
عترة المصطفى (صلی الله عليه وآله وسلم)هم عنصر الشرف عنصر الشرف وآصرة كل فضيلة رابية وقد ثبتت لهم الرفعة والجلالة بانتمائهم الى المنبت الزاكي والشجرة الطيبة التي اصلها ثابت وفرعها في السماء ولا تنكر جهود أبيهم الاقدس ومساعيه الجبارة في انتشال الامة الى ساحل النجاة والسعادة على حين كانت تترامى بهم أمواج الضلال وتلتطم بهم الفتن وهم لا ينقذون من هوة الهوان إلا ويسفون على أعمق منها ، وكانوا يرسفون في أسر مهانة مخزية بين أصنام منحوتة ونواميس مهتوكة ودماء مهدورة وغارت متواصلة وعادت خرافية وبنات موؤدة الى أمثالها مما يقهقر سير الانسانية ويعرقل مسعى البشر عما فيه الخير والصلاح.
فباغتهم ( نبي الاسلام ) بتعاليمه الناصعة وطقوسه الراقية فأسس لهم بها كياناً خالداً وعزاً باقياً ودولة مرعية الجانب خضعت لها الدول ودانت لها الامم وبطل مسعى الالحاد وأعلن في أنحاء المعمورة دين التوحيد والسلام والوئام.
لم يزالوا في مركز الجهل حتى / بـعث الله لـلورى أزكاهـا
فـأتى كـامل الطبيعة شمسـاً / تستمد الشمـوس منه سناهـا
طربت لاسمه الثرى فاستطالت / فـوق علوية السما سفلاهـا
ثـم أثنت عليـه إنس وجـن / وعـلى مثلـه يـحق ثناهـا
وإلـى طبـه الآلهـي باتـت / عـلل الدهر تـشتكي بلواهـا
كـيف لا تشتكي الليالي اليـه / ضرها وهو منتهى شكواهـا (١)
إذا فمن واجب شكره تعظيم ذريته الطاهرة ( فان المرء يحفظ في ولده ) على ان اولئك النفر البيض دعاة إلى مبدء الحق سبحانه المهيمن على البشر بوجودهم ، دعاة اليه بألسنتهم ، دعاة بأقلامهم ، دعاة بنظمهم ونثرهم دعاة بخطبهم ، دعاة بفواضلهم وفضائلهم ، دعاة بأخلاقهم وأعمالهم ، وإذا فات البعض منهم بعض الفواضل والدعوات فلا يفقد الآخر مجموعها فأي أحد من الامة يلتفت إلى أن المشرف لهم هوني الرحمة المنتشل للبشر عن مهاوي السقوط والضعة فلا يذعن بان الواجب في شريعة الحفاظ الخضوع لذريته كرامة لذلك الجذم الاقدس والشجرة الطيبة التي أظلت العالم بفيئها الوارف.
ومن ذا الذي يجد في آحاد منهم ما يتناسب مع منبتهم الكريم من الخلق الطيب فلا يعتقد ان هذا مما عرقه فيه ذلك المنقذ الاكبر صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا يروقه إلا التحلي بما استحسنه منهم واما الذين حصلوا على أصلهم الطاهر بشيء من دعوة اللسان والسنان فغناؤهم أوفر واستفادة الامة بهم اكثر.
فهم على كل حال أدلاء على الخير ومسالك النجاة يحملون فضيلة الشرف والسؤدد فضيلة الدعوة إلى السلام والوئام فضيلة الاصلاح والرشاد وليس لسائر الامة إلا الاحسان إلى ذرية الرسول المودة لهم التي هي أجر الرسالة بنص الكتاب العزيز.
( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) (2).
والقربى هنا بمعنى الأقارب قطعاً وليس المراد منه قرب النبي من قريش ولا تقــرب الامة إلى الله تعالى بالطاعة لأن الاول يصح استعماله (3)
أولا وهو المتبادر إلى الفهم من الاطلاق ثانياً ، وأم المعنيين الآخرين فيحتاج ارادتهما من الاطلاق الى قرينة وهي مفقودة.
على أن الاخبار المتواترة دلت على أن قرابته المعنيين بالآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام (4)
وذريتهم وقد استشهد عليه الأئمة المعصومون فيقول سيد الوصيين (عليه السلام)فينا آية في حم لا يحفظ مودتنا إلا كل مؤمن ، ثم قرأ آية المودة. ويوم خطب الحسن (عليه السلام)بعد وفاة ابيه قال : أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم ، ثم قرأ آية المودة (5).
