ترى نظرية الصراع ان المعافاة الصحية تعتبر مصدراً من المصادر التي يحسب لها حساب عند الرأسماليين (١).
فكما حازت الطبقة الرأسمالية على قصب السبق في الثروة ، والقوة السياسية ، والمنزلة الاجتماعية ، فقد اعتبرت المعافاة الشخصية مصدراً من مصادر القوة التي ينبغي ان يسيطر عليها الاغنياء في المجتمع الرأسمالي. ولما كان المجتمع الرأسمالي مبنيّاً على المنافسة الاقتصادية ، فان المنافسة للسيطرة على النظام الصحي تحمل معها كل معاني المنافسة الاقتصادية ؛ لان النظام الصحي يدرّ على الطبقة الرأسمالية مقداراً هائلاً من الثروة ، ناهيك عن اندماج قادة النظام الصحي في العملية الرأسمالية ، وخصوصاً الاستثمار وما يصحبها من قدرة على تحويل القوة الاقتصادية الى قوة سياسية. واذا كان توزيع الثروة في المجتمع الرأسمالي محصوراً في الطبقة الرأسمالية القوية ، فان النظام الصحي ـ بكل ما يجلبه من خيرات ـ سيكون حتما في قبضة اليد الرأسمالية.
بطبيعة الحال ، فان من حقّ الفرد في المجتمع الرأسمالي التمتع بصحة جيدة ؛ ولكن لتحقيق ذلك يجب الالتفات الى مسألتين :
الاولى : حالته المعيشية والسكنية.
والثانية : المستشفى الذى يعالج فيه وقت المرض. فاذا كان ذلك الفرد عضواً في الطبقة الرأسمالية ، فان السكن الذي يسكنه ونوعية الطعام الذي يتناوله يساهمان مساهمة كبيرة في المحافظة على صحته وعافيته. وحين المرض ، فان الاموال التي يمتلكها تستطيع ان تفتح له ابواب افضل المستشفيات وتضع في خدمته امهر الاطباء.
اما الفقراء فان ظروف معيشتهم وسكناهم ، ونوعية غذائهم تعرضهم لشتى انواع الجراثيم والفيروسات ، وفي النهاية تنهار مناعتهم الجسدية ضد الامراض ، وتضعف مقاومتهم. ولا شك ان وضعهم المادي الذي لا يساعدهم على دفع اجور المستشفى والطبيب والدواء يؤدي الى حرمانهم من الخدمات الطبية. وكما كان متوقعاً فان التوزيع غير العادل للخدمات الصحية ، هو النتيجة الاساسية لانعدام العدالة في توزيع الثروة الاجتماعية وما يترتب عليها من انشاء نظام طبقي ينا في مفاهيم المساواة الانسانية.
ونتيجة لهذا التفاوت الصحي بين الطبقتين الغنية والفقيرة ، الرأسمالية والمعدمة ، يعمّر الاغنياء في النظام الرأسمالي ، في حياتهم الدنيوية ، اكثر من الفقراء ، لان هؤلاء الاغنياء تتوفر لهم مصادر الثقافة الطبية العامة ، وطرق التغذية الصحيحة ، وتوفر لهم اموالهم سبل العلم عن الامراض ، مما يؤدي الى اهتمامهم بالاعراض المرضية ، وسرعة التحرك طلباً لمعاينة الطبيب ، على عكس الفقراء الذين لا يعيرون اهتماماً للاعراض المرضية ، ويتمنون الشفاء دون معاينة طبيب مختص.
وتزعم نظرية الصراع ان دورات المياه في المساكن الفقيرة تعتبر مصدراً من مصادر انتشار الاوبئة والامراض المعدية عن طريق الطفيليات والجراثيم ، وتعتبر اماكن عمل الفقراء اكثر خطراً من الاماكن التي يعمل فيها الاغنياء ؛ وبسبب هموم المعيشة والاضطرابات النفسية التي تصاحب الفقر والحاجة عادة ، تزداد نسبة الامراض العقلية بين افراد الطبقة الفقيرة.
