
هناك أخطاء عديدة يقع فيها كثير من الناس في باب القدر، وهذه الأخطاء منها ما هو في الأقوال، ومنها ما هو في الأفعال، ومنها ما هو في الاعتقادات، ومنها ما هو في ذلك كله، وسيتضح ذلك من خلال المطالب التالية:
المطلب الأول: الاحتجاج بالقدر على المعائب:
قد مر بنا قريباً أن الاحتجاج بالقدر إنما يسوغ عند المصائب لا المعائب.وهناك من يحتج بالقدر على المعائب، فيحتج بالقدر على استمراره بفعل المعاصي أو ترك الطاعات.
فإذا قيل له مثلاً لِمَ لا تصلي؟ قال: ما أراد الله لي ذلك! وإذا قيل له: متى ستتوب؟ قال: إذا أراد الله لي ذلك!
وهذا خطأ وضلال وانحراف؛ لأنه إن كان يقصد بالإرادة هنا الإرادة الشرعية التي هي بمعنى المحبة فقد أعظم الفرية على الله؛ لأن الله عز وجل أحبَّ الطاعة، ورضيها، وأمر بها، وشرعها.
وإن كان يقصد بها الإرادة الكونية التي هي بمعنى المشيئة، وأن الله لم يُقَدِّر له كذا وكذا من الطاعات، أو قدَّر له كذا وكذا من المعاصي فهذا خطأ أيضاً ذلك أن قدر الله سر مكتوم، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه، وإرادة العبد سابقة لفعله؛ فتكون إرادته غير مبنية على علم بقدر الله؛ فادعاؤه مردود، واحتجاجه باطل؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله؛ فحجَّته إذاً داحضة؛ لأنه لا حجة للمرء فيما لا يعلم.
هذا وقد سبق تفنيد الاحتجاج بالقدر على المعائب مفصلاً فيما سبق.
المطلب الثاني: التخلي عن مساعدة المحتاجين والمنكوبين.
بحجة أن ما حل بهم إنما هو بمشيئة الله: فمن الناس من يرى إخوانه المسلمين تنزل بهم النوازل، وتحل بهم القوارع، فلا يتحرك لنصرتهم، ولا ينبعث لمساعدتهم، ولا يحث غيره على ذلك؛ بحجة أن ذلك إنما وقع بمشيئة الله، وأنه لا يسوغ لنا أن نساعدهم، والله عز وجل يعاقبهم!وكذلك ما يوجد عند بعض الناس إذا قيل لهم: أحسنوا إلى الفقراء والمحتاجين قال قائلهم: كيف نحسن إليهم، والله قد شاء لهم ذلك؟ الله يفقرهم وأنت تغنيهم؟ أو يقول: إن الله لو شاء إغناءهم لأغناهم بدون مساعدتنا ورفدنا!.
فهذا الكلام وأمثاله باطل بلا ريب، وهو يدل على جهل عظيم، أو تجاهل وخيم؛ ذلك أن المشيئة ليست حجة لفعل المعاصي أو ترك الطاعات أبداً.
ثم إن هذا جهل بحكمة الله تبارك وتعالى حيث رفع بعض الناس على بعضه، وابتلى بعضهم ببعض، ودفع بعضهم ببعض.
ثم إن المال مال الله، ولو شاء لسلبك إياه يا من تقول هذا القول، فهل سترضى حينئذ إذا اشتدت ضرورتك إلى ما تقيم به أودَك أن يقال لك مثل ما قلت؟
فهذا القول خطأ عظيم، وضلالة كبرى، وقائلوه فيهم شَبَهٌ ممن قال الله عز وجل فيهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (1)
*المطلب الثالث: ترك الأخذ بالأسباب بحجة التوكل على الله، والتسليم لقضائه وقدره:
فهناك من يترك الأخذ بالأسباب، بحجة أنه متوكل على الله، مؤمن بقضائه وقدره، وأنه لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته.
وذلك كحال بعض الصوفية الذين يرون أن ترك الأخذ بالأسباب أعلى مقامات التوكل.