ولما وقف الامام السجاد (عليه السلام)مع حرم النبوة على درج مسجد الشام قال له شامي : الحمد لله الذي استأصلكم ، فقال (عليه السلام): أما قرأت قل ( لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) قال الشامي : نعم وانتم هم ؟ فقال الامام (عليه السلام): نعم ، فبكى واستغفر (6).
فدل هذا على معروفية المعنى المتبادر من لفظ القربى بين الناس في ذلك الزمن القريب من عهد النزول ولو كان لغير هذا المعنى نصيب من الواقع لما صدر من المعصومين الاستشهاد بالآية على كونها فيهم ولما سكت من سمع الخطاب عن النقاش.
وفي هذا يقول محي الدين العربي :
رأيت ولائـي آل طـه فريضـة /على رغم اهل البعد يورثني القربى
فما طلب المبعوث اجراً على الهدى / بتبليغـه الا المـودة في الـقربى (7)
وحينئذ فلا موقع للاشكال على الآية بأن طلب النبي الأجر على تبليغ الوحي لا يليق بمقام الانبياء مع أنهم صارحوا بنفي الاجرة على التبليغ ففي الحكاية عن نوح (عليه السلام)( فما سألتكم عليه من اجر ان أجري إلا على الله ) وعن هود وصالح ولوط وشعيب (عليه السلام)( ما أسألكم عليه من أجر ان أجري الا على رب العالمين ) وفي الحكاية عن نبينا الاعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم قل : ( ما سألتكم من أجر فهو لكم إن اجري إلا على الله ) وقوله : ( قل لا اسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين )
فان التدبر في هذه الآيات الشريفة يفيدنا عدم المنافات بينها وبين آية المودة لان الاجر المنفي في هذه الآيات هو المال والانبياء أرقى من أن يأخذوا المال على تبليغ الدعوة الآلهية مع ما فيه من المشقة على البأس التي أشار الكتاب العزيز إلى ثقلها على الطباع فقال تعالى : (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون ) وقال : (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين )
والأجر المطلوب في آية المودة لم يكن من سنخ المال حتى يثقل على الطباع البشرية تحمله لان المقصود منه موالاة آل الرسول وهذا من سنخ الدعوة الآلهية فيليق بمقام النبوة الدعوة اليه والتعريف يه ومن المناسب جداً لرسول المشرع الاقدس أعلام الامة بما تستفيد منه السعادة الخالدة والزلفى إلى المهيمن سبحانه.
فاذاً يكون طلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من امته مودة آله الاقربين لطفاً منه وحناناً عليهم لانارته لهم سبيل الخير وتعريفهم بالطريق اللاحب وهكذا المصلحون يتحرون بمن يريدون إصلاحهم كل وسيلة تأخذ بهم إلى أسمى الغايات.
على أن المحبة لآل الرسول تستوجب مودة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلتزمة لمحبة الله تعالى وطاعته كما جاء في المأثور عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم (احبوا الله لما يغدوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي )(8) وإني أخاصمكم عنهم غداً ومن أكن خصيمه خصمه الله ومن خصمه الله ادخله النار (9).
وبهذه العناية يكون المعنى الثالث للفظ القربى في آية المودة وهو تقرب الامة إلى الله تعالى بالطاعة لازماً لمودة أهل البيت لكونها محبوبة للرسول ومحبوبة لله سبحانه وهذا عين الطاعة اليه جل شأنه.
فالرسول الاعظم لم يسال الامة ما لا عوض تحمله المشاق في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من مخالب الضلال والعمى والارشاد إلى ما فيه حياتهم وجمع شملهم حتى يشكل عليه بعدم المناسبة لمقام النبوة والرسالة وانما طلب منهم ما يعود نفعه اليهم وبه يستوجبون شمول العطف الآلهي ألا وهو مودة أهل بيته وقرباه وهم : ( علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم ) وتفسير القربى بأهل البيت رواه الالوسي عن زاذان عن علي (عليه السلام)قال واليه يشير الكميت الاسدي.
