
لا ريب في حرمة الغناء في الشريعة الاسلامية وهو الصوت المشتمل على الترجيع والطرب سواء انظمت اليه آلاته أو كان مجرد الصوت المهيج ولا فرق بين أن يقع بالشعر أو غيره وكما يحرم فعله يحرم استماعه وقد دل على حرمته الذاتية وان لم يقترن بمحرم الكتاب والسنة واجماع المسلمين وفي الكتاب ايات ثلاث فسرتها السنة بذم الغناء وحرمته وتبكيت فاعله ففي الحج/٣٠ ( واجتنبوا قول الزور ) وفي لقمان / ٦ ( من يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله ) وفي الفرقان / ٧٢ ( والذين لا يشهدون الزور ) واتفقت تفاسير الشيعة الحاكية قول ابي عبدالله الصادق (عليه السلام)على ان المراد من الزور ولهو الحديث هو الغناء ولم يتباعد عنه المفسرون من أهل السنة ففي تفسير آلوسي روح المعاني ج ١٩ ص ٥١ و ج ٢١ ص ٦٧ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٢٨ وتفسير الخازن ج ٥ ص ٩١ وأسباب النزول للواحدي ص ٢٦٠ ان لهو الحديث والزور هو الغناء وقال الآلوسي لهو الحديث ذم للغناء باعلا صوت.
واما السنة ففي مفتاح الكرامة في المكاسب المحرمة عند ذكر حرمة الغناء قال وردت خمسة وعشرون رواية صحيحة وفي الجواهر انها متواترة عن السجاد والباقر والصادق (عليه السلام)دالة على حرمة الغناء مطلقاً ، وان لم يقترن بمحرم ولفظها الغناء عش النفاق ومن الكبائر والبيت الذي يغني فيه لا يؤمن من الفجيعة ولا يجاب فيه الدعاء ولا يدخله الملك ولا ينظر الله بالرحمة الى من اجتمع في مجلس الغناء وينزع الله الحياء عن المغني فلا يبالي بمقاربة اهله الرجال والمستمع للغناء شريك مع المغني في الإثم والمغنية ملعونة وكسبها حرام.
وبمثله وردت أحاديث أهل السنة المروية في مسند أحمد ج ٥ ص ٢٦٤ وص ٢٦٨ وفي كنز العمال ج ٧ ص ٣٣٧.
ويتحدث الكليني في الكافي باب الغناء ان رجلاً قال لأبي عبدالله الصادق اني أدخل الكنيف ولي جيران عندهم جوار يتغنين ويضربن بالدف فربما أطلت الجلوس لاستماعهن فقال : لا تفعل قال الرجل انما هوسماع باذني قال ابو عبدالله (عليه السلام)أما سمعت قول الله عزوجل ( ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً ) (١)
قال بلى قال استغفر الله وأغتسل وصل ما بدا لك لأنك كنت على أمر عظيم ما أسوء حالك لو مت على هذا فاسأل الله التوبة من كل ما يكره فانه لا يكره الا كل قبيح والقبيح دعه لأهله فان لكل شيء أهلا ومن هنا أجمع الامامية على حرمته كما في الحدايق والمستند وفي الجواهر انها من ضروريات المذهب.
وأما فقهاء السنة فحكى الآلوسي تضافر الآثار وكلمات كثير من العلماء على حرمة الغناء لا في مقام دون مقام وعن التتار خانية حرمته في جميع الأديان وحكى عن أبي حنيفة حرمته ونقل صاحب الذخيرة تحريمه عن جمع من الحنابلة (٢) وقال شيخ الاسلام المرغيناني ، الحنفي نهى رسول الله عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية ولا تقبل شهادة المغنية (3) وقال الكاساني الحنفي مجرد الغناء واستماعه معصية والتغنية صفة محظورة لكونها لهواً وشرطها يوجب فساد البيع والغناء في الجواري عيب (4) وحكى ابن تيمية عن ابن المنذر انه نقل الاتفاق على حرمة الغناء مطلقاً وابطال اجارة المغنية (5) وقال ابن مفلح الحنبلي حرم جماعة الغناء وحكى القاضي عياض الاجماع على كفر مستحله (6) وقال ابن قدامة الحنبلي حرمه بعض الحنابلة وقال احمد انه ينبت النفاق فلا يعجبني (7) واختار الشيخ احمد الرملي حرمته مطلقاً (8) ونقل السهروردي عن الأئمة الاربعة انهم حرموا الغناء (9) وكرهه مالك (10).
