لقد كان المجتمع الجاهلي يجور على المرأة بشكل خاص ، ويعاملها معاملة ملؤها الظلم ، والتعدي في جميع المراحل التي تمر بها فكانت سلعة رخيصة بيد الرجل يسيرها كيف يشاء ، ويتحكم في أمرها تماماً كما يفعل بالرقيق فلم تجد في تلك العصور للكرامة أي معنىً ، ولعزتها أي أثر.
لقد كانت المرأه في نظر الرجل قاصرة حتى ، ولو تزوجت وتقدم بها السن فليس لها في أمرها شيء على الصعيدين :
الاجتماعي ، والمالي.
أما على الصعيد الاجتماعي : فإنها كانت محتقرة ، ومظلومة.ويبدأ ذلك من الدقائق الأولى عندما تبدأ مسيرتها الحياتية فعند ولادتها نرى الاب بدلاً من أن يستقبل وليدته ، وفلذة كبده ليطبع على جبينها قبلة الحب ، والحنو. وإذا به كما يحدث القرآن الكريم :
( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (١).
نظرة ملؤها الإحتقار يلقيها الرجل على زهرته المتفتحة وهي تستقبل حياتها الجديدة مكفهر الوجه مقطب الجبين يكظم غيظه ، ويحاول السيطرة على أعصابه كأنه أصيب بكارثة وهو يتجلد أمامها.
( يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ).
ولماذا هذا التخفي من الناس ؟ ويأتي الجواب. بأن هذا الاجراء ليس إلا لأن الله قد منحه العنصر الثاني الذي يشكل القاعدة الكبرى لخلق الإِنسان لانه سبحانه خلقهم من :
ذكر ، وأنثى. من غير تفضيل لبعض على بعض ، فكما يكون الرجل طرفاً لايجاد النسل ، كذلك الأنثى هي الطرف الآخر في هذه العملية التناسلية ، والتي منها يتكون هذا البشر.
ويبقى الاب الحائر وهو في صراع عنيف مع نفسه فماذا يصنع أيبقى ، والذل يحيطه من كل جانب ينظر كل يوم إلى وليدته وهي تتخطى عتبة الطفولة ، وتتفتح إلى الحياة ، أم يدفنها في التراب ، ويتخلص من هذا العار ، وينفض عن يديه غبار الجريمة النكراء ؟.
وأخيراً يقود ، ويصمم ، ويرجح الرأي الثاني. وإذا به يذهب بها ليدفنها ، وهي حية.
( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) (2).
أما إذا افلتت من الموت حيث كانت بعض النساء يخفين الوليدة ، ويظهرن أمام الرجل بانهن قمن بعملية الدفن ، أو كانت القبلية تتسامح في موضوع الدفن ، فان المرأة كانت تعيش رخيصة في كنف الرجل ليس لها أن تختار من تقترن به في حياتها الزوجية ، بل يكون ذلك راجعاً إلى من يقوم عليها فهو الذي يتحكم في ذلك يتركها وحيدة ، ومحرومة من الزواج أو يزوجها ممن يشاء.
أنها كانت تفقد حرية الإِختيار الزوجي ، بل كان الرجل ـ كما قلنا ـ هو الذي يقود مصيرها ، ولتبقى تندب حظها التعس في كل لحظة تمر عليها لا لشيء إلا لانها إمرأة لا غير.
وأما على الصعيد المالي : فان المرأة كانت تمنع من التجارة والميراث بحجة أنهم كانوا يورثون من يقاتل ، ويحمل السلاح ويدافع عن الحريم. أما المرأة فهي من الحريم.
وإذاً فلها على الرجل أن يحميها كما يحمي متاعه ، وأمواله ولتعيش بعد ذلك في كنفه تتناول ما يمنّ به عليها من فتات ما يأكل ، ويبقى بازاء ذلك مسيطراً على ما يصلها من ميراث يتمتع به كيف يشاء يمنعها من التصرف بحقها الطبيعي الشرعي.