وجدنا لكم في آل حم آية / تأولها منا تقي ومعرب
ولله در السيد عمر الهيتي احد الاقارب المعاصرين حيث يقول :
بـأيـة آيـة يأتـي يزيـد / غداة صحائف الاعمال تـتلى
وقام رسول رب العرش يتلو / وقد صمت جميع الخلق قل لا (10)
واي احد يتخيل طلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الامة التعويض بالمال عن تلك المتاعب التي لم يلاقها نبي غيره ولم يؤذ في سبيل نشر دعوته أحد من الانبياء كما اوذي نبي الاسلام (11).
وهل يقابل ذلك الخطر الآلهي بهذا العرض الزائل المتخلي عنه ( صفي الله وحبيبه صلىاللهعليهوآلهوسلم ) وقد عرضت عليه كنوز الارض بأجمعها فآثر الاخرى الباقية على ما فيه الفناء حتى كان يبيت الايام طاوياً ويشد الحجر على بطنه من الجوع ويسميه المشبع (12) فالرسول الاقدس في سيره وأعماله لا يدعو إلا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة.
فآية المودة لا تنافي سيرة الانبياء ولا سيرة نبينا الاعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا يعارضها ما في سورة سبأ / ٤٧ (قل ما سألتكم )الخ ولا ما في الأنعام / ٩٠ (قل لا اسألكم )الآية لان الاجر المنفي في هاتين الآيتين المال الذي يشق على الناس بذله ويتنزه عنه مقام من كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى والمطلوب في آية المودة لم يكن مالا وانما هو محبة آله وهذا من سنخ العبادة والطاعة ومثل المنقذ الاكبر يعرف الامة ما فيه صلاحها ويرشدها إلى ما يقربها من المولى سبحانه زلفى.
ولعل الآية في سورة سبأ (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم )تصاعد عليه فان ظاهرها كالتمهيد للجواب عن مثل هذا الاشكال فان معنى الآية ان ما يطلبه الرسول من الاجر انما يعود نفعه الى الامة فالاجر الذي أراده من آية المودة وهو مودة أهل بيته معه لهم خاصة وحينئذ فيتفق هذا مع قوله تعالى : (لا أسألكم عليه أجراً ان هو إلا ذكرى للعالمين )لأن مودة آله وذريته ذكرى للعالمين ورحمة لهم لما فيها من احترام شخص النبوة وتقدير اعماله الجبارة.
وما جاء في هذه الآية من طلب مودة القربى لا يتنافى مع ما في الفرقان/٥٧ (قل ما أسألكم عليه من اجر الا من شاء ان يتخذ الى ربه سبيلا )(13)
فان الهداية الى الله تعالى التي هي المطلوب السامي لنبي الاسلام عوضاً عن التبليغ والارشاد يتفق مع مودة القربى المراد لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في آية الشورى فان مودة آله من مصاديق الهداية الى المهيمن سبحانه بامتثال اوامره واجتناب معاصيه والقيام بما يقرب منه عز شأنه زلفى فلا ندحة له من مودة قربى النبي لان الله تعالى حث على حبهم واقتفاء آثارهم.
ولو أعرضنا عن جميع ذلك لا تكون الآيتان المنفي فيهما الأجر معارضتين لآية المودة لأنهما مكيتان وآية المودة مدنية نازلة بعدهما والمدني لا يعارضه المكي بوجه.
ودعوى ابن تيمية عدم الريب في كون آية المودة مكية لأنها من سورة الشورى التي هي كباقي الحواميم مكية وحينئذ فأين تزويج علي من فاطمة وأين أولادهما (14)
تدلنا على عدم اطلاعه على كلمات المفسرين أو أنه غض النظر عنها فانه لم يصرح أحد بأن الآية مكية وكأنه تخيل من اطلاق قولهم الشورى مكية انها بتمام آياتها وهذا غير لازم فان جملة من الآيات المكية في السور المدنية وبالعكس لأن تأليف القرآن لم يكن على حسب النزول (15) ويحكي الزرقاني عن تفسير ابن عطية ان الآية مدنية وحديث ابن عباس ينص على ان المراد من القرابة فيها علي وفاطمة وابنائهما (16).
ثم لو فرضنا عدم نزول ( آية المودة ) في اهل البيت لأفادنا ما ورد من محبوبية الاحسان اليهم والعطف عليهم وإيتاء المعروف لهم وقضاء حوائجهم والسعي في امورهم : تأكده في ذرية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لكونه مشرفهم ومودع الفضل فيهم وهو أصل هذه الدوحة الميمونة ووصاياه في حقهم متواترة لا تبقي ريباً وتشكيكاً لمن يتطلب النص بالخصوص وقد جاء عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من عترته وأهلي أحب إليه من أهله وذاتي أحب اليه من ذاته.