وهذه الاضطرابات النفسية والعقلية تسبب نقصانا في اعمار الفقراء على الاغلب. ولا شك ان هذا الوضع الصحي للفقراء يخدم الطبقة الرأسمالية الغنية خدمة عظمى ، لان المرض والتخلف العقلي ونقصان عمر الفرد يساعد على سحق الطبقة الدنيا من الافراد ، بحيث يؤدي الى غلق ابواب التغيير الاجتماعي المأمول. والنتيجة النهائية ، بقاء سيطرة الطبقة الرأسمالية على مقدرات النظام الاجتماعي بكل ابعادها السياسية والاقتصادية.
وطالما كان القوي افضل من الضعيف ، وكان المعافى افضل من المريض ، كان النظام الصحي الرأسمالي حتماً صنيعة الطبقة الرأسمالية ، كما تعتقد نظرية الصراع ، لان هذا النظام الصحي يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.
الطب في النظام الرأسمالي البريطاني
ويتمتع افراد المجتمع البريطاني بنظام صحي يجمع بين الفكرة الاشتراكية والنظرة الرأسمالية ، على خلاف نظيره في المجتمع الامريكي (2).
فالنظام الصحي البريطاني يسمح للاطباء بممارسة مهنتهم في العيادات الخاصة ، ويسمح للمستشفيات الاهلية بفرض اجور معينة يدفعها المرضى لقاء الخدمات المقدمة لهم. ولكن الاطباء والمستشفيات عموماً تشارك في النظام الصحي الحكومي العام الذي يقدم الخدمات الصحية المجانية لكل الافراد ، بغض النظر عن دخلهم السنوي. ويعين هذا النظام للطبيب راتباً محدداً من قبل الادارة المحلية مع نسبة سنوية ثابتة من ضرائب الافراد الذين يعالجهم ذلك الطبيب.
ولذلك فان الاطباء الماهرين يجذبون عدداً اكبر من المرضى. وكلما ازداد عدد المرضى الذين يعالجهم الطبيب ازداد دخله السنوي. وهذا النظام يخفف العبء المالي عن المريض ، وذلك بالتزام الحكومة بدفع تكاليف الفحوص والتجارب المختبرية والعمليات الجراحية التي تجري في المستشفيات ، وما يعقبها من مكوث فترة زمنية للتشافي ، وتحديد الدواء من قبل النظام بسعر رمزي ثابت يدفعه الفرد ، حتى لو كان الثمن الواقعي لذلك الدواء باهضاً.
ولكنّ مناصري النظرية الرأسمالية يعترضون على النظام الصحي البريطاني ، ويتهمونه بالقصور عن مواكبة النظرية الرأسمالية ، ويزعمون ان الطلب المتزايد على خدمات النظام الصحي ، ومحدودية الاموال المقدمة له من قبل الضريبة تجرده عن المنفعة المادية المتوخاة في كل عمل رأسمالي ؛ ويدعون بان النظام الصحي البريطاني لا يفتقر الى المال فحسب ، بل يفتقر ايضاً الى الدقة والاتقان في تقديم الخدمات الطبية.
ومع ان هذه الادعاءات صحيحة ظاهرا ، الا ان هذا النظام الصحي اعدل نسبياً من نظيره في الولايات المتحدة.
فهو اولاً : يمثل عدالة نسبية في توزيع الخدمات الصحية. وثانياً : تمثل تكاليف النظام الصحي البريطاني نصف تكاليف نظيره في الولايات المتحدة.
