![اهمية النظام الصحي اهمية النظام الصحي](https://rasekhoon.net/_files/thumb_images700/article_ar/%D8%A7%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%A9%20,%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85%20,%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A.jpg)
لما كان المرض مشكلة انسانية تصيب الفرد وتؤثر على طبيعة المجتمع الانتاجية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بايجاد نظام صحي متكامل يحافظ فيه على صحة الافراد ، ويعالجهم معالجة تؤدي بهم الى الشفاء الكامل ، ثم ارجاعهم مرة اخرى الى عجلة الانتاج والخدمات الاجتماعية. واذا لم يؤدي العلاج الموصوف من قبل المؤسسة الرسمية الى شفاء الفرد شفاءً كاملاً ، فان النظام الصحي ملزم باعلان عجز الفرد عن احتلال دوره الطبيعي في المجتمع ، مشيراً الى ضرورة تحمل النظام الاجتماعي مسؤوليته في دفع تعويض مالي يحفظ كرامة الفرد العاجز ويسد حاجة عائلته الاساسية.
ولا نقصد حينما نتحدث عن النظام الصحي هنا مجرد وجود المعُالج ، طبيباً كان او نحوه ؛ بل نقصد به المؤسسة التي تضم ادواراً مهنية واجتماعية للعديد من المتخصصين والخبراء ، كالاطباء المتخصصين بالجراحة والباطنية والتخدير ، والصيادلة ، ومدراء المستشفيات وعمالها ، وشركات التأمين الصحية ، ومصانع الادوية والعقاقير ، وكليات الطب ، ومعاهد التمريض.
ومع ان المرض قضية شخصية تهم الفرد فحسب ؛ فهو وحده الذي يتألم لمرضه ويعاني من اوجاعه ، فيعجز الآخرون عن تخفيف تلك الآلام الا اللّهم ان يظهروا تعاطفهم مع المريض ويقدموا له المساعدة المادية والمعنوية ويظهروا له مشاعر الحزن ، الاّ ان الواقع يفصح بان المرض مسألة اجتماعية ، لانه لا يمكننا ان نتصور فصل الصحة والمرض والعلاج عن الصورة الاجتماعية الكلية.
فانتشار الامراض يهزّ الكيان السياسي ، ويؤثر على النظام الاجتماعي من خلال تعطيل طاقات الافراد في العمل والاستثمار والانتاج. ويساهم المرض في تقويض النظام الاجتماعي كما تساهم الظواهر الطبيعية والمادية في هدم ما بناه الانسان. فالزلزال المدمّر ، والجفاف المؤدي الى المجاعة ، والحرب المؤدية الى خراب شامل تقوض النظام الاجتماعي كما يقوضه انتشار الامراض. وهذه الامراض التي تحتاج في معالجتها الى تدخّل المؤسسة الصحية ، تقسم الى نوعين ؛ الاول : الامراض الحادة ، وهي التي تحتاج الى فترة علاجية قصيرة نسبياً تؤدي بالانسان اما الى الشفاء واما الى الموت مثل مرض الحصبة. والثاني : الامراض المزمنة ، وهي التي يحتاج العلاج فيها الى فترة طويلة ، ولكن ليس هناك ضمان بشفاء المريض شفاءً كاملاً امثال مرض السكري والتهاب المفاصل.
ويتعدى تأثير المرض الى عائلة المريض ومحبيه. فمع ان المريض يمر بتجربة مريرة من الألم والقلق والانزعاج خلال فترة مرضه ، الاّ ان عائلته تعاني ايضاً من حالته الاستثنائية. فقلق العائلة على معيلها ، وخوفها من فقدان المورد المعاشي يساهم في اضطراب الواضع العائلي ويجعله مرتبطاً بصورة وثيقة بصحة المعيل. وعلى صعيد آخر ، فان انتشار الامراض ، يساهم ايضاً في اضطراب النظام الاجتماعي وإضعاف قواه الانتاجية ، خصوصاً اذا انتشرت الامراض المعدية في المجتمع انتشاراً واسعاً كالملاريا والجدري والكوليرا ، فانها تنزل ضربة ساحقة بالمؤسسة الاقتصادية والانتاجية للدولة ؛ وهذا يفسر لنا تجاهل الحكومات الاستعمارية الاهتمام بالنظام الصحي ومعالجة الامراض والاوبئة الفتاكة في البلدان المُستَعمَرة معالجة جدية ؛ لأن هذه الامراض تفتح ابواباً لتدمير طاقة المجتمع الانتاجية واستهلاك مصادره وخيراته.