ومن هنا يتجلى للقارىء ان الشريعة المطهرة حرجت على من يدين بها التباعد عن ارتكاب هذه الصفة الممقوتة للمولى سبحانه وتعالى حتى اسقطت منزلة مرتكبها بين الناس فلا تقبل شهادته على جليل وحقير ولا يؤتم به في الصلاة ولا يقدم للاستسقاء والواجب على كل مسلم ردع من يرتكب الغناء أو يسمعه ( ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون ).(11)
وكما منعت الشريعة من ارتكابه اوقفت من يدين بها عن الطعن فيمن آمن بالملة ولم يخرق ناموسها الأكبر وفرضت تأديب من يطغو على مكانة المسلم ويعبث بقدسيته كما أمرته بالكف والسكوت عن الطعن في الناس خصوصاً اذا لم يحصل له الوثوق بهتكهم حجاب الشريعة فقالت : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ) (12) ( ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلاً ) (13).
وعلى هذا فالسيدة سكينة بنت الحسين (عليه السلام)بعد ان كانت متدينة بقانون جدها الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنها في عداد المسلمين الخاضعين لكل ما جاء به نبي الاسلام عن الوحي المبين فلا يسوغ لأي مسلم التفوه في حقها بما يخرجها عن صراط الشريعة ما لم يثبت بطريق واضح لا تعكر فيه فان من قال في مسلم كلمة هجر فقد خرق ستر الله (14) وايذاء المسلم اذى لرسول الله ومن آذى رسول الله آذى الله تعالى. (15)
واحاديث الغناء التي سجلها ابو الفرج على هذه الحرة العفيفة مروية عن آل الزبير الذي عرفت عداوتهم لآل علي (عليه السلام)وتهجمهم على مقدساتهم بكل ما لديهم من حول وطول مع انه لم يأت أثر يشهد بتعديها على نواهي أخيها زين العابدين فانها كانت تساكنه في بيته ونظراته الرحيمة تلحظها ليلاً ونهاراً وبعده كانت في كنف الامام ابي جعفر الباقر وابنه ابي عبدالله الصادق (عليه السلام)فهل يتصور احد أن الأئمة ينهون الناس عن مزاولة الغناء ويقول الصادق (عليه السلام)لمن كان يستمعه وهو في ( المرحاض ) ما أسوء حالك لو اتاك الموت وانت على هذا الحال ثم يذرون بناتهم ونساءهم مع الهوى ـ كلا ـ انه طغيان على حرماتهم وتعدي على مقام الخلافة الآلهية ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ).
الشعراء
لقد جاء صاحب الأغاني بمنقصة تأباها الغيرة والشهامة حسبها القاصر فضيلة رابية أتحف بها خفرة من بنات الرسالة وتبعه من جاء بعده بحجة أن لها المعرفة في الأدب وقوة العارضة في نقد الشعر وقد غفلوا عن مناقشة الحساب عندما يوقفون في محكمة التحقيق.
فروى أبو الفرج عن المدايني وعن ابي عبدالله الزبيري اجتماع الشعراء في بيت سكينة للضيافة وأختصموا عندها في المفاضلة بين جرير والفرزدق وكثير والأحوص وجميل ونصيب وأنها جلست في مكان تراهم ولا يرونها وأنها أخرجت وصيفة لها روت الأشعار فكانت الوصيفة تلقي على سكينة شعر كل واحد منهم وترجع اليهم بما تعيبه سيدتها (16).
