
القدر من الموضوعات الكبرى التي خاض فيها الناس، وشغلت أذهانهم في القديم والحديث؛ لأنه مرتبط بحياتهم وما فيها من تقلبات الأحوال من صحة ومرض، وفقر وغنى، وموت وحياة، وسعادة وشقاء، وما جرى مجرى ذلك.
ولا يوجد مذهب من المذاهب التي قال بها الفلاسفة المسلمين من أهل الكلام والتصوف إلا وقد قال بمثلها غيرهم ممن سبقهم، ويقول بها بعض علماء أوربة، وفلاسفة الغرب عموماً.
والأقوال في القدر بإجمال لم تتغير قبل أو بعد، فهي ترجع إلى ثلاثة أقوال:
1- قول أهل الجبر: الذين يقولون: إن الإنسانَ مجبورٌ على أفعاله، وليس له إرادة ولا قدرة.
ويمثل هذا في الفرق الإسلاميةِ الجهميةُ ومَنْ وافقهم، وهو ما يُسمَّى في العصور المتأخرة بالمذهب الحتمي.
2- قول أهل حريَّةِ الإرادة، واستقلال الإنسان في أفعاله عن خالقه، وأنَّ الإنسانَ له إرادة مستقلة عن إرادة الله، وأنه هو الذي يخلق أفعاله.
ويمثل هذا المذهبَ المعتزلةُ القدرية، ومن وافقهم.
3- وهناك قولٌ وسط بين هؤلاء وهؤلاء؛ حيث يثبت القائلون به القدر، وأنَّ الله خالق كلِّ شيء، ويقولون مع ذلك : إنَّ للإنسان قدرةً يفعل بها، ومشيئةً يختار بها، وقدرته ومشيئته واقعتان بقدرة الله، ومشيئته تابعتان لهما.
وهذا هو قول السلف، وأتباع الأنبياء.
وبين هذه الطوائف الثلاثة قد تنشأ فرق أخرى تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة أخرى، ويكون الحكم عليها بحسب ما يغلب على مذهبها، وهذا ما تقرر بعضه فيما مضى، وسيتقرر بعضه بما سيأتي.
قول الهنود والبابليين والمصريين القدماء في القدر
أولاً: قول الهنود القدماء في القدر: الهنود الأقدمون يجعلون للقدر الحكمَ الذي لا حكم غيره في جميع الموجودات، ومنها الآلهة، والناس، والأحياء، والنبات، والجماد.ولا فكاك من قبضة (الكارما) في أدوارها التي تتعاقب بين الوجود والفناء إلى غير انتهاء.
ولا اختيار للإنسان في الحالة التي يولد عليها؛ لأنها مقدورة عليه من قبل ميلاده من أزل الآزال إلى أبد الآباد حتى ينفصل دولاب الخلق باجتناب الولادة، واللياذ بعالم الفناء، أو عالم =النرفانا المطلق من قيود الوعي، والشعور بالشقاوة والنعيم.
ثانياً: قول البابليين القدماء في القدر: البابليون كانوا أصحاب نجوم وأرصاد، فعرفوا الإيمان بالقدر على ما يظهر من طريق الإيمان بالتنجيم؛ لأنهم آمنوا بسيطرة الكواكب على مقادير الأحياء وغير الأحياء؛ فكل مولود يولد فإنما تكون ولادته تحت طالع من الطوالع التي تتعلق بكوكب من كواكب السماء.
والأرض نفسُها وُجدت تحت طالع من هذه الطوالع؛ فلا يجري حدث من الأحداث إلا بحساب مرقوم في سجل الأفلاك والبروج.
وكانوا يعتقدون بالسعود والنحوس؛ فيزعمون أنَّ من النجوم ما يسعد ويعطي، ومنها ما يُشقي ويَحْرِم، وأنه لا مهرب للإنسان من طالعه الذي يلاحقه بالسعد، أو بالنحس مدى حياته.
ولكن المنجمين قد يعلمون مجرى هذه الطوالع فيعالجونها بالحساب.
