نظريّة الحكم في الإسلام

ليست الجاهليّة مرحلةً تاريخيّةً قد انتهى أوانها بل هي حالة اجتماعيّة يمكن أن تتجدّد كلّما توفّرت ظروفها لأنّ حقيقة الجاهليّة هي‏ الانحراف عن شريعة الله وهدى الأنبياء، والحكم وفق الهوى، كما جاء في القرآن: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ
Tuesday, July 25, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
نظريّة الحكم في الإسلام
نظريّة الحكم في الإسلام



 

ليست الجاهليّة مرحلةً تاريخيّةً قد انتهى أوانها بل هي حالة اجتماعيّة يمكن أن تتجدّد كلّما توفّرت ظروفها لأنّ حقيقة الجاهليّة هي‏ الانحراف عن شريعة الله وهدى الأنبياء، والحكم وفق الهوى، كما جاء في القرآن: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏(1).
إذاً: عودة الجاهليّة إلى مسرح الحياة معناها في المقابل إبعادُ حكم الله عن ذلك المسرح، ومحاربة النظام الإسلامي، وجرّ الاُمّة من نور الحقّ والعدل إلى ظلمات الباطل والظلم.
إنّ الانحراف الاُمويَّ عن جادّة الصواب والابتعادَ عن الصراط الحقّ جاهليّةٌ جديدة، وإن تغيّرت الاُطر وتبدّلت الأثواب. إنّه حكمٌ جاهليٌّ حاربه الإسلام واستشهد في مكافحته الأخيار.
صحيحٌ أنّ الحاكم الاُمويَّ يزيد (لعنه الله) وأسلافَه وأخلافَه يشهدون أنْ لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) رسول الله، لكنّ ذلك لا يغيّر الحقيقة المرّة، حقيقةَ الجاهليّة الاُمويّة.

الموقف من أنظمة الحكم المختلفة:

ووقفة قصيرة على نظريّة الحكم في الإسلام تكفي في إعطاء صورة واضحة لحقيقة الحكم الاُموي وغيره. وتتلخّص النظريّة في ما يلي‏:
1 - إمّا أن يكون الحاكم إماماً معصوماً، وهو بطبيعة الحال لا يمكن أن يخالف الاُطروحة الإسلاميّة وينفّذ غيرها من الاُطروحات الوضعيّة، وإلّا فلا يمكن -بأيّ حال- تسميته بالمعصوم، وهذا أمر مفروغ منه.
وفي مثل هذه الحالة يكون من اللازم على المسلمين -بمختلف مستوياتهم الفكريّة- تنفيذ أوامر هذا الحاكم، وعدم معارضته في كلّ أحكامه.
2 - وإمّا أن يكون الحاكم فقيهاً عادلاً، وهذا الحاكم يطبّق الاُطروحة الإلهيّة، وبخلافها سوف لا يمكن وصفه بالعدالة.
ولا بدّ في مثل هذا الموقف من مؤازرته ونصرته وتنفيذ أوامره، ولا يجوز مخالفته حتّى من قبل الفقهاء أمثاله‏.
3 - وإمّا أن يكون الحاكم مسلماً وليس فقيهاً، ولكنَّ الاُطروحة التي ينفّذها على واقع الحياة هي الاُطروحة السماويّة، ولا شكّ في أنّ هذا الحاكم قد يقع في أخطاء.
ففي مثل هذه الحالة، يقوم الفقهاء بتسديده وتأييده وتقديم الإرشادات له، وعلى المسلمين مؤازرته ومساندته، إلّا إذا كانت الأخطاء بدرجة تهدّد الاُطروحة بكاملها، عند ذلك يلزم الوقوف منه موقفاً آخر.
4 - وإمّا أن يكون الحاكم ليس مسلماً أصلاً، ولكنّ النظريّة المتبنّاة من قبله هي النظريّة الإسلاميّة.
ففي هذه الحالة لا يهمّ شخص الحاكم، بل المهمّ الاُطروحة؛ لأنّه ليس من الممكن أن يعتقد المرء بشي‏ء وينفّذ في الواقع شيئاً آخر إلّا أن يكون إيمانه وهميّاً.
5 - والحالة الأخيرة: أن يكون شخص الحاكم فقيهاً، أو مسلماً ليس بفقيه، أو غير مسلم، والاُطروحة المتبنّاة من قبله اُطروحة كافرة بعيدة عن الحقّ، محارِبةً للرسالة السماويّة.
فعلى المسلمين في مثل هذا الوضع الوقوفُ بوجه الحاكم ومعارضته ومحاربته؛ لأنّ المهم ليس شخص الحاكم وإن كان فقيهاً، بل المهم هو مقدار ما ينفّذ من الاُطروحة الإسلاميّة على مسرح الحياة.

النظرة التي بُني على أساسها موقف الإمام الحسين (عليه السلام):

ومن خلال ذلك نستطيع أن نحدّد الموقف العمليَّ للحسين (عليه السلام) بأنّه موقفٌ مبنيٌّ على ضوء النظرة الإسلاميّة للحكم؛ لأنّ النظريّة الإسلاميّة في الحكم تُبتنى على أساس الاُطروحة المنفَّذة في الواقع والمتجسِّدة في الخطوات العمليّة للسلطة: فإن كانت تلك الاُطروحة إسلاميّة فهي، وإلّا فلا قيمة لإسلاميّة الحاكم وصَلاته وتعبّده؛ لأنّ المعنى العبادي الحقيقي لا بدّ أن ينعكس على سلوك الفرد ومشاعره وأعماله.
ومن هنا: فلا قيمة لإسلاميّة يزيد أو غيره من حكّام الجور، ولا معنى للشعائر التي يؤدّونها.
وإذا كان الأمر كذلك والحكّام الاُمويّون لا يطبّقون شريعة السماء، فعلى الحسين (عليه السلام) بالذات -كأفضل إنسانٍ يجسّد الإسلام يومذاك- وعلى المسلمين جميعاً الوقوفُ بوجه هؤلاء الطغاة والتصدّي لهم؛ لأنّهم يريدون حكم الجاهليّة ويحاربون شريعة السماء، ولكنّ هذه الجاهليّة ارتدت ثوباً جديداً هذه المرّة يُخفي حقيقتها عن الأنظار.
ولقد ثار الحسين (عليه السلام) ليكشف للاُمّة اختفاء الحكّام خلف اسم الدين، وليفضح للمسلمين حقيقة الطواغيب الذين حكموا الناس باسم خلافة الرسول (صلّى الله عليه وآله).
لم تكن واقعة الطفِّ قضيّةً مأساويّة عابرة حدثت في مرحلة معيّنة من التاريخ فحسب‏، بل هي صورة متكاملة لتجسيد الصراع بين الحقّ والباطل، هي مسرحيّة واقعيّة تنبض بالحياة، أدّى أدوارَها كلُّ صنفٍ من أصناف البشر وبمختلف الأعمار والأجناس: فيها المعصوم الذي لا يخطئ ساهياً، والمجرم الذي لا يتورّع عن فعل أدنى الأفعال وأبشعها، فيها المرأة والطفل الرضيع والصبيُّ والشيخ العجوز، فيها التائب والعاصي، فيها السموُّ والرفعة، وفيها أيضاً الدناءة والخسّة.
وهي وإن لم تعبّر عن مرحلة تاريخيّة، لكنّها عبّرت عن حالة اُمّة، وانحرف بها الحكّام عن جادّة الصواب، وأبعدوها عن رسالتها وعقيدتها، حتّى أصبحت اُمّة ميْتة، لا تفكّر إلّا بهذا المقدار من النَّفَسِ‏الصاعد النازل.. هذه الاُمّة التي بلغ بها الخوفُ حدّاً لا يوصف؛ فهي تعرف أنّ الحقّ لا يُعمَل به، والمنكرَ لا يُتناهى عنه‏(2)
تدرك ذلك ولا تحرّك ساكناً. إنّ هذه الاُمّة جاءها أجلها فماتت، وإن كانت الأجساد متحرّكة.