وان لله حرمات ثلاث من حفظهن حفظ الله دينه ودنياه : حرمة الاسلام ، وحرمتي ، وحرمة رحمي (17).
فمقارنة حرمة أهل بيته بحرمة شخص النبوة الواجب على الأمة مراعاتها وان التقصير فيها يستوجب سخط الرب جل شأنه دليل واضح على امتياز الذرية على سائر المسلمين لحصولهم على هذا العنوان أعني كونهم ذرية الرسول مطلقاً سواء كانوا سائرين على منهاج مشرفهم الأعظم أو متأخرين عنه ، نعم الحب لمن هو متبع لقوانين جدهم الاكرم يكون أأكد وحيث يكون التقصير بأداء حق الذرية والحط من كرامتهم مستوجباً للوهن بمقام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم استحق البعد من الله تعالى كل من أعرض عن إكرام الذرية.
ومن هنا جاء تحذيره صلىاللهعليهوآلهوسلم : من احتقرهم فهو ملعون أذهب الله عنه السمع والبصر (18).
وليس المراد منه فقد هاتين الحاستين لما يشاهد بالوجدان خلافه بل المراد منه عدم التوفيق لاستماع أو إبصار ما يقرب إلى الخير ويبعد عن درك العقاب على حد قوله تعالى : (لهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها )وهذا هو المراد من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ( ملعون ) فان اللعن ليس إلا الطرد والبعد عن الرحمات الآلهية والفيوضات الربوبية فلا تهطل سحائب الرحمة على من احتقر الذرية وأشار إلى هذا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : (عليكم بحب أولادي فانه يدخل الجنة لا محالة وبغضهم يدخل النار )(19).
وهذه الكلمات الذهبية من نبي الرحمة تلقي على الامة ضوءاً تبصر منه المكانة السامية لذريته الصالحة واما من كان بظاهره حائداً عن قانون الشرع فيكون الاحسان اليه من باب تكريم صاحب الدعوة الآلهية لكون الاهانة اليه تستلزم التوهين بمقام الرسول.
واليه يشير النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : أكرموا أولادي الصالحين لله تعالى والطالحين لي (20)
ولما لمح النبي العجب ممن سمع خطابه في إكرام الطالح منهم قال مرشداً له : أليس الولد العاق يلحق بالنسب (21).
على ان الرسول الاعظم سأل الله سبحانه أن يثبت القائم بالحق من أهل بيته ويهدي ضالهم ويعلم جاهلهم ويجعلهم رحماء نجباء ويهب مسيئتهم نحسنهم ويهبهم له فأجاب الله تعالى سؤاله (22) وأكرمه بتوفيق ذريته للفوز الاكبر وهو الممات على ولاية الأئمة المعصومين والتوبة عما اقترفوه من الآثام ولو في آخر ساعة من أيامهم كما يفصح عنه قول الامام الصادق (عليه السلام)لا يخرج أحدنا من الدنيا حتى يقر لكل ذي فضل فضله (23) وفي آخر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم عنه : ليس لكم ان تدخلو فيما بيننا إلا بسبيل خير انه لم تمت نفس منا إلا وتدركها السعادة قبل أن تخرج نفسه ولو بفواق ناقة (24)
ومما يفيدنا وضوحاً في هذا الحكم الذي لا يرتاب فيه من يبصر الحقايق بعين صحيحة ما احتفظ به من وصايا المعصومين باكرام ذريتهم ومن ينتسب اليهم نذكر بعضا منها كمثل يتعرف منه مكانة الذرية.
