الخلاف بين العلماء

نظراً لموقعية العلماء المميّزة في أوساط جماهير الأُمّة ، وللتأثير الكبير الذي يمتلكونه ، فإنّ اختلافهم ونزاعهم لن يبقى في حدودهم ، وإنّما سيعكسه كلّ منهم على أتباعه ، وسينشره في ساحة نفوذه وتأثيره ، وبذلك يصبح الخلاف بين كلّ
Sunday, September 24, 2017
الوقت المقدر للدراسة:
مؤلف: علی اکبر مظاهری
موارد بیشتر برای شما
الخلاف بين العلماء
 الخلاف بين العلماء



 

نظراً لموقعية العلماء المميّزة في أوساط جماهير الأُمّة ، وللتأثير الكبير الذي يمتلكونه ، فإنّ اختلافهم ونزاعهم لن يبقى في حدودهم ، وإنّما سيعكسه كلّ منهم على أتباعه ، وسينشره في ساحة نفوذه وتأثيره ، وبذلك يصبح الخلاف بين كلّ عالمِين خلافاً ونزاعاً بين جماعتين وفرقتين من المجتمع ، وليس خلافاً بين شخصين ، كما هو شأن الاختلاف بين الأشخاص العاديين.
وقد يجد الناس أنفسهم محشورين ، ومتورّطين في صراع ونزاع بين عالمِين ، تحت عنوان قضية فكرية ، أو مسألة شرعية ، لا يعرفون مضمونها ، ولا دليلها وبرهانها ، وإنّما يتمحور كلّ قسم منهم حول عالم يثقون به ، أو قد توارثوا الولاء لاتّجاهه.
وإضافة إلى انتشار الخلاف ، واتساع رقعته ، بين أبناء المجتمع ، هناك مشكلة أعقد ، هي حدّة الصراع وعمقه غالباً ، حيث يأخذ الخلاف صبغة دينية ، ويرى كلّ طرف نفسه محقاً ، والآخر مبطلاً ، وقد يجيز لنفسه تكفير الآخر ، أو تفسيقه ، أو مقاطعته ، أو إعلان الحرب عليه. وهذا ما يحدث عادة في الخلافات الدينية ، فأقسى الحروب وأبشعها تلك التي تتمّ بشعارات دينية ، وأعمق النزاعات وأشدّها ما يدور منه في أوساط المتدينّين ، وبتصدّي القيادات الدينية.

الانشغال بالخلافات :

العالِم يجب أن يكرّسِ جهوِدَهّ ووقته لاستنباط حقائق الدين وأحكامه ، ولنشرها وبثّها في المجتمع ، وللدعوة إلى الله تعالى ، حتّى في أوساط غير المسلمين ، ولردّ شبهات الكفّار والمخالفين للدين ، وتعبئة الأُمّة لمواجهة الأخطار المحدقة بها ، ولترتقي إلى مستوى السيادة بين الأُمم لتكون كما أرادها الله تعالى : (خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) (١) ، (شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (٢). لكن الخلافات والنزاعات بين علماء الدين تشغلهم ببعضهم بعضاً ، فتتركز أذهانهم وأفكارهم في ميدان هذا الصراع ، وتتجه جهودهم وأنشطتهم لتحقيق الأهداف والنقاط في ساحته ، وتتمحور علاقاتهم وتحالفاتهم على أساسه.
وحينما ابتلي علماء الأُمّة في عصور التخلّف بهذا الداء الوبيل ، تقلّصت جهودهم للتبشير بالإسلام ، وتوسيع رقعة انتشاره ، كما توقفّت لديهم حركة الإبداع العلمي والفكري ، وأصبح الجهد منصبّاً على شرح المتون السابقة ، والجدل حول مفاداتها ، ممّا أدّى إلى انكماش دورهم القيادي في المجتمع.
ولو تصفحّنا المكتبة الإسلامية لوجدناها مليئة بكتب الخلافات والردود المتبادلة ، بين الأشاعرة والمعتزلة ، وبين الشيعة والسنّة ، وداخل كلّ مذهب بين الاتّجاهات المختلفة.
بينما تقلّ الكتابات التي تسبر أغوار الفكر الإسلامي ، وتستجلي أبعاده ، وتستنبط برامج الشريعة لمختلف جوانب الحياة ، وتستنهض الأُمّة لتفجير كفاءاتها ، ولمواجهة التحدّيات التي تحيط بها ، وتوجّه الأنظار إلى خزائن الكون ، وثروات الطبيعة ، وآفاق الحياة.
وهكذا تزّيف الخلافات والصراعات اهتمامات العلماء ، وتشغلهم عن القيام بمهامهم الأساسية ، وأدوارهم الطليعية.

