
كان أبان بن تغلب من خواص تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وقد أمره أستاذه الإمام أن يجلس للإفتاء في مسجد المدينة ، ولأنّ السائلين والمستفتين كانوا يختلفون في مذاهبهم ومراجعهم ، فقد وجّهه الإمام إلى أن لا يقتصر على نقل رأي مذهب أهل البيت أو فتاواهم ، بل يفتي السائلين حسب مذاهبهم ، يقول له الإمام الصدق عليه السلام : انظر ما علمت أنّه من قولهم فأخبرهم بذلك (١).
وينقل الشيخ أبو زهرة قصة مشابهة عن تلميذ آخر للإمام جعفر الصادق عليه السلام وهو مسلم بن معاذ الهروي أنّه كان يجلس في المسجد ويفتي الناس بأقوال الأئمّة جمعاً حتّى قال له يومياً سيّدنا جعفر : بلغني أنّك تجلس في المسجد وتفي الناس.
أجاب : نعم وكنت أودّ أن أسالك عن ذلك إذ يأتيني الرجل فأعرفه على مذهبكم فأفتيه بأقوالكم ، ويأتيني الرجل فأعرفه على غير مذهبكم فأفتيه بأقوال مذهبه ، ويأتيني الرجل فلا أعرف مذهبه. فأذكر له أقوال الأئمة وأدخل قولكم بين الأقوال ، فأشرق وجه سيدنا الإمام جعفر رضوان الله عليه وقال : أحسنت أحسنت هكذا أنا أفعل لأنّه كان إذا سئل عن مسألة ذكر كلّ أقوال العلماء فيها (٢).
وبالفعل كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام إذا طرحت عليه مسألة ذكر آراء مختلف العلماء فيها كما ينقل ذلك باكبار الإمام أبو حنيفة يقول : ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد فهيئ له من المسائل الشداد ، فهيّأت له أربعين مسألة ، فجعلت ألقي عليه فيجيبني ، فيقول : أنتم تقولون كذلك وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا فربّما تابعهم وربّما خالفنا جميعاً حتّى أتيت على الأربعين مسألة ، ثمّ قال أبو حنيفة : ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (3).
إنّ الإمام جعفر الصادق هو أحد أئمة أهل البيت عليهم السلام ولا شكّ أنّه يعتقد الصواب في رأيه والحق في فتواه ولكنّ ذلك لا يمنعه من نقل آراء الآخرين وفتاواهم ليعطي للأمّة درساً في التسامح وفي احترام الرأي الآخر مهما اختلفت معه.
وهناك حديث آخر عن الإمام الصادق نفسه يرويه عن جدّه علي بن أبي طالب عليه السلام ، يفيد مضمونه أنّ أبواب الجنّة مشرعة لجميع المسلمين مهما اختلف مذاهبهم يقول عليه السلام : إنّ للجنّة ثمانية أبواب باب يدخل منه النبيّون والصدّيقون ، وباب يدخل منه الشهداء والصالحون ، وخمسة أبواب يدخل منها شيعتنا ومحبونا ... ، وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن شهد أنْ لا إلَه إلّا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرة من بغضنا أهل البيت (4).
هكذا كان يفكّر الخطّ الواعي في الأُمّة ويتعامل مع الاختلافات المذهبية بسعة أفق ورحابة صدر ، بينما عانت الأُمّة الويلات والمآسي من تصرّفات وممارسات خطّ التعصّب المذهبي والإرهاب الطائفي ، أولئك الذين كانوا يعتقدون أنّ الحق منحصر في آرائهم ، والجنّة لا تتسع لغيرهم ، ويجيزون لأنفسهم محاسبة الناس ومحاكمتهم على اعتقاداتهم وانتماءاتهم ، ويعتبرون الرأي الآخر جريمة لا يطيقون سماعه فضلاً عن نقله وإحترامه.
ولكي ندرك خطر هذا الاتّجاه وويلاته ومآسيه ، ولتتحصن أجواء الأمة من وجوده وانبعاثه المقيت نلتقط من التاريخ البعيد والقريب بعض تلك الجرائم والآلام.
