المجتمع الانساني يتطور تطوراً طبيعياً ما لم يقم الافراد جميعاً باداء ادوارهم الاجتماعية في كل الاوقات. فاذا تعرض فرد ما لمرض من الامراض اصبح دوره الاجتماعي شاغراً لانه لا يستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعيا. وكنتيجة لهذا الخلل ، اصبح ذلك الدور معرضاً الى احتمالين :
الاول : ان يحال الى فرد آخر سليم من الناحية الصحية .
والثاني : ان يبقى ذلك الدور معطلاً دون شاغل يشغله.
وهذا التبدل في الادوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد ارباكا ضد الحركة الطبيعية للنظام الاجتماعي.
ولا شك ان للنظام الاجتماعي ـ مهما كان لونه وشكله ـ مصلحة حقيقية في انشاء نظام صحي متكامل لعلاج الامراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الاوبئة والامراض المعدية حتى يتم استثمار طاقات العمال الاصحاء بطريقة يكون مردودها الانتاجي متناسباً مع حجم ذلك النظام وقابلياته. وعلى هذا الاساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً ، تحديد ( من هو المريض ؟ )
ومن مصلحة النظام الاجتماعي ايضاً معرفة من يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يتهرب فيه من اداء الواجبات الاجتماعية المناطة به. فلو نظرنا الى قائمة الامراض التي تصيب الافراد في اي مجتمع انساني ، وابتدأنا من الصداع وانتهينا بامراض القلب مروراً بامراض الكبد والجهاز الهضمي والدماغ والاعصاب ، لتبين لنا ان المؤسسات الصحية التي اسسها النظام الاجتماعي هي التي تحدد طبيعة المرض خطورته.
فالمجتمع مثلاً لا يعتبر الصداع مرضاً لان المؤسسة الصحية لم تعتبره حالة مرضية تستوجب دخول المستشفى او عيادة الطبيب الا في حالات استثنائية نادرة ، ولكنه يعتبر قرحة الامعاء ، مرضاً يتوجب معالجته عن طريق الطبيب او المستشفى ، مع ان الصداع والقرحة معا قد يعطلان الفرد عن الانتاج. وعلى هذه القاعدة يمكن تطبيق كل الحالات المرضية التي يتم تحديدها عن طريق مؤسسات النظام الصحية.
ولا يتوقف النظام الاجتماعي عند تحديد المرض وتشخيصه ، بل يتوقع من الفرد سلوكاً معينا يتناسب مع ذلك المرض. فسلوك المريض مثلاً ، يعتبر من الناحية الاجتماعية مناقضاً للسلوك الطبيعي للافراد الاصحاء.
فما ان يعلن المريض اعراضه المرضية حتى يخلد الى الفراش ، باحثاً عن المساعدة الطبية ، باذلاً ماله لتحصيل الدواء الموصوف. وبما ان المرض عامل اجتماعي سلبي على الانسان ، فان نزوله بعضو من اعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض.
ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب ان تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي ، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.
وتعْتَبِر هذه النظرية ، المرض لونا من الوان الانحراف الاجتماعي ؛ لان المريض يسلك خلال مرضه سلوكاً مناقضاً للسلوك الطبيعي الذي يقره الاصحاء.
فالخلود الى الفراش ، وتناول الدواء ، وتسخير الآخرين لخدمة المريض ، كلها تصرفات لا يقوم بها الاصحاء غالباً. ولكن هذا الانحراف الصحي يعتبر انحرافاً استثنائيا ، لاسباب عدة منها :
اولا : ان هذا السلوك يستغرق فترة قصيرة محدودة .
وثانياً : انه يعبّر عن قوة لا ارادية داخل جسم الانسان. فالمريض مجبر على قبول حالته الاستثنائية ، وملزم بالاستسلام لواقعه الانحرافي الجديد.
ولذلك فهو غير مُلام على تركه العمل الانتاجي ، وغير مسؤول عن التقصير في اداء دوره الاجتماعي الذي اصبح شاغراً بسبب مرضه. وما على المجتمع ونظامه الاجتماعي الا الاذعان والتسليم لحق المريض ومعاملته معاملة خاصة ، عن طريق منحه اجازة التخلي عن دوره ومسؤولياته الاجتماعية الى موعد الشفاء التام. فالعامل المريض مثلا يستطيع ترك العمل والتوقف عن الانتاج والخلود للراحة فور ظهور اعراضه المرضية. والطالب المريض يستطيع تأجيل موعد امتحانه النهائي لاسباب مرضية. والتاجر المريض يعطل تجارته بسبب عجزه عن ممارسة العمل الطبيعي الذي تعارف افراد المجتمع عليه.
ولا شك ان المريض الصادق ينبغي ان يطلب علاجاً سريعاً لحالته المرضية الاستثنائية. لان تباطؤه في العلاج يعني ان ذلك الفرد يهوى البقاء عالة على الآخرين ، ويود التخلي عن عمله الانتاجي في الحقل الاجتماعي ؛ وهو بذلك لا يعطل دوره الاجتماعي فحسب ، بل يستهلك موارد الآخرين الاقتصادية ايضاً.
