
الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) حينما قرّر السفر من المدينة إلى مكّة، أو في النهاية حينما قرّر الهجرة من الحجاز متّجهاً إلى العراق، متّجهاً إلى تسلّم مسؤوليّاته كشخصٍ ثائرٍ حاكمٍ على طواغيت بني اُميّة.. كان يتلقّى من كلّ صوب وحدب النصائح من عقلاء المسلمين -أو مَن يسمّون يومئذٍ بعقلاء المسلمين- الذين يؤثرون التعقّل على التهوّر.. كيف أنّ هؤلاء العقلاء أجمعت كلمتهم على أنّ هذا التصرّف من الإمام الحسين ليس تصرّفاً طبيعيّاً؛ كانوا يخوّفونه بالموت، كانوا يقولون له: «كيف تثور على بني اُميّة وبنو اُميّة بيدهم السلطان، بيدهم الرجال والمال، بيدهم كلّ وسائل الإغراء والترغيب والترهيب؟!».
كانوا يحدّثونه عن النتائج التي وصل إليها الإمام عليٌّ في صراعه مع بني اُميّة، والتي وصل إليها الإمام الحسن في صراعه مع بني اُميّة. كانوا يمنّونه السلامة، كانوا لا يتصوّرون أنّ التضحية يمكن أن تكون بديلاً لحياة بالإمكان الاحتفاظ بأنفاسها مهما كانت هذه الأنفاس، ومهما كانت ملابسات هذه الأنفاس.
هذه النصائح لم يتلقَّها الإمام الحسين من رعاع أو من عوام، وإنّما تلقّاها من سادة المسلمين، من الأشخاص الذين كان بيدهم الحلّ والعقد في المجتمع الإسلامي، تلقّاها من أشخاصٍ من قبيل: عبد الله بن عبّاس(1)، وعبدالله بن عمر بن الخطّاب(2)، وعبد الله بن جعفر الطيّار(3)، ومن قِبَل أخيه محمّد بنالحنفيّة(4)، ومن قِبَل غيرهم من سادة الرأي في المجتمع الإسلامي.
حتّى إنّ عبدالله بن جعفر، عبدالله بن جعفر الذي هو ابن عمّه، الذي هو ابن أخي عليِّ بن أبي طالب، بالرغم من وشائج النسب الوثيق، بالرغم من ارتباطه النَسَبي بالخطّ، بالرغم من هذا كان منهاراً نفسيّاً، إلى الدرجة التي أرسل فيها رسالة إلى الإمام الحسين حينما سمع بعزمه على سرعة الخروج من مكّة: «أنْ انتظر حتّى ألحق بك»، وماذا كان يريد من هذا الانتظار؟
الإمام الحسين لم ينتظره. حينما وصل عبدالله بن جعفر إلى مكّة كان الإمام الشهيد قد خرج من مكّة، ذهب عبد الله بن جعفر رأساً إلى والي بني اُميّة في مكّة، أخذ منه كتاب الأمان للحسين، وذهب بالكتاب إلى الحسين، وهو يرى أنّه قد استطاع بهذا أن يقضي على كلّ مبرّرات خروج الحسين، لماذا يخرج الحسين من مكّة؟ لأنّه خائف في مكّة، وقد جاء الأمان له من سلاطين بني اُميّة(5).
هذه النصائح كانت تعبّر عن نوعٍ من الانهيار النفسي الكامل الذي شمل زعماء المسلمين وسادة المسلمين، فضلاً عن الجماهير التي كانت تعيش هذا الانهيار مضاعفاً في أخلاقها وسلوكها وأطماعها ورغباتها.
هذه السلبيّة والبرود المطلق الذي كان يواجهه الإمام الحسين، أو تواجهه حركة الإمام الحسين، بالرغم من قوّة المثيرات، هذا البرود المطلق -في لحظات ترقّب العطاء الحقيقي، هذا البرود- كان يعبّر عن ذلك الانهيار النفسي على مختلف المستويات.
