تناولت الموسوعة التشريعية تقييم اليتيم من الجهتين : الاجتماعية والمالية.
فشرعت له في هذين المجالين ما يحقق رعايته كفرد فقد كفيله ، فأصبح إلى من يبادله العطف ، والحنان ، والتربية الصالحة ليكون فرداً صالحاً لا تؤثر على نفسيته حياة اليتيم ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافاً يسقطه عن المستوى الذي يتحلى به بقية الافراد ممن يتنعم بحنان الابوة ، وعطفها.
ومن جهة أخرى أحكمت له حقوقه المالية حيث يكون ـ والحالة هذه ـ عرضة للاستيلاء من جانب الاقوياء.
١ ـ اليتيم وحقوقه الاجتماعية :
لقد تنوع الاسلوب التشريعي في بيان حقوق اليتيم الاجتماعية : ولكنه شرع معه من حين الطفولة المبكرة لما لهذه المرحلة من الاهمية البالغة في احتضان اليتيم ، وإيوائه ليعيش في جو من الحنان الدافىء لينسيه مرارة اليتم ، وليعوض عليه ما فاته من عواطف الابوة.
ولذلك نرى الكتاب الكريم يسلك طريقاً جديداً للوصول إلى بيان حقوق اليتيم الاجتماعية ذلك هو توجيه الخطاب إلى النبي الاكرم متخذاً من الواقع المرير الذي مر به وهو طفل خير درس يوجهه إلى الأفراد لرعاية هذه الزهور الذابلة.
من هذه النقطة سيكون المنطلق لمسيرة الاسلام مع الحملة التوجيهية لليتيم.
لقد مرت هذه الادوار بالرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم فقد أباه وهو طفل فقيض الله له جده عبد المطلب ( شيخ الابطح ) ليقوم برعايته ، وتربيته فقد شاءت الحكمة الإِلهية أن يذوق المنقذ الاول للانسانية مرارة اليتم ، فيفقد الحنان الابوي لولا أن يعوضه الله بمن سد له هذه الخله ليطبق الدرس تطبيقاً عملياً فتسير الامة على هداه ، وتنحو هذا النحو من السلوك الذي تتمخض نتائجه بالتوجيه الصالح للافراد.
١ ـ ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ).
٢ ـ ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ ).
٣ ـ ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ).
٤ ـ ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) (١).
هذه الآيات الكريمة جمعت بين طياتها درساً كاملاً لكل ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية.
فهي الدستور الذي لا بد من تطبيقه للوصول إلى الغاية السامية من رعاية حقوق الضعفاء.
وهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لابد للكبار من اجتيازها للوصول بهذا الانسان إلى الهدف المنشود.
فالمشاكل التي يواجهها اليتيم في بداية الشوط ثلاث :
ـ المسكن الذي يلجأ إليه.
ـ والتربية الصالحة بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم.
ـ والمال الذي ينفق عليه منه.
١ ـ إيواء اليتيم :
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ).
أول ما يحتاجه اليتيم في هذه الحياة هو :
الحضن الذي يضمه.
والصدر الذي يغمره بدفئه.
والبيت الذي يمرح فيه.
فإذا تهيأت هذه الثلاث كان بالامكان أن يحفظ هذا الطفل المهمل ليقوم بالانفاق عليه مادياً ، ومعنوياً.
ومن هنا جاءت فكرة الملاجيء للأيتام ومدى ما تسديه من خدمة للمجتمع في محافظتها على هذه الفئة من الاطفال.
لذلك يبدأ الكتاب المجيد بتذكير المشرع الاعظم بأولى مراحل احتياجاته وهو طفل يتيم فيخاطبه بهذا الاسلوب الهاديء لينقله إلى ذلك الدور الذي مر عليه.
أنت أيها المشرّع أحسست بهذا الشعور يوم ودع أبوك هذه الدنيا وهو في ريعان شبابه فكنت مشتبكاً لهذه الحوادث القاسية فأواك الله ، وعطف عليك قلوب الحواضن ، وإذا بجدك عبد المطلب يحتضنك فيوليك من حنانه ما يعوضك عن حنان الابوة ، ويوصي بك لعمك أبي طالب فيكفلك ويفضلك على أولاده وليكن بعد ذلك خير ساعد لك على دعوتك المقدسة ووسط هذا العطف تنعمت بما أنساك مرارة الوحدة الابوية وذل اليتم.
هذا العم الحنون الذي جاهد ، وكافح في سبيل رعاية ابن أخيه في الوقت الذي كانت العرب تنظر إليه كسير الجناح مهيض الجانب يتيماً لا أب له.
ان أبناء الجزيرة ـ كما أسلفنا ـ كانوا قد فقدوا القيم الرفيعة بتكالبهم الوحشي على اغتصاب الآخرين.