تحدّث العلّامة ابن قدامة ( ت ٦٢٠ هـ ) في مقدّمة كتابه المغني عن وجود خطّين في الأُمّة للتعامل مع الاختلاف المذهبي خطّ التسامح وخطّ التعصّب ومن جملة ما قال :
ثمّ إنّ كثيراً من العلماء حاولوا أن يجعلوا اختلاف العلماء في مسائل الأحكام رحمة بهذه الأُمّة ، وتحقيقاً ليسر دينها الذي ثبت بنصوص الكتاب والسنّة ، واتقوا ما حذّر الله في كتابه من مضارّ التفريق والاختلاف الذي أفسد على الأُمم السابقة دينها ودنياها ، وحذّرنا سبحانه وتعالى من أن نكون مثلهم بقوله : (اعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(5) ... إلى أن قال (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (6).
ولكن المتعصّبين للمذاهب أبوا أن يكون الاختلاف رحمة ، وتشدّد كلّ منهم في تحتيم تقليد مذهبه ، وحرّم على المنتمين إليه أن يقلّدوا غيرهم ولو لحاجة فيها مصلحتهم ، وكان من طعن بعضهم في بعض ما هو معروف في كتب التاريخ وغيرها كالإحياء للغزالي حتّى صار بعض المسلمين إذا وجد في بلد يتعصّب أهله لمذهب غير مذهبه ، ينظرون إليه نظرتهم إلى البعير الأجرب بينهم!
ومن ذلك أن بعض الأحناف من الأفغانيين سمع رجلاً يصلّي بجواره مأموماً يقرأ الفاتحة فضربه بيده على صدره ضربة قويّة وقع منها على ظهره حتّى كاد يموت!
وإنّ بعضهم كسر سبابة مصلّ لأنّه رفعها في التشهد (7)!
وسئل بعض المتعصّبين من الشافعي عن حكمة الطعام الذي وقعت عليه قطرة نبيذ فقال عفا الله عنه : يرمى لكلب أو حنفي! ويقابله قول متعصّب آخر حنفي لمن سأله : هل يجوز للحنفي أن يتزوّج المرأة الشافعية؟ فقال : إنّ ذلك لا يجوز لأنّها تشكّ في إيمانها يشير بذلك إلى أنّ الشافعي يجيز أن يقول المسلم انا مؤمن إن شاء الله! ويفتي حنفي آخر بأنّه يجوز للحنفي أن يتزوّج الشافعية لا على أنّها مؤمنة بل بقياسها على الكتابية ( اليهوديه أو النصرانية ) التي تجوز للمسلم بالاتفاق! (8).
ويذكر الرحّالة المغربي ( ابن بطوطة ) :
لما دخلنا هذه المدينة [ صنوب ] رآنا أهلها ونحن نصلي سبلي أيدينا ، وهم حنفية لا يعرفون مذهب مالك ولا صلاته ، والمختار من مذهبه هو إسبال اليدين ، وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق سابلي أيديهم فاتّهمونا بمذهبهم. وسألونا عن ذلك ، فأخبرناهم أنّنا على مذهب مالك فلم يقنعوا بذلك عناء.
واستقرت التهمة في نفوسهم حتّى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب ، وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتّى يرى ما نفعل به. فذبحناه وطبخناه وأكلنا ، وانصرف الخديم إليه وأعلمه بذلك ، فحينئذٍ زالت التهمة وبعثوا لنا بالضيافة والروافض لا يأكلون أرنب (9).
أمّا ياقوت الحموي فقد ذكر في معجمه أنّه في سنة ٦١٧ هـ مر على مدينة ري فوجد أكثرها خراباً ، ولما سأل بعض عقلائها عن السبب أجاب بأنّه كان في المدينة ثلاث طوائف : شيعة وأحناف وشافعية. فتظاهر الأحناف والشافعية على الشيعة ، ثمّ وقعت الحرب بين الأحناف والشافعية ، فتغلّب هؤلاء على أولئك ، وهذا الخراب هو في ديار الشيعة والأحناف فقط (10)!
