الأصل في شخصية المؤمن الألفة والحبّ لإخوانه المؤمنين ، أمّا النّفور من الآخرين ومعاداتهم فليس من خلق المؤمن وإنّما هي سمة الفجّار.
يتحدّث الإمام الصادق عليه السلام عن انجذاب قلب المؤمن لأخيه المؤمن مقارناً لها بتنافر قلوب الفاسقين الفجّار فيقول : إنّ ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يظهروا التودّد بألسنتهم كسرعة اختلاط قطر السّماء على مياه الأنهار ، وإن بعد ائتلاف قلوب الفجّار إذا التقوا وإن أظهروا التودّد بألسنتهم كبعد البهائم من التعاطف ، وإن طال اعتلافها على مذودٍ واحد (1).
والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم يعتبر الألفة مع الناس مقياساً للأفضلية في الخير ، ويصف من يفتقد هذه الخصلة بانعدام الخير في شخصيته.
عنه صلى الله عليه وآله وسلم : خياركم أحاسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويُؤلفون (2).
وأيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ... وخير المؤمنين من كان مألفة للمؤمنين ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف (3).
إنّ اقتراب المؤمن من إخوانه المؤمنين وانشداده القلبي إليهم يؤهّله للاقتراب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة حيث يقول : ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ، الموطئون أكنافاً الذين يألفوا ويُؤلفون (4).
المقاطعة والهجرة :
إنّ تعامل أخيك المسلم بسلبية وإعراض ، وأن تقاطعه وتهجره فذلك أمر محرّم مبغوض عند الله ، فلست حرّاً مختاراً في أن تقيم علاقة مع إخوانك المؤمنين أو لا تقيم ، بل أنت مطالب بذلك ، وإذا ما حدث سوء فهم أو تفاهم أوجب نوعاً من الإعراض فلا يصحّ أن يستمرّ طويلاً وبالتحديد أكثر من ثلاثة أيام كما تؤكّد على ذلك الأحاديث الشريفة :فعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا هجرة فوق ثلاث) (5).
وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وآله وسلم : أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلّا كانا خارجين من الإسلام ولم يكن بينهما ولاية فأيّهما سبق إلى كلام أخيه كان السابق إلى الجنّة يوم الحساب (6).
إنّ الشيطان الرجيم هو المستفيد الأكبر من تباعد المؤمن عن أخيه المؤمن ومقاطعته له ، وهذا ما يؤكّد الإمام جعفر الصادق عليه السلام بقوله : لا يزال إبليس فرحاً ما اهتجر المسلمان ، فإذا التقيا اصطكت ركبتاه وتخلّعت أوصاله ونادى يا ويله ما لقي من الثبور (7).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : هجر المسلم أخاه كسفك دمه (8).
وفي وصيته لأبي ذر يقول صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا ذر إيّاك وهجران أخيك فإنّ العمل لا يُتقبّل مع الهجران (9).
وعن الإمام الرضا عن آبائه عليه السلام ، في أوّل ليلة من شهر رمضان يغل المردة من الشياطين ويغفر في كلّ ليلة لسبعين ألفاً فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلّا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عجل الله تعالى فرجه : انظروا هؤلاء حتّى يصطلحوا (10).
وكما تنطبق هذه الأحاديث على حالة المقاطعة والهجر بين الأفراد المؤمنين فهي أشدّ انطباقاً على الجماعات المؤمنة ، فلا يصحّ أن يكون هناك إعراض وتجاهل ومقاطعة بين الجماعات المؤمنة.
مساوئ الاختلاف والفرقة :
ينخدع البعض منّا بالمكاسب العاجلة والمحدودة التي قد يجنيها بصراعه واختلافه مع إخوانه المؤمنين بأن يستشعر الانتصار لذاته ، يعبأ حوله أنصاره ، وينال بعض المكاسب الآنية ، أو يفرض رأيه في السّاحة أو ما أشبه ذلك.ولكنّا لو راجعنا التعاليم الإسلامية وقرأنا النّصوص الواردة عن قادتنا المعصومين عليهم السلام لعرفنا كيف أنّ هذه المكاسب السّريعة والمحدودة تكون على حساب مصالحنا الإستراتيجية والمصيرية كمؤمنين ، وهل من العقل أن يرضى الإنسان بغنائم تافهة وحقيرة بتنازله عن مكاسب مهمّة وكبيرة؟
إنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يؤكّد لنا أنّ ما نتصوّره مكسباً وخيراً بعدائنا واختلافنا مع المؤمنين الآخرين لهو تصوّر خاطئ واهمٌ يقول عليه السلام : وإنّ الله سبحانه لم يعط أحداً بفرقة خيراً ، ممّن مضى ولا ممّن بقي (11).
ومشكلتنا هي مع من يعتقد أنّ صراعه وعداءه للآخرين هو تكليف شرعي وأمر ديني حيث يسوّل له الشيطان أنّه وحده على الحقّ وأنّ الآخرين على الباطل ، وأنّ من واجبه معاداتهم انتصاراً للحق!
