
حينما كان الإمام الحسين عليه السلام يُلقي شعارات على هذه الاُمّة الإسلاميّة المهزومة أخلاقيّاً، المهزوزة روحيّاً، المتميّعة نفسيّاً، الفاقدة لإرادتها، حينما كان يلقي شعارات هذا التحرّك على هذه الاُمّة لم يكن في كلّ إلقاءاته صريحاً واضحاً محدّداً؛ وذلك لأنّه كان يجامل تلك الأخلاقيّةَ التي عاشتها الاُمّة الإسلاميّة، أخلاقيّةَ الهزيمة.
وكانت هذه المجاملة جزءاً ضروريّاً من إنجاح الحسين في هدفه؛ لأنّه إذا خرج عن هذه الأخلاقيّة فَقَدْ فَقَدَ بذلك عملُه طابعَ المشروعيّة في نظر اُولئك المسلمين، وبذلك يصبح هذا العمل غير قادر على أن يهزّ ضمير إنسان الاُمّة الإسلاميّة كما كان من المفروض أن يهزّه.
1- الشعار الأوّل: حتميّة القتل:
كان الإمام الحسين يُعترض عليه، ويقال: «لِمَ تخرج؟».. يعترض عليه عبدالله بنالزبير وغيره، فيقول له: بأنّي «أنا اُقتل على كلّ حال، سواءٌ خرجت أو لم أخرج. إنّ بني اُميّة لا يتركونني، ولو كنت في هامة من هذه الهوام لأخرجوني وقتلوني؛ إنّ بني اُميّة يتعقّبوني أينما كنت، فأنا ميّت على أيّ حال، سواءٌ بقيت في مكّة أو خرجت من مكّة، ومن الأفضل أن لا اُقتل في مكّة؛ لكي لا تنتهك بذلك حرمة هذا الحرم الشريف»«والله لأنْ اُقتل خارجاً منها بشبر أحبُّ إليَّ من أن اُقتل داخلاً منها بشبر، وأيمُ الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم، ووالله، ليعتدنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت» (1)، فتراه طرح هذا الشعار.وهذا الشعار -بالرغم من واقعيّته- منسجمٌ مع أخلاقيّة الاُمّة المعاشة أيضاً؛ فأخلاقيّة الهزيمة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة لا تجد منطقاً تنفذ منه للتعبير عن نقد مثل هذا التحرّك من الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)؛ فهو (عليه السلام) يقول: «أنا مقتول على كلّ حال»، والظواهر كلّها تشهد بذلك: الدلائل والأمارات والملابسات تشهد بأنّ بني اُميّة قد صمّموا على قتل الإمام الحسين، ولو عن طريق الاغتيال . في رسالة ابن عبّاس إلى يزيد: «فلستُ بناسٍ إطرادك الحسين بن علي من حرم رسولالله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب» (2) ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.
إذاً، فطرح مثل هذا الشعار لأجل تفسير هذا الموقف كان مناسباً جدّاً مع إقناع أخلاقيّة الهزيمة، مع كونه شعاراً واقعيّاً في نفس الوقت.
2- الشعار الثاني: غيبيّة قرار التحرّك:
يأتي أشخاص آخرون إليه، يعترضون عليه، يقولون: «لِمَ تتحرّك؟». يأتي محمّد بن الحنفيّة ينصحه في أوّل الليل بنصائح عديدة، فيقول له: «أنظر، اُفكّر في ما تقول»، فيذهب محمّد بن الحنفيّة، وفي آخر الليل يسمع بأنّ الإمام الحسين قد تحرّك، يسرع إليه ويأتي، يأخذ براحلته ويقول له: «يا أخي قد وعدتني أن تفكّر»، قال: «نعم، ولكنّي بِتُّ في هذه الليلة فرأيت رسولالله (صلّى الله عليه وآله)، فقال: إنّك مقتول»(3).فتراه (عليه السلام) يجيب بهذا الجواب، يجيب بقرار غيبي من أعلى، وهذا القرار الغيبي الصادر من أعلى لا يمكن لأخلاقيّة الهزيمة أن تنكره ما دام صاحب هذه الأخلاقيّة مؤمناً بالحسين، ومؤمناً برؤيا الحسين.