واذا ضعف المجتمع انتاجياً تكاثر الرأسماليون على اقتسام خيراته ونهبها. وقد سعت بريطانيا عند احتلالها الهند في القرن التاسع عشر الى استخدام عملية نشر الامراض كسلاح ضد العدو ، مستفيدة من تجربتها التاريخية في واقعتين ؛ الاولى في القرن الرابع عشر ، والثانية في بداية القرن العشرين الميلادي ، حيث اكتسح الطاعون اوروبا في القرن الرابع عشر ، وسمي في وقته بالموت الاسود لإفنائه اكثر من ثلث سكان تلك القارة وتدمير البنية الاقتصادية والسياسية والدينية لدول القرون الوسطى الاوروبية. وفي سنة ١٩١٨ م قتلت الانفلونزا الاوروبية اكثر من عشرين مليون فرد (١).
ولا شك ان الامراض لا تصيب كل الافراد في النظام الاجتماعي ، بل تصيب افراداً دون آخرين في نفس المجتمع لاختلاف الوضع الاجتماعي والاقتصادي لكل فرد. ولذلك ، فعندما يدرس الطبيب مرض فرد ما ، فانه يبدأ بدراسة تاريخ المريض الصحي ووضعه الاجتماعي ، فيبحث عن عمره ، وجنسه ، ولون بشرته ، وحالته الزوجية ، ووظيفته وطبقته الاجتماعية. وهذا مهم في تشخيص الحالة المرضية لان غذاء الغني وسكنه وعمله افضل من الناحية الصحية من غذاء الفقير وسكنه وعمله. والفرد المتزوج اصح من الاعزب لان للزواج اثراً نفسياً على صحة الفرد ، والمسلم الملتزم باحكام الشريعة اصح من النصراني لانه لا يتناول الخمر ولا الخنزير.
وفي حين يعرض الاسلام نظريته الصحية في اطار دقيق متكامل ، فان نظاماً كنظام الكنيسة النصرانية تبنّى لاكثر من الف سنة النظرية الاغريقية في الطب ؛ حيث تزعم هذه النظرية ان سوائل الجسم الانساني التي تتكون من اربعة انواع وهي الدم والبلغم والمرارة الصفراء والسوداء ، هي سبب نشوء الامراض (2).
فاذا نقص مستوى احد هذه السوائل الاربعة واختل توازنها ، نشأ المرض. ولم تسمح الكنيسة النصرانية الاوروبية في القرون الوسطى تطوير البحوث العلمية الطبية ، بل انكرت على المكتشفين من علماء الطبيعة والطب اكتشافاتهم بحجة ان الانسان الذي لن يتحقق له الخلود في الحياة الدنيوية لا يحق له البحث في الكيان الخالد للطبيعة التي خلقها الخالق سبحانه وتعالى.
وكانت غاية الكنيسة من ذلك ، ربط المرضى بالطب الروحي الذي كان يمارسه الكهنة ويحصلون فيه على كمية غير قليلة من الاجور. ولكن اكتشاف لويس باستور نظريته الجرثومية في القرن التاسع عشر ، ادى الى قلب نظرية الكنيسة النصرانية ، وتطور العلوم الطبية تدريجيا ووصولها الى ما وصلت اليه اليوم.