لذلك كانت الشريعة المقدسة قد غيرت المفاهيم الخاطئة وأصلحت ما كان منها فاسداً ، فاختارت من بين هذه المجموعة الضعيفة يتيماً كان محطاً للرحمة الإِلهية في تبليغ رسالة السماء إلى أبناء الارض ليعطي صورة واضحة عن القيم ، والاخلاق وليزيل عن الاذهان الصور الخاطئة ، والتي كانت تعبر عن الانحراف الذهني لابناء الجزيرة العربية في عصورها المظلمة.
إذاً فلا بد من المأوى لليتيم ، ولا بد من تهيئة الملجأ لليتيم فبلا مأوىً سيصبح هذا الطفل متسولاً تتلاقفه ارصفة الشوارع ، ومنعطفات الأزقة ، فيكون عالة على بلده ، ويكون هذا التسيب مبدأ مسيرته الاجرامية ، فلا مخدع يؤيه ، ولا رقيب ينتظره يقطع ساعات الليل متسكعاً ليلحقها في نهارة منبوذاً تحتضنه تكايا الرذيلة فاذا به عضو فاسد تخسره الامة ، ويكون وبالاً عليها وعلى أبنائها.
وقد جاء في الخبر عن النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) قوله « خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه » (2).
فلماذا هذه الاساءة لطفل لا ذنب له ، ولا دخل له في تحقق اليتم ، وإنطباقه عليه. إنه كبقية الاطفال ، وقد شاءت الاقدار أن تخطف منه من يحنو عليه ، فهل يكون ذلك سبباً في تسويغ الاساءة إليه.
إن العطف الانساني ، واللطف ، والرعاية ليدعو كل ذلك إلى تقديم هذا المحروم على بقية الاولاد ممن يضمهم البيت لئلا يشعر اليتيم بذل الوحدة ، ومرارة الوحشة. وإلا فإن البيت الذي لا يجد هذا الصغير فيه المعاملة الحسنة هو شر البيوت كما يحدث عنه الخبر ، وبالعكس إن وجد اليتيم اليد الحانية في ذلك البيت ، والعطف الذي يدغدغ قلبه الكسير كان ذلك البيت خير بيت تحوطه البركة ، وتشمله الرعاية الإِلهية.
٢ ـ الانفاق على اليتيم :
( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ ).
وسواء كان الغنى المقصود هو الانفاق من أبي طالب ، أو الاموال التي صرفتها خديجة على النبي الاكرم فان المال هو العصب الذي يقوم بحفظ حياة الانسان ليحقق له احتياجاته كإنسان يأكل ، ويشرب ، ويلبس.
ان الغنى هو ما يقابل الفقر على كل حال ، ولذلك أخذت الآية الكريمة تذكر نبي الرحمة بهذه النقطة الحساسة لتدفع في نفسه الهمة على مساعدة الضعفاء ممن مروا بهذه المرحلة العسيرة.
فاليتيم وهو فقير بحاجة إلى من يمد له يد العون فيشبع له بطنه ، ويستر له عريه ولذلك تنوعت دعوة القرآن إلى مساعدة الضعفاء ، والاخذ بأيديهم لتأمين احتياجاتهم المعاشية.
ولنستعرض معاً هذه الطرق التي سلكها الكتاب الكريم لحث الناس على الانفاق والعطاء.
التجارة مع الله
ومن بين تلك الاساليب التي تجلب الانتباه هو ما يسلكه القرآن في سبيل تشويق الافراد الى الانفاق بجعل عملية العطاء عملية مقايضة بين الانفاق ، والجزاء منه على هذا العمل الانساني.
وبذلك يكون المنفق قد سد خلة اجتماعية بمساعدته لهؤلاء المحتاجين والله لا يحرمه على هذه الاريحية بل يعوضه في الدارين :
في هذه الدنيا بزيادة الربح ، والبركة في ماله. وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وتتوالى الآيات الكريمة لتعطينا صورة واضحة عن هذه الاتفاقية بين العبد ، وربه.
( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ) (3).
( آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (4).
( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (5).
( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (6).
ولم تكن هذه الآيات الكريمة هي كل ما تعرض له القرآن الكريم في التشويق على الانفاق ، بل هناك أمثالها تحتوي عليها السور القرآنية ، وهي بمجموعها تصور اسلوباً دقيقاً في الحث على المساعدة ، ودفع الافراد إلى سبيل الخير.
وبهذا الاسلوب كانت الآيات تستنهض همم الاغنياء إلى مساعدة البائسين من الايتام وغيرهم.
ولكن الروعة النفسية تظهر في اختيار هذا النوع من الحث على المساعدة بهذا الاطار الترغيبي المحبب.