موقف عبيد الله بن الحرّ الجعفي:
عبيدالله بن الحرّ الجعفي يقصده الحسين (عليه الصلاة والسلام) بنفسه، يقصده إلى خيمته، يتوسّل به على أن يرتبط بهذا الخطّ، يتّصل بهذا الخطّ، وهو أعرف الناس بصحّة هذا الخطّ وصواب هذا الخطّ، فيعزّ عليه أن يقدّم قطرةً من دمه، يعزّ عليه أن يقدّم شيئاً سوى الفرس فقط(6)، لم يستطع أن يذوق طعم التضحية إلّا على مستوى تقديم فرس واحدة فقط.موقف زعماء البصرة
الإمام الحسين يكتب إلى ستّة من زعماء البصرة، يختارهم من اُولئك الذين لهم ارتباطات مع خطّ الإمام علي (عليه الصلاة والسلام).زعماء البصرة على قسمين: زعماء مرتبطون مع خطّ بني اُميّة، مرتبطون مع خطّ عائشة وطلحة والزبير، وزعماء يرتبطون مع خطّ الإمام علي ومدرسة الإمام علي.
يختار الإمام الشهيد ستّةً من الأشخاص الذين يرتبطون بمدرسة الإمام علي ويشعرون بالولاء لمفاهيم هذه المدرسة وشعاراتها وأهدافه، يكتب إليهم، يستنصرهم ويستصرخهم، ويشعرهم بالخطر الداهم الذي تواجهه الاُمّة الإسلاميّة متمثّلاً في كسرويّة وقيصريّة يزيد بن معاوية(7).
فماذا يكون ردّ الفعل لهذه الرسالة؟!
يكون ردّ الفعل إذا استثنينا شخصاً واحداً، وهو يزيد بن مسعود النهشلي الذي كتب مستجيباً، إذا استثنينا هذا الشخص الواحد يكون ردّ الفعل هو البرود المطلق، أو الخيانة.
ألف - يبعث أحدهم برسول الحسين إلى عبيدالله بن زياد، وكان وقتئذٍ والياً على البصرة -صدّقوا: أنّ هذا الشخص الذي قام بهذا العمل هو من شيعة عليِّ بن أبي طالب، لم يكن عثمانيّاً، كان علويّاً، ولكنّه علويٌّ فَقَدَ كلَّ مضمونه، فقد كلَّ معناه، فقد كلّ إرادته-، جاء إلى هذا الرسول، أخذه مع الرسالة إلى عبيد الله بن زياد، لماذا؟ حبّاً في عبيدالله بن زياد؟ لا، إيماناً بخطّ عبيداللهبنزياد؟ لا، لكن حفاظاً على نفسه، ابتعاداً بنفسه عن أقلّ مواطن الخطر، عسى أن يصطلح في يومٍ ما عبيدالله بن زياد.
على أنّ ابن رسول الله كتب إليه يستصرخه، وهو لم يكشف هذه الورقة للسلطة الحاكمة وقتئذٍ لكي لا يُتّخذ هذا نقطة ضعف عليه، لكي يبتعد عن أقلّ نقاط الضعف، لكي يوفّر له كلّ عوامل السلامة، كلّ ضمانات البقاء الذليل.. لكي يوفّر له كلّ ضمانات البقاء الذليل أخذ رسول الإمام، وأخذ الرسالة، وقدّم الرسالة والرسول بين يدي عبيدالله بن زياد، فأمر عبيدالله بن زياد بالرسول فقتل رضوان الله عليه(8).
ب - شخص آخر من هؤلاء الزعماء: الأحنف بن قيس، الذي عاش مع خطّ جهاد الإمام علي، الذي عاش مع حياة الإمام عليّ عن قرب، وتربّى على يديه، ماذا كان جوابه لابن الإمام علي (عليهما السلام)؟!