نظرية الاسلام في الطب
واستنادا على الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشارع المقدس ، فان الاسلام يعلن اول بنود نظامه الصحي واهمها ، وهو ان النظام الطبي والعلاجي ينبغي ان يُبتنى على اساس الخدمة الانسانية لا المنفعة التجارية ؛ لان هدف الطب اولاً واخيراً علاج الآلام التي يعاني منها المريض ، وليس تحويل المريض الى بضاعة في مؤسسة هدفها الربح التجاري. وهذا الاختلاف في النظرة الى المؤسسة الطبية هو أهم الاختلافات بين النظام الصحي الاسلامي ونظيره الرأسمالي.ولا ريب ان الاسلام بحثّه على العمل ، ومباركته للجهد الانساني ، وربطه العمل الانتاجي في الارض بالثواب والاجر في الاحياة الآخرة ، اراد لكل الافراد في النظام الاجتماعي اداء ادوارهم المرسومة بكل جدية ونشاط ؛ لان الانسانية لا يتكامل نظامها الاجتماعي ولا يتطور بناؤها الفكري والفلسفي ما لم يساهم جميع الافراد بالعمل الانتاجي المؤدي الى اشباع حاجاتهم الاساسية. ونزول المرض بفرد ما ، يعطل جهده الطبيعي في تأدية الدور الاجتماعي المناط به ، مما يؤدي الى تحرك النظام الاجتماعي للتعامل مع ذلك الاستثناء حتى يتم اصلاحه وعلاجه طبياً واجتماعياً.
فاذا كان المرض مؤقتاً ويمكن علاجه بالطرق الطبية المعروفة ، خلد المريض الى الراحة ، وتدخل النظام الاجتماعي الاسلامي لمساعدته على ثلاثة محاور.
المحور الاول : العلاج ، فيقدم له كل اسباب التطبيب والعلاج دون النظر لدخله السنوي او طبقته الاجتماعية.
والمحور الثاني : المساعدة المادية له ولعائلته اذا كان فقيراً ، فيحتسب مقدار حاجته وحاجة عائلته فيدفع له ذلك المقدار حتى يحين وقت الشفاء.
والمحور الثالث : تدخل النظام الاجتماعي لسد دور المريض الشاغر في الحقل العملي ، فاذا كان المريض عاملاً في شركة صناعية مثلا ، فان الشركة ملزمة باستئجار عامل آخر يحل محل العامل المريض. وهذا يتم عادة في الامراض التي يستلزم علاجها فترة زمنية قصيرة كالانفلونزا والجروح والكسور وامراض الجهاز الهضمي والبولي.
اما اذا كان المرض مزمناً ، كالشلل التام ، وامراض السرطان ، وامراض نقص المناعة الحادة ، والامراض القلبية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بالتدخل ايضاً لمساعدة المريض طبياً ومالياً وايجاد من يسد دور المريض الشاغر في الحقل الاجتماعي بصورة دائمية. ولا يختلف تدخل النظام الاجتماعي في المرض المزمن عن المرض المؤقت الاّ بفرق الزمن ، حيث يتعين على النظام الاجتماعي تخصيص معاش ثابت للمريض وعائلته يستقطع من بيت المال ، كما في الرواية المروية عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) مع الشيخ النصراني ، وتعيين برنامج علاجي مستمر للمريض.
وينبغي ان يستمر هذا المعاش والعلاج حتى آخر لحظة من حياة المريض. اما النظرية الرأسمالية فتعتبر المريض في هذه الحالة عنصراً مستهلكاً ليست له القدرة على الانتاج ، بمعنى ان المريض بمرض مزمن يعتبر في النظرية الرأسمالية عنصراً ضاراً على النظام الاجتماعي لانه قادر على الاستهلاك فقط ، وليست له القابلية على العمل الانتاجي. ولكن نظرة الاسلام الشمولية واحترامها للحياة الانسانية اوجبت اكرام الانسان المعاق جسدياً ، حتى لو كان عاجزاً عن الانتاج ، حيث ورد ان الامام علياً (عليه السلام) عندما صادف النصراني الذي كان يمد يده استجداءً لعدم قدرته على العمل ولكبر سنه ، انكر على عمّاله ذلك وقال : ( استعملتموه ، حتى اذا كبر وعجز منعتموه ) ، وامران يصرف له من بيت المال (3).
