![سياسة الدولة العباسية سياسة الدولة العباسية](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9%20,%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9.jpg)
فلما قبض العباسيون على أزمة الملك، جعلوا عاصمة مملكتهم بين شيعتهم في العراق، فأقاموا أولًا في الكوفة ثم في الهاشمية، حتى بنى المنصور مدينة بغداد على دجلة فجعلوها دار الخلافة.
وقربوا الموالي ، وخصوصًا أهل خراسان، فجعلوهم بطانتهم ورجال دولتهم، ولاسيما الذين حاربوا مع أبي مسلم في طلب الخلافة لهم. وأشهرهم خالد بن برمك جد الوزراء البرامكة، فإنه كان من قواد جند أبي مسلم، وشهد معه الوقائع وأبلى بلاءً حسنًا في نصرة أهل البيت، وكان أبوه برمك من مجوس بلخ، وكان يخدم بيتًا من بيوت النار هناك اسمه النوبهار، اشتهر هو وبنوه بسدانته.
وكان برمك عظيم المقدار عند الفرس. فأسلم خالد ودخل في جند أبي مسلم، وكان عاقلًا حازمًا فلم يجعل للعباسيين محلًّا للشك في صداقته، كما فعل أبو مسلم. فقدمه أبو العباس وولاء الوزارة، ثم تولاها للمنصور وخدمه بعد مقتل أبي مسلم في محاربة الأكراد، وكانوا قد تغلبوا على فارس(1)
وتوالت الوزارة في أعقابه إلى يحيى ابنه، فجعفر ابن ابنه، وهو الذي نكب البرامكة على عهده .
وكذلك فعل العباسيون في استخدام الموالي في مهماتهم. وأول من استخدمهم لذلك المنصور، فإنه استعمل مواليه وغلمانه وصرفهم في مهماته وقدمهم على العرب، فاقتدى به الخلفاء بعده حتى سقطت دولة العرب، كما سيجيء. ولما حضرته الوفاة أوصى بثلث ماله لمواليه(2)
وأوصى بإكرامهم. ومن أقواله في وصيته لابنه المهدي: «وانظر إلى مواليك فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدتك إن نزلت بك …
وأوصيك بأهل خراسان، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده».(3)
ولا غرو إذا أكرم العباسيون أهل خراسان، بعد أن آثروهم على أهلهم وأبنائهم وقتلوا من خالفهم.
ولكن العرب كانوا يستغربون ذلك لأول وهلة، فكانوا إذا جاءوا مجلس الخليفة رأوا الخراسانيين يذهبون ويجيئون ويدخلون على الخليفة كأنهم من أهله، والعرب يقفون ببابه لا يؤذن لهم إلا بمشقة .
ذكروا أن أبا نخيلة الشاعر العربي وفد على أبي جعفر المنصور، ووقف ببابه واستأذن فلم يؤذن له، وهو يرى الخراسانية تدخل وتخرج وتهزأ به، فيرون شيخًا أعرابيًّا جلفًا فيعبثون به، فسأله صديق له رآه في تلك الحال: «كيف ترى ما أنت فيه من هذه الدولة؟»، فقال:
أكثر خلق الله من لا يدري
من أي خلق الله حين يلقى
وحلة تنشر ثم تطوى
وطيلسان يشترى فيغلى
لعبد عبد أو لمولى مولى
يا ويح بيت المال ماذا يلقى(4)
وكان المهدي بن المنصور إذا أراد الشورى جمع خاصته للمداولة، وأول من يتكلم منهم الموالي(5)
وقس على ذلك في سائر الأحوال.
فأصبحت بطانة الخليفة ورجال دولته وخاصة حكومته من الموالي الفرس، وهم نظموا الحكومة ودواوينها، ورتبوا أحوالها ومنهم الوزراء والقواد والعمال والكتاب والحجاب كأنها دولتهم؛ لأن الغالب في هذه المناصب أن تنتقل من الرجل إلى بعض أولاده، مثل منصب الخلافة، فاشتهر بعض البيوتات بالوزارة أو الولاية، كآل برمك وآل وهب وآل قحطبة وآل سهل وآل طاهر وغيرهم.
وكانت أمور الدولة ترجع إلى الوزراء: يولون ويعزلون، وإذا تولاها أحدهم ولى الأعمال رجالًا من أصحابه أو مريديه، ومن ناحية أخرى تغيرت الأحوال على أهل البلاد، واطمأنت خواطرهم وتفرغوا للعمل في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ونسوا ما كانوا فيه من ضغط بني أمية واستبدادهم، وأطلقت حرية العمل وحرية الدين، وذهبت عصبية العرب، ورتع الناس في بحبوحة الأمن.
ولما استبد الأتراك في الدولة وضعفت شوكة الفرس، بعد المأمون ، ظل الموالي من أصحاب النفوذ في دولة الخلفاء، يعتمد عليهم الخليفة في أموره الخاصة والعامة من الكتابة إلى القيادة، ولم يعد التقدم فيهم للفرس بنوع خاص، ولكنهم أصبحوا أخلاطًا منهم ومن سواهم، وإنما تجمعهم كلمة الموالي ويتفانون في خدمة الخليفة أو الأمير.