فالآيات الكريمة تحرك من الافراد جوانبهم العاطفية فتبدأ معهم بلهجة يلاحظ القارىء فيها آثار الشدة ، وأن الله ليس بمحتاج إلى العبد في ترغيبه إلى هذه المشاريع الخيرية ، بل على العكس من ذلك فان الله يمن على العبد بإرشاده إلى ما فيه خيره ، وصلاحه.
( هَا أَنتُمْ هَٰؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ) (7).
وإذا ما التفت الفرد ، وعرف أنه الفقير إلى تقديم الخير لينتفع بهذا الاحسان ، فيخفف به عما يلحقه من الذنوب رأينا هناك حقيقة أخرى تتكشف له لتدفعه بشكل عنيف إلى اعتناق مبدأ الانفاق ، والاحسان ، وتتجسد في قوله تعالى :
( وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ).
أنها ليست مسألة خسارة من جانب المنفقين ، كما وأنها ليست عملية كاسدة حينما يجد العبد جزاء ما يقدمه موجوداً عند الله فهو بهذه العملية يتاجر مع الله عز وجل وهي تجارة ـ حتماً ـ رابحة ، ومضمونة تجر لصاحبها الربح الوفير.
ان العمليات التجارية المتضمنة لمبدأ الربح هي الطريقة التي يسير عليها في حياتهم المعاشية لتأمين الكسب ، والنفع ولذلك اختار الاسلوب القرآني هذه الطريقة ليصل إلى النتائج المطلوبة من النافذة التي يطل منها الفرد في حياته اليومية.
وأنها صورة حية مستوحاة من الحياة العملية الدارجة ليلتفت اليها الفرد فيقارن بينها ، وبين ما هو مألوف له فيما يسير عليه كل يوم لئلا تحتاج العملية إلى تصور دقيق وبحث عميق.
( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (8).
وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي يمارسها الفرد.
أنها حياة الزراعة ، والنمو. وحياة الربح ، والاستفادة.
ومن منّا لم يشاهد الزرع ، وكيفية نموه ، والربح المتوخى من وراء الزرع أنها حبة واحدة إذا بارك الله فيها تقدم لزارعها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. والنسبة الحسابية لهذه العملية هي.
واحد في قبال سبعمائة ، وهو ربح وفير مغرٍ يناله الزارع من الارض الميتة ، والانفاق في سبيل الله مثله كمثل الحبة تزرع في الارض.
وليقارن الفرد بين العمليتين الحبة يزرعها في الارض فيجني من وراء هذه النبتة سبعمائة حبة.
الدرهم ينفقه الانسان في سبيل الله يجني من ورائه سبعمائة درهم ، أو بمقدار هذه النسبة من الأجر عند الله.
فما ينفقه الملي لانتشال الضعيف من برائن المرض ، والجهل والفقر يساعده على السير إلى الامام ، ومن ثم تحويله إلى المجتمع عضواً صالحاً تستفيد الامة من مواهبه ينتج له بالاضافة إلى هذه الخدمة التي ترضي ضميره ربحاً من الثواب ينتفع به يوم لا ينفع مال ، ولا بنون ، ومن ثم فلطف الله لم يقف عند حد ورحمته أوسع من أن تقدر بقدر ، وبعد كل هذا الربح المعاوضي.
( وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ).
وليقدر العبد هذه المضاعفة حيث لم تحدها الآية الكريمة إلى مرة ، أو مرتين بل الله يضاعف ، ولتقر عين العبد إذا كان ربه أحد طرفي هذه العملية ، وليس كأحد التجار يحسب معه الحساب الدقيق ، بل هو كريم بلطفه ، ورحيم بعطفه.
ولربما يستكثر البعض أن يكون هذا العمل الانساني مثمراً بهذه الكثرة كمثل الحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، وبعد كل ذلك فالله يضاعف لمن يشاء.
ويجاب عن ذلك : وهل يحد فضل الله ، وإحسانه ، أو تقف رحمته عند حد أنها العناية الإِلهية هي التي تؤلف بين هذه القلوب الانسانية فتهب الخير ، والثواب ازاء عمل يخدم به مصلحة الآخرين ليكون أداة لتشجيع الباقين.
وتتوالى الصور الحية يعرضها القرآن الكريم ليهيج مشاعر الانسان لتوجيهه نحو عمل الخير ، ومن جملة هذه الصور المعروضة.
( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ).
ويحاول القرآن الكريم أن يعيش مع الافراد ليدخل إلى قلوبهم ، ويعرض عليهم صوراً من الدروس الحية فيمثل لهم أمثلة نابعة من صميم حياتهم اليومية ليكون ذلك أبلغ في الوصول إلى المقصود.
فمرة يمثل الانفاق بالتجارة.
وأخرى يمثله بالزراعة.