١ ـ حدث عبيدالله بن عبدالله بن طاهر بن الحسين الخزاعي :
قال ابن خلكان بترجمة عبيدالله : كان عبيدالله شاعراً كاتباً تولى شرطة بغداد عن أخيه محمد وبعد وفاته استقل بها واليه انتهت رياسة آل طاهر وهو آخر من مات منهم رئيساً توفي سنة ٣٠٠ وله ٧٧ سنة ودفن بمقابر قريش ولقب جده طاهر بذي اليمينين لأنه ضرب بيساره شخصاً في واقعته مع علي بن ماهان فقده نصفين فقال بعض الشعراء ( كلتا يديه يمين حين يضربه ) فلقبه المأمون بذلك تولى على خراسان من قبل المأمون وكان معه غلام وهبه المأمون له فأمر الغلام ان يسمه ففعل الغلام وأصبح ميتاً لخمس بقين من جماد الثاني سنة ٢٠٧ بمرو ومات والده الحسين انه دخل على أخيه محمد سحراً بعد مدة من قتله ليحي بن عمر العلوي فرآه مطرقاً برأسه مهموماً حزيناً كأنه عرض على السيف وجواريه لا يتجاسرون على مسألته واخته واقفة فسألها قالت رؤيا أهالته فقلت لها أيها الأمير روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال إذا رأى أحدكم ما يكره في منامه فليتحول من جانبه إلى الآخر وليقل ثلاثاً استغفر الله ويلعن ابليساً ويستعيذ بالله ثم ينام.
فرفع إلي راسه وقال : يا أخي كيف اذا كانت الطامة من جهة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم قال لي ألست ذاكراً رؤيا طاهر وهو صغير للنبي في منامه وهو يقول له : يا طاهر إنك ستبلغ من الدنيا أمراً عظيماً فاتق الله واحفظني في ولدي فانك لا تزال محفوظاً ما حفظتني في ولدي.
فما تعرض طاهر لقتال علوي قط وندب إلى ذلك غير دفعه ثم قال محمد يا أخي إني رأيت البارحة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في منامي وهو يقول : يا محمد نكثتم ؟ فانتبهت فزعاً وتحولت واستغفرت الله وتعوذت من ابليس ولعنته ونمت فرأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الثانية وهو يقول : يا محمد نكثتم ؟
ففعلت كما فعلت في الاولى ونمت فرأيته صلىاللهعليهوآلهوسلم الثالثة وهو يقول : نكثتم وقتلتم أولادي والله لا تفلحون بعدها أبداً.
فانتبهت وأنا على هذا الحال منذ نصف الليل ما نمت واندفع يبكي وبكيت معه فما مضت على ذلك إلا مدة يسيرة حتى مات محمد ونكبنا بأسرنا أقبح نكبة وصرفنا عن ولايتنا ولم يزل أمرنا يخمل حتى لم يبق لنا اسم على منبر ولا علم في جيش ولا إمارة وصرنا إلى الآن تحت المحن. (25)
وبعد قتل يحي جلس محمد بن عبدالله يهنأ بقتله وجماعة الهاشميين والطالبيين وحضور وسمعهم أبو هاشم الجعفري يهنؤنه فقال : أيها الأمير إنك لتهنأ بقتل رجل لو كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حياً لكان هو المعزى به فما رد عليه محمد شيئاً ثم خرج أبو هاشم يقول (26) :
يا بني طاهر كلوه وبيا (27)
ان لحم النبي غير مري
ان وتراً يكون طالبه الله
لـوتر نجاحه بالحـري (28)
ويحي هو ابن عمر بن يحي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب (عليه السلام)وامه ام الحسين فاطمة بنت الحسين ابن عبدالله ابن اسماعيل بن عبدالله بن جعفر الطيار (29).
كان يحي ورعاً ديناً كثير البر والمعروف واصلا لأهل بيته مؤثراً لهم على نفسه عطوفاً على الطالبيات لم تظهر منه زلة ولذا جزعت عليه النفوس ورثاه القريب والبعيد (30)
خرج بالكوفة ليلة الاثنين لثلاث عشر خلت من رجب سنة ٢٥٠ أيام المستعين وكانت الوقعة في ظهر خندق الكوفة حمل رأسه إلى محمد بن عبدالله بن طاهر فطلب من يقوره فلم يقدم عليه أحد حتى من كان في السجن من الذباحين إلا رجل من عمال ( السجن الجديد ) فانه صنع فيه كما أراد محمد وأرسه إلى سامراء فنصبه ابراهيم بن اسحاق الديزج على باب العامة لحظة وأنزله لكثرة انكار العامة وأرجعه إلى محمد فلم يقدر أن ينصبه على الجسر لتجمع الناس وإنكارهم فخبأه في بيت سلاح في داره.