مقوّمات ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) :

وجاءت واقعة الطف -كقضيّة مأساويّة مثيرة- لتحرّك في الاُمّة ضميرها وتعيدها نحو رسالتها، وتبعث شخصيّتها العقائديّة من جديد. وكان من اللازم أن يقوم بهذا الدور مجموعةٌ من الناس قادرون -بما يمتلكون من قدراتٍ ومقوّماتٍ- على جعل دورهم فاعلاً ومؤثّراً في حياة هذه الاُمّة الميْتة مع إدراكها، كما يصوّر الفرزدق الناسَ‏ بقوله للإمام (عليه السلام)، قال: «سيوفهم عليك وقلوبهم معك»(3).
وكانت أهمّ هذه المقّومات ما يلي:
1- المقوّمات الشخصيّة للثائر:
فالثائر الذي يقود جبهة الحقّ كان إماماً معصوماً يمتلك كلَّ المواصفات القدسيّة بنصّ حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»(4)
فهذه الصفة القدسيّة التي يمتلكها الحسين (عليه السلام) تدركها الاُمّة، خصوصاً مع وجود عدد غير قليل من الصحابة الذين عاصروا الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسمعوا منه (صلّى الله عليه وآله) تلك الأحاديث بشأن هذا الإمام (عليه السلام).
وبالإضافة إلى ذلك، فالإمام (عليه السلام) يمتلك عنصر النَسَب الذي لا تشوبه شائبة ولا يناله شكّ: أبوه علي (عليه السلام)، وأمّه فاطمة (عليها السلام)، وجدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، والصحابة يتذكّرون حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله) بشأنه: «حسين منّي وأنا من حسين»(5)، يدركون هذا التمازج الروحي والتمازج النَسَبي.
والحسين (عليه السلام) يمتلك الجاه والشرف، كيف لا! وهو محطُّ أنظار المسلمين وكهف المستغيثين واللاجئين، ويمتلك الإمامُ المالَ والثروة.
أَتذكرون يوم عاشوراء حينما خاطب(سلام الله عليه) اُخته الحوراء قائلاً: «ناوليني ملابس استبدل بها ملابسي هذه لئلاّ يطمع القوم فيها فيسلِبونيها؟»، فلمّا أعطته ملابس رديئة بالية قال لها مستنكراً: «أَوَيلبس ابن أبيك مثل هذا؟!»(6).
فلو كان لباسه الأوّل عاديّاً لقبل تلك الخرق البالية، فلا بدّ أن يكون لباسه في أوّل الأمر من أفخر الألبسة وأثمنها. والروايات تذكر أنّ القافلة الهاشميّة كانت محمّلة بالأموال الكثيرة(7)
فالحسين (عليه السلام) كان يمتلك كلّ المقوّمات الشخصيّة للقداسة: الشرف والجاه، الغنى والثروة، والعصمة. 2- الحجّة:
ولكي لا تكون الثورة هامشيّة فلا تعطي ثمرتها المرجوّة، فقد كان الثائر يمتلك الوثائق الكفيلة بإضفاء المشروعيّة على هذه الثورة، وأنّها الحلّ الوحيد والخيار الذي لا بديل له.
فقد كانت الرسائل الواردة من زعماء العراق -ومن الكوفة خاصّة-
تطلب من الإمام (عليه السلام) بإلحاح القدومَ إلى العراق، وكان مضمون هذه الرسائل -كما تنقل الروايات-: «أقدم على جندٍ لك مجنّدة؛ فقد طاب الجنان واخضرّ المقام».
ولا شكّ في‏ أنّ عدم تلبية الإمام لهذه الطلبات -التي تقدّر على أقلّ الروايات باثني عشر ألف رسالة- سيلزم الإمام (عليه السلام) الحجّة في تفويته للفرصة. وبالعكس، فإنّ المجي‏ء سيلزم الاُمّة الحجّة إن هي خانت.
والأمر الآخر هو أنّ الإمام (عليه السلام) كان‏ أمام التهديد الاُموي إن هو لم يبايع، ولو بايع فإنّه سيعطي في مثل هذه الحالة الوثيقةَ الشرعيّةَ للحكّام الاُمويّين الظَلَمَة، وسيطفئ بالتالي بصيصَ الأمل الذي ترصده الاُمّة في تلك الشخصيّة المعارضة، أعني شخصيّة الإمام.