وثالثة يعرض أمام القارىء صوراً لحبة على ربوة وإذا بالمطر يغمرها فتقدم نتاجها المضاعف.
كل ذلك ليصل ممن وراء هذه الصور الى القلوب ليغرس فيها حُب الخير بالانفاق الى الضعفاء ، والمعوزين لئلا يبقى فقير جائع بين المجموعة.
وإذا ما أذكى نغم القرآن العذب لهب العزم على الخير في تلك القلوب التي استجابت لنداء الحق ، وقرب إلى أذهانهم نتائج أعمالهم الطيبة كحبة أثمرت سبعمائة حبة ، أو كحبة أتت أكلها ضعفين.
وأنهم بذلك يربحون صفقة تجارية رابحة أحد طرفيها ـ الله عز وجل ـ هرع الناس إلى النبي الاكرم يسألونه عن بنود هذه العملية الرابحة ، ويتكشفون منه حقيقة هذا الانفاق الذي يريده الله.
ماذا ولمن ؟.
فنوعية الانفاق ، وكيفيته ، وجنس ما ينفق ، ولمن يكون الانفاق ، وعلى من يلزمهم الصرف ، والعطاء.
( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (9).
والسؤال في ظاهر الآية عما ينفق بينما جاء الجواب عمن ينفق عليه ولرفع هذا الالتباس يقول علماء التفسير.
فان قلت : كيف طابق الجواب السؤال في قوله ( مَا أَنفَقْتُم ) وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون واجيبوا ببيان المصرف.
قلت : قد تضمن قوله ( مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبين الكلام على ما حداهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها » (10).
وقال الطبرسي : « السؤال عن الانفاق يتضمن السؤال عن المنفق عمله فانهم قد علموا أن الأمر وقع بإنفاق المال فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة وعلى من ينفق » (11).
لقد كان التحضير من الآيات الكريمة السابقة في الترغيب والتشويق الى الانفاق هو الذي دعاهم للسؤال عن كيفية الإِنفاق.
لذلك بدأ القرآن يبين لهم مراحل الإِنفاق بجهتيه :
نوعيته ، ومصرفه.
فعن النوعية لم يحدد لهم شيئاً يفرض فيه الانفاق ، بل ترك ذلك إلى تقديرهم.
فالاطعام خير ، والكساء خير ، والمال خير.
وهكذا نرى الشارع المقدس يترك الباب مفتوحاً ، فلم يحدد نوعية الانفاق ، بل يصفه بالخير جاء ذلك في آيات عديدة قال تعالى فيها :
( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ ).( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ).( وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (12).
وعن المصرف ، وهو المنفق عليه : بدأ الكتاب الكريم بأسرتي الإِنسان الخاصة ، والعامة ليحيط بره جميع الاطراف التي تضم الانسان.
فالاسرة الخاصة : وتتألف من الابوين العمودين ومن ثم الحواشي ، وهم الاطراف النسبية قال تعالى :
( قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ).
واذا ما تجاوزنا أسرة الانسان الخاصة رأينا القرآن الكريم يلحق بهذه الاسرة المكونة من الوشائج النسبية الاسرة العامة ، وتتألف من :
اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل.
وهذا التدرج هو الذي تقتضيه طبيعة الاجتماع في هذه الحياة ، وقوانينه.
فالوالدان عمودا الانسان ، ومن ثم حواشيه وهم أطرافه وكلالته على حد تعبير الفقهاء لهم حصة في الميراث حسب التدرج في الطبقات لانهم يحيطون بالرجل كالاكليل الذي يحيط بالرأس.
ومن ثم يتعدى في المراحل إلى الجماعة العامة من أصناف المعوزين.
ولا بد للمنفق من السير على هذا الخط الذي رسمته الآية الكريمة فانه من الايحاءات في البيئة المتقاربة ، والتي هي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً كما يقوله الحديث الشريف.
واذا ما عرضنا فقرات الآية الكريمة على هذا النحو من الاجمال فلا بد لنا من الاحاطة بكل فقرة على نحو من التفصيل لنصل من وراء ذلك إلى ما يعطيه هذا التموج التدريجي في التركيب الفني الجميل.
المصادر :
1- سورة الضحى : الآيات ( ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ).
2- أخرجه ابن ماجة تحت رقم (٣٦٧٩).
3- سورة فاطر : آية (٢٩).
4- سورة الحديد : آية (٧).
5- سورة البقرة : آية (٢٦١).
6- سورة البقرة : آية (٢٦٥).
7- سورة محمد : آية (٣٨).
8- سورة البقرة : آية (٢٦١).
9- سورة البقرة : آية (٢١٥).
10- الكشاف للزمخشري : في تفسيره لهذه الآية.
11- مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.
12- سورة البقرة : الآيات ( ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ).