
كان جد البرامكة خالد قد رأى من الحكمة وسداد الرأي أن يخلص الخدمة للسفاح ثم للمنصور. وسار ابنه يحيى وأولاده على نحو ذلك ، لكنهم كانوا يكتمون ميلهم وخصوصًا في خلافة الرشيد؛ لأن الرشيد كان شديد الوطأة على العلويين وشيعتهم يتتبع خطواتهم ويقتلهم(1) وكان يكره الشيعة منذ صباه، وهم يخافونه من قبل الخلافة. فلما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعًا من بغداد إلى المدينة.(2)
واشتهر بذلك حتى أصبح الشعراء يتقربون إليه بهجائهم، وكان شعراء العلويين يهجونه لهذا السبب، وهم لا يجسرون على الظهور في حياته. فلما مات ودفن في طوس، قال دعبل بن علي الخزاعي يعرض بما ارتكبه العباسيون جميعًا بقتل العلويين، من قصيدة مدح بها أهل البيت عليهم السلام وهجا الرشيد، وأشار إلى اجتماع القبرين في طوس - قبر الرشيد وقبر الرضا عليه السلام - قال:
وليس حي من الأحياء نعلمه / من ذي يمان ومن بكر ومن مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم / كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة / فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
أرى أمية معذروين أن قتلوا / ولا أرى لبني العباس من عذر
أربع بطوس على القبر الزكي إذا / ما كنت تربع من دير إلى وطر
قبران في طوس: خير الناس كلهم / وقبر شرهم، هذا من العبر!
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا / على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات كل امرئ رهن بما كسبت / له يداه فخذ ما شئت أو فذر(3)
وكان البرامكة يكرهون تعصب الرشيد على العلوية، ويعدون عمله حرامًا ويكظمون(4).
على أنهم كانوا يساعدون الشيعة سرًّا بما يبلغ إليه إمكانهم، وكان كبارهم يجتمعون إلى جعفر، وجيه البرامكة يومئذ وصاحب الصوت الأعلى عند الرشيد، ويذكرون أعمال الرشيد، وجعفر يحاذر أن يبلغ ذلك إليه، ولكن حساده في بلاط الخليفة - وأكثرهم من العرب أو من ينتمي إليهم - كانوا يسعون به إلى الرشيد، وأشدهم غيظًا منه وأقدرهم على الكيد به زبيدة أم الأمين؛ لأنه فضل ابن ضرتها المأمون على ابنها.
وقد اضطغنت عليه منذ كانوا في الكعبة، وقد جاءها لتعليق كتابي العهد للأمين والمأمون، فلما حلف الأمين اليمين على جاري العادة وهم بالخروج من الكعبة، رده جعفر وقال له: «إن غدرت بأخيك خذلك الله»، وطلب إليه أن يحلف على ذلك ثلاثًا، فشق طلبه على أمه زبيدة فحقدتها عليه، وكانت من جملة من حرض الرشيد على الإيقاع به(5)
فضلًا عما بينهما من العداوة العنصرية، وناهيك بمن كان يحسد البرامكة من أمراء العرب، وخصوصًا آل الربيع وآل مزيد الشيباني، فإن البرامكة أضعفوا نفوذهم في الدولة وأغروا الرشيد بهم(6)
حتى عمهم محمد بن خالد، فإنه كان من جملة حسادهم والساعين في أذاهم.(7)
هؤلاء جميعًا كانوا يوغرون صدر الرشيد على جعفر، تارة من حيث تشيعه وطورًا من حيث استبداده بالدولة، وآونة من حيث استئثاره هو وأهله بالأموال، والرشيد يحفظ ذلك ويتدبره، وقد غلب عليه ما غرس في نفسه من أفضال يحيى عليه، وآثار أبنائه في تنظيم دولته وإحياء معالمها، وإن يكن ساءه ما يبديه جعفر أحيانًا من نصرة العلويين أو استنصارهم، فإن جعفر لما ولاه الرشيد المغرب استخلف على مصر رجلًا شيعيًّافكان الرشيد صابرًا على ذلك يترقب الفرص. (8)
الشيعة العلوية بخراسان
وكان الخراسانيون ومن والاهم من أهل طبرستان والديلم - قبل قيام العباسيين - من شيعة علي عليه السلام ، وإنما بايعوا للعباسيين مجاراة لأبى مسلم أو خوفًا منه. فلما رأوا ما حل به من القتل غدرًا، غضبوا وتعاقدوا على الأخذ بثأره، ثم رأوا المنصور فتك بالراوندية إخوانهم وهم من أصحاب أبي مسلم، ثم بنى بغداد وتحصن فيها، فتربصوا وإذا هو قد حارب العلويين وبطش فيهم، وفر من بقي من ولد علي إلى أطراف المملكة الإسلامية في خراسان والمغرب، وأخذوا يبثون دعاتهم وينشرون دعوتهم سرًّا، فكان الخراسانيون من أقوى أنصارهم انتقامًا من المنصور، لقتله أبي مسلم وعملًا بتعاقدهم عليه.
فكان العباسيون إنما يخافون على دولتهم من خراسان؛ لأنها شيعة العلويين وأهلها أشداء ولهم رهبة في قلوب الناس، منذ نقلوا الخلافة من بني أمية إلى بني العباس.
وكان داعية الشيعة هناك في أيام الرشيد يحيى أخا محمد بن عبد الله الذي حاربه المنصور وقتله. فظهر يحيى هذا في الديلم سنة ١٧٦ﻫ وقويت شوكته حتى خافه الرشيد، فسرح إليه الفضل بن يحيى، فاستنزله الفضل من بلاد الديلم بالحسنى، على أن يشترط ما أحب ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فكتب له أمانًا أمضاه الرشيد وجلة بني هاشم، وجاء الفضل ومعه يحيى إلى بغداد، فوفى له الرشيد بكل ما أحب وأجرى له أرزاقًا سنية.
ثم خطر له أن يحبسه خوفًا منه، ولعل بعض الأعداء الشيعة حرضوه على حبسه، لكنه لم يكن يستطيع ذلك لعهد الأمان الذي بيده. فاستشار الفقهاء في الأمان فقال بعضهم: الأمان صحيح، فحاجه الرشيد فقال الآخر - وهو أبو البختري القاضي: هذا أمان منتقض من وجه كذا، فمزقه الرشيد وصمم على حبس الرجل، فدفعه إلى جعفر فحبسه وهو يرى أنه مظلوم؛ لأنه جاء على الأمان وقد نكث الرشيد الأمان، فحدثته نفسه أن يطلقه بما له من النفوذ والدالة، ولم يكن يظن الرشيد يسأل عنه. فبعث إلى يحيى المذكور من الحبس فخاطبه، فتوسل الرجل إليه وقال: «اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون غدًا خصمك محمد صلی الله عليه وآله وسلم، فوالله ما أحدثت حدثًا ولا آويت محدثًا»
فرق له جعفر وقال: «اذهب حيث شئت من بلاد الله».
قال: «وكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ؟» فوجه معه من أداه إلى مأمنه.(9)
الرشيد وجعفر
وكان حساد جعفر يراقبون حركاته، وخصوصًا الفضل بن الربيع؛ لأنه كان يرشح نفسه للوزارة بعد أبيه ، وكانت له عيون على جعفر فأخبروه بما فعله، فرفع الخبر إلى الرشيد فأنكره، ولكنه انتهر الفضل وأظهر أن جعفر إنما فعله بأمره.
ثم بعث إلى جعفر فدعاه إلى الطعام معه، وجعل يلقمه ويحادثه ثم سأل عن يحيى فقال: «هو بحاله في الحبس» فقال: «بحياتي؟» ففطن جعفر فقال: «لا وحياتك …»، وقص عليه أمره وقال: «قد علمت أنه لا مكروه عنده»، فقال الرشيد: «نعم ما فعلت، ما عدوت ما في نفسي».
وقد كظم غيظه وعزم على الإيقاع به من ذلك الحين، ولما قام جعفر عنه قال في نفسه: «قتلني الله إن لم أقتلك!» ولكنه مكث يترقب الفرص ويدبر الحيل، لما يعلمه من نفوذ البرامكة بما يبذلونه من الأموال للناس على اختلاف طبقاتهم، حتى بني هاشم أنفسهم.