وفي حالة رفضه فإنّه أمام خيارين‏:
أ - إمّا الموت الذي قرّره الاُمويّون له، ولو كان متعلِّقاً بأستار الكعبة.
ب - وإمّا الرحيل إلى إحدى المناطق التي يمتلك فيها شعبيّة وشيعة، ولا تتعدّى هذه المناطق: اليمن، الكوفة والبصرة. ومن المعلوم أنّ الطلب الاُموي سوف يلاحقه في هذه المناطق بلا فرق.
وما دامت الكوفة تحتوي أكثر القواعد الشعبيّة المؤيّدة له(سلام الله عليه)، بالإضافة إلى الطلب الشديد من قبل أهلها، فإنّ الخيار الصحيح لا بدّ أن يكون بالرحيل إلى الكوفة عاصمة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام).
ولهذا رفض الإمام (عليه السلام) إلحاح أخيه محمّد بن الحنفيّة وممانعته من الذهاب إلى الكوفة، كما رفض طلب ابن عبّاس (رحمه الله) الذي أشار على الإمام (عليه السلام) بالذهاب إلى اليمن‏(8).
3- الشعار:
ولكي لا تشوّه هذه الثورة، خصوصاً وأنّ الإمام (عليه السلام) قد علم بخيانة أهل الكوفة، وكيف أنّهم قتلوا رسوله مسلم بن عقيل (عليه السلام) وصاحبه هانئ‏بن‏عروة، وشرّدوا بقيّة الأنصار، واعتقلوا قسماً منهم.. إنّ هذه الصورة جعلت الحسين (عليه السلام) أمام مواجهة عسكريّة لا مناص منها.
ولكي لا تشوّه هذه الثورة كما قلنا، فقد أعلن الحسين عن أهدافها وطرح شعاراتها ابتداءً من المدينة حتّى يوم المجزرة الكربلائيّة؛ فهو يقول: «والله إنّي ما خرجت أشِراً ولا بطِراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».
ثمّ إنّه وضع الاُمّة أمام الخيارات التي لا مناص منها ليجعل من ثورته الاُسلوبَ الوحيدَ أمام التحديات الكافرة؛ فبعد أن التقى الحرَّ بن يزيد الرياحي (رضي الله عنه) قال (عليه السلام): «هذه أرض الله واسعة، فدعوني أذهب وشأني»، أو ما يقارب هذه العبارة.
وفي هذه الكلمة -في أقلّ تقدير- أن يُترَك الإمام (عليه السلام) يختار حياة العزلة، ولكنّ جيش الحر رفض التخلّي عن أوامر السلطة الجائرة، فجعجعوا به إلى كربلاء.
وهناك أيضاً وضع أصحابه أمام الخيار، فلم يُرِدْ إقحامهم في معركة خاسرة من الناحية العسكريّة، لذا جمعهم ليلة العاشر من المحرّم ثمّ خطبهم وقال: «إنّ هذا الليل قد أرخى سدوله فاتّخذوه جملاً، ليس عليكم منّي ذمام». ولقد رفض هؤلاء الأخيار هذا الطلب حينما قام زهير بن القين فقال: «ماذا نقول للعرب؟! -وفي رواية: لجدّك‏- أَيقتل ابن بنت رسول الله ونظلّ أحياء؟! لا والله! لا نفعل ذلك أبداً»، وقال غيره مثل قوله.
ولمّا كانت المواجهة حتميّة، وكان‏ السيف هو الحَكَمَ الفصل، أصرّ الحسين (عليه السلام) على خوض هذا الحرب قائلاً:
إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي يا سيوف خذيني‏
وعلى كلّ حال، فقد وضع الإمام الحسين (عليه السلام) أهداف الثورة أمام عينيه منذ حركته من المدينة حتّى مصرعه في الطف، بل واصلت اُخته الحوراء (عليها السلام) حمل تلك الرسالة، فكانت الوسيلة الإعلاميّة التي تذيع أخبار الثورة، والمِعْوَلَ الهدّام في العرش الاُموي الحاكم.
