إنّ من آيات الله جلّ وعلا النوم في الليل والنهار لاستراحة القوى النفسانيّة وقوّة القوى الطبيعيّة ، كما أشار القرآن الكريم بذلك حيث قال : ( وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) (1)
وكما يظهر من قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ) (2)
وأنّه منّ علينا بأن جعل نومنا ممتدّاً طويلاً ، لما في ذلك لنا من المنفعة والراحة ، فإنّ السبات هو النوم ، أو هو النوم الممتدّ الطويل ، كما قال به بعض (3).
فيخرج الروح من جسم النائم إمّا دائماً فهو الموت ، وإمّا مؤقّتاً فيرجع إلى جسمه بإذن الله. فيسير إمّا إلى ربّ العالمين ، وإمّا أن يكون بين السماء والأرض ، فما رأى في عروجه وسيره يسمّى رؤيا ، فإن كان إلى الله فهو حقّ ، وما كان بين السماء والأرض فهو أضغاث أحلام ، كما أشار بذلك النبيّ وأهل بيته الكرام. وإليك ما روي :
روى الصدوق : بسنده عن عليّ عليهالسلام ، قال : « سألت رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الرجل ينام فيرى الرؤيا ، فربّما كانت حقّاً وربّما كانت باطلاً.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا عليّ ، ما من عبد ينام إلاّ عرج بروحه إلى ربّ العالمين ، فما رأى عند ربّ العالمين فهو حقّ ، ثمّ إذا أمر الله العزيز الجبّار بردّ روحه إلى جسده ، فصارت الروح بين السماء والأرض ، فما رأته فهو أضغاث أحلام » (4).
وعن المسعودي عن أبي جعفر الجواد أنّه نقل عن آبائه صلوات الله عليهم ، قال : « أقبل أمير المؤمنين ومعه أبو محمّد عليهالسلام وسلمان الفارسي ، فدخل المسجد وجلس فيه ، فاجتمع الناس حوله ؛ إذا أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلّم على أمير المؤمنين عليهالسلام وجلس ، ثمّ قال : يا أمير المؤمنين ، إنّي قصدت أن أسألك عن ثلاث مسائل ، إن أخبرتني بهنّ علمت أنّك وصيّ رسول الله حقّاً ، وإن لم تخبرني بهنّ علمت أنّك وهم شرع سواء.
فقال له أمير المؤمنين : سل عمّا بدا لك.
فقال أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه ، وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه ولد الأعمام والأخوال ؟
فالتفت أمير المؤمنين إلى أبي محمّد فقال : يا أبا محمّد ، أجبه.
فقال أبو محمّد : أمّا الإنسان إذا نام فإنّ روحه متعلّقة بالريح ، والريح متعلّقة بالهواء إلى وقت يتحرّك صاحبها إلى اليقظة ، فإذا أذن الله بردّ الروح جذبت تلك الروح الريح ، وجذبت الريح الهواء ، فرجعت الروح إلى مسكتها في البدن ، وإن لم يأذن الله بردّ الروح إلى صاحبها جذبت الهواء الريح ، وجذبت الريح الروح ، فلم ترجع إلى صاحبها إلى أن يببعثه الله تعالى » (5).
وفي المحاسن : عن أبيه ، عن حمزة بن عبدالله ، وعن جميل بن درّاج ، قال « قال أبو عبد الله عليهالسلام : إنّ المؤمنين إذا أخذوا مضاجعهم صعّد الله بأرواحهم إليه ، فمن قضى عليه الموت جعله في رياض الجنّة بنور رحمته ، ونور عزّته ، وإن لم يقدّر عليه الموت بعث بها مع اُمنائه من الملائكة إلى الأبدان التي هي فيها » (6).
قال العلاّمة المجلسي : « إنّ الرؤيا تستند إلى اُمور شتّى :
فمنها : أنّ الروح في حالة النوم في حركة إلى السماء ، إمّا بنفسها ـ بناءً على تجسّمها كما هو الظاهر من الأخبار ـ أو بتعلّقها بجسد مثالي إن قلنا به في حال الحياة أيضاً بأن يكون للروح جسدان : أصلي ومثالي ، يشتدّ تعلّقها في حال اليقظة بهذا الجسد الأصلي ، ويضعف تعلّقها بالآخر .