ويجعل الاسلام الولاية الشرعية مصدر المسؤوليات الاجتماعية ؛ فولي الاسرة مسؤول عن رعاية من يتولاهم من القاصرين ونحوهم. وفي انعدامه ، يتحمل الامام او نائبه ( اي الدولة ) مسئوولية الولاية لمن لا ولي له.
وعليه ، فان القاصر عن التحصيل ـ لمرض ونحوه ـ يُضمن اما من قبل الولي العام او الولي الخاص. بمعنى ان الانسان القادر على الانتاج يستطيع ان يسد حاجته الاساسية وحاجة الافراد الذين يتولاهم اصحاء كانوا ام مرضى. واذا عجز الولي بسبب المرض عن اعاشة عائلته ، وجب على الامام اعالتهم لحد الكفاية. وهذا الاسلوب يضمن تكامل النظام المعيشي لكل الافراد في المجتمع الاسلامي. وقد جاء هذا الايمان بكرامة الفرد وصيانته من الاهمال ضمن اطار المسؤولية الجماعية والاخوة الانسانية التي دعا اليها الاسلام.
ولا ريب ان تأكيد الاسلام على ربط العمل الانتاجي في الحياة الدنيوية بالثواب الاُخروي ، وحثه على التزام الصدق والثقة المتبادلة والاعتدال ونهيه عن الكذب وشهادة الزور والجشع ، وجزمه في تثبيت اسس العدالة الاجتماعية ، سهّل دور المؤسسة الصحية في تحديد ( من هو المريض ؟ ).
فمع تضافر هذه العوامل ، تجد من الصعوبة بمكان ان يجد المتمارضون ساحة لكسلهم ومجالاً لعيشهم عبئا على بيت المال ؛ لان المؤسسة الصحية تستطيع تحديد ( من هو المريض ؟ ) عن طريق علامات المرض واعراضه ، وعن طريق دراسة شخصية المريض وتاريخه والتزامه بالاخلاق الدينية وتمسكه بالصدق والنزاهة والاستعفاف.
واغلب الامراض التي يتعرض لها الافراد في المجتمع الاسلامي تنتج من حوادث طارئة او حالات غير متوقعة كحوادث السيارات والحافلات ، وجروح العمل ، والكسور المختلفة التي تحصل لسبب من الاسباب ، او امراض التعرض لبعض الفيروسات كالزكام وغيره. والمهم ان امراض الحضارة الحديثة يفترض ان لا تجد لها مكاناً في المجتمع الاسلامي ؛ لان الاسلام حرم شرب الخمر ، واكل الميتة والدم والخنزير ، وهذه هي اساس امراض الكبد والجهاز الهضمي وامراض القلب.
وحرم تناول كل ما يضر بالجسد ومنها التدخين المضر واستعمال المخدرات التي هي المصدر الاساس في امراض سرطان الرئة والبلعوم والاضطراب العقلي. واوصى بالاعتدال باكل اللحوم الحمراء ، خصوصاً لحوم البقر والضأن ، وهذه هي مصدر امراض القلب وتصلب الشرايين.
واوصى باستعمال المسواك لتنظيف الاسنان وتطهير الفم لان معالجة امراض الفم والاسنان اساسية الى درجة افرد لها الطب الحديث علماً خاصاً هو طب الاسنان ، وهو اختصاص يعادل اختصاص الطب العام من حيث الكيفية لا الكمية. ولا شك ان للدولة الاسلامية مبدأ حق التدخل للحفاظ على البيئة الطبيعية من التلوث الصناعي ، لان التلوث احد مصادر امراض السرطان وامراض الرئة بانواعهما المختلفة.