٢ ـ حدث أحمد بن اسحاق القمي وكان وكيلاً بقم عن أبي الحسن علي الهادي وأبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام): ان الحسين بن الحسن ابن جعفر بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السلام)كان « بقم » يشرب الخمر علانية فاعترته نائبه فقصد بها أحمد بن اسحاق فلم يأذن له فرجع إلى أهله مهموماً منكسراً ولما توجه أحمد ابن اسحاق إلى الحج وبلغ سر من رأى استأذن على أبي محمد العسكري (عليه السلام)فلم يأذن له فكبر عليه وداخله هم شديد ولم يعلم السبب في ذلك حتى تضرع اليه طويلاً فأذن له وسأله عما أوجب إعراضه ؟ فعرفه الامام (عليه السلام)ان السبب منعه العلوي من الدخول عليه وقد قصده لأمر أهمه فقال ابن اسحاق لم يكن المنع إلا لأجل أن يتوب عما عليه من المآثم فقال الامام (عليه السلام)صدقت ولكن لا بد من إكرامهم لانتسابهم الينا فلا تكن يا ابن اسحاق من الخاسرين بالاعراض عمن انتسب الينا.
ولم يتباعد ابن اسحاق عن نصح الامام الواقف على الاسرار العارف بمقتضيات الاحوال علماً منه بأن ( إمام الحق ) لا يدعوا إلا إلى حكمة بالغة أو حقيقة راهنة فاحتفظ بهذه الوصية الثمينة حتى إذا رجع من الحج إلى مدينة قم زاره ذلك العلوي فيمن أتاه من الناس فأظهر له ابن اسحاق أمام الحاضرين من التبجيل والاحترام ما أبهره وعجبت منه الحاضرين.
فسأله العلوي عن هذا الحال الغريب مع ما شاهده منه من ذي قبل فذكر له ما جرى من الامام العسكري (عليه السلام)معه. فبكى العلوي وتاب عما كان عليه وصار من المتورعين المتخذين أقوال آبائه الهداة طريقاً مهيعاً في كل أعماله حتى فاجأه الموت ودفن بقم قريباً من مشهد السيدة الطاهرة فاطمة بنت الامام الكاظم. (31)
٣ ـ حدث الوزير علي بن عيسى (32) ان علوياً من أولاد موسى بن جعفر (عليه السلام)كان يأتيه في شهر رمضان فيعطيه خمسة آلاف درهماً مؤنة له ولعياله وهذه حالة مع العلويين في هذا الشهر المبارك فاتفق انه رأى ذلك العلوي في الشتاء سكراناً فندم على ما كان منه معه وعزم على حرمانه ولما دخل شهر رمضان أتاه العلوي على عادته فزبره ومنعه وفي تلك الليلة رأى الوزير النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مقبلاً على الناس وقد أعرض عنه فقال للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أتعرض عني مع إحساني لأولادك وبري بهم فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنك قطعت جائزتك عن ولدي فلان فأخبره بأنه لم يقطع عنه الجائزة إلا لأجل أن يقلع عن الآثام فأجابه النبي إنك أكرمته لأجله أو لأجلي قال : لأجلك يا رسول الله فقال النبي هلا سترت عليه لأجلي قال الوزير حباً وكرامة.
ولا أصبح حمل إلى العلوي عشرة آلاف درهماً وطيب خاطره وقال إن أعوزك شيء عرفني.
فأبى العلوي أن يأخذ المال حتى يعرف السبب الذي دعاه إلى هذا مع ما صنعه بالأمس فقص عليه رؤيا النبي صلى الله عليه فعندها بكى العلو وتاب إلى الله تعالى مما كان عليه وقال إني لا أعود إلى شيء من ذلك ولا أحوج جدي رسول الله أن يحاجك من جهتي (33).
فرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة الهداة عليهمالسلام مقيضون لتنبيه الامة من رقدة الجهل وإنارة سبيل الهدى لهم أحياء وأمواتاً وهذا لطف من المولى سبحانه على هذه الامة ومنة عليهم بانقاذهم من مخالب الضلال فشرع الطرق الموصلة الى القرب منه جل شأنه ولم يخصها بأقوال المعصومين وأفعالهم الصادرة منهم حال الحياة بل أفاض عليهم عطفه وحنانه بارائه تلك الامثال القدسية في حال النوم مع شواهد تصدق ذلك ( الحلم ) ليفوزوا بالرضوان الاكبر.