ثالثاً: قول المصريين القدماء في القدر: كان المصريون القدماء وسطاً بين الإيمان بحرية الإنسان والإيمان بسيطرة الأرباب؛ لأنهم آمنوا بالثواب والعقاب في العالم الآخر؛ فكان إيمانهم هذا كالإيمان بأنَّ الإنسان يعمل وأنَّ الأرباب تتولى جزاءَه عن عمله بعد ذلك؛ فهي أي الأرباب قادرة لا شك في قدرتها، ولكنَّ الإنسان قادر على عمل ما يرضيها، فيستحق ثوابَها، أو يغضبها فيستحق عقابها.
قول الفلاسفة في القدر
عامة الفلاسفة يقولون: إنَّ الله فاعل العالم، وصانعه، والمشهور عنهم قولهم إنَّ الله يعلم الأشياء على وجه كلي ثابت لا يدخل تحت الزمان، وإنه لا يعلم الجزئيات التي تُوجب تجدد الإحاطة بها تغيراً في ذات العالم كما قال ذلك ابن سينا.وإثبات العلم له على هذا الوجه يدل على الإيمان بسبق علمه تعالى للحوادث، لإحاطة علمه بها.
ومع ذلك أنكروا علم الله تعالى بالجزئيات.
وحقيقة قولهم أنه لا يعلم شيئاً؛ فإن كل ما في الخارج هو جزئي.
ويكفي في بطلان ذلك قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(1).
أما بالنسبة للجبر والاختيار فيختلف ذلك من فيلسوف إلى فيلسوف، فهذا أفلاطون على سبيل المثال يرى أنَّ نسبة الشر تكون إلى الجهل وقلة المعرفة، ويرى أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرف، بل يُساق إليه بجهله، أو بعوارض المرض والفساد فيه.
ولكنه لا يُساق بتقدير الآلهة؛ لأنَّ الآلهة كما يرى خيرٌ لا يصدر عنها إلا الخير؛ فالشر موجود في هذا العالم ولكنه ليس من تقدير الآلهة.
أما أرسطو فيرى أنْ لا قدر، ولا تقدير؛ فكلُّ إنسان حرٌّ فيما يختاره لنفسه؛ فإن لم يستطع أن يفعل فهو في الأقل مستطيع أن يمتنع.
وبالجملة فلفلاسفة اليونان غير أفلاطون وأرسطو مذاهب في القدر تتراوح بين مذهب الجبر ومذهب الحرية، وتتوسط بينهما في القول بالاضطرار، أو القول بالاختيار.
قول اليهود في القدر
كان اليهود في الأصل على الدين الذي جاء به موسى عليه السلام وهو التوحيد والإسلام وهو دين جميع الرسل، وهو الدين الحق في شرائعه وعقائده، ومنه القدر.وبعد موسى عليه السلام تفرق اليهود شيعاً وأحزاباً، وصاروا فرقاً كثيرة كما أشار إلى ذلك الرسول " في الحديث المشهورة: =تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة.
واليهود أمة جبلت على التقلب، والتفرق، والاختلاف، ولبس الحق بالباطل خاصة بعد أنبيائهم.
أما بالنسبة للكلام على القدر الإلهي فإنه قديم في الكتب الإلهية، وقد وردت الإشارة إليه من أول الأسفار المعتمدة إلى آخرها، ولكن على درجات في أساليب التقدير تختلف باختلاف الاعتقادات التي يفرضونها للإله، وباختلاف نصيبه عندهم من عظمة المشيئة، وعظمة القدرة، وعظمة الصفات.
والقدر عنهم مشيئة حاكم يأمر وينهى، ويرجع عما أمر به وقضاه، ولم يفهموا القدر على أنه نظام شامل للوجود محيط بالأكوان.
وإنما كان =يَهْوَه إله اليهود يجري فيه على حكم، ثم يندم عليه، ويبدله تارة على حسب الحالة التي تطرأ بغير حساب.
وبالجملة فقد اشتهر عن اليهود في القدر مذهبان:
الأول: مذهب الربانيين: وهم فرقة من فرق اليهود ويسمون بـ =الفريسيين، ومعناها: المنعزلون، أو المنشقون.
وقد أطلق أعداؤهم عليهم هذه التسمية؛ لذلك فهم يكرهونها، ويسمون أنفسهم: الربانيين، أو الإخوة في الله.
وكان هؤلاء موجودين قبل الميلاد، وهؤلاء ينفون القدر
الآخر: مذهب القرَّائين: وهو من فرق اليهود.