ويصل التعصّب المذهبي بالبعض إلى حدّ يدفعه للابتعاد عن بعض السنن والأعمال رغم شرعيتها لتداولها عند أهل مذهب آخر خلافاً لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (11) ، فقد ذكر الزرقاني في المواهب اللدنيّة في صفة عمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رواية علي عليه السلام في إسدالها على منكبه حين عمّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ ذكر قول الحافظ العراقي أنّ ذلك أصبح شعار كثير من فقهاء الإمامية فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم (12)!
وقال الزمخشري في كيفية الصلاة على النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم : وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتهام بالرفض (13)!
وضمن هذا السياق يقول ابن تيمية في منهاجه عند بيان التشبّه بالشيعة :
ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبّات ، إذا صارت شعاراً لهم ، فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميّز السنّي من الرافضي ، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب (14)!
هكذا يفعل التعصّب بأهله : ترك ما ندب إليه الشرع ، إصراراً على إيجاد الحواجز والفواصل بين المسلمين ، والدعوة الصريحة إلى التنافر والتهاجر المنهي عنه شرعاً بين أبناء الأُمّة الواحدة.
وقال مصنّف الهداية من الحنفية : إنّ المشروع التختّم باليمين ولكن لمّا اتخذته الرافضية جعلناه في اليسار (15)!
ويقول آخر : إنّ تسطيح القبور هو المشروع ، ولكن لما جعلته الرافضة شعاراً لها ، عدلنا عنه إلى التسنيم (16)!
وكذلك ينزلق المتعصّبون إلى خطأ جسيم بدافع من طائفيتهم بأن يبتدعوا من أنفسهم حكماً مخالفاً لما شرّعه الله غافلين عن قوله تعالى : (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) (17).
وكم من عالم مسلم دفع حياته ثمناً لابدائه رأيا يعتقده أو فتوى استنبطها لتسلّط سيف الإرهاب الطائفي على المجتمع فهذا المولى ظهير الدين الأردبيلي ، حكم عليه بالإعدام واتّهم بالتشيّع ـ وهو لم يكن شيعياً ـ وذلك ؛ لأنّه ذهب إلى عدم وجوب مدح الصحابة على المنبر وأنّه ليس بفرض ، فقبض عليه وقدّم للمحاكمة وحكم عليه بالاعدام ونفّذ الحكم في حقه فقطعوا رأسه ، وعلّقوه على باب زويلة بالقاهرة (18)!
وهذا سليمان بن عبد القوي المعروف بأبي العباس الحنبلي ٦٥٧ ـ ٧١٦ هـ ، كان من علماء الحنابلة ، ومن المبرّزين في عصره ، ودرس في أكثر مدارس الحنابلة في مصر ، ولكن ؛ لأنّه مدح الإمام علي بقصيدة ، وأبدى رأيه حول منع الخليفة عمر لكتابة الأحاديث بأنّ ذلك صار سبباً لعدم انضباط الأحاديث وضياعها ، لذلك اتهم بالرفض وعزّر في القاهرة وناله الضرب والسجن والتبعيد عن وطنه ، وفصل عن وظيفة التدريس ، وكان يستغرب ممّا نسب إليه قائلاً :
حنبلي رافضي ظاهري ... أشعري إنّها احدى الكبر (19).
وذكروا أن محمّد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ ألّف كتاباً في اختلاف الفقهاء ولم يتعرّض فيه لآراء الإمام أحمد بن حنبل ؛ لأنّه يعتبره محدّثاً أكثر منه فقيهاً فأساء ذلك الحنابلة ، فسألوه عن حديث الجلوس على العرش فقال : إنّه محال وانشد :
سبحان من ليس له أنيس / ولا له في عرشه جليس
فمنعوا الناس من الجلوس إليه ، ومن الدخول عليه ، ورموه بمحابرهم ، فلمّا لزم داره ، رموه بالحجارة حتّى تكدست ... (20).