يتامى النساء :
وقد كان من تعسف الرجل يزداد بشكل أكثر بالنسبة إلى يتامى النساء فان الكثير منهن كن يواجهن مشكلة أخرى غير حرمانهن من الميراث ، أو حرمانهن من اختيار الزوج تلك هي حبس اليتيمة ، وعدم تزويجها طمعاً في مالها ، وليس ذلك إلا لانها يتيمة فقدت كفيلها ، وبقيت تحت رحمة الاولياء ، والاوصياء.إن الولاية على اليتيمة كانت تتضاعف ، فهي مضافاً إلى كونها امرأة يتيمة فقدت تلك اليد التي تربت على كتفها أو تمسح على رأسها ، أو تجفف دموعها.
المرأة في ظل الإِسلام :
لقد عالج التشريع الاسلامي كل هذه الجهات ، وغيرها مما يمت إلى المرأة بصلة فنظم حياتها المعيشية ، والاجتماعية أما من الناحية الاجتماعية : فقد ندد القرآن الكريم بأولئك الذين يهينون المرأة ، ولا يرون لها حق التمتع بهذه الحياة فحارب بشدة العادات البالية ، والرخيصة ، والتي كانت تجعل من الرجل عبوساً ، ومحبوساً لولادة الأنثى ، بل وصف تبرم الرجل وضيقه ، وعدم قبوله بهذه المنحة الإِلهية بأنه من الأحكام السيئة الجائرة وليس فيها ما يمت إلى الانصاف بصلة.وعلى العكس فقد بدأ يبين في كثير من الأحاديث الكريمة التي جاءت من طريق النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) بأن الوليد إذا كان انثى فهي أدعى للبركة ، أو أنها مدعاة للرزق ، وتحسين الحالة المادية بفضل الله سبحانه.
وفي مقام تعليمها ، وحقوقها الاجتماعية الأخرى نرى التشريع لا يفرق بينها ، وبين الرجل إلا في بعض ما فرضه الله عليها من الحجاب ، والحشمة وما ذلك إلا ليحفظ بذلك كرامتها ، ويبعدها من الإِبتذال عندما تلاحقها نظرات الرجل المسعورة.
وهكذا الحال بالنسبة إلى حرية الاختيار الزوجي فان الشريعة أناطت ذلك إليها فمنعت الرجل أن يتدخل في أمرها ليمنعها من الاقتران بمن تريده فتىً لأحلامها.
نعم : شرك معها الأب ، والجد في هذا الاختيار إذا كان في ذلك الاقدام منها ما يضر بمصلحتها ما دامت باكراً أما إذا كانت ثيباً فان لها وحدها حرية الاختيار ، وليس لاحد معها في ذلك شيء.
وأما من الناحية المالية ، والتنظيم المعيشي ، فقد قرر لزوم الانفاق عليها من قبل الزوج ما دامت في حبالته ، ومرتبطة معه برباط الزواج المقدس.
ـ وفي الوقت نفسه ـ فقد حفظ لها حقها في المال الذي يخلفها قريبها الميت حيث طفحت سورة النساء من القرآن الكريم بذكر الآيات التي تصدت لتنظيم الميراث ، وتقسيمه بين الرجل والمرأة بعد أن أخذت بعين الاعتبار ظروف الرجل ، وتكليفه بالانفاق على المرأة ، وعلى الاسرة التي تحيط به.
وكذلك لاحظت ظروف المرأة ، وأخذت في حسابها أنها في الغالب تكون في كفالة الرجل فكان من جراء هذه الاعتبارات زيادة حظ الرجل من الميراث أما ما يصلها من الميراث فقد جعلت أمره بيدها ، وأنها هي التي تقرر كيف تتصرف به بكامل الحرية والاختيار ، وبذلك نرى التشريع الإِسلامي قد كفل للمرأة جميع حقوقها المالية ، والاجتماعية.