وثالثاً : مع ان النظام البريطاني متهم بالتقصير في تقديم الخدمات الطبية ، الا ان نسبة وفيات المواليد في المجتمع البريطاني اقل من نظيرها في المجتمع الامريكي. والنظام الصحي البريطاني يمثل استثناءً في الفكرة الرأسمالية ، لانه يؤمن ـ خلافاً للعقيدة الرأسمالية في ضرورة جني الارباح من كل عمل تجاري ـ ان العلاج الصحي يجب ان يقدم للمرضى الذين يحتاجون العلاج بغض النظر عن قدرتهم على دفع الاجور.
الطب في النظام الرأسمالي الامريكي
ولا شك ان دراسة النظام الصحي الرأسمالي الامريكي تجعلنا نصدق ـ دون تحفظ ـ الفكرة القائلة بأن اغنى دولة رأسمالية في العالم اليوم ـ وهي الولايات المتحدة ـ ليس لديها تأمين صحي عام يشمل جميع الافراد ؛ حيث نلاحظ ، في نهاية القرن العشرين ، ان فرداً واحدا من كل ستة افراد في الولايات المتحدة لا يستطيع دفع اجور معالجته الطبية وقت المرض.
واذا استمر مرضه لفترة طويلة نسبياً فانه قد يضطر لبيع سكناه وممتلكاته طلباً للشفاء. واذا ما تم الشفاء بعد تلك الفترة ، ولكنه لا يزال عاطلاً عن العمل ، فان مصيره التشرد مع اسرته (3).
وهذه الحالات المأساوية المنتشرة في طول البلاد وعرضها تدحض الفكرة القائلة بأحقية النظام الرأسمالي في قيادة البشرية نحو شاطئ السعادة والامان. فأية سعادة هذه التي يبشر بها النظام الرأسمالي افراده ؟
أليس التطبيب والعلاج حقاً من حقوق الفرد مهما كان لونه وجنسه ؟ اوليس للفرد الفقير حق على المجتمع في تطبيبه اذا مرض ، وتعويضه اذا فقد القدرة على العمل والانتاج ؟
ولماذا يعتبر النظام الرأسمالي الطب بضاعة يتاجر بها كما يتاجر بالمواد التجارية الاخرى ؟
الا ينبغي للخدمات الصحية العلاجية التي يقدمها الطبيب والمرض والصيدلي وصاحب المستشفى للمريض ، ان تكون في مدار الخدمة الانسانية البعيدة عن الطمع والجشع الرأسمالي ؟
ولكن النظام الرأسمالي لا يقدم اذنا صاغية لصرخات المستضعفين ، بل يزعم ان المدار في النظام الصحي هو جني الارباح التي يدرها على المستثمرين ، دون الاخذ بالنظرة الانسانية في معالجة المريض باعتباره انسانا يستحق كل مستلزمات العلاج والرعاية وقت المرض. فالمريض الذي يستحق العلاج الحقيقي هو القادر على دفع القائمة المالية اكثر من غيره.
اما المريض الفقير فهو لا يستحق علاجاً لانه لا يساهم في تحقيق المفهوم الرأسمالي في الانتاج وجني الارباح.
ويأخذ ناقدو الرأسمالية على النظام الامريكي انه لم يشرّع لحد اليوم قانوناً واحدا يحدد فيه اسعار العلاج الطبي ، بل انه ترك الامر الى المنافسة الاقتصادية ؛ فالاطباء هم الذين يحددون اسعار علاجهم ، وعلى ضوء ذلك فانهم يقبضون اجورهم العالية ، عن طريق المرضى الاثرياء مباشرة ، او عن طريق شركات التأمين الصحية ، او عن طريق البرامج الحكومية ؛ ومن كل ذلك تتراكم مبالغ هائلة من الاموال لدى هؤلاء المحترفين الذين يفترض فيهم التعفف عن جمع المال لقربهم من آلام الانسان وموته وحياته.