وهذا التمارض يعطل الطاقات الانتاجية للافراد ويسبب خللا في الميزان الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع.
وعلى الاغلب ، فان النظام الاجتماعي يتوقع من المريض قبول المساعدة الطبية الممنوحة له من قبل المؤسسة الصحية المعترف بها اجتماعياً. فالفرد المصاب بمرض حقيقي لا يستطيع رفض استشارة الطبيب ، او تعليماته الخاصة بالفحص الشعاعي او الكيميائي ، او اخذ الدواء ؛ لان ذلك كله يعرضه الى الشكوك والشبهات التي تتهمه بالتمارض تهربا من المسؤوليات الاجتماعية المناطة به.
نقد النظرية التوفيقية
ومع ان اهتمام النظرية التوفيقية منصبّ على ربط الادوار الاجتماعية التي يقوم بها الافراد بالسلوك الطبيعي للاصحاء ، وان النظام الاجتماعي ملزم بمعالجة الامراض ، لان اهمال معالجتها يؤدي الى تقليل الانتاج الاجتماعي ؛ الا ان هذه النظرية لا تخلو من مفارقات واخطاء نستعرض بعضاً منها.
اولا : ان النظرية تصب جلّ اهتمامها على الامراض غير المزمنة كامراض الجهاز الهضمي والبولي والتنفسي. وهذه الامراض يتم علاجها في فترة قصيرة نسبياً. ولكن النظرية تهمل امراضاً مزمنة يصعب علاجها بفترة قصيرة كامراض تضخم الانسجة المعروفة ب ( السرطان ) ، وامراض نقص المناعة الحاد ، والامراض المؤدية الى فشل القلب في تأدية نشاطه الطبيعي ؛ حيث لا يستطيع المريض في هذه الحالات المزمنة ايجاد شفاء عاجل لمرضه ، بل ان الشفاء في هذه الحالات يستهلك وقتاً طويلاً يعطل فيه الانسان طاقته الانتاجية ومسؤوليته الاجتماعية. وعلى ضوء ذلك ، فان المريض يحاول في هذه الحالات اعادة تنظيم وترتيب مسؤولياته الاجتماعية والاسرية بشكل لم تتناوله النظرية التوفيقية في تحليلها.
ثانياً : ان النظرية التوفيقية تركز على الطب العلاجي تهمل فرضية الوقاية بكل الوانها وتوجهاتها. ويعدُّ هذا الاهمال من اكبر اخطاء هذه النظرية. فلو انصبّ جهد المؤسسات الصحية على فكرة الوقاية لجنّب تلك المؤسسات الكثير من الاموال والجهود. فاشباع الطفل اشباعاً يتناسب مع سنه من الحليب ، والبيض ، والخبز ، وعصير الفواكه يخلق منه رجلا منتجا سليماً من الامراض.
وكل درهم يصرف في هذا المنحى على طفل ما ، سيدر على المجتمع لاحقاً خمسة اضعاف هذا المبلغ ، حيث ينمو الطفل سليماً من الامراض فيوفر عندئذ ، مصاريف الطب والعلاج ، ويصبح عند البلوغ عضواً نافعاً منتجاً في النظام الاجتماعي. ويبقى يؤدي دوره الاجتماعي فترة اطول من ذلك الطفل المريض الذي يشبّ وهو يفتقر الى ما يسند عظامه ويقوي لحمته من املاح ، وفيتامينات ، وادهان ، وكاربوهيدرات.
ثالثاً : ان الطب النفسي والروحي قد اهملته النظرية التوفيقية اهمالاً تاماً. ولا شك ان بعض الامراض العقلية تستدعي علاجا نفسيا. وبعض الجروح العضلية والغضروفية تستدعي علاجاً طبيعياً. وفي حالات معينة يعتقد المريض بضرورة العلاج الغيبي ، فلا يشفى الا بذلك. وفي كل هذه الحالات المرضية لم تتطرق النظرية الى تفسير العلاج والمعالج والمعالج ، لم تحدد موقف النظام الاجتماعي من تعطيل دور ذلك المريض اجتماعياً.
رابعاً : ان بعض الامراض والاضطرابات العقلية تعكس انحرافاً حقيقياً عن السلوك الطبيعي. فلا يتهاون النظام الاجتماعي في تصنيف ذلك الانحراف ضمن التصانيف الاجرامية والجنائية ، حتى لو اعلن المريض اعراضه المرضية واخلد الى الفراش ، وبحث عن المساعدة الطبية ، وبذل ماله في تحصيل الدواء.
ولم تميز النظرية التوفيقية بين الامراض العقلية التي تؤدي الى جنون مطبق ، وبين الاضطرابات الاخرى التي يستطيع فيها الفرد ان يجد علاجاً شافياً ، يدفعه مرة اخرى الى عجلة النشاط الاجتماعي الانتاجي.
واهمال هذه الحالات المرضية في تفسير النظرية التوفيقية للطب ، يعكس ضعف هذه النظرية في تحليل الامراض وعلاجها في المجتمع الانساني تحليلاً جامعاً لكل اركانها وشاملاً لجميع حقولها ومراتبها.