فهذا الأمر مما عمت به البلوى، واشتدت به المحنة، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأمة.
فأمة الإسلام مرت بأزمات كثيرة، وفترات عسيرة، وكانت تخرج منها بالتفكير المستنير، والنظرة الثاقبة،والتصور الصحيح،فتبحث في الأسباب والمسببات، وتنظر في العواقب والمقدمات، ثم بعد ذلك تأخذ بالأسباب، وتلج البيوت من الأبواب، فتجتاز بأمر الله تلك الأزمات، وتخرج من تلك النكبات، فتعود لها عزتها، ويرجع لها سالف مجدها.
هكذا كانت أمة الإسلام في عصورها الزاهية.
أما في هذه العصور المتأخرة التي غشت فيها غواشي الجهل، وعصفت فيها أعاصير الإلحاد والتغريب، وشاعت فيها البدع والضلالات فقد اختلط هذا الأمر على كثير من المسلمين؛ فجعلوا من الإيمان بالقضاء والقدر تكأةً للإخلاد إلى الأرض، ومسوغاً لترك الحزم والجد والتفكير في معالي الأمور، وسبل العزة والفلاح، فآثروا ركوب السهل الوطيء الوبيء على ركوب الصعب الأشق المريء.
فكان المخرج لهم أن يتكل المرء على القدر، وأن الله هو الفعَّال لما يريد، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأه لم يكن؛ فلتمض إرادته، ولتكن مشيئته، وليجرِ قضاؤه وقدره، فلا حول لنا ولا طول، ولا يدَ لنا في ذلك كله.
هكذا بكل يسر وسهولة، استسلام للأقدار دون منازعة لها في فعل الأسباب المشروعة والمباحة.
فلا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا جهاد لأعداء الله، ولا حرص على نشر العلم ورفع الجهل، ولا محاربة للأفكار الهدامة والمبادئ المضللة، كل ذلك بحجة أن الله شاء ذلك!
والحقيقة أن هذه مصيبة كبرى، وضلالة عظمى، أدت بالأمة إلى هوة سحيقة من التخلف والانحطاط، وسببت لها تسلط الأعداء، وجرت عليها ويلاتٍ إثرَ ويلاتٍ.
وإلا فالأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إنه من تمامه؛ فالله عز وجل أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا بالقيام به، فقد أراد منا حمل الدعوة إلى الكفار وإن كان يعلم أنهم لن يؤمنوا، وأراد منا قتالهم وإن كان يعلم أننا سنُهزم أمامهم، وأراد منا أن نكون أمة واحدة وإن كان يعلم أننا سنتفرق ونختلف، وأراد منا أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا، وإن كان يعلم أن بأسنا سيكون بيننا شديداً وهكذا. . .
فالخلط بين ما أريد بنا، وما أريد منا هو الذي يُلبس الأمر، ويوقع في المحذور.
ثم لا ريب أن الله عز وجل هو الفعال لما يريد، الخالق لكل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي له مقاليد السماوات والأرض، ولكنه تبارك وتعالى جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها؛ وقوانين ينتظم بها، وإن كان هو عز وجل قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين، وإن كان أيضاً لا يخرقها لكل أحد.
فالإيمان بأن الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين لا يعني أنه سينصر المؤمنين وهم قاعدون عن الأخذ بالأسباب؛ لأن النصر بدون الأخذ بالأسباب مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، ولأنه منافٍ لحكمةِ الله، وقُدْرَتُِه عز وجل متعلقةٌ بحكمته.
فكون الله قادراً على الشيء، لا يعني أن الفرد أو الجماعة أو الأمة قادرة عليه؛ فقدرة الله صفة خاصة به، وقدرة العبد صفة خاصة به، فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها، وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله به هو الذي يحمل على القعود، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب.
وهذا ما لاحظه وألمح إليه أحد المستشرقين الألمان، فقال وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم المتأخرة: طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله، والرضا بقضائه وقدره، والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار.
وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان؛ ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب، وحققت نصراً متواصلاً؛ لأنها دفعت في الجندي روح الفداء.