وانت إذا قرأت حكم ابن حجر العسقلاني على المدائني بانه من موالي عبدالرحمن بن سمـرة الذي هو من صنائع معاوية وفي عداد عمــاله (17)
يسعك الحكم بأنه لا يتخطى سيرة مولاه ولا من اصطنعه ومن هنا شحنت الجوامع بمروياته الشائنة لمقام رجالات أهل هذا البيت الطاهر فنسب الى عبدالله بن جعفر الطيار كلمة تحط من قدره ودينه وان صبها في قالت الفضيلة فذكر ان العجوز التي ذبحت الشاة للحسينين وكان معهما ابن جعفر ولما شاهدها الحسن بالمدينة امر لها بالف شاة والف دينار واعطاها الحسين مثله وقال لها ابن جعفر لو بدأت بي لاتعبتهما (18).
فان كل من يقرء سيرة ابن جعفر مع اماميه الحسنين وخضوعه لهما يتجلى له افتعال هذا الحديث ومحاورته مع معاوية تؤكده وذلك يوم اراد أغراءه بالمدح البالغ حده ليفصله عن متابعة الحسنين (عليه السلام)فاوقفه ابن جعفر على ما سمعه من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في فضلهما وأنهما إماما هذه الأمة بعد ابيهما الوصي وان الله تعالى افاض عليهما القدرة بالتصرف في الأشياء كما يريدان. (19)
واني على يقين في افتعال كل ما ورد في حق عبدالله بن جعفر من أحاديث الكرم وما أدري من اين له هذه الأموال الطائلة مع انه مملق وابوه افقر منه فلا اقطاع عنده ولا عيون ولا من التجار المثرين وانما اراد ابن هند في وضع هذه القصص ايجاد شخص من الطالبيين يضاهي ابا محمد سيد شباب أهل الجنة الذي وقف النائل عليه وحده ومما يشهد لهذه الدعوى سعي معاوية في اثبات الكرم لعبيد الله بن العباس بن عبدالمطلب ذلك الذي ترك قيادة أربعة آلاف جندي وهمس ليلاً الى معسكر ابن هند طمعاً في دراهم معدودة وترك الدنيا والآخرة المملوكتين لأبي محمد (عليه السلام)عطاء من الله غير مجذوذ في حين لم يغب عنه « ذبح طفليه » على يد بسر بن ارطأة قائد معاوية فاين هذا والجود الذي هو شيمة الأحرار وغريزة الطاهرين (20)
وأما عبدالله الزبيري فلم يغب عن القارىء شهادة العلماء بمعاداته لأهل البيت وانه يضع المنكرات فيهم فرواياته أوهى من بيت العنكبوت ، على ان المبرد (21) وابن قتيبة (22) ذكرا اجتماع الشعراء عند عبدالملك ابن مروان وتذاكرهم بيت نصيب :
أهيم بدعد ما حييت فان امت / اوكل بدعد من يهيم بها بعدي
فأزرى كلهم على نصيب فقال لهم عبدالملك ما تقولون فقال احدهم اقول :
أهيم بدعد ما حييت فان امت / فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
فقال عبد الملك أنت أسوء رأياً من نصيب فقالوا فما كنت تقول أنت يا أميرالمؤمنين ؟ قال أقول :
أهيم بدعد ما حييت فان امت / فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
فقالوا أنت أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين.