قال له في رسالة أجاب بها على رسالته، قال له: «وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ»، أمره بالتصبّر والتريّث، وقال له بأنّه لا يستخفّنّك الذين لا يوقنون، معرّضاً بالطلبات التي كان الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) يتلقّاها من شيعته.
كيف تبرّر الاُمّة المهزومة هزيمتها؟
وفي الواقع: إنّ رسالة الأحنف تعبّر في الحقيقة عن أخلاقيّة الاُمّة المهزومة، عن أخلاقيّة الاُمّة في حالة الهزيمة؛ فإنّ الاُمّة في حالة تعرّضها للهزيمة النفسيّة، في حالة فقدانها لإرادتها وعدم شعورها بوجودها كاُمّة، في مثل هذه الحالة تنشأ لديها بالتدريج أخلاقيّة معيّنة هي أخلاقيّة هذه الهزيمة.وأخلاقيّة هذه الهزيمة تصبح قوّة كبيرة جدّاً بيد صانعي هذه الهزيمة لإبقاء هذه الهزيمة وإمرارها وتعميقها وتوسيعها.. يصبح العمل الشجاع تهوّراً، يصبح التفكير في شؤون المسلمين استعجالاً، يصبح الاهتمام بما يقع على الإسلام والمسلمين من مصائب وكوارث -يصبح كلّ هذا الاهتمامُ- نوعاً من الخفّة واللاتعقّل، نوعاً من العجلة وقلّة الأناة، نوعاً من التسرّع في العمل أو التفكير، هذه الأخلاقيّة هي أخلاقيّة الهزيمة التي تصطنعها الاُمّة لكي تبرّر هذه الهزيمة.
حينما تُهزم، حينما تشعر بأنّها قد انتهت مقاومتها، تنسج بالتدريج مفاهيم غير مفاهيمها الاُولى، وقيماً وأهدافاً ومُثُلاً غير القيم والمثل والأهداف التي كانت تتبنّاها في الأوّل، لكي تبرّر -أخلاقيّاً ومنطقيّاً وفكريّاً- الموقف الذي تقفه.
فالإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) في الواقع كان يريد أن يبدّل هذه الأخلاقيّة، كان يريد أن يصنع أخلاقيّةً جديدةً لهذه الاُمّة تنسجم مع القدرة على التحرّك، مع القدرة على الإرادة.
حينما كان يقول: «لا أرى الحياة مع الظالمين إلّا برماً»(9) لم يكن هذا مجرّد شكوى، وإنّما كان هذا عمليّة تغيير لأجل إيجاد -أو لأجل الإرجاع في الواقع، لأجل إرجاع- هذه الأخلاقيّة الاُخرى التي فقدها الأحنف بنقيس، وفقدها كلُّ الناس الذين مشوا مع الأحنف بن قيس. هؤلاء الذين تبدّل عندهم مفهوم: <وليست الحياة="" مع="" الظالمين="" إلّا="" جحيماً="" وشقاءً="">، تبدّل هذا المفهوم إلى مفهوم لزوم الحفاظ على الحياة وعلى النَّفَس الذي يصعد وينزل، مهما كان مضمون هذا النَّفَس، ومهما كانت ملابسات هذا النَّفَس.
كان لا بدّ من صنع هذه الأخلاقيّة الجديدة التي تهزُّ ضمير الاُمّة وتحرّكها وتصنع لها إرادتها من جديد.
مغادرة بني أسد محلّ سكناهم:
حبيب بن مظاهر يستأذن من الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) أن يذهب ويدعو عشيرته بني أسد للالتحاق بخطّ سيّد الشهداء، وكلّ المسلمين يعرفون من هو حبيب بن مظاهر، في مواقفه، في جهاده، في بياض تاريخه، في صفاء سيرته، في ورعه وتقواه.يذهب حبيب بن مظاهر ليطلب العون والمدد من عشيرة بني أسد للإمام (عليه الصلاة والسلام)، وتكون النتيجة لذلك أنّ عشيرة بني أسد تغادر بأجمعها تلك الليلة المنطقة، تنسحب هذه العشيرة انسحاباً إجماعيّاً.