طبعاً، هو لم يحدّث بهذه الرؤيا عبد الله بن الزبير(4) الذي لم يكن مؤمناً برؤيا الحسين، بل حدّث بذلك محمّد بن الحنفيّة وأمثال محمّد بن الحنفيّة(5).
فهذا شعار آخر كان يطرحه: شعار «حتميّة الموت من أعلى»؛ أنّ هناك قراراً من أعلى يفرض عليه أن يموت، أن يضحّي، أن يغامر، أن يقدم على هذه السفرة التي قد تؤدّي إلى القتل، وهذا الشعار أيضاً كان -بالرغم من واقعيّته- ينسجم مع أخلاقيّة الهزيمة، وهو في نفس الوقت شعارٌ واقعي.
3- الشعار الثالث: ضرورة إجابة دعوات أهل الكوفة:
وكان في مرّةٍ ثالثةٍ يطرح شعاراً ثالثاً: كان يقول للأشخاص الذين يمرّ بهم في طريقه من مكّة إلى العراق، في منازله المتعدّدة حينما كانوا ينصحونه بعدم التوجّه إلى العراق، كان يقول لهم: «إنّي قد تلقّيت من أهالي الكوفة دعوةً للذهاب إليهم، وقد تهيّأت الظروف الموضوعيّة في الكوفة لكي أذهب، ولكي اُقيم حقّاً واُزيل باطلاً»(6).فكان يعكس ويفسّر سفرته على أساس أنّها استجابة وأنّها ردّ فعل، وأنّها تعبير عن إجابةِ طلب، عن أنّ الاُمّة تحرّكت وأرادت، وأنّه قد تمّت الحجّة عليه، ولا بدّ له أن يتحرّك.
الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن في واقعه يقتصر في مرحلته الجهاديّة هذه على أن تطلب منه الاُمّة فيتحرّك، وإلّا لما راسل ابتداءً زعماء قواعده الشعبيّة بالبصرة ويطلب منهم التحرّك، ولكنّه في نفس الوقت كان يعكس هذا الجانب أكثر ممّا يعكس ذلك الجانب؛ لأنّ هذا الجانب أقرب انسجاماً مع أخلاقيّة الهزيمة.
ماذا تقول أخلاقيّة الهزيمة أمام شخص يقول لها: «إنّي قد تلقّيت دعوة، وإنّ ظروف هذه الدعوة ملائمة للجواب والتحرّك نحو الداعي»؟!
وبطبيعة الحال هناك فرقٌ كبيرٌ بين إنسان يتحرّك تحرّكاً ابتدائيّاً وبين إنسانٍ آخر يتحرّك إجابةً لجماهير آمنت به وبقيادته وزعامته:
فهناك تقولُ أخلاقيّة الهزيمة: إنّ هذا متسرّع، وإنّ هذا لا يفكّر في العواقب، وإنّه ألقى بنفسه في المخاطر.
أمّا حينما يكون العمل إجابةً لدعوةٍ من جماهيرَ قد هيّأت كلَّ الأجواء اللازمة لهذه الدعوة، فهذه الأخلاقيّة المهزومة لا تقول عن هذا العمل وهذا التحرّك: إنّه عمل طائش، إنّه عمل صبياني، إنّه عمل غير مدروس.
هذه الشعارات التي طرحها الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) كانت كلّها واقعيّة، وفي نفس الوقت كانت منسجمةً مع أخلاقيّة الاُمّة المهزومة روحيّاً وفكريّاً ونفسيّاً.
4- الشعار الرابع: ضرورة الثورة ضدّ السلطان الجائر:
وكان يطرح أيضاً إلى جانب كلّ هذه الشعارات الشعارَ الواقعيَّ حينما كان يؤكّد على أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: «من رأى سلطاناً جائراً يحكم بغير ما أنزل الله، فلم يغيّر من ذلك السلطان بفعل أو قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله»(7).فكان إلى جانب تلك الشعارات التي يسبغ بها طابع المشروعيّة على عمله في مستوى أخلاقيّة الاُمّة، كان يعطي أيضاً باستمرار ودائماً الشعار الواقعيَّ الحيّ الذي لا بدّ وأن يكون هو الأساس للأخلاقيّة الجديدة التي كان يبنيها في كيان هذه الاُمّة الإسلاميّة.
