوّره أنّه أضيع دمٍ أصبحهو مفتاح السلطان والسيطرة على المنطقة كلّها.
د - أخلاقيّة الهزيمة هي الأخلاقيّة التي عبّر عنها الأمير الاُموي يزيدبنمعاوية في رسالةٍ له إلى عبيد الله بن زياد، يقول له في الرسالة: «إنّ آل أبي طالب أسرع ما يكونون إلى سفك الدماء»(6).
هذا التعبير في الواقع هو ظاهرة من ظواهر أخلاقيّة الهزيمة، حينما تبرز أخلاقيّة الهزيمة وتترسّخ وتتعمّق، تتحوّل كلُّ محاولة جدّيّة لمقابلة الظلم والظالمين إلى نوعٍ من السفك والقتل في نظر المثبَّطين والمجمَّدين.
هذه الأخلاقيّة هي التي يريد الإمام الحسين (عليه السلام) أن يحوّلها إلى أخلاقيّة التضحية والإرادة، إلى الأخلاقيّة الإسلاميّة الصحيحة التي تمكّن الإنسان المسلم من أن يقف موقفه الإيجابي والسلبي وفقاً لما تقرّره الشريعة الإسلاميّة إيجاباً وسلباً.
هزُّ ضمير الاُمّة دون استفزاز أخلاقيّة الهزيمة:
وفي عمليّة التحويل هذه كان الإمام الحسين يواجه أدقّ مراحل عمله؛ وذلك لأنّه في نفس الوقت الذي يريد أن يبثّ في جسم الاُمّة وفي ضميرها ووجدانها أخلاقيّةً جديدة، كان يحرص في نفس الوقت على أن لا يخرج خروجاً واضحاً عن الأخلاقيّة التقليديّة التي عاشتها الاُمّة نتيجةً لهزيمتها الروحيّة، كان يحرص على أن لا يخرج بشكلٍ واضحٍ ومثيرٍ عن تلك الأخلاقيّة المحنّطة التي عاشتها الاُمّة.وذلك لأنّه كان يريد أن يخلق وينشئ الأخلاقيّة الجديدة عن طريق هزّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة، ولم يكن بإمكانه أن يهزّ ضمير الاُمّة الإسلاميّة إلّا إذا قام بعملٍ مشروعٍ في نظر هذه الاُمّة الإسلاميّة التي ماتت إرادتها وتغيّرت أخلاقيّتها، والتي أصبحت تعيش هذه المفاهيم التي انعكست في كلمات هؤلاء الذين تحدّثنا عنهم.
كان لا بدّ أن يراعي الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) في سيره وتخطيطه هذه الأخلاقيّة وأن لا يستفزّها؛ لكي يبقى محتفظاً لعمله بطابع المشروعيّة في نظر المسلمين، الذين ماتت أخلاقيّتهم الحقيقيّة وتبدّلت مفاهيمهم عن العمل والسلب والإيجاب.
تخطيط الإمام الحسين (عليه السلام) لعمليّة التحويل:
كان الإمام الحسين (عليه السلام) في الواقع قد اتّخذ منذ البدء موقفاً إيجابيّاً واضحاً صريحاً بينه وبين ربّه، كان قد صمّم منذ اللحظة الاُولى على أن يخوض المعركة مهما كلّفه الأمر على جميع الأحوال والتقادير، وأن يخوضها إلى آخر الشوط وإلى أن يضحّي بآخر قطرةٍ من دمه، كان يفكّر تفكيراً إيجابيّاً مستقلًّا في ذلك، لم يكن يتحرّك نتيجةً لردود فعلٍ من الاُمّة، بل كان هو يحاول أن يخلق ردود الفعل المناسبة لكي يتحرّك.ومن أدلّة ذلك:
ألف- أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) بدأ بنفسه الكتابة إلى زعماء قواعده الشعبيّة في البصرة(7).