وحرم الاسلام الاجهاض والانتحار وقتل النفس البريئة فاكفى الطب الدخول في هذا الحقل الذي يستنزف طاقات المؤسسة الصحية. واوجب الاسلام التذكية الشرعية ووضع شروطاً للصيد والذباحة ، وهذا الوجوب جنّب النظام الصحي العديد من الامراض المتعلقة بالقلب وجريان الدورة الدموية. ولا ريب ان الاطمئنان النفسي والراحة الشعورية التي ينزلها النظام الاسلامي على قلوب الافراد ، من حيث محو نسبة الجرائم والاعتداءات والسرقات ، يساهم بشكل فعال في ازالة الارق والضغط النفسي والقرحة والامراض العقلية التي يعاني منها افراد الحضارة الحديثة.
وبطبيعة الحال ، فان النظرية الاسلامية في الطب تهتم بشكل استثنائي بنظامين في غايتي الاهمية وهما :
١ ـ النظام الوقائي
٢ ـ النظام الغذائي .
ولكن لابد لنا ان نذكر هنا ، من نافلة القول ، ان صحة المتقدمين وتعميرهم تلك السنين الطويلة لم يكن نتيجةً لمعاينة طبية او فهم للنظرية الجرثومية ، اواستخدام للعقاقير الطبية ، بل ان الوقاية وتنظيم النظام الغذائي كانا من اهم اسباب العيش السليم من الامراض. وقد ورد في بعض الكتب التاريخية ان سلمان الفارسي (رض) عاش اكثر من ثلاثمائة سنة. ولو صحت هذه الرواية لكان الاجدر بالجهاز الطبي دراسة هذه الظاهرة الطبيعية وفهم منشأها واسبابها.
ولا يمكننا الاعتماد على العلاج الكيميائي والشعاعي في جميع الحالات المرضية ، بل لابد ان نترك فسحة لتقدم العلاج الطبيعي والروحي ؛ لان الكثير من الامراض النفسية لا يتم علاجها الاّ بالعلاج الغيبي. ولا شك ان النفس الانسانية عميقة الغور ، بعيدة المنال ، فلا يستطيع امهر الجراحين او اقدر علماء النفس على معالجة بعض الامراض التي يستعصي على الطب الحديث فهمها والتعامل معها ، كالكآبة النفسية وما يترتب عليها من اقدام الفرد على الانتحار مثلاً.
والعلاج الطبيعي مهم في شفاء الجروح العضلية والغضروفية. وطالما كان الاسلام ولا يزال يهاجم النظام الطبقي ويدعو الى توزيع عادل للثروة الاجتماعية ، فان النظام الصحي الاسلامي سيجعل الانشطة الطبية جميعاً انشطة يهمها العلاج الحقيقي للافراد ، لا تجارة تجني ارباحاً على حساب الفقراء والمستضعفين ، ويجعلها ايضاً تزدهر في بحوثها وتجاربها وانتاجها ؛ فلا يحدها الجشع المادي ولا يلزمها سيطرة طبقة دون أخرى ، بل ان العقل الطبي المسلم ارحم وانزه من العقل الطبي الرأسمالي ؛ لان الطبيب المؤمن بقدر ما تهمه الخدمات الانسانية لتخفيف الآلام ، يهمه بناء النظام الاجتماعي النظيف عن المطامع الفردية المحضة.
ولا تتوقف وظيفة الطب على تحديد ( من هو المريض ؟ ) بل تتعداه الى قاعدة المحافظة على صحة الافراد عموماً ، حتى يستطيع النظام الاجتماعي تنشيط منهجه الاقتصادي في الانتاج وعدالة التوزيع. وبطبيعة الحال فان المؤسسة الصحية الاسلامية مسؤولة عن صحة الافراد في المجتمع الاسلامي على مستويين :
المستوى الاول : تثقيف افراد المجتمع تثقيفاً عاماً فيما يتعلق بفهم منشأ الامراض وسببها ، والتركيز على نظامي الوقاية والغذاء في تنمية الجسم البشري ، حيث يتم ذلك من خلال النشر والاعلام والتبليغ الفردي والجماعي.