أساليب تحويل أخلاقيّة الهزيمة إلى أخلاقيّة الإرادة دون استفزازها:
الاُسلوب الأوّل: طرح الشعارات المنسجمة مع أخلاقيّة الهزيمة:
من جملة الأساليب التي اصطنعها (عليه أفضل الصلاة والسلام) للتوفيق بين الأخلاقيّتين، لمجاملة أخلاقيّة الهزيمة لكي يحوّلها بالتدريج إلى أخلاقيّة التضحية: أنّه طرح شعارَ «أن لا يبدأ الآخرين بقتال»(8).هذا الشعار كان قد طرحه أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام)، ولكنّ هناك فرقاً كبيراً بين الشعار الذي طرحه الإمام علي (عليه السلام) وبين الشعار الذي طرحه الإمام الحسين (عليه السلام):
الإمام علي كان رئيس دولة، ورئيس الدولة من المفروض أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتالٍ إلّا إذا بدأه المواطن بشقّ عصا الطاعة والتمرّد عليه والقتال، فكان من المفروض أنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يبدأ عائشة مثلاً بقتال، لا يبدأ الزبير أو طلحة بقتال(9)
لأنّهم مواطنون في دولة ٍهو رئيسها، ومن المفروض أن لا يبدأهم بقتالما لم يخرجوا عن الخطّ، يحاربوا الوضع الشرعي الحاكم في تلك الدولة، فكان شعار «أن لا يبدأ أحداً من المواطنين بقتال» مفهوماً وواضحاً.
أمّا على مستوى حركة الحسين (عليه السلام) -الذي خرج ثائراً على دولة قائمة وسلطان قائم- فليس من المنطقي أن يقال: إنّ شخصاً يثور على سلطان قائمٍ لا يبدأ هذا السلطانَ القائمَ بقتال، ولكنّ هذا الشعار قد طرحه (عليه أفضل الصلاة والسلام) لكي يكون أيضاً منسجماً مع أخلاقيّة الهزيمة التي عاشتها الاُمّة الإسلاميّة، لكي يسبغ على عمله طابع المشروعيّة على مستوى هذه الأخلاقيّة.
ألف - حينما التقى (عليه أفضل الصلاة والسلام) مع طليعة جيش عبيدالله بن زياد بقيادة الحُرّ -وكانت الطليعة عبارة عن ألف جندي(10).
اقترح عليه زهير بن القين أن يبدأهم بقتال، وقال: «إنّ هؤلاء أوهن علينا ممّن يجيء بعدهم، فلنبدأ بقتال هؤلاء، ولنفتح الطريق إلى الكوفة»، قال (عليه الصلاة والسلام): «إنّي لا أبدأهم بقتال»(11).
ب - ومن مصاديق تطبيق هذا الشعار كان وضع مسلم بن عقيل؛ فإنّ مسلم بن عقيل قد ذهب إلى الكوفة رسولاً من قبل الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، إلّا أنّه ذهب في إطار هذا الشعار، وهذا هو الذي يفسّر لنا عدم قيام مسلم بنعقيل بأيّ عمل إيجابي سريع خلال الأحداث التي مرّت به في الكوفة.
قد يخطر على ذهن البعض أنّ مسلم بن عقيل لم يستطع أن يزن الأحداث وأن يقدّر الظروف تقديرها اللازم، وأنّ مسلم بن عقيل كان مدعوّاً إلى نوعٍ من المبادرة لكي يستلم زمام الموقف.
إلّا أنّ هذا التصوّر إنّما ينتج عن تخيّل أنّ مسلم بن عقيل قد ذهب من قبل الإمام الحسين إلى الكوفة والياً، حاكماً، سلطاناً. وليس في نصوص التاريخ أيّ دلالة على ذلك.
الإمام الحسين حينما أرسل مسلم بن عقيل وكتب معه كتاباً لم يكن هناك في الكتاب أدنى إشارة إلى إعطاء مسلم بن عقيل صفة الولاية والحاكميّة والسلطان، وإنّما قال لأهل الكوفة: «إنّي أرسلت ثقتي إليكم من أهل بيتي؛ لكي يستطلع أحوالكم ويتأكّد من إخلاصكم ويكتب إليّ بذلك، فإن كتب إليّ بما جاءت به كتبكم ورسلكم استجبت لدعوتكم وجئتكم»(12).