4- المقوِّم العاطفي:
وهو عمليّة إثارة المشاعر في نفوس المسلمين الذين لم تحرِّك الأفكار المنطقيّة عقولهم.
ويلاحظ المقوِّم العاطفي في الثورة الحسينيّة من خلال اُسلوبين:
أوّلهما: إشراك العقائل من الهاشميّات في الثورة، بالإضافة إلى اشتراك الأطفال‏(9)، بالدرجة التي يساهم فيها رضيعٌ وَلَدٌ في اليوم العاشر من المحرّم أثناء المعركة؛ فإنّ وجود نساء البيت العلوي ومخدّرات الهاشميّين في خضم هذه المحنة لا بدّ أن يثير في النفوس العطف، وفي القلوب الانكسار، مهما كانت تلك النفوسُ متوحّشةً والقلوبُ قاسية.
أمّا الأطفال، فقد قدّمتهم الثورة كدليل على أنّ هؤلاء القوم الذين يحاربون خوفاً وطمعاً قد بلغ بهم الأمر -حينما نسوا الله فأنساهم ذكر أنفسهم‏، بلغ بهم الأمر- حدّاً لا يوصف من الدناءة والوضاعة واللؤم، فلهذا خاطبهم الحسين (عليه السلام) بقوله: «إن كان الذنب ذنب الكبار، فما هو ذنب هؤلاء الأطفال؟»(10).
وبهذه المشاركة أضاف للثورة رصيداً عاطفيّاً ضخماً، جعلها تحتلّ مركز القمّة بين الفواجع على طول التاريخ، وتحرّك مشاعر المسلمين وعواطفهم وأحاسيسهم إلى يومنا هذا.
والاُسلوب الثاني: هو اُسلوب التذكير والوعظ الذي استخدمه الإمام (عليه السلام) وصحبه (رضوان الله عليهم)؛ فلقد ذكَّر الإمامُ القومَ بقوله: «انسبوني من أنا، أَلستُ ابن بنت نبيّكم؟»(11)، ثمّ يقول: «لم تحاربونني؟! أَلِسُنّة غيّرتها أم لبدعةٍ ابتدعتها؟!»(12). وفي موضع آخر يقول: «إن لم يكن لكم دينٌ وكنتم عرباً كما تزعمون، فكونوا أحراراً في دنياكم»(13)؛ ذلك في إشارة منه للقوم حينما هجموا على بيوت عقائل الرسالة، إلّا أنّهم وصلوا حدّاً لم ينسوا دينهم فحسب، بل نسوا حتّى أعرافهم العربيّة التي تعوّدوها وتسالموا عليها.
ولهذا أيضاً نجد الإمام (عليه السلام) يصف حال الناس بقوله: «والدِّين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديّانون».
وعلى ضوء ما سبق نكون قد رسمنا صورة موجزة لمقوّمات الثورة من جهة ولحالة الاُمّة أيضاً: فالاُمّة -كما قلنا- بلغت حالة الاحتضار أو الموت، لا تقوى على المعارضة، وتعيش أزمة معقّدة من الخوف، في الوقت الذي يحاول الحكّام جرَّ الاُمّة إلى الهاوية، وقتل روح العزّة والكرامة، وتفتيت كيانها الحضاري، وإبعادها عن رسالتها السمحاء.
الثورة الحسينيّة ووضعُنا الراهن:
وثورة الحسين (عليه السلام) لم تكن مرحلة تاريخيّة -كما قلنا-، لكنّها عبّرت عن حالة اُمّة وصلت إلى‏ هذا الوضع المأساوي، فأقدمت على جناية تاريخيّة بشعة.
واليوم تعود هذه الحالة من جديد؛ فهذه الاُمّة الإسلاميّة تعيش الوضع نفسه الذي عاشته الاُمّة في زمن الحسين (عليه السلام)؛ فلقد انحرف بها الحكّام عن رسالتها وحضارتها وكيانها. وهذه الاُمّة تعيش الخوف والوجل، ولا تفكر إلّا بالنَّفَسِ الصاعد النازل، فلا بدّ من هزّة عنيفة توقظ وجدان هذه الاُمّة وتحرّك ضميرها، وتعيدها إلى رشدها.