والنتيجة من تطبيق هذا النظام الصحي ان ارقى المستشفيات وافضلها من ناحية التقنية العلمية والخدمات تعالج افراد الطبقة الرأسمالية العليا فقط لانهم وحدهم القادرون على دفع اجور خدمات تلك المستشفيات. اما الطبقات الاخرى فانها تستخدم مؤسسات صحية متوسطة المستوى للعلاج ، ما عدا الطبقة الفقيرة التي تعاني من الحرمان لأبسط قواعد العلاج الصحي. ولا شك ان هذا النظام الصحي الطبقي ساعد على انتاج افضل انظمة الصحة والعلاج التقني في العالم ، خصيصاً للاغنياء.
ولا ريب ان هذا النظام ساعد ايضا على تكوين اغنى الاطباء في العالم.
ويرجع سبب نمو هذا النظام الصحي غير العادل وثباته ، الى ان مؤسسة الطب الامريكية وهي التي تضم في عضويتها اكثر من نصف اطباء امريكا ، تغدق على اعضاء الكونغرس ورجال الحكومة اموالاً كي تصرفهم عن المصادقة على قوانين اصلاح النظام الطبي في الولايات المتحدة.
ولتبرير هذا الواقع الصحي الظالم الذي انشأته الفكرة الطبقية الامريكية ، ينتقد مناصر والنظام الامريكي فكرة سيطرة الدولة على النظام الصحي ، واشراك الفقراء في العلاج ، ويزعمون ان ذلك يؤدي الى ( اشتراكية الطب ) التي تناقض النظرية الرأسمالية من الصميم. ولكن هؤلاء يتناسون ان بعض المؤسسات الرأسمالية نفسها اشتراكية الطبع.
فجهاز الشرطة تديره الحكومة وهو بطبيعته اشتراكي المنشأ. فالمعتدى عليه لا يذهب الى شركة اهلية خاصة لاستئجار الشرطي الذي يحميه ، بل ان جهاز الشرطة جهاز فيدرالي تسيطر عليه الدولة لحماية الافراد ضد الاعتداءات المختلفة ، فكيف يتقبل المجتمع الرأسمالي « اشتراكية البوليس » ويرفض « اشتراكية الطب » ؟
وكيف يقبل المجتمع الرأسمالي « اشتراكية القضاء » الحكومي ويرفض « اشتراكية الطب » ؟ وكيف يقبل المجتمع الرأسمالي « اشتراكية المطافئ » ويرفض « اشتراكية الطب » ؟
ومع ان النظام الصحي الرأسمالي الامريكي اليوم ، يفتخر بتقدم علومه الطبية الحديثة ، ويرجعها الى اصل الفكرة التجارية القائمة على اساس الربح والخسارة ، الا انه يستنكر في الوقت نفسه ان يكون الجانب الانساني المدار في تقديم الخدمات العلاجية ، لان المؤسسة الطبية ـ كما يعتقد ـ يجب ان تكون مؤسسة للتجارة لا للخدمات !
واذا كانت المؤسسة الطبية في المجتمع الرأسمالي الامريكي تنتج عشرة بالمائة من ارباح الانتاج الكلي للنظام الاجتماعي ، فان حرمان خمسة عشر بالمائة من افراده من العلاج الطبي الاساسي يعتبر ظلماً بحق المعذبين والمعدمين ، الذين يعيشون دون علاج ، تحت نظام يدعي لنفسه كمال العدالة الاجتماعية والمساواة التامة بين الافراد.
اسباب انعدام عدالة النظام الصحي الامريكي
وترجع اسباب فشل النظام الطبي الامريكي في توزيع العلاج بشكل عادل بين الافراد الى قضايا عديدة ؛ منها : عوامل الربح ، وفشل البرامج الحكومية ، وتكاليف المؤسسة الطبية ، والطب الدفاعي ، وزيادة عدد الاطباء (4).