مسلم بن عقيل كان مكلّفاً في نصِّ هذا الكتاب باستطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة التي راسلت الإمام الحسين (عليه السلام)، ولم يكن مكلّفاً بأزيد من ذلك.
وبالفعل، لم يقم مسلم بأزيد من ذلك، دخل الكوفة، نزل ضيفاً في بيت المختار (رحمة الله عليه)، وبقي في بيت المختار مكشوف الحال يزوره الشيعة ويتجمّعون عنده(13)، فيتحدّث إليهم، ويؤكّد لهم أهداف الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، ويؤكّدون له إخلاصهم واستعدادهم للعمل في تلك الأهداف، حتّى يدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة(14)، حينئذٍ يتوتّر الجوّ ويُغيَّرُ الموقفُ بشكلٍ عام.
مسلم بن عقيل يرى أنّ من المصلحة أن ينتقلَ إلى بيتٍ آخر ويكونَ مكثه في الكوفة سرّيّاً؛ لأنّ عبيد الله بن زياد بدأ عمليّة التعقيب والتفتيش عن مسلم بن عقيل؛ فبينما الوالي السابق كان سلبيّاً، أصبح عبيد الله بن زياد يفكّر في مجابهة هذا التجمّع وبذرة هذا التجمّع.
حينئذٍ انتقل مسلم بن عقيل من بيت المختار إلى بيت هانئ بن عروة(رضوان الله عليه)(15)
وبقي هناك متكتّماً بمكثه، وأخذ الشيعة يزورونه متكتّمين.
وكان ظهور مسلم بن عقيل في اليوم المشهود مع أربعة آلاف، وكان العمل -الذي مارسه حينما ذهب إلى قصر الإمارة مع هذا العدد من الشيعة، وحاول أن يحتلّ قصر الإمارة وأن يسيطر على مقاليد الموقف- خارجَ نطاق التخطيط المتّفق عليه بين مسلم والحسين(16).
كان هذا العمل بملاك الدفاع؛ لأنّ مسلم بن عقيل(رضوان الله عليه) وقع في موقع الدفاع. عبيد الله بن زياد بدأ بالهجوم، أخذ يحاول أن يتعقّب مسلم بن عقيل وأن يقضي على هذه البذرة، فكان مسلم بن عقيل في حالة دفاع، ولم يكن في حالة غزو أو هجوم.
يعني: إنّ الظروف اضطرّته إلى أن يقف موقف المدافع، ولو لم يبدأ بهذه العمليّة إذاً لهجم عليه عبيداللهبن زياد وهجم على شيعته وهم في البيوت. فحينما يحاول عبيد الله بن زياد أن يبدأ بالهجوم، كان على مسلم بن عقيل -لا بمنطق رسالته من قبل الحسين، لا بمنطق الحاكميّة والسلطان والولاية، بل بمنطق الدفاع- أن يبدأ بمثل هذه العمليّة كدفاع عن نفسه وعن قواعده التي التفّت حوله .
اقرؤوا رسالة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) التي بعثها مع قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة، هكذا كان يقول في الرسالة: «إنّي سوف أرد إليكم قريباً، فانكمشوا على أمركم حتّى آتي»(17).
الرسالة واضحة في أنّ الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) لم يكن قد خطّط لمسلمبنعقيل أن يملك الكوفة، وأن يسيطر على الكوفة كحاكم ووالٍ وسلطان، يقول: «انكمشوا في أمركم»، يعني حاولوا أن تحفظوا هذا التجمّع إلى أن آتي، فكان تحويلُ هذا التجمّع إلى مجتمع، إلى سلطان، إلى دولة، كان كلّ هذا موقوفاً على دخول الحسين (عليه الصلاة والسلام)، ولهذا أوصى بأن ينكمشوا في أمرهم.
إذاً، فرسالة مسلم بن عقيل لم تكن إلّا عبارةً عن استطلاع أحوال تلك القواعد الشعبيّة، وتزويد الإمام الحسين بالمعلومات الواضحة المؤكَّدة عن تلك القواعد الشعبيّة، ولم يكن مسلم بن عقيل مكلَّفاً بحرب، وإنّما قام بما قام به في اللحظة الأخيرة كدفاعٍ عن النفس؛ حيث لم يكن هناك طريقٌ آخر للاستمراريّة غير أنْ يتّخذ هذا الموقف الدفاعي.