تلك كانت بعض مقتطفات من مآسي خطّ التعصّب والإرهاب الطائفي والذي كاد يغطّي صفحات تاريخ الأُمّة ، لولا وعي وتضحيات المخلصين الذين يشكلون خطّ الوعي والتحرّر والانفتاح في تاريخنا الإسلامي ، ونحن الآن مطالبون بمتابعة هذا الخطّ وإحيائه في الواقع المعاصر ، والوقوف أمام من يريدون إعادة وتكرار تلك المآسي الطائفية في وقت تشتدّ فيه حاجة الأُمّة إلى التمسك والالتحام لمواجهة التحدّيات الحضارية والأخطار المعادية.
نحو انفتاح فكري :
ما الذي يشدّ الإنسان المسلم إلى مذهب من المذاهب ، أو إمام من الأئمّة؟
وما الذي يدفعه إلى اعتناق هذه الفكرة أو الالتزام بذلك المنهج؟
المفروض إنّ الدافع وعنصر الانسداد هو طلب الحقيقة والوصول إلى الرأي الأصحّ والأصوب عقائدياً وتشريعياً لإحراز براءة الذمّة ورضا الله سبحانه وتعالى ، حيث يتفتّح وعي الإنسان المسلم في هذه الحياة فيرى أمامه عدّة مناهج وطرق في فهم عقائد الإسلام وتحديد جزئيات أحكامه ، وعند الاختلاف فإنّ الحقّ لا يتعدّد خلافاً لما يراه المصوبّة ، فإذا ما كان هناك أكثر من رأي حول قضية واحدة فلابدّ أنّ بعضها مصيب والآخر مخطئ ، كما أنّ نسبة الصواب والخطأ قد تكون نسبية بين الآراء وعلى أحسن الفروض فإنّ هناك صحيح وأصحّ وصائب وأصوب ، مع قطع النظر عن معذورية المخطئ بل وثوابه ما دام مجتهداً قد بذل غاية وسعه فإنّ المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد.
وهنا يفترض في المسلم أن يدرس ويتأمّل المذاهب والمناهج المطروحة في الساحة الإسلامية ويعتمد على عقله وتفكيره وعوامل الاستدلال والاطمئنان المتوافرة لديه لكي يختار أحد تلك المناهج والمذاهب.
وهذا يعني أمرين :
الأوّل : إتاحة الفرصة وتوفّر المجال للاطّلاع على مختلف الآراء والمذاهب بأن تسود أجواء المجتمع حريّة فكرية ثقافية ، يتمكّن الإنسان عبرها من التعرّف عل جميع الأطروحات والآراء ، وهذا ما كان متداولاً ومعروفاً في العصور الإسلامية الأولى ، حيث كانت تتعدّد حلقات الإفتاء والتدريس في المساجد العامة وفقاً لتعدّد المذاهب واختلاف الأئمّة ، كما كانت تنعقد جلسات المناظرة والحوار وتتداول كتب العقائد والحديث والفقه على رأي مختلف المذاهب والمدارس.
بالطبع فإنّ حريّة الفكر والثقافة حقّ طبيعي للإنسان ومبدأ أساسي من مبادئ الإسلام ، وإذ ما انعدمت هذه الحرّية الفكرية واستبدّ بالساحة مذهب واحد ورأي فكري واحد مع حظر باقي المذاهب وقمع سائر المدارس فإنّه لا يمكن للمسلم أن يطمئنّ إلى صحّة اختياره وانتخابه للمذهب المفروض عليه بشكل غير مباشر.
الثاني : اهتمام المسلم بالبحث الموضوعي وتجرّده عن دواعي التعصّب والمصلحة ، ذلك أنّ الكثيرين لا يجدون دافعاً للبحث والاهتمام مكتفين بما يجدون عليه عوائلهم وأهاليهم ، وما يسود في مجتمعهم وبيئتهم.
وإذا ما تجاوزنا المسألة الذاتية ومسؤولية الإنسان اتّجاه نفسه بالبحث عن الحقّ لاعتناقه والتزامه ، فإنّ هناك قضية أُخرى ترتبط بموقف الإنسان اتّجاه الآخرين وإصداره الأحكام على معتقداتهم ومذاهبهم حيث لا يصحّ له الانطلاق من الجهل والتسرّع دون معرفة واطّلاع للحكم على الآخرين ، يقول تعالى : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) (21).