ويحدث المرزباني (23) ان الأقيشر دخل على عبد الملك بن مروان فعاب بيت نصيب وهو :
أهيم بدعد ما حييت فان امت / فواحزني من ذا يهيم بها بعدي
فقال له عبدالملك ما كنت تقول أنت ؟ فقال أقول :
تحبكم نفسي حياتي فان أمت / فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
ثم ذكر المرزباني نقد الفرزدق على الأحوص اذ يقول :
يقر بعيني ما يقر بعينها / وأحسن شيء ما به العين قرت
فقال له إنه يقر بعينها النكاح ايقر ذلك بعينك (24). ثم ان ابن كثير ذكر اجتماع الشعراء عند عمر بن عبد العزيز وهم : الفرزدق وجرير وعمرو بن ابي ربيعة والأحوص وتفاضلهم ونقده لهم (25)
فالمفاضلة بين الشعراء كانت عند عبد الملك او عمر بن عبدالعزيز ولكن المرواني ابا الفرج زحزحها الى ناحية السيدة سكينة تحرياً للوقيعة بمصونات البيت الهاشمي بيت الشهامة والعفاف بيت الحجاب والغيرة وقد ظن أبو الفرج ان هذه المفتعلات مما يخفى مصدرها حتى في العصور المستنيرة بالبحث والتدقيق وقد كان المصدر في هذا الحديث المدايني الذي ذكرنا توقف العلماء عن مروياته ثم هناك شيء يرشدنا الى كذب هذه المحاكمة عندها هو ان ابا الفرج لم يذكر لها بيتاً في الأدب والعرفان ولو كانت سكينة بهذه المنزلة المزعومة لها من قوة العارضة والنقد لكثر منها الشعر كما كان لغيرها من رجال ونساء ولدونه ابو الفرج كما سجل لغيرها.
بيت الضيافة
على انا لا نعرف هذا البيت الذي فتحته لضيافة الوافدين عليها متى كان ؟ أفي العهد الذي كانت في ذات ازواج « لو تحققت الأوهام » وهم يرضون لها محادثة الرجال الأجانب وكانوا يدرون عليها المال لتنفقه عليهم؟ أو أنها كانت تنفق على الأضياف وتجيز الشعراء من مالها الخاص بها ؟ الذي لم يرد به تأريخ اصلاً أو أن الامام السجاد أو الباقر يفيضان عليها المال لتنفقه على الأجانب.
ثم لماذا فتحت هذا المضيف والمرأة لا تمدح بالكرم وإنما تمدح بالصون والعفاف ولم يعهد في النساء الهاشميات نظير لها في ذلك حتى من سيدة النساء فاطمة الزهراء وابنتها عقيلة الهاشميين زينب الكبرى والمعصومة فاطمة بنت الامام موسى بن جعفر (عليه السلام)وحكيمة بنت الامام ابي جعفر الجواد (عليه السلام)الى غيرهن من فضليات نساء بني هاشم وكل منهن أجل من سكينة وأقدر على الانفاق والعطاء ولو بنحو من خوارق العادات.
أكانت سكينة متفردة عن حرائر قومها بالرغم مما تقرأه من الانكار البالغ حده من جدها أميرالمؤمنين (عليه السلام)في أمر المرأة فيقول في وصيته للامام المجتبى :
إياك ومشاورة النساء فان رأيهن الى أفن وعزمهن الى وهن واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن فان شدة الحجاب أبقى عليهن وليس خروجهن بأشد من ادخالك من لا يوثق به عليهن وان أستطعت ان لا يعرفن غيرك فافعل ولا تمكن المرأة ما جاوز نفسها فان المرأة ريحانة وليست بقهرمانة (26).
فان التأمل في أطراف كلامه (عليه السلام)يوقفنا على الحكم بالزام المرأة بيتها وأسدال الستر عليها لأنه احفظ في الصون وامنع من طروق ما لا يحل بساحتها مما يقبحه العقل والعرف والدين والغيرة.
وزاد (عليه السلام)في أمرها أن أمر بكف ابصارهن عن النظر الى الغير وان لا تخرج من بيتها ولا يدخل عليها الرجال لما فيه مظنة الوقوع في الهلكة وارتكاب الفتنة كما وقعت فيها امرأة العزيز ونسوة مصر اللائي قطعن أيديهن حين شاهدن جمال الصديق يوسف (عليه السلام).