والمستوى الثاني : معالجة الافراد معالجة فردية في الظروف الطبيعية ، ومعالجة جماعية في الظروف الاستثنائية ؛ ومن ذلك توفير الحقن المضادة للاوبئة المعدية ، وتنقية مياه الشرب من الجراثيم ، والسيطرة على انظمة المجاري العامة ، والتدقيق في الفحص الصحي للاسواق ومراكز بيع اللحوم والمواد الغذائية الاُخرى ، والمطاعم ، والفنادق. والسيطرة على الكائنات الناقلة للجراثيم كالذباب والبعوض والقمّل.
ولعل اهم عوامل تقدم الطب الانساني قيام الحكومة الاسلامية والجامعات والمؤسسات الاجتماعية الخيرية بمساندة مراكز البحوث الطبية ، لان البحث عن اسباب المرض وطرق انتشاره واكتشاف الدواء المناسب تعد من افضل الوسائل لعلاج الامراض واذا كانت الامراض متباينة بتباين المناطق الاسلامية ، فان من مهمات حكومات المناطق المحلية قيام المؤسسة الطبية التجريبية بالتركيز على معالجة الامراض المبتلى بها ذلك الاقليم. فالامراض المنتشرة في الاقاليم الصحراوية الحارة تختلف عن تلك التي تنتشر في الاقاليم الجبلية الباردة. والامراض المنتشرة في البلدان الفقيرة نسبياً تختلف عن امراض البلدان الموسرة. والمدار ان المؤسسات الخيرية وبيت المال بالخصوص ينبغي ان يتحملا جزءاً كبيراً من مصاريف النظام الصحي وبحوثه الاساسية.
ولما كان الطب مرتبطاً وثيقاً بالاحكام الشرعية التي تخص حالة المكلف البدنية في امور الولادة والنفاس والحيض والاستحاضة ، والحالات الاستثنائية كسلس البول ، والبطنة ، والوسوسة ، والنسيان ، والحالات المرضية التي لها علاقة بتعليق جزء من العبادات كالصلاة والصيام والحج ، والموت ومس الميت واحكامهما ، أصبح من الاهمية بمكان ان توثق المؤسسة التعليمية الدينية ـ المتمثلة بالحوزة العلمية ـ علاقتها بالمؤسسة الطبية من خلال انشاء مراكز مشتركة تساهم في اغناء الفقهاء بالآراء الطبية المرتبطة بالحياة العامة للمكلف ، واغناء الاطباء والمؤسسة الطبية بالاحكام الشرعية المتعلقة بمختلف الحالات المرضية التي يجد فيها الطبيب نفسه حائراً في التعامل معها.
وبطبيعة الحال ، فان المؤسسة الطبية تساهم بشكل حاسم في تنظيم الحالة الاجتماعية من حيث منح شهادات الميلاد والوفيات حتى يتم توزيع الثروة الاجتماعية ، وتساعد في فصل التخاصم في الارث والحقوق بين الافراد من خلال تشخيص الجينات الوراثية. وكذلك تساعد في السيطرة على الامراض ، واثبات أحقية المعوقين باستلام المساعدة المالية ، ودراسة الساحة الصحية الميدانية حتى يتم تحديد الطاقة الانتاجية للنظام الاجتماعية الاسلامي. ولذلك ، فان المؤسسة الطبية تعتبر ركنا هاماً من اركان النظام الاجتماعي ، والنظام الديني والاخلاقي ايضاً.
ولما كانت المنافسة الاقتصادية في الاسلام مرتبطة بالمعنى العبادي وبمفهوم تعمير الارض ، على عكس المبدأ الرأسمالي الذي اقحم المؤسسة الطبية في المعركة الاقتصادية فأفقدها مفهومها الانساني ، اصبحت الرعاية البدنية مرتبطة بالثواب والعقاب ايضاً ، لانها من الضروريات العقلية التي يحتاجها الفرد بالخصوص ، والنظام الاجتماعي عموماً. ولا شك ان الدولة مكلّفة بسد هذه الحاجة الاساسية من شتى المصادر المتوفرة لها ، حتى تقوي في الفرد روح الانتاج والعبادة ، وحتى تبعد النظام الصحي عن المنافسة الاقتصادية الرأسمالية وما تجر معها من ويلات ومظالم بحق الفقراء.