يرجع حبيب بن مظاهر ليبلّغ الإمام الحسين هذه النتيجة الغريبة، أنّ عشيرةً تخشى أن تبقى بعد اليوم، تخشى أن تبقى حتّى حياديّة؛ لأنّ بالإمكان أنّ عمر بن سعد لا يكتفي بهذا الحياد، فتغادر المنطقة نهائيّاً. ولم يكن جواب سيّد الشهداء على ذلك إلّا أن قال: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم»(10).
هذا البرود، هذا السكون، هذه الهزيمة النفسيّة قبل الهزيمة الخارجيّة، هذه الهزيمة هي مرض الاُمّة الذي كان يعالجه الإمام الحسين.
موقف أهل الكوفة من مقتل رسول الحسين (عليه السلام):
الصيداوي الذي أرسله الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) -أظنّه قيس بن مسهّر الصيداوي، أظنّ هكذا- ، الذي أرسله لكي يبلّغ رسالته إلى أهل الكوفة، لكي يُعطي لأهل الكوفة إشعاراً بأنّه في الطريق، وأنّه على الأبواب.هذا الرسول يدخل الكوفة بعد أن انقلبت الكوفة، وبعد أن تغيّرت الكوفة غير الكوفة، وسيطر عبيد الله بن زياد على كلّ القطّاعات العسكريّة في الكوفة، يؤخذ أسيراً إلى عبيد الله بن زياد.
قبل أن يصل إلى عبيدالله بنزيّاد يمزّق الكتاب، يقف بين يدي عبيدالله بن زياد، يقول له: «لماذا مزّقت الكتاب؟»، يقول: «لأنّي لا اُريد أن تطّلع عليه»، يقول: «وماذا كان فيه؟»، يقول: «لو كنت اُريد أن اُخبرك لما مزّقت هذا الكتاب»، يقول له: «إنّي أقتلك، إلّا إذا صعدت على هذا المنبر وقلت بالصراحة شيئاً في سبِّ عليِّ بن أبي طالب والحسن والحسين».
هذا الرسول الأمين يغتنمها فرصة، يصعد على المنبر في هذه اللحظة الحاسمة، في آخر لحظة من حياته.. في هذا الإطار العظيم من البطولة والشجاعة والتضحية، أمام عبيد الله بن زياد وأمام شرطته وجيشه، يوجّه خطابه إلى أهل الكوفة ويقول: «أنا رسول الحسين إليكم، إنّ الحسين على الأبواب»، يؤدّي هذه الرسالة بكلّ بطولة وبكلّ شجاعة، فيأمر عبيدالله بن زياد به فيقتل(11).
وماذا يكون الصدى لمثل هذه الدفعة المثيرة القويّة؟!
هؤلاء الذين كتبوا إلى الإمام الحسين يطلبونه، الآن رسول الإمام الحسين على المنبر بهذا الشكل غير الاعتيادي، رسول الإمام الحسين على المنبر والسيف فوق رقبته، وهو يودّع الحياة في آخر لحظة من اللحظات، وهو يبلّغهم الرسالة بكلّ أمانة وشجاعة، ويضحّي في سبيل تبليغها بدمه، بروحه، فماذا يكون أثر ذلك؟
يكون أثر ذلك أنّه حينما يأمر عبيدالله بن زياد به أن يُقتل فيُقتل، يأتي شخصٌ من أهل الكوفة فيذبحه، يعني يقطع رأسه، فيقال له: لماذا قطعت رأسه؟ يقول: لكي اُريحه بذلك.
هذه الاُمّة لا تفكّر إلّا على هذا المستوى من الشفقة في حياتها، الشفقة التي تشعر بها هي الشفقة على هذا المستوى. أمّا الشفقة على الوجود الكلّي، الشفقة على الكيان، الشفقة على العقيدة، هذه الشفقة انتزعت من قلوبها؛ لأنّها شفقة تكلّف ثمناً غالياً.