وهؤلاء لا يعترفون إلا بالتوراة العهد القديم كتاباً مقدساً، وليست عندهم روايات شفوية؛ ولذلك فهم يعترفون بالتلمود.
ومذهب هؤلاء: هو القول بالجبر.
قول النصارى في القدر
للنصارى في القدر قولان:فالمسيحيون الشرقيون، ويسمون بـ اليعاقبة ، أو اليعقوبية وهم أتباع يعقوب البراذعي، فهؤلاء يقولون: إن الإنسان مخير.
والآخرون وهم النساطرة، أو النسطوريون؛ نسبة إلى نسطور الذي كان بَطْرِيَرْك القسطنطينية سنة 431 فهؤلاء يقولون بالجبر.
وهناك تشابه كبير بين آراء بعض النصارى كالنساطرة والشرقيين وبين آراء بعض المعتزلة؛ مما حدا بكثير من الباحثين إلى القول بأنَّ آراء المعتزلة مستقاة من النصارى السابقين.
ويؤيد هذا أن أول من أشاع القدر وهو معبد الجهني قد أخذ عن سوسن النصراني كما أشار إلى ذلك الإمام الأوزاعي كما سيأتي عند الحديث عن نشأة القول بالقدر.
يقول المستشرق الإيطالي نيلينو: =كان بعض المتكلمين الأولين قد بدأوا تحت تأثير اللاهوت المسيحي في الشرق بطريقة غير مباشرة يبحثون هذا القَدَر، ويحاولون أن يفسروه، بمعنى يوافق اختيار الإنسان وحريته في أفعاله؛ حتى يُمْكِنَ تبريرُ وجود الثوابِ والعقاب في الدارِ الآخرة تبريراً تاماً.
وهناك من النصارى من يقرب مذهبه من القول بالتوسط بين الجبر والاختيار، والاعتقاد بعلم الله السابق.
ومن هؤلاء القديس أوغسطين الذي لقي عنتاً شديداً من جراء التفكير في موضوع القدر، ولكنه اعتقد بعد هذا القلق أنه استراح من وسواسه هذا بالتوفيق بين النقائض.
وكان مدار راحته النفسية أنَّ سَبْقَ العلم بعمل الأخيار وعمل الأشرار صفةٌ لا تنفصل عن الذات الإلهية، وأنَّ الله عَلِم ما سيكون كما سيكون، ولا بد أن يعلمه العلم الصحيح، ويقدره تقديره على حسب علمه المحيط بجميع الكائنات.
ويوافقه على هذا الرأي القديسُ =توماس ألاكويني ويرى أنَّ الإنسان يقود نفسه، ولا يُقاد كما تُقاد الدواب، وأنَّ الإرادة تتبع العقل، والعقل نعمة من نعم الله على الإنسان.
وغاية التقدير عند توماس ألاكويني كفاية التقدير عند أستاذه القديم أوغسطين.
قول المفكرين والفلاسفة الغربيين المتأخرين في القدر
لا يزال فلاسفة العصر يخوضون في مباحث موضوع القدر على تفاوت كبير بين القول بالجبر، والقول بالحرية الإنسانية، ومنهم من يقول بأن الإنسان يشترك في التقدير ويخضع له؛ لأنه كما يرون جزء من عناصر الطبيعة التي تفعل فعلها في الأحداث الكونية، ولا يقتصر أمرها كله على الانفصال.وحلت الحتمية محل الجبرية القديمة في اصطلاح العلماء.
فالقائلون بالحتمية يقولون بها لأنهم يؤمنون بالنظم الإلهية وحدها، ولا يؤمنون بإرادة إلهية تتعرض لتلك النظم بالتبديل والتحويل.
ومن ثم أصبح القول بالحتمية مناقضاً للجبرية في كلام علماء الأديان؛ لأن الجبرية تحصر الإرادة كلها في الإله المعبود، أما الحتمية فهي في الأقل لا تستلزم وجود إله إلى جانب القوانين التي يفسرون بها حركات الوجود.
ومما يوضح الفرق بينهما أن ضرورة حدوث الأشياء عند الجبريين ضرورة متعالية بمبدأ أعلى منها يسير كما يشاء، وهو قضاء الله وقدره على حين أن هذه الضرورة في نظر الحتميين كامنة في الأشياء سارية فيها وهي الطبيعة بعينها.