ولكي تضمن الدولة عدم انجرار المؤسسة الطبية واعضائها الى انشاء طبقة عليا خاصة تتحكم بمقاليد النظام الصحي وتشكل خطراً كامناً لانشاء طبقة رأسمالية مستقبلية ، فان لها طريقين في تحقيق ذلك ؛
الاول : ان تشرع في برنامج ترشح فيه دخول الطلبة على اساس المستوى الدراسي والايماني للطالب دون النظر للدخل السنوي.
والثاني : فيما لو تساوى طالب فقير مع طالب غني في الدرجات وفي المستوى الايماني ، يقرع بينهما. ويدخل الفائز بالقرعة كلية الطب. واذا ارتأت الدولة أن من المصلحة العليا تفضيل الطالب الفقير على الطالب الغني مع التساوي في المستوى الدراسي ، فانها تستطيع ان تسمح للفقير الانضمام لكلية الطب حتى ينكسر الحاجز الطبقي الذي حرم الفقراء من التمتع بخيرات النظام الاجتماعي. وسبب الترجيح هنا ، تقديم الأهم على المهم. وهذا مجرد مثال نستطيع على ضوئه التفتيش عن امثلة اخرى تساهم في حل المشاكل الناتجة عن ظلم النظام الطبقي الذي انشأه الحاكم المستعمر في بلاد المسلمين.
واهم عمل ينبغي ان تنظر اليه الدولة في ترشيحها خريجي الدراسة الاعدادية للدخول الى الكليات الطبية هو حسن ايمان الفرد ونزاهته وصدقه. ولا ريب ان عامل الايمان يعتبر اهم من عوامل الدخل السنوي والطبقة الاجتماعية والدرجات. فالايمان بالله وبالنظام الاخلاقي للرسالة الدينية يبعد الطبيب عن شهوة حب المال وما يترتب عليها من انعدام النظرة الانسانية تجاه المرض والمريض. فالطبيب المؤمن يتحسس لآلام المريض ويعيش مشاعره المجروحة ، ويترحم ببذل اقصى الجهد لايجاد علاج ناجع يصلح وضعه الاستثنائي المرضي ، على عكس الطبيب الرأسمالي الذي لا يفكر الا بمحصوله المادي ومنفعة الشخصية.
والطبيب المؤمن صادق ثقة فهو لا يصف علاجاً كاذباً للمريض ، بل لو افترضنا استعصاء تشخيص الحالة المرضية على ذلك المريض فانه ـ بسبب صدقه وايمانه ـ يحيل المريض الى طبيب آخر اكثر خبرة واعمق علماً ؛ ولا يضيره ذلك في شيء حتى لو خسر اجور معالجة ذلك المريض ، لانه يعلم ان الحفاظ على حياة الفرد اهم واولى من المكسب المالي.
ولا شك ان مناداة الاسلام بالعدالة الاجتماعية لها نتائج عديدة على المستوى الصحي. فاذا كان الافراد متساوين في الحقوق والواجبات ، فان من حقهم نظرياً التمتع بصحة جيدة بعيداً عن الامراض والنحول الجسدي ، بغض النظر عن دخلهم المادي ومستوى معيشتهم. ومن اجل ذلك علينا ملاحظة مسألتين مهمتين للغاية.
الاولى : رفع الحالة المعيشة والسكنية لكل الافراد في المجتمع الاسلامي الى مستويات متقاربة. ويلاحظ في هذه المسألة جهود الدولة في بناء وحدات سكنية على نطاق واسع بحيث يؤمّن ولو نظريا ، انشاء مسكن واحد تراعى فيه القضايا الصحية من التهوية وتعقيم المياه ونظام المجاري لكل عائلة تسكن ارض الاسلام. فمن حق العائلة المسلمة ان يكون لها مسكن صحي وغذاء متوفر حتى تستطيع ان تقوم بدورها الاساسي في العملية الانتاجية للمجتمع.