وأراد أن يغالطه لئلا ينتبه جعفر لما في نفس الرشيد عليه، فأظهر أنه يريد أن يوليه خراسان، فأخذ الخاتم ودفعه إلى أبيه يحيى، وعقد له على خراسان وسجستان ثم عزله عنها بعد عشرين يومًا ، فهو إما ولاه إياها تمويهًا أو ولاه ثم خافه. (10)
وكان في جملة حساد البرامكة علي بن عيسى بن ماهان، فسعى بموسى بن يحيى أخي جعفر واتهمه في أمر خراسان، وأعلم الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم ويحرضهم على خلع الطاعة، فصدق الرشيد الوشاية فحبسه ثم أطلقه، ولكنه تغير على البرامكة جميعًا وظهر ذلك في بعض معاملاته. فكان يحيى بن خالد مثلًا يدخل على الرشيد بغير إذن، فعرض الرشيد في بعض حديثه استهجانه ذلك فكف يحيى عنه. وكان يحيى إذا دخل على الرشيد قام له الغلمان، فأوصى الرشيد مسرورًا خادمه ألا يقوموا له، فشعر يحيى بهذا التغير وتناقل الناس خبر ذلك، ولبثوا يتوقعون شرًّا يصيب البرامكة وليس من يجرؤ على إخبارهم به. على أنهم كانوا يعرضون في أثناء الغناء بما يخافون عليهم - ومن ذلك ما كان يغنيه ابن بكار أحيانًا:
ما يريد الناس منا؟
ما تنام الناس عنا؟
إنما همهم أن يظهروا ما قد دفنا
وكان الرشيد يستعظم الإقدام على ذلك الأمر، ويخاف أنصار البرامكة إذا هو فتك بهم، فأراد أن يستطلع أفكار خاصته في هذا الشأن ليرى وقعه في قلوبهم، والمغنون أحسن وسيلة لذلك لمخالطتهم الناس في حال سكرهم وطربهم، والسكر يبعث صاحبه على الإفشاء بما في ضميره والتصريح بما يجول في خاطره، فسأل الرشيد مغنية إسحق الموصلى مرة: «بأي شيء يتحدث الناس؟» فقال: «يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة وتولى الفضل ابن الربيع الوزارة» فأظهر الرشيد الغضب وصاح به: «ما أنت وذاك؟ ويلك!» فأمسك.(11)
وكان للرشيد عيون على البرامكة في منازلهم ودواوينهم، يحصون عليهم أنفاسهم فلا يخلو أن تبدر منهم بادرة تلميحًا أو تصريحًا، والوشاة يعظمونها له.
وكان في جملة جواسيس الرشيد خادمان خزريان رباهما وأهداهما إلى جعفر، فكانا ينقلان إليه كل ما يدور في مجالس جعفر يوميًّا. وكان لجعفر مجلس أنس يعقده في منزله مرة في الأسبوع، يحضره أرباب الدولة وأهل الوجاهة ، يلبسون أثوابًا لونها واحد يخلعها عليهم جعفر ويلبس هو مثلهم.
ففي أحد هذه المجالس دار الكلام على أبي مسلم وبطشه، وكيف استطاع وحده أن ينقل الدولة الإسلامية من عائلة إلى عائلة.
فقال جعفر: «لا يستغرب ذلك منه ولا فضل له به؛ لأنه لم يدركه إلا بقتل ٦٠٠٠٠٠ نفس سفك دماءهم صبرًا، وإنما الرجل من ينقل الدولة من قوم إلى قوم بغير سفك دم»(12)
وكان الغلامان الخزريان يسمعان قوله فنقلاه إلى الرشيد، وأفهماه أنه يعرض بنقل الدولة من العباسيين ، فازداد خوف الرشيد منه.
فلما كانت السنة التي نكبوا فيها (سنة ١٨٧ﻫ) كان الرشيد قادمًا من الحج وقد صمم على الفتك بجعفر، فأظهر رضاءه عنه وولاه كورة خراسان، أراد بذلك أن يطمئنه ليأخذ الخاتم منه بحجة الولاية، وخلع عليه وعقد له لواءً وعسكرًا بالنهروان، فضرب الناس مضاربهم هناك ومكثوا يتأهبون للسفر، وفيهم نخبة من أصحاب جعفر، وبقي هو ببغداد يتأهب للحاق بهم.