كلّ هذا يعبّر في الواقع عن شعار عدم الابتداء بالقتال، هذا الشعار الذي كان من المفروض على الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) أن يطرحه لكي يشعر الناسُ جميعاً بأنّ العمليّة عمليّة فوق الشكّ، وأنّها مشروعة حتّى على مستوى تصوّرات الإنسان المسلم المهزوم روحيّاً وأخلاقيّاً.
ونحن إذا لاحظنا الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) في مسيره من مكّة إلى العراق نرى أنّه كان باستمرارٍ يؤكّد على ضرورة مواصلة السير والسفر؛ لأنّه مدعوّ، ولا بدّ له أن يجيب هذه الدعوة.
بلغه في الطريق أنّ مسلم بن عقيل قُتل، ولم يغيّر من موقفه(18)، أي لم يسقط هذا الشعار، بل بقي هذا الشعار مرفوعاً، وهو شعار أنّه مدعوٌّ من قبل الكوفة، ولا بدّ له أن يجيب.
بالرغم من أنّه اطّلع على أنّ مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة قد قتلا، بعد هذا اطّلع على أنّ قيس بن مسهّر الصيداوي قد قتل من قِبَل عبيدالله بن زياد، مع هذا لم يغيّر هذا الشعار، بل بقي يؤكّد أنّه مدعوٌّ من قِبَل أهل الكوفة، ولا بدّ له أن يجيب هذه الدعوة، حتّى التقى مع الحرّ بن يزيد الرياحي.
جاءه الطرمّاح قال له: «الحقْ بالجبل الفلاني، وأنا أجمع لك عشرين ألف شخص من العشيرة الفلانيّة يلتفّون حولك، والله يغنيك بذلك عن الكوفة»، قال (عليه السلام): «بيننا وبين القوم عهدٌ، ولا بدّ لي أن أسير إليهم».
بعد كلّ هذه الدلائل من أهل الكوفة على نكث العهد، مع هذا بقي الإمام الحسين يواصل تأكيده على هذا الشعار.
إذاً، القصّة في الواقع لم تكن قصّة أن يقتنع الحسين، ولم يكن تحرّكه (عليه السلام) بينه وبين نفسه نتيجةً لردّ فعلٍ لطلب قواعده الشعبيّة في الكوفة؛ لأنّه اطّلع في أثناء الطريق على أنّ هذه القواعد الشعبيّة في الكوفة قد خانته، قد قتلت رسوله، قد قتلت ثقته من أهل بيته، ومع هذا كان يواصل السفر إليها.
كان هذا الشعار شعاراً منسجماً مع الأخلاقيّة التي تعيشها الاُمّة الإسلاميّة، وكان لا بدّ له أن يطرح هذا الشعار لكي يسبغ على العمليّة طابع المشروعيّة في نظر اُولئك الذين يحبّون السلامة، اُولئك الذين يرون في التضحية لوناً من ألوان التهوّر واللامعقوليّة وقلّة الأناة.
الاُسلوب الثاني: حشد كلّ المثيرات العاطفيّة في المعركة:
وكان من الأساليب التي اتّخذها أيضاً (عليه أفضل الصلاة والسلام) لكسب هذه الأخلاقيّة ومجاملتها: أنّه حشد في المعركة كلَّ القوى والإمكانيّات.لم يكتفِ (عليه أفضل الصلاة والسلام) بأن يعرّض نفسه للقتل؛ عسى أن تقول أخلاقيّة الهزيمة: إنّ شخصاً حاول أن يطلب سلطاناً فقتل، بل أراد أن يعرّض أولاده وأهله للقتل، ونساءه للسبي.
أراد أن يجمع على نفسه كلّ ما يمكن أن يجتمع على إنسان من مصائب وتضحيات وآلام؛ لأنّ أخلاقيّة الهزيمة مهما شكّكت في مشروعيّة أن يخرج إنسانٌ للقتل، فهي لا تشكّك في أنّ هذا العمل الفظيع الذي قامت به جيوش بني اُميّة، قامت به جيوش الانحراف ضدّ بقيّة النبوّة، لم يكن عملاً صحيحاً على كلّ المقاييس وبكلّ الاعتبارات.