والثانية : رفع المستوى الاداري والمهني والتقني للمستشفيات العامة بحيث لا تساهم تلك المؤسسات في حرمان الفقراء من العلاج الطبي الذي يتمتع به اقرانهم من الاغنياء. فمع ان المال يشجع الاطباء على الاهتمام بدقة عملهم وخدمة زبائنهم ، الاّ أن ايمان الطبيب بان علاجه للمرضى مرتبط بجزائه الاخروي ، وان عدالته في عملية الفحص والتشخيص والعلاج بين جميع الافراد واجب شرعي ، كل ذلك سيساهم في رفع مستوى العلاج الطبي العام ، وتوطيد الثقة بين افراد المجتمع وافراد المؤسسة الطبية.
ولا شك ان مناداة الاسلام ايضاً بالعدالة الاجتماعية وتضييق الفوارق الطبقية بين الافراد ـ سيساعد على ازالة الامراض العقلية وغير العقلية بين الفقراء ، فيشترك الفقراء حينئذ مع اقرانهم في ادارة النظام الاجتماعي ، وكذلك فان مشاركة الطبقة الفقيرة في رفد المؤسسة الصحية بالاطباء في النظام الاسلامي سيخفف من حدة الفوارق الطبقية بين الافراد.
ويمكن تخفيف الضغط على المستشفيات بتصميم نظام صحي يقوم على اساس فصل المستشفى عن عيادة الطبيب. وكمثال على ذلك ، فلنفترض ان المستشفيات مصمّمة بالاصل للحالات المرضية الطارئة كالكسور والجروح الشديدة والعمليات الجراحية وسحب الدم ، والفحوصات المختبرية. اما العيادات الطبية فانها تستقبل المرضى الاقل خطورة كامراض الجهاز الهضمي والعصبي والعظمي التي لا تستدعي اجراء عمليات جراحية فورية ، وتستقبل ايضا حالات الفحص الطبي السنوي. بمعنى ان العيادة الطبية ينبغي ان تستخدم العلاج الوقائي ، وهو فحص الافراد بشكل دوري سنوي منتظم حتى يتم معالجة المرض منذ بداية نشوئه وقبل استفحاله وتعذر معالجته. وينبغي ان تتوزع العيادات الطبية على مختلف انحاء المدينة الواحدة ، بحيث يكون مسؤولية كل طبيب معالجة عدد محدد من الافراد في محلة واحدة ، ولنفترض ان عددهم الف فرد على الاكثر ، حيث يحتفظ بملفاتهم للاستفادة منها وقت الحاجة. فاذا كان المرض يصيب عشرة بالمائة من الافراد على سبيل المثال ، فان الطبيب سيعاين مائة فرد شهرياً.
ولوافترضنا ان الدولة تزود كل عائلة ، حسب دخلها ، ببطاقة شهرية للعلاج الطبي ، فان الطبيب الماهر المجتهد في عمله سيستقبل عدداً اكبر من المرضى ، ويترتب على ذلك ان دخله السنوي سيزداد. ولو علمنا ان الحاكم الشرعي او الدولة تفرض على الاغنياء دفع الحقوق الشرعية وهي عشرين بالمائة من فائض المؤونة السنوية وحقوقاً اخرى تتجمع في بيت المال ، تبين لنا ان الدولة الاسلامية قادرة على توفير العلاج الصحي لجميع الافراد ، علاوة على توفير الغذاء والسكن الكريم للجميع. وهذا النظام الاسلامي العادل يتفوق على النظام الرأسمالي الامريكي الذي يضطر سدس افراده سنوياً الى بيع ممتلكاتهم لدفع اجور العلاج الصحي.
المصادر:
1- الموت الاسود : ( روبرت غوتفراد ) الكوارث الطبيعية والبشرية في اوروبا القرون الوسطى. نيويورك : المطبعة الحرة ، ١٩٨٣
2- الذين بيدهم الشفاء : ( جون دوفي ) بروز المؤسسة الطبية. نيويورك : ماكرو ـ هيل ، ١٩٧٦ م.
3- التهذيب : ج ٢ ص ٨٨.