
توفي الامام أمير المؤمنين في السنة الأربعين للهجرة النبوية ، فانطلق روحه الفاتح إلى عالم الملكوت ، وتحرر من هذه الدنيا التي كانت تضيق به ، فنقل الامامان السبطان الجسد الطاهر الزكي إلى ربوة بظهر الكوفة يقال لها «النجف» ودفنوه هناك سراً.
لقد شيدت أركان الاسلام بساعد أمير المؤمنين حيث قصم بسيفه ظهر الكفر ، وجدع أنف الشرك وعبد ة الأصنام ، وضحى بكلّ ما أتاه الله لتنتشر تعاليم الاسلام في الجزيرة العربية ، بل في العالم أجمع ، بيد أنّ حثالة المجتمع ممن اشتدّ عوده وقوي وجوده زمن الجاهلية الجهلاء بقيت تكن الحقد ، وتملأ صدورها بالضغينة ، وكيف لا؟! وقد قتل بالأمس صناديدهم وطردهم اليوم عن مراكز القوة والثراء ، وكان يخشى من هؤلاء أن تمتد أحقادهم على الامام الطاهر الطهر إلى ما بعد الوفاة فيتجاسرون على مرقده الزكي المقدس ؛ ولهذا كان الدفن سرياً للغاية.
وبقي المرقد المقدس في الخفاء زهاء (١٥٠ عاماً) لا يعرفه إلّا الأئمة الأبرار وخواص شيعتهم ، فيتحينون الفرص للتزود من تلك التربة المعطاء ، فيزورونها تحت جنح التقية بعيداً عن عيون الظالمين ، بل والناس أجمعين.
وهكذا تصرمت السنين ومرت الأيام حتى انقضى عصر الأمويين والمروانيين الذين امتطوا صهوة الملك حيناً من الدهر وغرتهم الأماني ، فجالوا في زخارف الزمن الغدّار ، فلما طفح بهم الكيل وانقضت مدتهم اكتسح ميادينهم بنو العباس ، فخلو الصهوة والأمنيات ، وسلّموها لخلفهم بالحسرات ، فكان الخلف شراً من السلف ، ففعلوا الأفاعيل ، وارتكبوا الجرائم والجنايات ، وعجّ بهم الكون لما أنزلوه من الظلم الفادح ببني عمهم «بني هاشم» فقد لا يبالغ إن قيل أنّهم بيضوا وجوه بني أمية مع ملاحظة الظروف المحيطة بالقبيلين.
فقد طارد العباسيون ذرية رسول الله صلىاللهعليهوآله ولاحقوهم تحت كلّ حجر ومدر ، ولم يسلم من جورهم «سيد» من السادات وشريف من الشرفاء ، فوضعوهم في الاصطوانات ، وبنو عليهم قصورهم ، وكان من أشدهم «هارون الرشيد» الذي تسلّط بالجور والطغيان حتى امتدت يده الأثيمة إلى الامام البار الأمين موسى بن جعفر عليهالسلام ، فعذبه في سجونه ، ثم سقاه السم في نهاية المطاف ، فاستشهد الامام المعذّب في قعر السجون ، وانتقل إلى جوار أجداده الطاهرين.
ومع كلّ جوره وحنقه على أهل البيت عليهمالسلام وعداوته لهم إلّا أنّه صار سبباً لانكشاف قبر أمير المؤمنين عليهالسلام ، وقد يكون العدو سبب خير أحياناً :
روى المجلسي عن الخرائج قال : ومن معجزاته صلوات الله عليه أنّه قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يمسح الغبار عن وجهي وهو يقول : يا علي .. لا عليك .. لا عليك .. قد قضيت ما عليك ، فما مكث إلّا ثلاثاً حتى ضرب وقال الحسن والحسين عليهماالسلام : إذا متّ فاحملاني إلى «الغري» من نجف الكوفة ، واحملا آخر سريري فالملائكة يحملون أوله ، وأمرهما أن يدفناه هناك ويعفيا قبره ، لما يعلمه من دولة بني أمية بعده.