وينعكس الأمر في حال النوم أو بتوجّهها وإقبالها إلى عالم الأرواح بعد ضعف تعلّقها بالجسد بنفسها من غير جسد مثالي ، وعلى تقدير التجسّم أيضاً يحتمل ذلك كما يومئ إليه بعض الأخبار ، بأن يكون حركتها كناية عن إعراضها عن هذا الجسد وإقبالها إلى عالم آخر ، وتوجّهها إلى نشأة اُخرى ، وبعد حركتها ـ بأي معنى كانت ـ ترى أشياء في الملكوت الأعلى ، وتطالع بعض الألواح التي اُثبتت فيها التقديرات ، فإن كان لها صفاء ولعينها ضياء يرى الأشياء كما اُثبتت ، فلا تحتاج رؤيا إلى تعبير .
وإن اُسدلت على عين قلبه أغطية أرماد التعلّقات الجسمانيّة والشهوات النفسانيّة فيرى الأشياء بصورة شبيهة لها ، كما أنّ ضعيف البصر ومؤف العين يرى الأشياء على غير ما هي عليه ، والمعارف بعلّته يعرف أنّ هذه الصورة المشتبهة التي اشتبهت عليه صورة لأيّ شيء. فهذا شأن المعبّر العارف بداء كلّ شخص وعلّته ، ويمكن أيضاً أن يظهر الله عليه الأشياء في تلك الحالة بصور يناسبها لمصالح كثيرة ، كما أنّ الإنسان قد يرى المال في نوم بصورة حيّة ، وقد يرى الدراهم بصورة عذرة ، ليعرف أنّهما يضرّان ، وهما مستقذران واقعاً ، فينبغي أن يتحرّز عنهما ويجتنبهما.
وقد ترى في الهواء أشياء فهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها ، ويحتمل أن يكون المراد بما يراه في الهواء ما أنسى به من الاُمور المألوفة والشهوات والخيالات الباطلة ، وقد مضى ما يدلّ على هذين النوعين في رواية محمّد بن القاسم ، ورواية معاوية بن عمّار ، وغيرهما.
ومنها : ما هو بسبب إفاضة الله تعالى عليه في منامه ، إمّا بتوسّط الملائكة أو بدونه ، كما يومئ إليه خبر أبي بصير وسعد بن أبي خلف.
ومنها : ما هو بسبب وسواس الشيطان ، واستيلائه عليه بسبب المعاصي التي عملها في اليقظة ، أو الطاعات التي تركها فيها ، أو الكثافات والنجاسات الظاهريّة والباطنيّة التي لوّث نفسه بها.
ومنها : ما هو بسبب ما بقي في ذهنه من الخيالات الواهية ، والاُمور الباطلة ، ويومئ إليه خبر ابن أبي خلف وغيره » (7).
فوائد الرؤيا والمنامات
لا ريب أنّ للرؤيا فوائد كثيرة لا نهتدي إلى كثير منها ؛ لأنّ فيها إشارات غيبيّة قد لا يصل إلى هذه الإشارات أي معبّر ومفسّر ، إلاّ النبيّ والإمام عليهالسلام. وقد أشار إلى بعض الفوائد العلّامة الكبير الشيخ حسين النوري في دار السلام ، فقال رحمهالله :
1 ـ إنّ من تلك الفوائد أنّها طريق إلى الاعتراف الخالص عن شوب الشكّ والريب ، والتصديق الوجداني عن صميم الغيب بمقدّس وجوده جلّ ذكره بما يمكّنه في قلبه ويوجده فيه في المنام ، ويشرح صدره بآرائه آيات عظام يعرفه من سلك فيه ذللاً ، وأدرك منه جملاً ، وهو طريق قويم ، وصراط مستقيم ، لا يحتاج صاحبه إلى ترتيب المقدّمات والنظر في الدلالات.
2 ـ ومنها أنّها تدلّ على صدق الرسل المستلزم لثبوت مرسلها ، وعلى صدق ما أخبروا به من أحوال ما بعد الموت ، وأحواله المستلزم لثبوت رسالتهم.
3 ـ ومنها أنّها طريق لإثبات إمكان الإطّلاع على الغيوب الماضية والغابرة ، ورفع الإستبعاد عن معرفة أولياء الله بها ، وإخبارهم عنها ، ودفع توهّم اختصاص علم ذلك بذاته المقدّسة جلّ وعلا ، وإن كان ذلك بوجه آخر.
4 ـ ومنها أنّها طريق واضح إلى التصديق بنبوّة الأنبياء ، ووصاية الأوصياء ، بما تحدّوا به ، وممّا أخبروا به بأنّ القوم يرونه في المنام فكان كما قالوا.