واندية أهل البيت تلهج بقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لأم سلمة وزينب حين دخل ابن أم مكتوم فلم يحتجبن عنه واعتذرن بأنه أعمى : ( أفعمياوتان أنتما ) (27).
وهذا من المرتكزات في نفوس ذوي الغيرة والشهامة من غير هذا البيت فكيف بأهله.
يقول أسحاق بن احمد بن نهيك : شاهدت رجلاً في طريق مكة وعديله جارية في المحمل وقد عصب عينيها وكشف الغطاء عن وجهها ولما قيل له في ذلك كان جوابه : ( إنما أخاف عليها عينها لا عيون الناس ) (28).
وإذا كان هذا أمر الشريعة في الحكم على المرأة وبه هتف سيد الأوصياء (عليه السلام)وقام بتنفيذه ابناؤه المعصومون فهل يدور في خلد أي أحد ان الأئمة الهداة غضوا النظر عما تأتي به خفرة من نسائهم وهي في كنفهم وبعين رعايتهم أو أن ابنة سيد الشهداء (عليه السلام)مائلة عن الصراط السوي متنكبة جادة الحق بحيث لم يقدر أولئك المعصومون المقيضون لهداية البشر على كبحها عن هذه الشرور ( كلا ).
وان كلمة سيد شباب أهل الجنة الغالية في حق ابنته : ( الغالب على سكينة الاستغراق مع الله ) ووصفه لها بخيرة النساء ترشدنا الى قوة الإيمان واعتناقها صحيح الحق والدين.
لكن السياسة قاضية والأقلام مستأجرة والحنق مالك لقلوب الشائنين لأهل البيت فقالوا كما شاء لهم الهوى واوقعوا غيرهم ممن لم يمحص الحقائق في هوة الضلال.
ثم ان قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ( لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها ) يحصر الانفاق عليها بما يفي بمناجحها ويسد خلتها كيلا تتجاوز الحدود في صرف المال فيما لا يلام صيانتها وعفافها وكذلك يحصر تمكينها بما تقدر عليه من إدارة شؤونها بدليل تعليله ( انها ريحانة ) يتمتع بها ويلتذ بالألفة معها ( لا قهرمانة ) تقوم بتدبير الشؤون وإقامة المصالح والحكم بين المتخاصمين ولقد اكد (عليه السلام)ذلك مرة اخرى لما اتاه رجل من اصحابه وشكا اليه نساءه فانه قال :
معاشر الناس لا تطيعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال ولا تذروهن يدبرن أمر العيال فانهن ان تركن وما اردن وردن المهالك وعدون امر المالك فانا وجدناهن لا ورع لهن عند حاجتهن ولا صبر لهن عند شهواتهن التبرج لهن لازم وإن كبرن والعجب لهن لاحق وان عجزن لا يشكرن الكثير إذا منعن القليل ينسين الخير ويحفظن الشر يتهافتن بالبهتان ويتمادين بالطغيان ويتصدين للشيطان فداروهن على كل حال واحسنوا لهن المقال لعلهن يحسن الفعال (29).
وهذه دروس من خليفة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم راقية تأخذ بمن يعطيها حقها الى النعيم الدائم وزلفى الأبد والسعادة الخالدة واولى الأمة باعتناقها والسير على ضوئها ابناؤه الهداة بتطبيقها على من تحويه بيوتهم المنيعة من أبنائهم وفتياتهم. سأل رسول الله ابنته الصديقة الزهراء (عليه السلام)عما هو خير للمرأة فقالت خير للمرأة ألا يراها رجل ولا ترى رجلا فضمها رسول الله اليه وقال ذرية بعضها من بعض (30).