كان لا بدّ للإمام الحسين (عليه السلام) أن يُدخِل في المعركة دمه وأولاده وأطفاله ونساءه وحريمه وكلَّ الاعتبارات العاطفيّة وكلَّ الاعتبارات التاريخيّة، حتّى الآثار التي كانت قد تبقّت من عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتّى العمامة، حتّى السيف.. لبس عمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، تقلّد سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أدخل كلّ هذه المثيرات التاريخيّة والعاطفيّة إلى المعركة؛ وذلك لكي يسدّ على أخلاقيّة الهزيمة كلَّ منفذٍ وكلَّ طريقٍ إلى التعبير عن هزيمتها، وعن نوعٍ من أنواع الاحتجاج على هذا العمل؛ لكي يهزّ بذلك ضمير ذلك الإنسان المسلم المهزوز الذي تميّعت إرادته.
وهكذا كان، فقد استطاع (عليه الصلاة والسلام) بهذا التخطيط الدقيق الرائع أن يهزّ ضمير ذلك الإنسان المسلم.
الدرس الذي نستفيده من التخطيط الحسيني:
ومن هذا التخطيط يمكننا أن نستفيد درساً عامّاً، وحاصل هذا الدرس:إنّ عمليّة التغيير في أخلاقيّة الاُمّة لا يجوز أن تقوم بأيّ مجابهةٍ واضحةٍ للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الاُمّة؛ لأنّ المجابهة الواضحة الصريحة للأخلاقيّة الفاسدة الموجودة في الاُمّة يكون معناها الانعزال عن هذه الاُمّة والانكماش، وعدم القدرة على القيام بعمل مشروع في نظر هذه الاُمّة.
حينما نريد أن ننفذ إلى ضمير الاُمّة التي ماعت أخلاقيّاً، لا بدّ لنا أيضاً -في نفس الوقت الذي نفكّر في إنشاء أخلاقيّتها من جديد- أن نفكّر في عدم مجابهة الأخلاقيّة القائمة بالشكل الذي يعزل هذا الشخص الذي يريد أن يغيّر أخلاقيّة الاُمّة؛ فلا بدّ له أن يفكّر في انتهاج طريقٍ في التغيير يستطيع به أن ينفذ إلى ضمير الاُمّة، وهو لا يمكنه أن ينفذ إلى ضمير الاُمّة إلّا إذا حافظ باستمرارٍ على معقوليّة ومشروعيّة عمله في نظر الاُمّة، كما عمل الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام).
لم يبقَ لدى شخصٍ من أبناء الاُمّة الإسلاميّة أيُّ شكّ في أنّ عمل الإمام الحسين كان عملاً مشروعاً صحيحاً، وأنّ عمل بني اُميّة كان عملاً ظالماً عاتياً جبّاراً.
وهذا الوضوح في الرؤية هو الذي جعل المسلمين يدخلون بالتدريج إلى آفاقٍ جديدةٍ من الأخلاقيّة تختلف عن أخلاقيّة الهزيمة. هذا الوضوح هو الذي هزّ ضمير الإنسان المسلم، وهو الذي يهزّه إلى يومنا هذا.
فليس دم الإمام الحسين (عليه السلام) رخيصاً بدرجة يُكتفى في ثمنه بأن يهتزّ ضمير الإنسان المسلم في عصر واحد، أو في جيل واحد.. لا يمكن أن يكون ثمن دم الإمام الحسين (عليه السلام) أن تتزلزل قواعد بني اُميّة، أو أن يُكشف عن حقيقة بني اُميّة، أو أن تنتعش ضمائر جيل من اُمّة الإسلام..
هذا لا يكفي ثمناً لدم الإمام الحسين الطاهر، بل إنّ ثمن دم الإمام الحسين -الذي هو أغلى دم سُفك في سبيل الإسلام- أن يبقى محرِّكاً، منوِّراً، دافعاً، مطهِّراً، منقِّياً على مرّ التاريخ لكلّ أجيال الاُمّة الإسلاميّة..
لا بدّ وأن يهزّ ضميرَنا وضميرَ كلّ واحدٍ منّا اليوم كما كان يهزّ ضمير المسلمين قبل ثلاثة عشر قرناً..