٤ ـ وكان لابن عنين الشاعر (34) أمر عجيب مع العلويين فانه لما توجه إلى مكة ومعه مال وأقمشة خرج عليه بعض بني داود بن الحسن فأخذوا ما كان معه وسلبوه وجرحوه فكتب إلى الملك العزيز ابن أيوب صاحب اليمن وكان أخوه الملك الناصر أرسل اليه يطلب منه أن يقيم بالساحل المفتتح من ايدي الافرنج فزهده ابن عنين في الساحل وحرضه على الاشراف الذين فعلوا به ما فعلوا واول القصيدة :
أعيت صفات نداك المصقع اللسنا / وجدت في الجود حد الحسن والحسنا
وما تـريد بجسـم لا حيـاة لـه / من خلص الزبد ما أبقى لك اللبنـا
ولا تقل ساحل الافرنـج أفتحـه / فـما يساوي إذا قايستـه ( عدنـا )
وإن اردت جهاداً فارو سيفك من / قوم أضاعوا فروض الله والسـننا
طـهر بسيفك بيت الله من دنس / ومـن خساسـة أقـوام به وخـنا
ولا تـقل أنـهم أولاد فـاطمة / لو أدركوا آل حرب حاربوا الحسنا
فلما قال هذه القصيدة رأى في النوم فاطمة الزهراء (عليها السلام)تطوف بالبيت وهي معرضة عنه فتضرع اليها وسألها عن ذنبه فأنشئت (عليه السلام):
حـاشا بني فاطمـة كلهـم / من خسة تعرض او من خنـا
وانمـا الايـام في غدرهـا / وفعلهـا السوء اسـاءت بنـا
لئن اسا مـن ولـدي واحـد / وجهت كل السب عـمداً لـنا
فتـب الى الله فمن يقتـرف / ذنباً لـه يـغفر ما قد جنـى
واكرم بعين المصطفى جدهم / ولا تهـن مـن آلـه أعيـنا
فكـل ما نالك منهـم عنـا / تـلقى به في الحشر منا هـنا
وانتبه أبو المحاسن يحفظ هذه الابيات وقد عافاه الله تعالى من المرض فخرق تلك القصيدة وقال :
عذراً إلى بنت نبي الهـدى / تصفح عن ذنب مسيء جنى
وتوبة تقبلهـا مـن أخـي / مـقالة توقـعه فـي العـنا
والله لـو قطعنـي واحـد / منهم بسيف البغي أو بالقـنا
لـم أر مـا يفعلـه سيـئاً / بل أره في الفعل قد أحسنا (35)
هذا حال المعصومين مع من خرج من ذريتهم عن سنن الشريعة واتبع الشهوات ، ولا تفوت النكتة في هذه الوصايا فان الغرض إنقاذ الذرية من تلك الهلكات بالتوبة من المعاصي والاقلاع عن الذنوب مع حفظ الكرامة لهم واما من كان منهم عارفاً بالامر متبعاً لقانون الاسلام فلا يقاس بسائر الناس بشهادة الامام الرضا (عليه السلام)على ما يحدث عنه سليمان بن جعفر قال قال علي ابن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)اشتهي أن أدخل على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)قلت وما يمنعك من ذلك ؟ قال الاجلال والهيبة واتقي عليه.
ثم ان الرضا (عليه السلام)اعتل علة خفيفة عادة فيها الناس فلقيت ابن عبيد الله وقلت قد جائك ما تريد قد اعتل أبو الحسن وعادة الناس فان رأيت الدخول عليه فاليوم ، فمضى الى منزل أبي الحسن فلاقاه أبو الحسن الرضا (عليه السلام)بكل ما يجب من الاجلال والتعظيم ففرح بذلك علي بن عبيد الله فرحاً شديداً.
ثم ان علي بن عبيد الله مرض وعادة أبو الحسن الرضا (عليه السلام)وأنا معه فجلس حتى خرج من كان في البيت ولما خرجنا أخبرتني مولاه لنا ان ام سلمه امرأة علي بن عبيدالله كانت من وراء الستر تنظر الى أبي الحسن (عليه السلام)فلما خرج جاءت وانكبت على الموضع الذي كان جالساً فيه أبوالحسن تقبله وتمسح به فقصدت أبا الحسن (عليه السلام)وأعلمته بما صنعته ام سلمة فقال (عليه السلام): يا سليمان ان علي ابن عبيدالله وامرأته وولده من أهل الجنة ، يا سليمان ان ولد علي وفاطمة (عليه السلام)إذا عرفهم الله هذا الأمر لم يكونوا كالناس (36).