إنّ من أهم عوامل الصراع وسوء التفاهم بين أتباع المذاهب الإسلامية هو الجهل المتبادل وعدم الانفتاح الفكري فيما بينهم حتّى على مستوى العلماء والقيادات ، حيث يحتفظ كلّ طرف لنفسه بانطباع وموقف سلبي اتّجاه الطرف الآخر ، دون أن يكلّف نفسه عناء البحث والتأكّد من صحّة انطباعه وموقفه وكأنّه ليس مسؤولاً أمام الله عن سوء ظنّه بالآخرين وخطأ حكمه عليهم ، أو غير مدرك لما ينتجه هذا الموقف الجاهلي من أخطار وتبعات على وحدة الأُمّة وتماسك صفوفها.
وهذا الجهل وعدم الانفتاح بين المذاهب هو الذي يتيح الفرصة للأعداء والمغرضين ليصطادوا في الماء العكر ، وليشوّهوا سمعة كلّ مذهب أمام المذاهب الأخرى ، وليعبئوا كلّ طائفة اتّجاه الطوائف الأخرى.
يقول أحد العلماء اللبنانيين وهو يتحدّث عن دور الجهل في تعميق الخلاف الطائفي بين السنّة والشيعة ما يلي : وظنّي أنّ الكثير من المسلمين لو اطّلعوا على ما عليه الشيعة لم يكن منهم إلّا المودّة والإخاء ، حدّثني بعض أهل العراق فقال ما مضمونه : لما جاء الترك بجيشهم لمقابلة الإنجليز محاماةً عن العراق من جهة البصرة في الحرب الكبرى وكان في جيشهم من ديار بكر والموصل من لا يعرف الشيعة فلمّا رأوا من علماء الشيعة ورجالها ما رأوا من التزامهم بالصلاة وغيرها من العبادات وإخلاصهم في المدافعة عن بيضة الإسلام وكيان المسلمين ، وتفانيهم في المحاماة عن دينهم أخذ يقول بعضهم لبعض العراقيين ، إنّا ما كنّا نعرف الشيعة ، فإن كان أنتم شيعة فنحن كلّنا شيعة.
وأعجب من ذلك ما حدثني به بعض الفضلاء عن أحد أعلام الشيعة عن رجل من علماء نابلس أنّه قال له : كنا نتقرب إلى الله بدم الشيعي والآن صرنا نتقرب إلى الله بحبّ الشيعي (22).
ويبدو أنّ هناك إشكالاً عميقاً يكمن في مناهج الدراسة في الحوزات والجامعات والمعاهد الدينية ، حيث تقتصر كلّ مؤسسة على تدريس اتّجاه معين في العقائد والفقه والعلوم الدينية ، متجاهلة سائر الاتّجاهات والمذاهب ، والأخطر من ذلك هو تعبئة الطلّاب في كلّ معهد ديني ضدّ ما يخالف مذهبه ومنهجه عبر أسلوب التهريج والإسقاط والدعاية السوداء ، فيتخرّج طلّاب العلوم الدينية بفكر منغلق وعقلية ضيقّة جاهلين بالرأي الآخر منحازين بتعصّب ضدّه.
ولقد حدّثنا التاريخ أنّ الأستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده رأى ـ قبل أخذه شهادة التدريس ـ أن يطالع مع بعض الطلّاب كتباً منها ( شرح العقائد النسفيّة ) للتفتازاني مع حواشيه ، وسوّغ لنفسه في أثناء ذلك أن يرجّح مذهب المعتزلة في بعض المسائل الكلامية ، على مذهب الأشعرية ، فقامت لذلك ضجّة كبرى في الأزهر ووصل الأمر إلى المرحوم الشيخ عليش الكبير ، وكان رجلاً حديد المزاج ، سريع الغضب ، شديد الغيرة على ما يعتقد ، فهاج وماج ، وأرسل إلى الشيخ محمّد عبده ، وكلّمه في ذلك كلاماً شديداً ، وتعصّب للشيخ عليش في ذلك طلّاب من الأزهر وعلماء حتّى كان الشيخ عبده يضطرّ إلى اصطحاب عصا معه وهو يقرأ الدرس خوفاً على نفسه من اعتداء ذوي العصبية (23).