ولا بدّ أيضاً أن تمتلك هذه الهزّة كلّ المقوّمات التي امتلكتها هزّة الطف: قائداً رساليّاً مقدّساً ذا جاه وشرف ومال، يمتلك الحجّة الوثائقيّة التي تُدين الحكّام وتفضح انحرافهم عن الرسالة، وتُدين سكوت الاُمّة وخضوعها للذلّ والهوان، وعلى هذا القائد أن يطرح الشعار البديل الذي يوقد الجذوة الثوريّة في النفوس، ويحافظ على الجوهر الرسالي للثورة وأهدافها الحقيقيّة، وعلى القائد هذا أن يحرّك المشاعر والعواطف والأحاسيس عند هذه الاُمّة.
إذاً، لا بدّ من حسين جديد لهذه الحركة ولا بدّ من زينب، ولا بدّ من رجال كأصحاب الحسين (عليه السلام)، وهذا أمر مستحيل؛ فلا يمكن لأي إنسان أن يمتلك كلَّ هذه المواصفات التي يمتلكها الحسين (عليه السلام) ولا مقوّمات ثورته بالكامل.
وإذا كان الأمر مستحيلاً، فلا بدّ من قطارٍ من الدماء ورتلٍ ضخمٍ من التضحيات، تشكّل بمجموعها جزءاً من مقوّمات مأساة الطف؛ لتحرّك ضمير هذه الاُمّة الميْتة، وتوقظ مشاعرها وأحاسيسها.
وعلى المسلمين أن يكونوا دائماً على اُهْبَة الاستعداد لتلبية نداء الإسلام متى استصرخهم لنصرته، لعلّ في قطار الدم عودةً إلى الواقع الرسالي الكريم.
المصادر :
1- المائدة: 50.
2- المعجم الكبير 115 :3؛ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 150.
3- المعروف أنّه قولُ الفرزدق، فراجع: الأخبار الطوال: 245؛ مقاتل الطالبيّين: 111؛ دلائل الإمامة: 74؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 386 :5. وقد نسب إلى بشر بن غالب الأسدي (الفتوح 70 :5) ومجمع بن عبدالله العائذي أنساب الأشراف 172 :3؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 405 :5؛ تجارب الاُمم 65 :2؛ الكامل في التاريخ 49 :4.
4- علل الشرائع 211 :1.
5- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد 127 :2.
6- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 541 :5، أو: «لباس أهل الذمّة» مناقب آل أبي طالب 109 :4.
7- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 385 :5؛ الكامل في التاريخ 40 :4، والتي نهبت بعد مقتله الأخبار الطوال: 258؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 453 :5؛ الكامل في التاريخ 79 :4.
8- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 342 :5؛ الفتوح 20 :5./الأخبار الطوال: 244؛ تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 383 :5؛ الفتوح 66 :5؛ الكامل في التاريخ 39 :4.
9- الفتوح 22 :5، 69؛ «وأقبل الحسين بالصبيان والنساء لا يلوي على شي‏ء»، «خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجلِّ أهل بيته» تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 341 :5، 395، وانظر: اللهوف على قتلى الطفوف: 64 - 65.
10- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 450 :5؛ أنساب الأشرف 202 :3؛ «إنّي اُقاتلكم وتقاتلوني، والنساء ليس عليهنّ جناح» مثير الأحزان: 73؛ «إن لم ترحموني فارحموا هذا الطفل» تذكرة الخواص: 227.
11- تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 424 :5.
12- ينابيع المودّة لذوي القربى 80 :3، وفي المصادر المتقدّمة: «أَ تطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة» تاريخ الاُمم والملوك (الطبري) 425 :5؛ الكامل في التاريخ 62 :4.
13- اللهوف على قتلى الطفوف: 120. وفي: الفتوح 117 :5: «أعواناً».
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.