فعلى صعيد الارباح ، فان الروح الرأسمالية للنظام الطبي تدفع افراده الى تحقيق اقصى ما يمكن تحقيقه من الارباح على حساب المريض. فالطبيب يعين سعراً للعلاج ، فيتعين على الشركة التي يعمل فيها « المريض » دفعه كليا ؛ ولما كانت اجور علاج عمالها مرتفعة ، فان الشركة تضطر لاضافة اجور العلاج على الاجور النهائية للبضاعة التي شارك العامل في صناعتها ، وبالتالي فان المستهلك يدفع جزءاً من الاجور الطبية التي تذهب في النهاية الى جيب النظام الصحي الرأسمالي. والمحصل ، ان جزءاً كبيراً من الثروة الاجتماعية سوف يتحرك بشكل تراكمي باتجاه الطبقة الرأسمالية الطبية. ولما كانت الثروة محدودة بحدود النظام الاجتماعي فان انتقالها الى تلك الطبقة سيحرم افراداً آخرين من تحصيلها والاستفادة منها في سد حاجاتهم الاساسية.
وعلى صعيد البرامج الحكومية ، فان الدولة تصرف على علاج الفقراء قدراً معيناً من المال ؛ فاذا نفد ذلك القدر من المال ، حرم بقية الفقراء من العلاج ، واغلقت المستشفيات ابوابها بوجوههم. ولما كانت الحكومة المحلية تدفع مبلغاً اقل للسعر الذي يحدده الطبيب ، فان العديد من الاطباء لا يقبلون علاج مرضى الفقراء المعتمدين على المساعدة الحكومية ، وليس هناك قانون يلزم هؤلاء الاطباء بعلاج الفقراء بالخصوص. ولما كانت الرقابة الحكومية على الاطباء ضعيفة ـ لان هذه الرقابة ذاتها تكلف اموالاً اضافية غير متوفرة ـ يختلق البعض من الاطباء اسماءً وهمية يعالجها ويبعث بقوائم علاجها الى الحكومة ليقبض على اساسها اموالاً اضافية اخرى.
وهذا الفساد والغش له ما يبرره في النظام الرأسمالي ، لان هذا النظام لا يربي في الطبيب انسانيته ولا ينشئ في ضميره الوازع الاخلاقي ، بل يترك لغرائزه الجشعة العبث بمقدرات الآخرين.
وعلى صعيد تكاليف المؤسسة الطبية ، فان ثلاثة ارباع تكاليف النظام الصحي الاجمالي تذهب الى دخل المستشفيات وموظفيها من اداريين وفنيين واطباء وصيادلة وممرضين.
ولا شك ان الثروة المتراكمة لدى المستشفيات ـ باعتبارها مؤسسات تجارية ـ تشجعها على الحصول على اغلى وارقى الاجهزة الطبية في جراحة القلب ونقل الاعضاء ، والاجهزة التشخيصية التي تعمل بالاشعة السينية والصوتية ونحوها. وكل هذه الاجهزة تكلف النظام الصحي اموالاً طائلة ، ولكن انحصارها بالمستشفيات الخاصة بالطبقات الرأسمالية والمتوسطة ، وحرمان الطبقة الفقيرة منها دليل واضح يثبت بان استخدام التقنية الحديثة ينفع افراد الطبقات الغنية دون الفقيرة.
وعلى صعيد الطب الدفاعي ، فان القانون الرأسمالي يستطيع ، نظريا ، ان يضع الطبيب المخطئ في معالجته المريض ، امام المحكمة ليدفع تعويضاً مالياً للضحية. وهذا القانون يطبّق اذا كان الخطأ الذي ارتكبه الطبيب معتبراً في انزال الاذى بالمريض.
فلو قطع الطبيب بطريق الخطأ مجموعة من الاعصاب لمريض مصاب بمرضٍ في الكلية مثلاً ، فان على الطبيب دفع تعويض مالي معين لذلك المريض.
وقد شجع هذا الاصرار القضائي على تغريم الطبيب ، على انشاء شركات تأمين خاصة بالاطباء ، حيث تتولى دفع التعويضات للمريض المَجنِيِّ عليه ـ خطأً ـ من قبل الطبيب ؛ وهذا التأمين الطبي يتم لقاء اجر سنوي محدد يدفعه الاطباء.