5 ـ ومنها أنّها طريق إلى معرفة النفس المغايرة للبدن ، المستغنية في كثير من أفعالها عنه ، ومعرفة النفس المغايرة للبدن المستغنية في كثير من أفعالها عنه ، ومعرفة جسد آخر لها يشابه الجسد المحسوس في جميع الجوارح والأعضاء ، وبها يرفع استبعاد بعض منكري الصانع عزّ وجلّ ، وجود غائب منزّه عن جميع العوارض من جهة إنحصار الموجود عندهم فيما يدرك بالحواسّ الظاهرة.
6 ـ ومنها أنّها طريق لتلقّي التكاليف الكليّة ، والنواميس الإلهيّة ، التي بها تنتظم اُمور العباد ممّا يتعلّق بالمعاش والمعاد ، وهو مختصّ بزمرة إصطفاهم الله تعالى للإنباء ، وجعلهم وسائط فيضه ، وأوعية ما ينزل من السماء.
7 ـ ومنها أنّها طريقة إلى معرفة وجود عالم كبير واسع ، مشتمل على نظير جميع ما يوجد في هذا العالم بوجود أصفى وأتمّ وأوفى وأعمّ ، لا يغادر فيه منه شيء حتّى المآكل والمشارب ، والحدائق والكواعب ، والشدائد والمصائب ، وأمثالها من اللذّة والألم ، والمحن والنِعم ، يجدها كلّ أحد بالوجدان ، وربّما يبقى أثرها معه في عالم العيان ، كما حصل لجملة من الأعيان.
8 ـ ومنها أنّها طريق إلى رفع الاستبعاد عمّا ورد في تنعّم أصحاب القبور وتعذيبهم ، ولا يرى في أجسادهم أثر من ذلك ، وربّما يجتمع في مكان واحد من ينعّم أو يعذّب ، ولا يرى نفع أو ضرر من أحدهما إلى الآخر ، وغير ذلك من الشبهات التي ألقاها أبالسة الإنس والجنّ في قلوب الباطلين والضعفاء.
9 ـ ومنها أنّها طريق إلى التصديق الوجداني ، والإيمان بالغيب ، الذي أخبر به النبيّ الصادق الأمين صلىاللهعليهوآله ممّا يجري على ابن آدم بعد حضور أجله من مرارة الموت وغصصه ، والأهوال التي اُعدّت له بعده من المسألة والعذاب والثواب والبعث والحشر والحساب والميزان والصراط والجنّة والنار ، غير ذلك.
10 ـ ومنها أنّها طريق إلى الإطّلاع على حال الأموات الذين انقطعت أخبارهم ، وعميت آثارهم ، وما هم فيه من نضرة النعيم أو مرارة الجحيم ، وفيه فوائد عظيمة أجلّها استدراك ما فات منهم من الطاعات ، وجبران ما عليهم من التبعات ، ممّا حرمه عن نيل المكارم ، وأدخله في مصافّ أهل الجرائم ، وكثيراً ما يخبرون في المنام عن سبب ما هم فيه من الآلام ، وهذه من سعة رحمة الكريم العلاّم.
11 ـ ومنها أنّها طريق إلى معرفة حال نفسه من السعادة والشقاء ، ومقامه عند ربّه في السخط والرضا ، وتصديق جزاء الأعمال الحسنة والقبيحة على طبق ما ورد في الشريعة القويمة ، فتكون حينئذٍ إمّا مبشّرة وجدانيّة ، وداعية ربّانيّة ، أو منذره روحانيّة ، ورادعة إلهيّة.
12 ـ ومنها أنّه مثال للحدث والإنتباه بعده مثال للبعث والنشور ، ودليل على إمكانهما ، مذكّر لهما في كلّ يوم وليلة ، ومنبّه للإنسان من نوم الغفلة.
13 ـ ومنها أنّ به يعرف زوال الدنيا ، وسرعة انقاضائها ، وكثرة تقلّباتها ، وعدم بقاء لذيذها وآلامها.
14 ـ ومنها التهيّؤ والإستعداد لاستقبال الأحداث التي ثبت تعبيرها على الوقوع ، ومحاولة دفع المكروه منها بالعمل المأثور الذي ورد عنه الرؤية المكروهة عملاً بالنصّ المعصومي المصرّح على أنّ الدعاء يردّ القضاء بعدما اُبرم إبراماً » (8).
المصادر :
1- الروم 30 : 23.
2- النبأ 78 : 9.
3- بحار الأنوار : 58 / 156 و 157.
4- بحار الأنوار : 58 / 158.
5- إثبات الوصيّة : 157.
6- المجالس : 178 ، بحار الأنوار : 58 / 165.
7- بحار الأنوار : 58 / 218.
8- بلغة الشيعة الكرام : 11 ، نقلاً عن دار السلام.