وعلى الخصوص نرى الشريعة قد أولت يتامى النساء عناية أكثر فعالجت مشكلة اليتامى الصغيرات من الناحيتين أيضاً المادية ، والاجتماعية.
وبهذا الخصوص جاءت آيتان مرتبطتان من حيث الغاية والهدف لمعالجة هذه المشكلة :
يقول تعالى في الآية الأولى :
( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ) (3).لقد نددت الآية الكريمة بأولئك الذين لم يلتفتوا إلى التشريع الاسلامي الكافل لحقوق المرأه المالية ، بل أصرّوا على التجاوز على ميراثها فقال تعالى :
( اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ) وما كتب لهن هو ما أنزله الله من آيات المواريث التي سبق وان تقدمت في أوائل السورة وهي سورة النساء.
ومضافاً إلى جريمة التجاوز على الحقوق المالية من عدم اعطائهن ما كتب لهن من الميراث ، فإنهم كانوا يرغبون في الزواج منهن لاجل ذلك المال ، وطمعاً فيه.
أما إذا راعى الولي ، أو الوصي فحفظ لليتيمة من ميراث وتزوجها لاجل الاقتران لا لمالها فان هذا العمل منه خير.
( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ).
وهو الرقيب عليكم يعلم حركاتكم ، وسكناتكم ، وما تنطوي عليه نفوسكم إن خيراً ، أو شراً.
وقد نقل السدي أن جابر بن عبد الله الانصاري كانت له بنت عم عمياء ذميمة قد ورثت من أبيها مالاً فكان جابر يرغب في نكاحها ، ولا ينكحها مخافة أن يذهب الزوج بمالها فسأل النبي (صلی الله عليه وآله وسلم) وقال :
أترث إذا كانت عمياء فقال (صلی الله عليه وآله وسلم) :
نعم : فأنزل الله فيه هذه الآية : ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ... ).ومن مجموع ما جاء في تفسير هذه الآية يتضح لنا أن القرآن الكريم حرص على تكريم المرأة ، وندد بهؤلاء المتجاوزين على حقوقها سواءً المالية ، أو الاجتماعية.
أما الآية الثانية : فهي ما جاء في قوله تعالى :
( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُوا ) (4).وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة.
أنها نزلت في اليتيمة التي تكون في حجر وليها ، فيرغب في مالها وجمالها يريد أن ينكحها بدون صداق مثلها ، فنهو أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لها صداق مهر مثلها ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب مما سواهن إلى الأربع من النساء ، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة ممن سواهن أو ما ملكت أيمانكم » (5).
أن اليتيمة كغيرها من النساء لها الحرية الكاملة في إختيار من تشاء من الازواج ، وتهب له ما قرر لها من مهر المثل إذا كان ذلك نابعاً من رغبتها ، وإرادتها. أما أنها تقهر على ذلك فهذا ما لا يريده الشارع لها.
والوصي كأحد الخاطبين لا تمنعه الشريعة المقدسة من الإِقدام على الخطبة لليتيمة ، أو غيرها لو كان مستكملاً للشروط التي يقررها الشارع في الزوج.
ولكن النفوس غير المؤمنة تأبى أن تخضع للواقع ، وتترك الاثرة جانباً ، بل كانت تصر على أن تكون اليتيمة العوبة يتلاقفها من هي تحت يده من دون أن يكون لها أي إختيار في أمرها ، وفي صداقها.
إن الشارع المقدس : وهو الرحيم الودود لا يترك الباب مفتوحاً أمام الاقوياء ليتجاوزوا على الضعفاء دون أن يردعهم ، ويوجههم إلى ما فيه خير الامة ، وصلاحها.
المصادر :
1- سورة النحل : آية (٥٨).
2- سورة التكوير : آية (٩).
3- سورة النساء : آية (٣).
4- سورة النساء : آية (٣).
5- تفسير التبيان في تفسيره لهذه الآية الكريمة.