الشفقة التي لا تكلّف ثمناً هي أن يقطع رقبة هذا الشخص، أن يريحه من هذه الحياة، من الحياة في ظلِّ عبيدالله بن زياد. ولكنّ الشفقة التي تكلّف ثمناً، تلك الشفقة انتزعت من قلوبهم.
هذه المظاهر من البرود والسكون بالرغم من قوّة الإثارة، هذه المظاهر هي دليلٌ على عمق ما وصلت إليه الاُمّة من انحلال.
الاندفاع نحو خطّ السلطة:
إلى جانب ذلك، أو في عكس ذلك: ذلك الاندفاع المحموم نحو خطّ السلطان، نحو خطّ الحكم القائم.عبيد الله بن زياد استطاع خلال اُسبوعين -أو خلال ثلاثة أسابيع على أكثر تقدير- بعد مقتل مسلم بن عقيل إلى أوّل المحرّم أن يجنّد عشرات الاُلوف من أبناء هذا البلد، الذي كان -ولا يزال إلى ذلك الوقت- يحمل رسالة علي، والولاء لعلي، جنّد من هذا البلد عشرات الآلاف، واستجاب له مئاتٌ من الأشخاص الذين كانوا قد حاربوا مع الإمام علي في صفّين، وحاربوا مع الإمام علي في سائر مراحل جهاده.
ألف - استجاب له شخصٌ من قبيل عمرو بن الحجّاج. ومن هو عمرو بن الحجّاج؟
عمرو بن الحجّاج هو من اُولئك الذين اضطُهدوا في سبيل الإمام علي، من اُولئك الذين عاشوا المحنة أيّام زياد، ولكنّه لم يستطع أن يواصل المحنة، طلّق عقيدته قبل أن يصل إلى آخر الشوط؛ لأنّه شعر أنّ هذه العقيدة تكلّف ثمناً غالياً، وأنّه إذا طلّقها أمكنه أن يشتري بدلاً عنها دنيا واسعة.
هذا الشخص (عمرو بن الحجّاج) الذي رافق الإمام عليّاً في جهاده انهار أخيراً، انتهت إرادته، انتهت شخصيّته كإنسان مسلم يفكّر في الإسلام.
عمرو بن الحجّاج نفسه هو الذي كلّفه عمر بن سعد بأسوأ عملٍ يمكن أن يُكلَّف به إنسان، كلّفه بالحيلولة دون سيّد الشهداء والماء، بقي واقفاً على الماء يمنع ابن رسول الله والبقيّة الباقية من ثقل النبوّة عن أن يشربوا من الماء.
ب - واستجاب لذلك شبث بن ربعي. ومن هو شبث بن ربعي؟
هذا الرجل الذي عاش مع جهاد أمير المؤمنين، هذا الرجل الذي كان يعي مدلول حرب صفّين(12)، وكان يدرك بأنّ الإمام عليّاً في حرب صفّين يمثّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في غزوة بدر.
ولكنّ الدنيا، ولكنّ الانهيار النفسي، ولكنّ النَّفَسَ القصير خَنَقَه في النهاية، فذاب وتميّع، واشتدّ تميّعه بالتدريج، إلى أن وصل إلى حدٍّ أنّ عبيداللهبن زياد يبعث عليه ليقاتل الحسين ابن رسول الله، فماذا يكون العذر؟ ماذا يكون الجواب؟
لا يملك أن يعتذر بعذرٍ من الأعذار إلّا أن يقول: «أنا مريض»؛ يعتذر بأنّه مريض، كلمة باردة جدّاً على مستوى بروده النفسي.
عبيد الله بن زياد يبعث إليه الرسول مرّة اُخرى، يقول: «المسألة حدّيّة، لا مرض في هذه الحالة، إمّا أن تكون معنا، وإمّا أن تكون عدوّنا».