لا بدّ أن يهزّ ضميرَ كلّ واحدٍ منّا حينما نجابه أيّ موقفٍ من مواقف الإغراء، أو الترغيب، أو الترهيب..
لا بدّ وأن نستشعر تلك التضحية العظيمة حينما نلتفت إلى أنّنا مدعوّون إلى تضحيّةٍ جزئيّةٍ بسيطة، حينما يتطلّب منّا الإسلام لوناً من التضحية وقَدَراً بسيطاً وضئيلاً من التضحية..
لا بدّ وأن نلتفت دائماً إلى ذلك القَدَر العظيم غير المحدود من التضحية الذي قام به الإمام الحسين (عليه السلام) لكي نستصغر.. ولكي يتضاءل أمامنا أيُّ قَدَرٍ نواجهه في حياتنا، ونكلّف أنفسنا بالقيام به في سبيل الإسلام.
إنّ الإسلام اليوم يتطلّب منك قَدَراً قليلاً من التضحية بوقتك، براحتك، بمصالحك الشخصيّة، برغباتك، بشهواتك، في سبيل تعبئة كلّ طاقاتك وإمكانيّاتك وأوقاتك لأجل الرسالة.
أين هذه التضحية من تلك التضحية العظيمة التي قام بها الإمام الحسين (عليه السلام)؟ من تضحيته بآخر قطرةٍ من دمه، بآخر شخصٍ من ذرّيّته، بآخر كرامةٍ من كراماته بحسب مقاييس الإنسان الدنيوي؟!
لا بدّ أن نعيش دائماً هذه التضحية، ونعيش دائماً مدلولَ هذا الدم الطاهر؛ لكي يكون ثمنُ دم الإمام الحسين حيّاً على مرّ التاريخ.
المصادر:
1- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 385:5، 386، 394. وراجع: الفتوح 67 :5؛ الكامل في التاريخ 38 :4.
2- تاريخ اليعقوبي 249 :2.
3- اللهوف على قتلى الطفوف: 64 - 65. .
4- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 383 :5، /الطبقات الكبرى 448 :1 :5؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 338 :5؛ الفتوح 67 :5؛ الكامل في التاريخ 40 :4 - 41؛ البداية والنهاية 163 :8؛ تاريخ الإسلام 9 :5.
5- الفتوح 19 :5؛ مقتل الحسين (عليه السلام) (الخوارزمي) 271 :1.
6- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 406 :5؛ تجارب الاُمم 66 :2؛ الكامل في التاريخ 50 :4.
7- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 403 :5؛ الفتوح 81 :5؛ الكامل في التاريخ 48 :4؛ البداية والنهاية 68 :1.
8- قال (عليه السلام): «فإنّي أكره أن أبدأهم بقتال حتّى يبدؤوا» الأخبار الطوال: 252، وراجع: تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 409 :5؛ الفتوح 81 :5؛ الكامل في التاريخ 52 :4.
9- الإمامة والسياسة 91 :1. / الكامل في التاريخ 293 :3.
10- الأخبار الطوال: 249؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 400 :5؛ الفتوح 76 :5؛ البدء والتاريخ 10 :6.
11- الأخبار الطوال: 252؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 409 :5؛ الفتوح 81 :5؛ الكامل في التاريخ 52 :4.
12- الأخبار الطوال: 230؛ الفتوح 30 :5؛ مقتل الحسين (عليه السلام) (الخوارزمي) 284 :1؛ المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 328 :5.
13- الأخبار الطوال: 231؛ أنساب الأشراف 77 :2؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 355 :5؛ الفتوح 33 :5؛ الكامل في التاريخ 22 :4، وقيل: دار مسلم بن عوسجة الأسدي، فراجع: البداية والنهاية 152 :8.
14- الأخبار الطوال: 232؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 348 :5؛ الفتوح 38 :5؛ مروج الذهب 57 :3.
15- انتقل مسلم إلى دار هانئ بن عروة المرادي، فراجع: الأخبار الطوال: 233؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 348 :5، 362؛ الكامل في التاريخ 25 :4.
16- أنساب الأشراف 80 :2؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 350 :5؛ الفتوح 49 :5؛ البداية والنهاية 154 :8. .
17- الأخبار الطوال: 230؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 395 :5؛ الفتوح 30 :5؛ المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 328 :5.
18- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 395 :5.