ويشير العلّامة الشيخ محمّد جواد مغنية إلى هذه الملاحظة الهامّة في مقالة نشرتها مجلة ( رسالة الإسلام ) المصرية عدد تشرين١٩٢٥ م بقوله ( إن الشريعة الإسلامية لم تستخرج من الوهم والخيال بل لها أصول مقررة لا يختلف عليها مسلمان ، مهما كان مذهبهما ، وإنّما الخلاف والجدال بين المذاهب حصل فيما يتفرّع عن تلك الأصول ، وما يستخرج منها ، فالعلاقة بين أقوال المذاهب الإسلامية هي العلاقة ين الفرعين المنبثقين عن أصل واحد.
ونحن إذا أردنا معرفة أنّ هذا المذهب على حق في أسلوبه واستخراج الحكم من مصدره دون سائر المذاهب ، فعلينا أن نلاحظ جميع الأقوال المتضاربة حول الحكم ، وندرسها بطريقة حيادية ، بصرف النظر عن كلّ قائل وعن منزلته العلمية والدينية ، ثمّ نحكم بما يؤدّي إليه الأصل والمنطق على نحو لو أطلع معه أجنبي على حكمنا لاقتنع بأنّه نتيجة حتمية للأصل المقرر ، وبهذا نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه(إشارة لقوله تعالى : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (24).
أمّا من يطّلع على قول مذهب من المذاهب ، ويؤمن به ويتعصّب له ، لا لشيء إلّا لأنّه مذهب آبائه ، ويحكم على سائر المذاهب بأنّها بدعة وضلاله فهو مصداق للآية الكريمة : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (25).
وأي فرق بين رجل أفنى العمر في حفظ معتقدات أبيه ودرسها ، لا يتجاوزها قيد أنملة ، ورجل لم يقرأ ، ولم يكتب ، ولم يدرس شيئاً ، ولكن تكونّت له من بيته وبيئته عادات ومعتقدات؟ أيّ فرق بين الرجلين حتّى يقال : ذاك عالم ، وهذا جاهل؟!
ليس العالم من وثق برأيه ومعتقدات آبائه ، وكانت له المقدرة التامة على المحاورة والمداورة ، وإنما العالم من فصل الواقع عن ذاته وعاطفته ، وفكّر تفكيراً حرّاً أو مطلقاً ، لم يتعصّب لرأي على رأي ، بل يقف من كلّ قول موقف الشك والتساؤل ، وإن كثر به القائلون ، وآمن به الأقدمون.
المصادر : 1- اختيار معرفة الرجال ٢ : ٦٢٢.
2- الإسلام بين السنة والشيعة ٢ : ٦٩.
3- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ٥٣ نقلاً عن جامع أسانيد أبي حنيفة ١ : ٢٢٢.
4- الخصال : ٤٠٨.
5- آل عمران : ١٠٣.
6- آل عمران: ١٠٥.
7- ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين : ٧٩.
8- الإسلام بين السنّة والشيعة ١ : ٤٩.
9- رحلة ابن بطوطة : ٣٣٢.
10- لاحظ معجم البلدان ٣ : ١١٧.
11- الزمر : ١٨.
12- لاحظ شرح العلاّمة الزرقاني على المواهب اللدنية ٦ : ٢٧٦.
13- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل ٣ : ٢٧٢.
14- منهاج السنّة النبويّة ٤ : ١٥٤.
15- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ٣٢٥.
16- المصدر السابق ١ : ٣٢٦.
17- النحل : ١١٦.
18- شذرات الذهب ٨ : ٢١٥.
19- لاحظ الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ٢ : ٩١.
20- ـ الوافي بالوفيات ٢ : ٢١٣.
21- ـ الإسراء : ٣٦.
22- ـ الحقائق في الجوامع والفوارق للشيخ حبيب آل إبراهيم : ١٨.
23- مجلة رسالة الإسلام العدد٤ السنة ٢ ، ص٣٥٧.
24- الزمر: ١٨.
25- البقرة : ١٧٠.