وقال : ستريان صخرة بيضاء تلمع نوراً ، فاحتفرا ، فوجدا ساجة مكتوباً عليها : مما ادخرها نوح لعلي بن أبي طالب عليهالسلام ، فدفناه فيه وعفيا أثره.
ولم يزل قبره مخفياً حتى خرج هارون الرشيد يوماً يصيد ، وأرسل الصقور والكلاب على الظباء بجانب الغريين ، فجادلتها ساعة ، ثم لجأت الظباء إلى الأكمة ، فرجع الكلاب والصقور عنها ، فسقطت في ناحية ثم هبطت الظباء من الأكمة ، فهبطت الصقور والكلاب ترجع اليها ، فتراجعت الظباء إلى الأكمة ، فانصرفت عنها الصقور والكلاب ، ففعلن ذلك ثلاثاً.
فتعجب هارون وسأل شيخاً من بني أسد : ما هذه الأكمة؟
فقال : لي الأمان؟
قال : نعم.
قال : فيها قبر الامام علي بن أبي طالب عليهالسلام فتوضأ هارون وصلّى ودعا (١).
أم البنين وشهادة زوجها أمير المؤمنين عليهالسلام
كان أمير المؤمنين عليهالسلام دائم السهر في طاعة الله ، أحيى ليالي عمره الشريف بالمناجاة مع خالق البريات ... بيد أنّ لسهره ليلة التاسع عشر من شهر رمضان نكهة خاصة ، فقد سهر في تلك الليلة فأكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول : «والله ما كذبت ولا كذبت وإنّها الليلة التي وعدت بها».
وكأنّ أم البنين عليهاالسلام ترقب الموقف بقلب واجف وجل وتقول لأمير المؤمنين عليهالسلام : ماذا حدث لك يا أمير المؤمنين ، أهذه الليلة من ليالي القدر التي وعدت؟
فيجيبها الامام عليهالسلام : أوصيك بولدك العباس لا يتركن أخاه الحسين يوم يبقى وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين.
فلما طلع الفجر فقام يخرج فاستقبله الأوز فصحن في وجهه فقال : دعوهن فانهن صوائح تتبعها نوائح ، وتعلقت حديدة على الباب في مئزره فشدّ إزاره وهو يقول :
أشدد حياز يمك للموت فان الموت لاقيك / ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك (2)
فلما وصل إلى المسجد راح يصلي بخشوع وخضوع ، واذا بسيف ابن ملجم المرادي المسموم يفرق هامته الشريفة ويرتفع صوت الامام عليهالسلام : «فزت ورب الكعبة» (3).
وارتفع صوت جبرئيل بين السماء والارض هاتفاً : «تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى .. قتل علي المرتضى» (4).
وكأنّ أم البنين عليهاالسلام ارتفعت صرختها : يا وارث الأنبياء ، ولا سيد الأوصياء ، ويا إمام الدين ، ويا خير الساجدين ، ويا مولى الموحدين ... يا علي ، يا أمير المؤمنين عليه السلام.
قال الواقدي : قتل علي عليهالسلام وترك أربع حرائر : أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وليلى التميمية ، وأم البنين الكلابية ، وأسماء بنت عميس (5).
أم البنين عليهاالسلام لم تتزوج بعد أمير المؤمنين عليهالسلام :
تزوج أمير المؤمنين عليهالسلام من فاطمة ابنة حزام العامرية إما بعد وفاة الصديقة سيدة النساء ، كما يراه بعض المؤرخين (6)
أو بعد أن تزوج بأمامة بنت زينب بنت رسول الله ، كما يراه البعض الآخر (7)
وهذا بعد وفاة الزهراء عليهاالسلام لأنّ الله قد حرم النساء على علي عليهالسلام ما دامت فاطمة موجودة (8).
فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم : العباس ، وعبد الله ، وجعفر ، وعثمان.