إنّ الإمام علي عليه السلام ينسف هذا التفكير المتعجرف بإرجاع بواعث الفرقة والخلاف بين المسلمين إلى وساوس الشّيطان وتضليلاته ، وأنّ الفرقة والعداء داخل المجتمع المسلم لا يمكن أن تكون مقبولة ومندوباً إليها من قبل الله تعالى.
يقول عليه السلام : إنّ الشّيطان يُسنّي لكم طُرُقه ، ويريد أن يحُلّ دينكم عقدة عقدة ، ويعطيكم بالجماعة الفرقة ، وبالفرقة الفتنة فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته (12).
إن من أهمّ أسباب انهيار الحضارات وهزيمة الأُمم وقوع النزاعات والاختلافات في أوساطها ولو درسنا تاريخ المجتمعات البشرية لواجهتنا هذه الحقيقة الواضحة في أزمنة التاريخ.
يقول الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم : لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا (13).
وبشيء من التفصيل يستعرض الإمام علي عليه السلام هذه الحقيقة في خطبته المعروفة ( القاصعة ) الواردة في نهج البلاغة فيقول :
إحذروا ما نزل بالأُمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال ، وذميم الأعمال فتذكّروا في الخير والشرّ أحوالهم ، واحذروا أن تكونوا أمثالهم ... وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم ... فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة ، والأهواء متفقة ، والقلوب معتدلة ، والأيدي مترادفة ، والسيّوف متناصرة ، والبصائر نافذة ، والعزائم واحدة.
ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين ، وملوكاً على رقاب العالمين؟
فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم ، حين وقعت الفرقة ، وتشتّتِ الألفة ، واختلفت الكلمة والأفئدة ، وتشعّبوا مختلفين ، وتفرّقوا متحازبين قد خلع الله عنهم لباس كرامته ، وسلبهم غضارة نعمته ... (14).
تزاور المؤمنين وتلاقيهم :
حينما يبتعد المؤمن عن أخيه المؤمن ، وتنعدم اللقاءات والاجتماعات بينهما فإنّ الفرصة مؤاتيه للشيطان حينئذٍ ليخلق بينهما حواجز العداوة والفرقة وخاصّة إذا كان بينهما اختلاف في الرأي أو المصلحة فبسبب الابتعاد تتضخم القضايا الصغيرة في نظر كلّ منهما عن الآخر ، كما تتراكم الانفعالات النفسية ويقوم الوشاة والنّمّامون بدورهم الخبيث في نقل المساوئ فيما بين الطرفين.ولو التقيا لذاب كثير من الجليد والتراكمات النّفسيّة التي بينهما ولتفاهما على ما يختلفان عليه وجعلاه في حدوده الواقعية.
ومشكلتنا هي انعدام أو قلّة اللقاءات بين الجهات المختلفة في الرأي أو المصلحة حيث يبتعد كلّ طرف عن أماكن تواجد الطرف الآخر ، فلا القيادات الدينية تكثّف اللقاءات فيما بينها ولا الحركات الإسلامية تحرص على الاجتماعات ولا مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع تتبادل الزيارات.
ولما اللقاءات والاجتماعات من أثر كبير في تقريب النّفوس وتأليف القلوب وتضييق شقة الخلافات نرى الأحاديث الدينية تؤكّد عليها بكثير من الحرص.
ففي الحديث الشريف : إن الله وعجل الله تعالى فرجه يقول : أيّما مسلم زار مسلماً فليس إيّاه زار ، إيّاي زار وثوابه عليّ الجنّة (15).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من زار أخاه في بيته قال الله عجل الله تعالى فرجه له : أنت ضيفي وزائري ، عليّ قراك وقد أوجبت لك الجنّة بحبّك إيّاه (16).
وعن الإمام الصادق عليه السلام : لقاء المؤمن في الله خير من عتق عشر رقاب مؤمنات (17).
ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام : لقاء الإخوان مغنم جسيم وإن قلّوا (18).
ويوجّه الإمام الصادق عليه السلام وصية لتلامذته وأتباعه يؤكّد عليهم فيها المواظبة على اللقاءات والاجتماعات فيما بينهم فيقول : اتقوا الله وكونوا إخوة بررة ، متحابّين في الله ، متواصلين متراحمين ، تزاوروا ، وتلاقوا ، وتذاكروا أمرنا وأحيوه (19).
ويشير الإمام الجواد عليه السلام إلى أنّ في اللقاءات الأخوية فائدتين أساسيتين : فائدة نفسية بتحصيل السرور والانشراح النفسي ، وفائدة فكريّة حيث يكون اللقاء فرصة لتبادل الآراء ، يقول عليه السلام : ملاقاة الإخوان نشرة وتلقيح للعقل وإن كان نزراً قليلاً (20).
إنّ الزيارات واللقاءات تساعد على رأب الصدع ولمّ الشّمل وتخفيف حدّة الصّراعات ، وتهيء الأجواء للتعاون والتقارب.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال : الزيارة تنبت المودّة (21).