وهذه المؤاخذات على النظرية التوفيقية تقلل من اهميتها في تفسير المرض باعتباره ظاهرة اجتماعية ، علاوة على كونه ظاهرة طبية ، لانها لم تتناول جميع الامراض التي يتعرض لها الافراد ، بل اخذت بعضاً منها بما يساند آراءها ، وتركت البقية دون تحليل.
وظيفة الطب
ولا نشك في ان مساندة النظام الاجتماعي للمؤسسة الصحية يعكس خطورة وظيفة الطب في الحياة الانسانية ؛ فتنبع اهمية الطب في المجتمع الرأسمالي مثلاً من علاقة المؤسسة الصحية بانتاجية الفرد ، حيث يقاس النجاح الاقتصادي للنظام الرأسمالي من خلال النسب الانتاجية الاجمالية لمجموع الافراد.
ولا ريب ان الوظيفة الاساسية للطب تدور حول المحافظة على صحة الافراد ، حتى يبقي النظام الاجتماعي نظاماً انتاجياً يدر على اعضائه اقصى ما يمكن اعتصاره من الخيرات.
ومع ان الصحة الشخصية مسؤولية فردية ، الا ان المؤسسة الصحية مسؤولة عنها مسؤولية مباشرة. فهي التي تقوم بتقديم حقن المناعة وقت انتشار الاوبئة والامراض المعدية ، وبالفحص الطبي السنوي للعاملين في المصانع وحقول الانتاج المختلفة ، وبتقديم المعلومات والثقافة الطبية لجميع الافراد ، وبتنقية المياه من الشوائب الجراثيم ، وبالسيطرة على انظمة المجاري العامة ، حتى يتمّ تفادي انتشار الامراض وتقليل كل ما من شأنه خفض المستوى الانتاجي للعاملين.
وفي سبيل المحافظة على صحة الافراد ، فان النظام الصحي يقوم بمعالجة الامراض. فمن واجبات المؤسسة الصحية التعامل مع الامراض المختلفة وتقديم العلاج الشافي للافراد المصابين بتلك الامراض.
وهذا يتطلب تدريب عدد كبير من العاملين والخبراء وانشاء مؤسسات ضخمة من المصانع والمعاهد التعليمية. فالاطباء والممرضون والصيادلة والاداريون يتولون امور المستشفيات ؛ والشركات الكيميائية تتولى انتاج الادوية والمراهم الطبية ، والمؤسسات الهندسية والكهربائية تتولى تصنيع الاجهزة الطبية وتصميم المستشفيات ، والكليات الطبية والصيدلية تتولى تخريج الاطباء والصيادلة. وهذا كله يحمّل النظام الاجتماعي اعباءً كبيرة ، واموالاً طائلة.
وحتى تتفادى المؤسسة الطبية الخسارة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تكرار حدوث المرض ، فانها تبحث عن اسبابه وطرق انتشاره ، وتحاول الكشف عن افضل الوسائل التقنية للعلاج ، ومن ذلك الطب الوقائي والعمليات الجراحية وطرق التخدير ، وتصنيع الادوية.
وهذا يتطلب جهدا بشرياً فائقاً لان البحوث الطبية تبدأ بالتحري لاكتشاف اصغر الكائنات الحية في المختبرات الطبية ، وهي الفيروسات ، وتنتهي في البحث على النطاق الحقلي بدراسة الامراض دراسة ميدانية واسعة ، قد تستوعب شعوباً وبلدانا باكملها. وتتم اغلب الاكتشافات عادة ، عن طريق مؤسسات البحوث الطبية المتصلة بالجامعات ، او المستشفيات التعليمية ، او الوكالات الحكومية او المختبرات الاهلية. وهذه المؤسسات الصحية تهتم اهتماماً خاصاً بمعالجة الامراض التي يبتلى بها الافراد في ذلك الاقليم.
ومن وظائف النظام الطبي ايضاً ، السيطرة الاجتماعية على سلوك الافراد لخدمة النظام الاجتماعي. فعن طريق الطب ومؤسساته يتم تحديد حقيقة المريض عن المتمارض ، حيث يترتب على ذلك اعفاء المريض من واجباته المهنية وحرمان المتمارض من تعطيل دوره الاجتماعي.
وعن طريق المؤسسة الطبية يتم تسجيل شهادات الميلاد وشهادات الوفاة ، ويترتب على ذلك منح الوافدين الى الحياة جنسيات الدولة ، واعفاء المغادرين من مهامهم الاجتماعية. ويتم عن طريقها امضاء شهادات التلقيح ، واثبات احقّية العاطلين عن العمل لاسباب صحية ، وتعويضات شركات التأمين للافراد في حالات الحوادث والاعتداءات ، والصاق تهمة الاضطراب العقلي على بعض المنحرفين. وبالجملة فان المؤسسة الطبية تسلك مسلك الشرطي المراقب لحركة الدخول والخروج من العالم الدنيوي الى العالم الاخروي ، والقاضي الذي يبتّ باحقية هذا ومظلومية ذاك ، وصمام امان النظام الاجتماعي في ضبط انتاجية العمل ونشاط العمال.
المصادر:
راسخون2017