أهل الذمة في الدولة العباسية
لما أخذ الموالي في تنظيم الحكومة وترتيب دواوينها، أحسوا بافتقارهم إلى من يعينهم على ذلك من أهل الذمة في العراق والشام، وكانوا أهل معرفة في الحساب والكتابة والخراج فضلًا عن العلوم، فأطمعوهم بالرواتب والجوائز وسهلوا لهم أسباب المعيشة وقربوهم وأكرموهم.
فاطمأنوا لتلك الدولة وتقاطروا إلى بغداد، وخدموا العباسيين بعقولهم وأقلامهم، بما آنسوه من تسامحهم وإطلاق حرية الدين لهم، فاستخدمهم العباسيون في دواوينهم وولوهم خزائنهم وضياعهم.
فالجهابذة (الصيارف) كان أكثرهم من اليهود، والكتاب كان فيهم جماعة كبيرة من النصارى. وكثيرًا ما كان النصارى يتقلدون ديوان الجيش، وربما عظمت منزلة صاحب هذا الديوان — وهو نصراني — حتى يتسابق أكابر رجال الدولة من المسلمين إلى تقبيل يده. وممن تقلدوا ديوان الجيش من النصارى في الدولة العباسية ملك بن الوليد، قلده إياه المعتضد بالله، وإسرائيل النصراني، قلده إياه الناصر لدين الله.
وقد أدرك بعضهم رتبة الوزارة، فتقلد أمرها أبو العلاء صاعد بن ثابت في أيام المتقي بالله.(6)
وسرى ذلك الاعتدال والتسامح في الدين إلى الدولة الفاطمية بمصر، وكان لأهل الذمة فيها شأن عظيم، فتقلد الوزارة أو الكتابة (وهي كالوزارة في مصر) غير واحد منهم، وقويت شوكتهم في الدولة، فاستوزر العزيز بالله الفاطمي رجلًا نصرانيًّا اسمه عيسى بن نسطوروس، وآخر يهوديًّا اسمه منشا، فعز النصارى واليهود في أيامهما(7)
ومن نافذي الكلمة في الدولة الفاطمية من أهل الذمة، فهد بن إبراهيم النصراني كاتب برجوان، صاحب النفوذ الأعظم في أيام الحاكم بأمر الله.
فكان فهد هذا يوقع عن برجوان، ويخاطب بالرئيس. وله نفوذ عظيم. وارتفع شأن النصارى في أيامه، حتى كادت الدولة تكون في أيديهم(8)
على أن الكتابيين — أهل الذمة — كانوا في أيام الحاكم هم أهل الدولة، وكذلك في أيام الحافظ(9) وكتاب الجيش في أكثر الأحايين من اليهود.
ناهيك بمن كان الخلفاء والأمراء يستخدمونهم من أطباء أهل الذمة وحكمائهم وتراجمتهم وكتابهم، وخصوصًا نصارى الشام، فإنهم خدموا التمدن الإسلامي في نقل العلوم من اليونانية والفارسية والسريانية وغيرها إلى اللغة العربية، وبينا ما كان من محاسنة الخلفاء لهم تقديمهم ورعاية جانبهم وإكرامهم، وفيهم النصراني واليهودي والمجوسي والسامري والصابي وغيرهم، والكل راتعون في بحبوحة السكينة والطمأنينة يتكسبون من خزائن الخلفاء والأمراء.
وكان الخلفاء في صدر الدولة العباسية يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، فالهادي كان يستدعي إليه الأسقف تيموثاوس في أكثر الأيام ويحاوره في الدين، ويبحث معه ويناظره، ويطرح عليه كثيرًا من المشكلات، وله معه مباحث طويلة ضمنها كتابًا ألفه الأسقف المذكور في هذا الموضوع.
وكذلك كان يفعل معه هرون الرشيد(10)
وغيره، وأغضوا عن بعض ما في عهد عمر بن الخطاب من التضييق على النصارى، كمنعهم من أحداث الكنائس(11)
أو الاحتفال بالأعياد، أو منعهم من خدمة الدولة، وسهلوا لهم الاختلاط بهم وأظهروا احترام مذهبهم، حتى أصبح النصارى يهدون الخلفاء أيقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم، وكثيرًا ما كان الأساقفة يطلبون من الخلفاء أن يثبتوهم في مناصبهم للاعتزاز بذلك على أخصامهم أو منازعيهم.
المصادر :
1- ابن خلكان ١٠٦ ج١.
2- الفخري ١٢٠.
3- ابن الأثير ٧ ج٦.
4- الأغاني ١٤٨ ج١٨.
5- العقد الفريد ٥٣ ج١.
6- تاريخ الوزراء ٩٥ والفرج ١٤٩ ج٢.
7- ابن الأثير ٣٢ ج٩. والسيوطي ١٧ ج٢.
8- المقريزي ٤ و٣١ ج٢.
9- المقريزي ٤٠٦ ج١.
10- تاريخ المشارقة (خط) ١٤٣.
11- المقريزي ١١٥ ج٢.