وإذا كان بعض الفلاسفة الحتميين يثبتون الحرية الإنسانية فَمَرَدُّ ذلك إلى محاولتهم التوفيق بين حتمية الحوادث النفسية وتلقائية الموجود العاقل.
وفيما يلي ذكر لبعض أقوال أكابر الفلاسفة والمفكرين الغربيين المـتأخرين.
1- ديكارت: يقول: إن الجسد محكوم بقوانين الطبيعة كسائر الأجسام المادية، ولكن الروح طليقة من هذه القوانين، وعليها أن تجاهد الجسد، وتلتمس العون من الله بالمعرفة والقداسة في هذا الجهاد.
ومن تلاميذه من يقول: إن كلَّ شيء حُرٌّ في كل فعل من أفعاله، لكن الله يعلم منذ الأزل ما سيفعله كل أنسان؛ لأنه عليم خبير.
2- سبنيوزا: يرى أنَّ كلَّ شيءٍ يقع في الدنيا فلابد أن يقع كما وقع، ولا يتخيل العقل وقوعه على نحو آخر؛ لأنَّ كلَّ شيء يصدر من طبيعة الجوهر السرمدي ويعني به الله .
وما في الدنيا من خير وشر على السواء هو من إرادة الله، ولكنه يبدو لنا شراً؛ لأننا محدودون، وننقص من ناحية، ونتلقى الشر من حيث ننقص.
أما الجوهر السرمدي فلا يعرض له النقص.
3- عمانويل كانت: كان يقرر ضرورة الأسباب في عالم التجارب المحسوسة، ولكنه يرى هنالك عالماً أعلى من عالم المحسوس، هو عالم الحقائق الأبدية.
وحرية الإرادة حقيقة من هذه الحقائق عند الفيلسوف؛ فإن لم نجد لها برهاناً من ترابط الأسباب في التجارب الحسية فيكفي أن نعلم أن الإيمان بحرية الإرادة لازم لتقرير الأخلاق البشرية، والتكاليف الأدبية.
ولزوم هذا هو أقوى دليل نستمده من الحس على صدق الإيمان بها، ووجوب العمل على مقتضى هذا الإيمان.
4- هيجل: ويتلخص مذهبه كله في الفلسفة التاريخية التي تقرر أن تاريخ العالم بأجمعه إنما هو ترويض الإرادة الطبيعية الجامحة حتى تخضع مِنْ ثَمَّ لقاعدة كونية عامة تتولد منها الحرية الذاتية.
5- شوبنهور: ويقوم مذهبه على الإرادة والفكر، ولكن الإرادة في نظره هي مصدر الشر كلِّه في الكون وفي الإنسان.
والإرادة في الكون توحي إلى إرادة الإنسان أن يستأثر لنفسه بالمتعة ويعاني ما يعانيه من الطلب والكفاح، ولا يزال أسيراً لهذه الإرادة التي تعزله عن ما حوله حتى يخلص إلى عالم الفكرة، فينجو من الأثرة الفردية، وينتقل إلى عالم السكينة والعموم الذي لا تنازع فيه بين أجزاء وأجزاء، ولا بين إرادة وإرادة.
فكلما كانت هناك إرادة فهناك شر، وكل تقدير في رأيه فهو على هذا تقديرُ شرورٍ لا يتأتى الفكاك منه بغير الخروج من عالم التقدير.
6- سارتر: يرى سارتر وغالب الوجوديين أن الإنسان متفرد بنفسه، وأنه صاحب حرية وإرادة واختيار، ولا يحتاج إلى موجه.
والوجودية عند سارتر هي طاعة النفس، والوجودي في مذهبه هو الذي لا يقبل توجيهاً يأتي إليه من الخارج.
ويرى أن الوجودية لا تتحقق إلا إذا أطلق لنفسه الرغبات بحيث يفعل ما يشاء، ويدع ما يشاء غير مبالٍ بعرف أو دين.
ومن أقواله في ذلك: إنك تستطيع أن تفعل ما تريد، وليس ثمة من له الحق في توجيه النصح إليك، وليس في نظرك شر وخير إلا إذا خلقتها .
المصدر : 1- سورة الأنعام:59