ولكن دفعاً لمشكلة الخطأ الطبي وما يترتب عليها من تعويض ، فان الاطباء لا يتركون تجربة او تحليلاً مختبريا يخص المريض بطريق مباشر او غير مباشر الا واستخدموه للتشخيص. وفي هذه الحالة فان اجور التشخص بكافة الوانها وانواعها تقع كلياً على كاهل المريض دون ان يخسر الطبيب شيئاً من جيبه الخاص.
وعلى صعيد زيادة عدد الاطباء ، فان زيادة الاجور وارتباط مهنة الطب بالقوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يدفع الكثير من الطلبة الى الدخول في كليات الطب.
وفي نهاية القرن العشرين يمثل الحقل الطبي الامريكي اكثر من نصف مليون طبيب يتزاحمون على جني اقصى الارباح من زبائنهم. وامام هذا العدد الهائل من الاطباء ، اي طبيب واحد لكل خمسمائة فرد امريكي ، اخذت المشكلة الاجتماعية ابعادا جديدة. فاصبح الطب يتدخل في حياة الفرد تدخلا سافرا ، واصبحت الاعراض البسيطة التي لا تحتاج الى علاج طبي امراضا يتحتم على الافراد علاجها طبيا.
فالارق ، والصداع ، وتخفيف الوزن ، والسمنة ، والشره ، اصبحت امراضاً ينبغي علاجها بمختلف انواع الادوية الكيميائية.
اما قبح الوجه وكبر السن فاصبحتا قضيتين طبيتين لمن اراد علاجهما بعمليات جراحية. وازدادت عمليات الولادة القيصرية بنسبة الربع ، بمعنى ان لكل اربعة ولادات تحصل في الولايات المتحدة ثلاث منها طبيعية والرابعة قيصرية.
وفي هذا دليل على ان كثرة عدد الاطباء وشره النظام الصحي المستند على اساس التجارة الحرة يدفع الخبراء في مجال الطب ، في النظام الرأسمالي الامريكي ، الى التفتيش عن امراض جديدة تلصق بزبائن يستطيعون دفع اعلى الاجور.
وهذا الفشل في تطوير انسانية النظام الصحي الامريكي يدفعنا الى الاعتقاد بان الخبرة الطبية وحدها ليست المدار في تقدم النظام الصحي في المجتمع ، بل ان المدار ـ اضافة الى الخبرة ـ الثقة والصدق والايمان. فاذا كان الخبير جشعا يبذل جهده في جمع المال ، فكيف نستطيع الاطمئنان الى صحة عمله ؟
واذا كان الخبير مجردا من انسانيته فكيف نستطيع ان نضع ارواح الفقراء ـ الذين لا يملكون ما يشبع غريزته من الاموال ـ بين يديه يقلبها كيفما شاء ؟
اليس الاولى للنظام الصحي الامريكي ، الذي يدعي تطور تقنية الفنية ، جعل المؤسسة الصحية مؤسسة انسانية تهتم بكل الافراد بدل جعلها مؤسسة تجارية تبحث عن جني الارباح ؟
او ليست خسارة الاموال افضل واولى من خسارة ارواح الفقراء ؟
المصادر :
1- هاورد ويتكن : المرض الثاني : تناقضات العناية الصحية الرأسمالية. شيكاغو : مطبعة جامعة شيكاغو ، ١٩٨٦ م.
2- ميلتون رومير : دراسة مقارنة بين السياسات القومية للعناية الصحية. نيويورك : مارسيل ديكر ، ١٩٧٧ م.
3- بول ستار : التغير الاجتماعي للطب الامريكي. نيويورك : الكتب الاساسية ، ١٩٨٢ م.
4- وليم كوكرهام: علم الاجتماع الطبي. نيوجرسي : برنتس ـ هول ، ١٩٨٦.