وفي العصور المتأخرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار، وعزله وطواه عن تيار الأحداث العالمية.
المطلب الرابع: ترك الدعاء بحجة أن الله يعلم حاجة العبد قبل أن يسأل.
وأنه لو شاء لأعطاه مسألته بغير سؤال، وأنه لن يصيب العبد إلا ما كتب له: فهناك من يستهين بشأن الدعاء، ويرى أنه لا داعي له، ولا جدوى من ورائه؛ طالما أن الله عز وجل يعلم حاجة العبد، وأنه لن يصيب العبد إلا ما قُدِّر له.وربما قال قائلهم: لا حاجة لنا بالدعاء إذا نزل البلاء.
وهذا القول قول باطل؛ لأنه مناف للإيمان بالقدر، وتعطيل للأسباب، وترك لعبادة هي أكرم العبادات على الله عز وجل .
فالدعاء أمره عظيم، وشأنه جلل؛ فبه يرد القدر، وبه يرفع البلاء؛ فهو ينفع مما نزل ومما لم ينزل.
قال ": ولا يرد القدر إلا الدعاء.
وقال: من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سُئل الله شيئاً يعطى أحبَّ إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل؛ فعليكم عباد الله بالدعاء.
وقال: لا يغني حذر من قدر، وإن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاء ليلقي البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة.
وربما استشهد بعض من يترك الدعاء كبعض الصوفية بحديث: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وهذا الحديث باطل لا أصل له، وقد تكلم عليه العلماء، وبينوا بطلانه.
فقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيراً إلى ضعفه فقال: وروي عن أبي بن كعب أن إبراهيم قال حين أوثقوه؛ ليلقوه في النار: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك ، ثم رموا به في المنجنيق إلى النار، واستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم، لك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، قال جبريل: فاسأل ربك، فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
هناك أقوال تجري على الألسنة وهي مخالفة للإيمان بالقدر، ومن ذلك ما يلي:
1- الدعاء بـ: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه: فهذا الدعاء يجري كثيراً على الألسنة، وهو دعاء لا ينبغي؛ لأنه شرع لنا أن نسأل الله ردَّ القضاء إذا كان فيه سوءٌ.ولهذا بوَّب الإمام البخاري باباً في صحيحه قال فيه: باب من تعوذ بالله من درك الشقاء، وسوء القضاء، وقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) (2)
ثم ساق قول النبي ": تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
2- قول: شاءت الظروف، أو شاءت الأقدار كذا وكذا: فهذه من الألفاظ التي لا تنبغي؛ لأنه ليس للظروف ولا الأقدار مشيئة.
وإنما الذي يشاء هو الله عز وجل نعم لو قال الإنسان: اقتضى قدر الله كذا وكذا فلا بأس، أما المشيئة فلا يجوز أن تضاف للأقدار؛ لأن المشيئة هي الإرادة، ولا إرادة للوصف، وإنما هي للموصوف.
3- قول: ما شاء الله وشاء فلان: فهذا القول شرك بالله عز وجل لوجود التسوية في العطف بالواو؛ فمن سوَّى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله ندَّاً لله عز وجل لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي ": ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندَّاً؟ بل ما شاء الله وحده.
ولقوله ": لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان.
ومن هنا يتبين لنا أنه لا يجوز أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان، وإنما يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان.
والأولى من ذلك أن يقال: ما شاء الله وحده؛ لأن فيه التصريحَ بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، والبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص.
4- قول: إن الله على ما يشاء قدير إذا قام بالقلب أن الله لا يقدر إلا على ما يشاؤه فحسب: وقد أشار إلى خطأ هذا التعبير بعض العلماء منهم الشيخ العلامة عبدالرحمن بن حسن .
يقول المؤرخ عثمان بن بشر : كتبت له مرة يعني عبدالرحمن ابن حسن ودعوت له في آخر الكتاب، وقلت في ختام الدعاء: إنه على ما يشاء قدير.