على أنا وجدنا في أخبار النساء العاديات من تغار على نفسها من الاختلاط بالأجانب أما خضوعاً منهن لناموس الدين أو جنوحاً الى غريزة العفة فمن ذلك ان امرأة عربية كانت عند بعض القرشيين فدخل عليها خصي لزوجها وهي واضعة خمارها فحلقت شعر راسها وقالت : ما كان ليصحبني شعر نظر اليه غير ذي محرم.
ومرت امرأة عربية بقوم من بني نمير فأداموا النظر اليها فقالت يا بني نمير والله ما اخذتم بواحدة من اثنتين لا بقول الله تعالى إذ
يقول : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) (31). ولا بقول جرير (32).
فغض الطرف انك من نمير/ فلا كعباً بلغت ولا كلاباً
ودخل خادم على سكينة بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فغطت رأسها منه فقيل لها انه خادم قالت هو رجل منع شهوته (33) ومن المقطوع به ان سكينة هذه ابنة الحسين فان أهل النسب وعلماء التاريخ لم يذكروا في أولاد علي بن ابي طالب سكينة. ودخل معاوية على زوجته فاخته ومعه خصي وكانت مكشوفة الرأس فلما رأته غطت رأسها فقال لها معاوية انه خصي فقالت له اترى ان المثلة به أحلت له ما حرم الله عليه فعلم الحق معها فلم يجز لخادم الدخول الى حرمه ان كان كبيراً. (34).
فاذا كان هذا مبلغ من أخذت غريزة العفة منها منتهاها فابنة الامامة وربيبة الدين أجدر باتباع هذه التعاليم المقدسة أو الخضوع لهاتيك الغريزة فلا تبيح للرجال الدخول الى دارها ولا تقترب من مجالسهم وتنبسط اليهم لا يوم يضمها بيت الامامة ولا يوم يحويها عفاف الأزواج ( لو صدقت المزاعم ).
وكيف تتنكب سكينة عن سنن جدها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتعاليم خليفته أمير المؤمنين (عليه السلام)وهي المتربية في بيت أخيها الامام زين العابدين وابنه الباقر (عليه السلام)والمتأدبة بالآداب الآلهية وهي بعين رعايتهم ولكن الرواة ابوا إلا الاسترسال وتشويه تلك السمعة الطيبة بما شاء لهم الهوى.
وعلى هذا فاعرف حديث اجتماع الشعراء معها فيما رواه مصعب الزبيري العدو لبني هاشم ولا تذهب بك الظنون ايها الحاذق الفطن.
( ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) البقرة / ١٢٠.
شعر عمر بن ابي ربيعة
حدث ابو الفرج عن يونس عن ابن شبه ان اسحاق الموصلي غنى الرشيد بقوله :
قالت سكينة والدموع ذوارف / منها على الخدين والجلباب
فغضب الرشيد حتى سقط القدح من يده ونهــره وقال لعن الله الفاسق عمر بن ابي ربيعة ولعنك معه ألا تتحفظ وتدري ما يخرج من رأسك (35).
وهذا البيت مع أبيات رواها الزجاج (36) من دون إشارة الى الخلاف الواقع في روايتها فان ابا الفرج مع روايته لها بما عرفت رواها في سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف فقال كانت سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف جالسة في البيت الحرام فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت فأرسلت اليه إذا فرغت من طوافك فاتنا فأتاها فقالت لا اراك يا ابن أبي ربيعة صادراً عن حرم الله أما تخاف الله ويحك الى متى هذا السفه فقال لها دعي هذا عنك أما سمعت ما قلت فيك قالت لا فأنشدها قوله :
قالت سعيدة والدموع ذوارف / منهـا على الخدين والجلباب
ليت المـغري الذي لم أجزه / فيما أطـال تصعدي وطلابي
كانت تـرد لنا المنـى ايامنا / اذ لا نلام على هوى وتصاب
أسعـد ما ماء الفرات وطيبه / مني على ظمـأ وحب شراب
بألذ منـك وان نـايت وقلما / يرعى النسـاء أمـانة الغياب
وهذه الأبيات رواها الجاحظ (37) في ابنة عبدالملك بن مروان حين حجت البيت بزيادة أربعة قبلها وسبعة بعدها.