وكان له صديق من الهاشميين غيور عليه اسمه إسماعيل بن يحيى، قد علم ما في نفس الرشيد على جعفر وأهله، فأراد أن يتوسط في إصلاح ما بينهما، فجاء جعفر في أثناء تأهبه للخروج إلى خراسان، وخلا به وحادثه في شؤون شتى حتى تطرق إلى الموضوع الذي جاء من أجله، فقال له: «يا سيدي أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده».
فلما سمع جعفر قوله غضب كان ما يجول في نفس الرشيد لم يخطر بباله وقال: «والله يا إسماعيل ما أكل الخبز ابن عمك إلا بفضلي، ولا قامت هذه الدولة إلا بنا. أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله مالًا، وما زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي بعدي، وداخله حسد بني هاشم وبغيهم ودب فيه الطمع؟»
والله لئن سألني شيئًا من ذلك ليكونن وبالًا عليه! كأنه يهدده بذهاب خراسان. فلما سمع إسماعيل تهديده ورأى غضبه، خرج من عنده واحتجب عنه وعن الرشيد؛ لأنه صار متهمًا عندهما.
فسمع ذلك الحديث أحد جواسيس الرشيد ونقله إليه، فصمم على الفتك به. ولعله كان ينوي القبض عليه وحبسه فقط، فلما بلغه هذا التهديد عزم على قتله. وأكبر الإقدام على ذلك، فاستشار زبيدة امرأته وصرح بما يجول في خاطره قائلًا: «إني خائف إن تمكن هؤلاء من خراسان أن يخرج الأمر من يدي» فحرضته على سرعة الفتك به، ويقال: إنها ذكرت له أمورًا ارتكبها جعفر في بيت الرشيد تتعلق بالعباسية أخته(13).
فاغتنم الرشيد بعد جعفر عن رجاله ومريديه، وهم في عسكره بالنهروان وهو في بغداد، وبعث خادمه مسرورًا ليأتيه برأسه، فذهب إليه وقتله كما هو مشهور.
ووجه الرشيد من أحاط بأبيه يحيي وسائر أولاده وبأخيه الفضل ليلًا، فحبسهم وقبض ما وجده لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، وأرسل إلى سائر البلاد يقبض على أموالهم ووكلائهم ورقيقهم وأسبابهم، ولم يتعرض لمحمد بن خالد؛ لأنه كان من جملة الساعين بهم، وأسند الوزارة بعدهم إلى الفضل بن الربيع عدوهم. ثم ندم الرشيد على قتل البرامكة وكان إذا ذكرهم بكى(14)
وقد أصاب جعفر من الرشيد، كما أصاب بزرجمهر وزير كسري أبرويز، إذ اتهمه كسرى بالزندقة فقبض عليه وقتله ثم ندم على قتله.(15)
فالرشيد فتك بالبرامكة؛ لأنه خافهم على سلطانه، عملًا بسياسة العباسيين في تأييد دولتهم، إذ اتهم جعفر وشك فيه فقتله.
المصادر :
1- العقد الفريد ١٤٢ ج١.
2- ابن الأثير ٤٧ ج٦.
3- الأغاني ٥٧ ج١٨.
4- الأغاني ٧٦ ج٢٠.
5- المسعودي ١٩٥ ج٢.
6- ابن الأثير ٥٧ ج٦ وابن خلكان ١٧٩ ج٢.
7- ابن الأثير ٧١ ج٦.
8- السيوطي ١٠ ج٢.
9- ابن خلدون ٨ ج٤ وابن الأثير ٥٠ و٧٠ ج٦.
10- ابن الأثير ٦١ ج٦.
11- الأغاني ١١٣ ج٥.
12- زينة المجالس (فارسي).
13- الأتليدي ١١٣.
14- الأغاني ٧٤ ج١٧.
15- المسعودي ١١٩ ج١.