إنّ المرحلة التي تمرّ بها الأُمّة الإسلامية ليست عادية ولا طبيعية ، إنّها مرحلة جدّ حساسة وخطيرة ، حيث تتآمر وتتكاتف قوى الشّرق والغرب لإجهاض الصّحوة الإسلامية المباركة ولمنع تحرّك الأُمّة باتّجاه دينها واستقلالها وحرّيتّها.
والمستهدف الرئيسي في تآمر الأعداء هم طلائع الأُمّة والفئات العاملة لتوعية الأُمّة وقيادتها في معركتها المصيرية الحاسمة.
إنّ الأعداء يسعون بكلّ قوّة ونشاط لتصفية الحركات والنشّاطات الثورية في الأُمّة أو لا أقلّ لإضعافها وعزلها عن التفاعل مع جماهير الأُمّة.
وفي مقابل توحّد الأعداء وتعاونهم على ظلمنا والعدوان على استقلالنا وحرّيّاتنا رغم كلّ ما بينهم من اختلافات آيدلوجية وسياسية ومصلحية هل يصحّ لنا نحن المتصدّين للعمل في سبيل الله والذين تجمعنا رابطة الإيمان والجهاد أن نواجه عدونا المتوحّد المتكاتف بصفوف ممزّقة ورايات متصارعة؟!
فمهما كانت أسباب الخلاف وموجباته فإنّ الخطر الذي يحدق بنا من الأعداء يفرض علينا ان نتعاون ونتّحد ونؤجّل خلافاتنا الجانبية والتفصيلية ، وإلّا فوجودنا وديننا ومستقبلنا وأوطاننا كلّ ذلك مهدّد بالفناء والدّمار.
إنّ المعركة والقتال يستوجب التلاحم والتراصّ في مواجهة الأعداء ولذلك يؤكّد ربّنا سبحانه على اتحّاد المؤمنين وتكاتفهم في ميادين الصّراع حتّى يكونوا كالبنيان المرصوص (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ) (22).
فالاتحّاد سلاح يتقوّى به من يشهره مؤمناً كان أو كافراً ، والفرقة ضعف تسبّب الهزيمة لمن يعيشها مؤمناً كان أو كافراً وصدق ربّنا سبحانه حيث يقول : (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (23).
وفي الآية إشارة مهمّة إلى أنّ الوحدة وعدم النّزاع يحتاج إلى صبر وتحمّل نفسي وتجمّل.
وإذا ما كان الأعداء متوحّدين أمامنا وكنّا عاجزين عن تجاوز وتجميد خلافاتنا في مقابلهم فإنّ الهزيمة الشنعاء هي المستقبل الذي ينتظرنا لا سمح الله.
وقديماً وقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أمام أصحابه المتفرّقين لينذرهم بتغلّب جيش معاوية المتّحد عليهم ، يقول : والله لأظُنُّ أنّ هؤلاء القوم سيُدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرّقكم عن حقكم (24).
المصادر:
1- مذود معلف الدابة ، لسان العرب ٣ : ١٦٨ ـ الأمالي للشيخ الطوسي : ٤١٢.
2- مستدرك الوسائل ٨ : ٤٥١ ، الحديث٩٩٧١.
3- الأمالي للشيخ الطوسي : ٤٦٢.
4- المجازات النبوية : ١٨٧.
5- الكافي ٢ : ٣٤٤ ، باب الهجرة الحديث٢.
6- المصدر السابق : ٣٤٥ ، باب الهجرة الحديث٥.
7- المصدر السابق : ٣٤٦ ، باب الهجرة الحديث ٧.
8- كنز العمال ٩ : ٣٢ ، الحديث٢٤٧٨٩.
9- وسائل الشيعة ١٢ : ٢٦٤ ، الحديث١٦٢٦٢.
10- عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ : ٧٦.
11- نهج البلاغة ٤ : ٩٦ الخطبة ١٧٦.
12- المصدر السابق : ٢١٨ ، الخطبة ١٢٠.
13- صحيح البخاري ٣ : ٨٨.
14- نهج البلاغة ٢ : ١٥٠ ـ ١٥٢.
15- الكافي ٢ : ١٧٦ ، باب زيارة الإخوان ، الحديث٢.
16- المصدر السابق : ١٧٧ ، باب زيارة الإخوان ، الحديث٦.
17- المصدر السابق : ١٧٨ ، باب زيارة الإخوان ، الحديث١٣.
18- المصدر السابق : ١٧٩ ، باب زيارة الإخوان ، الحديث١٦.
19- المصدر السابق : ١٧٥ ، باب التراحم والتعاطف ، الحديث١.
20- الأمالي للشيخ المفيد : ٣٢٩.
21- بحار الأنوار ٧١ : ٣٥٥.
22- الصف : ٤.
23- الأنفال : ٤٦.
24- نهج البلاغة ١ : ٦٥ ، خطبة ٢٥.