بمجرّد أن يتلقّى هذه الرسالة ويعرف أنّ المسألة حدّيّة يقوم شبثبنربعي يلبس ما كان يلبسه، ثمّ يخرج متّجهاً إلى عبيد الله بن زياد وهو يقول: «لبّيك».
هذه الاستجابات من هذا الطرف وذاك البرود وتلك السلبيّة من ذلك الطرف هو أكبر دليل على هذا المرض.
محنة مسلم وهانئ:
والدليل الذي هو أكبر من هذا هو محنة مسلم وهانئ. محنة مسلم وهانئ التي يقلّ نظيرها في التاريخ، هذه المحنة تصوّر هذا المرض -وهو في قمّته، وهو في شدّته- بأروع تصوير، أو بأفظع تصوير.قد يذهب وهمُ الإنسان إلى أنّ مسلم بن عقيل كيف استطاع -أو كيف اتّفق له- أن يفرّط بكلّ هذه القوى الضخمة التي كانت بين يديه؟! كيف فرّط بهذه القوى الشعبيّة التي بين يديه؟ بين عشيّة وضحاها بقي وحيداً فريداً يتسكّع في الطرقات؟! كيف فرّط بمثل هذه القوى؟ كيف لم يستثمر هذه القوى في معركته مع عبيدالله بن زياد؟!
في الواقع: إنّ هذه القوى لم تكن قوىً إلّا على الورق، لم تكن هذه القوى قوىً إلّا في سجلّ تسجيل الأسماء حينما سجّل الأسماء فبلغت ثمانية عشر ألفاً، أو بلغت عشرين ألفاً، أو بلغت ثلاثين ألفاً، كانت قوىً على الورق؛ وذلك لأنّ هؤلاء الثمانية عشر ألفاً أو العشرين ألفاً كانوا جزءاً من هذه الاُمّة الميْتة، من هذه الاُمّة المنهارة.
هذا الانهيار العجيب المفاجئ في لحظة، هذا الانهيار العجيب المفاجئ في ساعة هو يعكس تلك الهزيمة المسبقة.. هذه الهزيمة وراءها هزيمة: هزيمة النفس، هزيمة الوجدان، هزيمة الضمير، تلك الهزيمة في النفس والوجدان والضمير هي أساس هذه الهزيمة.
عبيد الله بن زياد يبعث على هانئ بن عروة، يقول له: «تعالَ زر الأمير، الاُمراء لا يطيقون الجفاء، لماذا أنت منقطع عن الأمير؟»، هذا في الوقت الذي كان فيه مسلم بن عقيل موجوداً في بيت هانئ بن عروة، والشيعة يذهبون إلى زيارة مسلم متستّرين .
المصادر:
1- الأخبار الطوال: 244؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 383 :5؛ الفتوح 66 :5؛ الكامل في التاريخ 39 :4.
2- الفتوح 23 :5؛ مقتل الحسين (عليه السلام) (الخوارزمي) 278 :1.
3- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 387 :5.
4- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 341 :5؛ الفتوح 20 :5.
5- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 387 :5 - 389.
6- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 407 :5؛ الفتوح 73 :5 - 74؛ مقتل الحسين (عليه السلام) (الخوارزمي) 325 :1 - 326؛ حيث قدّم عبيد الله للحسين (عليه السلام) فرسه وسيفه. ولكنْ نقل البلاذري أنّ فرس عبيدالله كانت معه (عليه السلام) في المعركة، فانظر: أنساب الأشراف 188 :3.
7- الإمامة والسياسة 196 :1؛ المنتظم في تاريخ الاُمم والملوك 299 :5؛ البداية والنهاية 89 :8.
8- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 357 :5؛ الفتوح 37 :5.
9- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 404 :5؛ تاريخ الإسلام 12 :5.
10- الفتوح 90 :5 - 91.
11- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 394 :5؛ الفتوح 82 :5؛ الكامل في التاريخ 41 :4؛ البداية والنهاية 168 :8.
12- وقعة صفّين: 294 ؛ أنساب الأشراف 340 :2. وليست>