ورجح العلامة الشنقيطي في شرح أمالي الزجاجي ص ١٠٤ المطبعة المحمودية بمصر سنة ١٣٥٤ الطبعة الثانية رواية الأغاني في سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف على الرواية في سكينة بنت الحسين (عليه السلام)وقال هذا هو الصحيح وانما غيره المغنون فجعلوا سكينة مكان سعيدة وفي لفظ آخر وسكين مكان سعيد على الترخيم كما أن الحصري انكر رواية الشعر في سكينة بنت الحسين (عليه السلام)وعبارته ( كذب من روى هذا الشعر في سكينة (عليه السلام)). (38)
المصادر:
1- سورة الاسراء آية / ٣٦.
2- روح المعاني ج ٢١ ص ٦٧.
3- الهداية في فقه الحنفية ج ٣ ص ٩٠.
4- بدايع الصنايع ج ٥ ص ١٢٩ وص ١٦٩.
5- مختصر الفتاوى الكبرى المصرية ص ٣٨٨.
6- الفروع ج ٣ ، ص ٩٠٣.
7- المغنى ج ٩ ، ص ١٧٥.
8- الحديقة الندية للشيخ عبدالغنى الطرابلسي ج ٢ ص ٢٥٣.
9- مناقب ابن ابي حنيفة للبزاز في ذيل مناقبه للخوارزمي ج ١ ، ص ١٧١.
10- المدونة الكبرى لمالك ج ٣ ص ٣٩٧ كتاب الاجارة.
11- آل عمران / ١٠٤.
12- يونس / ٣٦.
13- الاسراء / ٣٦.
14- الادب المفرد للبخاري ص ٦٤.
15- الجامع الصغير لليسيوطي ج ٢ ص ١٥٧.
16- الاغاني ج ١٤ ، ص ١٤٥ الى ص ١٦٧.
17- لسان الميزان ج ٤ ، ص ٢٥٣.
18- لباب الآداب للامير اسامة بن منقذ ص ١٠٦ وثمرات الأوراق على هامش المستطرف ج ٢ ، ص ١٩ ، باب ٤٦ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٦٥.
19- الاحتجاج للطبرسي. ص ١٥٤ النجف.
20- قصص العرب ج ١ ، ص ٢١٠ ، وص ٢١١.
21- تهذيب كامل البرد ج ٢ ص ١٥٠.
22- عيون الاخبار ج ٤ ص ١٤٦.
23- الموشح ص ١٨٩.
24- المصدر ص ١٨٧.
25- البداية ج ٩ ، ص ٢٦٢.
26- نهج البلاغة ج ٢ ص ٥٨ المطبعة الرحمانية في مصر من وصيته الطويلة لولده.
27- تفسير الخازن ج ٥ ، ص ٥٧ وتفسير البغوي بهامشه.
28- عيون الاخبار لابن قتيبة ج ٤ ، ص ٨٧.
29- الصدوق ( فيمن لا يحضره الفقيه ).
30- قوت القلوب لابي طالب المكي ج ٢ ، ص ٢٥٣ فصل ٤٥ في التزويج.
31- سورة النور : آية / ٣٠.
32- ابن قتيبة في عيون الاخبار ج ٤ ، ص ٨٧ وص ٨٥.
33- امالي ابن الشيخ الطوسي ص ٢٣٣.
34- مروج الذهب للمسعودي ص ٤٧٢.
35- اغاني ج ١٦ ، ص ١٢.
36- امالي الزجاج ص ١٠٣.
37- المحاسن والأضداد ص ٢١٢.
38- زهر الآداب ج ١ ص ١٠١.