وعاشت بعده عليهالسلام مدة طويلة ، ولم تتزوج من غيره ، كما أن أمامة وأسماء بنت عميس وليلى لم يخرجن إلى أحد بعده ، وهذه الأربع حرائر توفي عنهن سيد الوصيين (9).
وقد خطب المغيرة بن نوفل أمامة ثم خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث ، فامتنعت وروت حديثاً عن علي عليهالسلام أن أزواج النبي والوصي لا يتزوجن بعده ، فلم يتزوجن الحرائر وأمهات الأولاد عملاً بالرواية (10).
وكانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهمالسلام ، مخلصة في ولائهم ، ممحضة في مودتهم (11)
وقد بقيت وفية لزوجها بعد استشهاده كما كانت وفية له في حياته.
وقد توفى عنها أمير المؤمنين عليهالسلام وكان أكبر أولادها العباس لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره ، حيث تلفع هو وأخوته الصغار بغبار اليتم وذاقوا مرارة فقد الأب وهم في مقتبل العمر.
أم البنين عليهاالسلام ورعايتها لسبطي النبي صلىاللهعليهوآله :
قامت السيدة أم البنين برعاية سبطي رسول الله صلىاللهعليهوآله وريحانتيه وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين عليهالسلام ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد أمهما سيدة نساء العالمين ، فقد توفيت وعمرها كعمر الزهور ، فترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.
لقد كانت السيدة أم البنين تكن في نفسها من المودة والحب للحسن والحسين عليهماالسلام ما لا تكنّه لأولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.
لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله على أبنائها في الخدمة والرعاية ، ولم يعرف التاريخ أنّ شريكة تخلص لأبناء شريكتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيدة الزكية ، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودتهما في كتابه الكريم فقال تعالى : (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ) (12)
وهما وديعتا رسول الله صلىاللهعليهوآله وريحانتاه ، وقد عرفت أم البنين ذلك فوفت بحقهما وقامت بخدمتهما خير قيام (13).
روي أنها لما زفت إلى بيت الامام أمير المؤمنين عليهالسلام وجدت الامامين الحسن والحسين عليهماالسلام مريضين ، فأخذت تمرضهما وتقوم برعايتهما ، وتلاطفهما في القول ، وتطيب لهما الكلام ، حتى عوفيا من مرضهما وبرئا من علتهما.
ثم إنّها ـ على ما قيل ـ طلبت من الامام أمير المؤمنين عليهالسلام أن يعهد إلى أهل بيته بأن لا يدعوها أحد بعد ذلك باسمها «فاطمة» ، مخافة أن يتذكر أبناء فاطمة الزهراء عليهاالسلام أمهم فيتجدّد حزنهم ويلكأ جرح مصابهم ، فتثار أشجانهم وتعود اليهم ذكرياتهم ، فدعاها أمير المؤمنين بـ «أم البنين» (14).
المصادر :
1- البحار ٤٢ / ٢٢٤ باب ١٢٧ ح ٣٣.
2- البحار ٤٢ / ٢٣٨.
3- البحار ٤٢ / ٢٣٩.
4- البحار ٤٢ / ٢٨٢.
5- تذكرة الخواص : ١٦٨.
6- الطبري ٦ / ٨٩ ، ابن الاثير ٣ / ١٥٨ ، أبو الفداء ١ / ١٨١.
7- المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ١١٧ ، مطالب السؤول ٦٣ ، الفصول المهمة ١٤٥ ، الاصابة ٤ / ٣٦ ترجمة أمامة.
8- المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٩٣.
9- كشف الغمة : ٣٢ ، الفصول المهمة : ١٤٥ ، المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٧٦ ، مطالب السؤول : ٦٣.
10- المناقب (لابن شهر آشوب) ٢ / ٧٦.
11- العباس (للمقرم) : ١٣٢ ـ ١٣٣.
12- سورة الشورى : الآية ٢٣.
13- العباس رائد الكرامة : ٢٧.
14- الخصائص العباسية : ٢٥.