المصادر:
1- من قصيدة ملا محمد كاظم الازري البغدادي التميمي المولود في بغداد سنة ١١٤٣ والمتوفي ببغداد غرة جماد الاول سنة ١٢١١ هـ تبلغ الف بيت من غرر الشعر .
2- الشورى : ٢٣ : مدينة.
3- أساس البلاغة للزمخشري.
4- نص على بعض هذه الاخبار الزمخشري في الكشاف « ج ٣ ص ٤٠٢ » في تفسير الآية والرازي في تفسيره ج ٧ ص ٣٩٠ ، ومجمع الزوائد ج ٧ ص ١٠٣.
5- الصواعق المحرقة ص ١٠١ الآية الرابعة عشر.
6- تفسير روح المعاني للالوسي ج ٢٥ ص ٣١ والصواعق المحرقة ص ١٠١ ومقتل الخوارزمي ج ٢ ص ٦١ وتفسير ابن كثير ج ٤ ص ١١٢.
7- شرح الزرقاني على المواهب اللدينة ج ٧ ص ٩ والصواعق المحرقة ص ١٠١.
8- مستدرك الحاكم على صحيح البخاري ومسلم ولم يتعقبه الذهبي « ج ٣ ص ١٥٠ ».
9- اسعاف الراغبين بهامش نور الابصار ص ١١٤ عن ابن سعد.
10- تفسير روح المعاني ج ٢٥ ص ٣١ آية المودة.
11- غرر الخصائص للوطواط ص ٢٥٨ في باب من قدر فعفا ، وشرح الزرقاني على المواهب ج ٤ ص ٣٢١ وكنز العمال ج ٢ ص ٢٩ باب الحلم.
12- شرح الصحيفة الكاملة للسيد علي خان.
13- سورة الفرقان : آية / ٥٧.
14- منهاج السنة « ج ٢ ـ ص ١١٨ وص ٢٥٠ ».
15- ذكر حجة الاسلام المحقق ميرزا عبدالحسين الأميني في كتاب الغدير « ج ١ ص ٢٣٣ » تفصيل السور الملكية وفيها آيات مدنية وبالعكس.
16- شرح المواهب اللدينة ج ٧ ص ٣.
17- الصواعق المحرقة ص ١٣٧ و ١٣٩.
18- فضائل السادات ص ٣٨٩.
19- جامع الأخبار.
20- جامع السعادات ص ٣١٤ أيوان اول.
21- فضائل السادات ص ٣٧٣.
22- ذخائر العقبى ص ١٥.
23- الخرايج في الباب٦.
24- مرآة العقول ج ١ ـ ص ٢٦٢ عن الصدوق.
25- نشوان المحاضرة للقاضي التنوخي ج ١ ـ ص ٢٢٣.
26- الطبري ج ١١ ـ ص ٩٠ وابن الاثير ج ٧ ـ ص ٤١ والبداية ج ١١ ـ ص ٥ وفي عمدة الطالب انها من أبيات.
27- في عمدة الطالب ص ٢٦٤ نجف « مريئاً ».
28- في عمدة الطالب ومروج الذهب ج ٢ ـ ص ٤١٠. « بالفوت غير حري »
29- الطبري وابن الاثير والبداية ومقاتل أبي الفرج ووهم المسعودي حيث نسبه إلى اسماعيل بن عبدالله بن جعفر لان هذا نسب امه.
30- مروج الذهب ج ٣ ـ ص ٤١٠.
31- فضائل السادات ص ٣٦٢ عن تاريخ قم.
32- علي بن عيسى بن داود الجرح في شذرات الذهب ج ٢ ص ٣٣٢ وزر مرات للمقتدر والقاهر وكان محدثا ديناً خيراً كبير الشأن عاش تسعين سنة توفي ببغداد سنة ٣٩١ ودفن في داره ترجمته في معجم الادباء ج ١٤ ص ٦٨ والمنتظم لابن الجوزي ج ٧ ص ٢١٨ سنة ٣٩١ والبداية لابن كثير ج ١١ ص ٣٣٠.
33- دار السلام للنوري ج ١ ـ ص ١٥٩.
34- ابن كثير في البداية ج ١٣ ـ ص ١٣٧ وفي نفح الطيب مطبعة الحلبي ج ٨ ص ٣٣٠ الى ص ٣٤٣.
35- عمدة الطالب ص ١١٩ ط / تاج العروس ج ٩ ص ٢٨٥ مادة ( عون ).
36- ١ ـ رجال الكشي ص ٣٦٥.