فكتب إليَّ وقال في أثناء جوابه: إن هذه الكلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير إذا دعا الله تعالى وهو القادر على ما يشاء ويقصد بها أهل البدع شرَّاً، وكل ما في القرآن (وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر) (3)
وليس في القرآن والسنة ما يخالف ذلك أصلاً؛ لأن القدرة شاملة كاملة، وهي والعلم صفتان شاملتان، تتعلقان بالموجودات والمعدومات، وإنما قصد أهل البدع هو القادر على ما يشاء، أي أن القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة.
والأظهر والله أعلم أن هذا التعبير إن الله على ما يشاء قدير تعبير صحيح، ولا يعد خطأ، إلا إذا قام بقلب القائل أن قدرة الله لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة، مع أن الأولى أن يقال: إن الله على كل شيء قدير؛ لما سبق.
ومما يدل على صحة هذا التعبير ما جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث عبدالله بن مسعود ÷ عن النبي " فيما يرويه عن ربه، ولفظ أحمد: ولكني على ما أشاء قدير، ولفظ مسلم: ولكني على ما أشاء قادر كلاهما من طريق عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس عن ابن مسعود÷.
5- القول بأن إرادة الشعب من إرادة الله: هذا القول يطلقه بعض الملاحدة، ويريدون به تسويغ ما يروجونه من ضلال وفساد؛ فهو بهذا الاعتبار إطلاق لا يجوز، وقد سئل الشيخ عبدالرحمن الدوسري عن هذا الإطلاق فأجاب قائلاً:
هذا افتراء عظيم تجرأ به على الله بعض فلاسفة المذاهب ومنفذيها جرأةً لم يسبق لها مثيل في أي محيط كافر في غابر القرون؛ إذ غاية ما قص الله عنهم التعلق بالمشيئة بقولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (4)
فكذبهم الله، وهؤلاء جعلوا للشعب الموهوم إرادة الأمر؛ لتبرير خططهم التي ينفذونها.
ويلزم من هذا الإفك إفساد اللوازم المبطلة له، والدافعة لمن قاله؛ إذ على قولهم الفاسد يكون للشعب أن يفعل ما يشاء، ويتصرف في حياته تصَرُّف مَنْ ليس مقيداً بشريعة وكتاب، بل على وفق ما يهواه، وعلى أساس المادة والشهوة، والقوة، كالشعوب الكافرة التي لا تدين بدين يقبله الله، ولا ترعى خلقاً ولا فضيلة.
فهذا الإفك العظيم لم يجرؤ عليه أبو جهل ومن على شاكلته مع خبثه وعناده؛ لأن قبحه معروف ببداهة العقول؛ حيث إن أذواق الشعوب ونزعاتها تختلف، فإذا جعلت إرادة الشعب من إرادة الله صارت نزعات الوجودية، والشيوعية، والنازية، والصهيونية، ووحشية الغاب وغيرها من إرادة الله التي أمر بها، وصار كل ما تهواه النفوس الشريرة، ويعشقه مرضى القلوب من التهتك، والانحلال ومعاقرة الخمر، ودغدغة الغرائز، وإشباع الشهوات على حساب الغير من أمر الله.
فعلام ينتقدون غيرهم، ويصيحون عليه إذا كانت إرادة الشعوب ورغباتها من إرادة الله في حكمه الذي يرتضيه؟ ولأي شيء يرسل الله الرسل، وينزل الكتب، ويشرع الجهاد، والأمر والنهي على الناس إذا كانت إرادتهم من إرادته التي يرتضيها؟
هذا هو عين المحال، ومنتهى الفجور والضلال، والذين تزعموا هذا الإفك لا يطبقونه على أنفسهم، بل يسمحون لها بغزو الشعب الذي لا يخضع لسلطانهم، ولا يسير وفق أهدافهم.
فكأن الشعب الذي يحكمونه هم بقوة الحديد والنار هو الشعب الذي إرادته ألوهيةً من إرادة الله.