الاختلاف العلمي :

هناك تساؤل عريض يدور في أوساط الجمهور ، وعامة أفراد المجتمع ، هو : لماذا وكيف يحصل الاختلاف بين العلماء؟ وعادة ما يأتي السؤال بصيغة الاستغراب والاستنكار!
الاستغراب نتيجة لما يعتقده الناس من أنّ العلماء يعبّرون عن الدين ، ويتحدّثون عن حقائقه وأحكامه ، والدين واحد وحقائقه وأحكامه واحدة ثابتة ، فكيف يختلف العلماء فيما ينقلونه عن الدين ، وتتعدد فتاواهم وآراؤهم في الموضوع الواحد ، والمسألة الواحدة؟ ثم كيف يدرك الناس ويعرفون الرأي الحقيقي ، والحكم الواقعي للدين ، مع هذا الاختلاف والتفاوت في الآراء والفتاوى؟
والاستنكار لما يتوقّعه الناس من نزاهة العلماء ، وورعهم ، وحسن نواياهم ، والتزامهم بتعاليم الإسلام ، وتخلّقهم بأخلاقه وآدابه ، مما يجعلهم ، وفقاً لتوقعات الناس ، منسجمين متعاونين فيما بينهم ، لا سبيل للشيطان عليهم ، ولا تأثير للمصالح والأغراض المادية في نفوسهم ، وإلّا فكيف يكونون علماء وأئمّة للناس ، وحجّة فيما بينهم وبين الله؟
هذا التساؤل الذي يدور بإلحاح ، في أوساط العامة من الناس ، يستوجب منّا وقفة متأنيّة ، ومعالجة هادئة ، للإجابة عليه باستعراض أهمّ الأسباب والعوامل ، التي تنتج منها حالات الاختلاف بين العلماء ، وهي في مجملها نفس الأسباب والعوامل لأيّ اختلاف آخر يجري بين أبناء البشر ، ضمن مختلف الشرائح والتخصّصات.
فالعلماء ، مثلهم مثل سائر الناس ، والعلوم الدينية التي اكتسبوها لا تتجاوز بهم طبيعتهم البشرية ، ولا تنقلهم إلى الحالة الملائكية ، كما لا تمنحهم درجة العصمة التي اختصّ الله تعالى بها ، أنبياءه وأوصياءهم.
صحيح أنّ العلماء يعتمدون في آرائهم الدينية ، وفتاواهم الشرعية ، على مصدرين أساسيين ، هما الكتاب والسنّة ، لكن ذلك لا يعني الاتفاق في الآراء والفتاوى.
فبالنسبة للقرآن الكريم ، وهو المصدر الأول ، والمقطوع بصدوره من قبل الله تعالى حرفاً حرفاً ، دون أي زيادة أو نقصان ، إلّا أنّ فهم الدلالة والمعنى في بعض الآيات الكريمة ، قد يكون مجالاً للاختلاف بين العلماء والمفسّرين ، إمّا لأسباب تعود للغة ، كما إذا ورد في الآية لفظ مشترك ، وضع لمعان متعدّدة مختلفة ، كلفظ عين حيث تستعمل في الباصرة ، والجارية ، والذهب الخالص ، والرقيب ، ولم تكن إلى جانبها قرينة تدلّ على المراد منها ، فهنا يحصل الاختلاف في حملها على أيّ معانيها.
ومن شواهد هذه الحالة قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) (3)
ولفظ القرء في اللغة مشترك ، بين الطهر والحيض ، لذا اختلف الفقهاء في عدة المطلقة ، أتكون بالحيض أم بالإطهار.