نعم، لم يروِ لنا التاريخ أنّه كتب ابتداءً بشكلٍ مكشوفٍ واضحٍ إلى زعماء قواعده الشعبيّة في الكوفة(8)
ولكنّ التاريخ حدّث بأنّه كتب وابتدأ بالحديث والتحريك لقواعده الشعبيّة في البصرة، وأعلن في رسالته لهم أنّه قد قرّر الخروج على سلطان بني اُميّة، قال لهم بأنّ هذا الحقَّ هو حقُّ هذا الخطّ الذي يمثّله هو ويمثّله أخوه وأبوه (عليهم السلام)، إلّا أنّه سكت وسكت أبوه وأخوه حينما كان الكتاب والسنّة تراعى حرمتهما.
أمّا حينما انتهكت حرمة الكتاب وحرمة السنّة، حينما اُميتت السنّة، حينما اُحييت البدع، حينما انتشر الظلم، لا بدّ لي أن أتحرّك، ولا بدّ لي أن اُغيّر، ولا بدّ لكم أن تحقّقوا في هذا الموقف درجة تفاعلكم مع رسالتكم. قال ذلك بوضوح، وطلب منهم بشكلٍ ابتدائيٍّ الالتفافَ حول حركته.
وهذا يعني أنّ الإمام الحسين لم يكن في موقفه يعبّر عن مجرّد استجابةٍ لردود فعلٍ عاطفيّةٍ أو منطقيّةٍ في الاُمّة، بل كان هو قد بدأ منذ اللحظة الاُولى في تحريك الاُمّة نحو خطّته وخطّ عمله.
ب - موقفه من والي المدينة(الولید بن عتبة) أيضاً واضحٌ في ذلك، حينما استُدعي من قبل والي المدينة وعرض عليه الوالي في نصف الليل أن يبايع يزيد بن معاوية.
وحينما تكشّف لوالي المدينة أنّ امتناع الحسين (عليه الصلاة والسلام) عن البيعة هو بحسب الحقيقة لون من ألوان الرفض، صرّح بعد هذا الإمامُ الحسينُ بكلّ وضوح عن إيمانه بحقّه في الخلافة، وقال: «نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة»(9).
وكان هذا واضحاً في إعلانه العزمَ والتصميمَ على حركة مسلّحة ضدّ السلطان القائم وقتئذٍ.
هذا التهديد، وتلك الرسالة الابتدائيّة لزعماء قواعده الشعبيّة في البصرة، إلى غير هذا وذاك من القرائن والدلائل.. تعبّر عن أنّ الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) كان يخطّط تخطيطاً ابتدائيّاً لتحريك الاُمّة، وكان قد صمّم على أن يتحرّك مهما كانت الظروف والأحوال.
المصادر :
1- الأخبار الطوال: 288. وانظر: تاريخ اليعقوبي 258 :2، ثورة المختار؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 38 :6، ذكر الخبر عن أمر المختار مع قتلة الحسين بالكوفة.
2- اللهوف على قتلى الطفوف: 26 - 27، وهو عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
3- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 408 :5؛ مقاتل الطالبيّين: 112؛ الكامل في التاريخ 51 :4.
4- (3) تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 341 :5 - 342؛ الفتوح 20 :5.
5- مروج الذهب 73 :3، / الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 324 :1؛ شرح نهج البلاغة 293 :2. / الطبقات الكبرى 286 :1 : 5.
6- نصُّ ابن الأعثم في: الفتوح 10 :5: «أوصاني أن أحدث آل أبي تراب بآل أبي سفيان؛ لأنّهم أنصار الحق وطلّاب العدل»، وفي: مقتل الحسين (عليه السلام) (الخوارزمي) 262 :1 نقلاً عن ابن أعثم: «أوصاني أن أحذَرَ آل أبي تراب وجرأتهم على سفك الدماء»، وربما نقله عن غير (الفتوح).
7- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 357 :5؛ الفتوح 37 :5. وقد تقدّم الحديث عن رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى زعماء البصرة، فراجع: المحاضرة التاسعة عشرة، مشاهد موت الإرادة في المجتمع الحسيني، المشهد الثالث.
8- الأخبار الطوال: 229؛ الإمامة والسياسة 7 :2؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 347 :5.
9- الفتوح 14 :5؛ مثير الأحزان: 24؛ اللهوف على قتلى الطفوف: 22.