والباطل لابد أن يتناقض، وينادي على نفسه بالبطلان؛ فقد أشركوا بالله شركاً عظيماً؛ إذ جعلوا الشعب ندَّاً من دون الله، وأهواءَه أنداداً لشريعته وحكمه، بدلاً من أن يكون محتكماً إلى الله، ملتزماً لحدوده، متكيفاً بشريعته، منفذاً لها.
6- قول بعض العامة: هذه طَشَّةٌ ما وُزِنَتْ: ويَعْنُون بذلك المطر، فإذا ازداد تهطاله وحصل الضرر من جرَّاء ذلك قال بعضهم: هذه طَشَّةٌ ما وُزِنَتْ !
فهذا التعبير تعبير خاطئ، ومناف للإيمان بالقدر؛ إذ كيف يظن أن قطرة مطر نزلت من السماء لم توزن؟! والله عز وجل يقول: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (5)
ويقول: (وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) (6)
ويقول: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ)(7).
7- قول بعضهم: إن العقرب تسابق القدر والحية مأمورة: فبعض العامة يطلق هذا القول، ويُفَرِّعُ عليه أقوالاً أخر، فيقول: إذا مرت بك العقرب وأنت تصلي، أو كنت قاعداً في مكان ما فاقطع الصلاة، وقم من مكانك، واحترز منها؛ لأن غائلتَها لا تؤمن؛ فهي تسابق القدر!
بخلاف ما إذا مرت بك الحية، فلا تقطع الصلاة إن كنت تؤديها، ولا تتحرك من مكانك إن كنت جالساً أو مستلقياً، فلا تحترز منها، بل دعها فإنها مأمورة !
وهذا الكلام مردود، فقولهم: إن العقرب تسابق القدر، قول باطل مخالف لما جاء في الكتاب والسنة، ولما تقرر بالعقل والإجماع من أنه لا يقع شيءٌ إلا بقدر الله عز وجل وقد مرَّت بنا الأدلة قريباً؛ فما الذي يخرج العقرب من عموم قدر الله عز وجل وأَخْذِه بناصية كل دابة؟!
قال ": العين حق ولو كان شيءٌ سابق القدر سبقته العين.
ثم إن قولهم: إن الحية مأمورة لا شك في ذلك، أما ألا نحترز منها؛ بحجة أنها مأمورة فهذا كلام باطل مخالف لتمام الإيمان بالقدر، لأن من تمامه الأخذَ بالأسباب، والتحرزُ من الحية من جملة الأسباب التي أمرنا بتعاطيها والأخذ بها، وإلا فكل شيء بأمر الله فهل نترك الأسباب بالكلية؟
الجزم بفعل الشيء أو وقوعه في المستقبل دون تقييد ذلك بالمشيئة: كحال من يقول: سأفعل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، دون أن يقيد ذلك بالمشيئة.
فهذا خطأ ينبغي للمسلم تجنبه، لقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (8)
وقل مثل ذلك في حق من يجزم بوقوع أمر ما في يوم كذا وكذا في المستقبل دون تقييد ذلك بالمشيئة.
قلة اليقين بأن العاقبة للتقوى والمتقين: فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق، والتشتت والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وظن أن الباطل سيدال على الحق إدالة دائمة مستمرة يضمحل معها الحق.
فهذا الأمر جد خطير، وهو مما يعتري النفوس الضعيفة، التي رق إيمانها، وقل يقينها.
فهذا مما ينافي الإيمان بالقدر، وهو دليل على قلة اليقين بوعد الله الصادق، والتفاتٌ إلى الأمور المحسوسة دون نظر إلى عواقب الأمور وحقائقها.
وإلا كيف يظن هذا الظن والله عز وجل قد كتب النصر في الأزل، وسبقت كلمته بأن العاقبة للتقوى وللمتقين، وأن جنده هم الغالبون، وهم المنصورون، وأن الأرض يرثها عباده الصالحون؟
فمن ظن تلك الظنون السيئة فقد ظن بربه السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله، وكماله، وصفاته، ونعوته؛ فإن حمده، وعزته، وحكمته، وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة والغلبة للمشركين.
فمن ظن ذلك فما عرفه، ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته؛ فلا يجوز في حقه عز وجل لا عقلاً ولا شرعاً أن يظهر الباطل على الحق، بل إنه يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق.
أما ما يشاهد من تسلط الكفار واستعلائهم فإنما هو استعلاء استثنائي، وذلك استدراجٌ وإملاءٌ من الله لهم، وعقوبة للأمة المسلمة على بعدها عن دينها.
ثم إن سنة الله ماضية فـ (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (9)، وهذه الأمة تذنب، فتعاقب بذنوبها عقوبات متنوعة منها ما مضى ذِكْرُه؛ كي تعود إلى رشدها، وتؤوب إلى ربها، فتأخذ حينئذ مكانها اللائق بها.
ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة تعاقب في هذه الدنيا، حتى يخف العذاب عنها في الآخرة، أو يغفر لها بسبب ما أصابها من بلاء.
3 التألي على الله عز وجل : والتألِّي على الله هو الإقسام عليه عز وجل كأن يقول شخص لآخر: والله لا يغفر الله لفلان.
فهذه المقولة قد تصدر من بعض من ينتسب للخير، ممن قل فقهه وعلمه، فتراه مثلاً يحرص على دعوة عاصٍ من العصاة، فإذا رأى منه إعراضاً عن النصح، وصدوداً عن الخير، وتمادياً في المعاصي أيس منه، وأقصر عن نصحه، وربما قال: والله لن يغفر الله لك، هكذا بصيغة الجزم.
وهذه المقولة خطيرة، ولها آثار وخيمة؛ فهي سبب لحبوط العمل، وهي مما يتنافى مع الإيمان بالقدر؛ ذلك أن الهداية بيد الله، والخواتيم علمها عند الله.
فمن ذا الذي أخبر هذا القائل بأن الله لا يغفر لذلك العاصي؟ وما الذي سوَّغ له أن يحجر رحمة الله عز وجل ؟!
ولهذا جاء في صحيح مسلم عن جندب ÷ أن رسول الله " حدَّث: أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟ فإني غفرت لفلان وأحبطت عملك.
ومعنى يتألَّى عليَّ: أي يقسم ويحلف عليَّ، والأليَّة بالتشديد هي الحلف.
4 استطلاع المستقبل عند الكهان والمنجمين: فالذهاب إلى الكهان والمنجمين، واستطلاع المستقبل عندهم والأخذ بكلامهم، وتصديقهم فيما يخبرون به كل ذلك ضلال في باب القدر؛ لأن القدر غيب، والغيب علمه عند الله وحده .
وكذلك الحال بالنسبة لمن يصدقون بتأثير الأسماء والأبراج، فيما يجري للإنسان في حياته.
فتجد من الناس من يذهب لأولئك الذين ينظرون في النجوم والأسماء؛ ليستطلعوا من خلالها أسرار القدر؛ فتجدهم يقولون: إذا وُلد فلان في البرج المعين، أو كان فلان من الناس يحمل ذلك الاسم المعين فسيصيبه كذا وكذا في يوم كذا وكذا.
ومما يقوله ألئك الدجالون: من اسمك تعرف حظك، ومن شهر ميلادك تعرف حظك، وتجدهم يؤلفون كتباً في هذا الشأن، إلى غير ذلك من الهذيان، والتخرص، والرجم بالغيب؛ فهذا ضلال في باب القدر، وتكذيب بما أنزل الله على محمد "؛ لأن القدر غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل .
ثم إن القائلين بذلك متناقضون؛ فلو قدِّر للقارئ أن يطلع على كتابين، أو موضعين مختلفين، وكل واحد منهما يتحدث عن خصائص الأبراج لرأى التناقض، والاختلاف.
ثم هب أن إنساناً غير اسمه في منتصف العام، هل سيترتب على ذلك تغير حظه، وقدره؟!
المصادر :
1- سورة يس:47.
2- سورة الفلق: 12.
3- سورة المائدة:102
4- سورة الأنعام: 148.
5- سورة الحجر: 21
6- سورة المؤمنون: 18
7- سورة الرعد: 8
8- سورة الكهف: 23-24.
9- سورة النساء: 123