وكذلك حينما يكون للفظ استعمالان : حقيقي ومجازي ، فيختلف العلماء حول المراد من ذلك اللفظ في الآية ، هل هو المعنى الحقيقي أو المجازي ...؟ وما شابه ذلك من موارد. كما في اختلافهم حول آية الوضوء ، في سورة المائدة وهي قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) (4).
فالآية تنصّ على مسح الرأس في الوضوء ، لكن حرف الباء الوارد في برؤوسكم هل هو للتبعيض؟ فيكفي مسح بعض الرأس ، وبه قال فقهاء مذهب أهل البيت ، وفقهاء المذهب الحنفي والشافعي ، أم هو حرف زائد؟ أو للإلصاق؟ فيجب مسح جميع الرأس ، كما هو رأي فقهاء المذهب المالكي والحنبلي.
وقوله تعالى وأرجلكم هل هي معطوفة على قوله تعالى : (فاغسلوا وجوهكم)؟ فيكون حكم الرِجلين هو الغَسل ، كالوجه وهو ما يراه فقهاء المذاهب الأربعة ، أو أنّها معطوفة على قوله تعالى : (وامسحوا برؤوسكم) فيكون حكم الرجلين المسح كالرأس ، وهو ما ذهب إليه فقهاء مذهب أهل البيت ويستند أهل كلّ رأي لدليل يعتمدون عليه.
وقد ينشأ الاختلاف حول مفاد النصّ القرآني ، لتفاوت مستويات المعرفة والإدراك ، أو نظراً لعلاقة النصّ بنصوص أخرى من القرآن أو السنّة.
وبالنسبة للسنّة النبوية ، وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ، فإنّ مجال الاختلاف فيها بين العلماء أوسع ، وأسبابه أكثر ، لأنّ القرآن الكريم يتّفق المسلمون على قطعية صدوره من قبل الله تعالى ، ثمّ قد يختلفون في مداليل ومعاني بعض آياته كما سبق ؛ أمّا السنّة ، فإنّ كلّ حديث من أحاديثها يحتاج إلى بحث ، للتأكّد من صحّة سنده أولاً ، ومن ثمّ يكون البحث في مدلوله ومعناه ، وكلا الجانبين يتسع لاختلاف وتعدّد وجهات النظر.
فالعالِم لا يقبل حديثاً ، إلا إذا كان مطمئناً من صدق راويه ، وصحّة سند روايته ، وهنا يتفاوت تقويم العلماء للرواة ، وقبولهم لأسانيد الروايات.
ثمّ قد يحصل الاتّفاق على صحّة حديث ، لكن يختلف في تحديد معناه ودلالته ، وكمثال على ذلك حديث غدير خم وهو : قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم : ( موضع بالجحفة ) ، مرجعه من حجّة الوداع ، بعد أن جمع الصحابة ، وكرّر عليهم : ألست أولى بكم من أنفسكم ، ثلاثاً ، وهم يجيبون بالتصديق والاعتراف ، ثمّ رفع يد علي ، وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهّم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وادر الحق معه حيث دار (5).
وهذا الحديث أجمع علماء الشيعة على صحّته وقبوله ، ورأوه دالا على تنصيب علي بن أبي طالب كإمام وولي وخليفة من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ووافقهم على قبول الحديث والتسليم بصحّته أكثر علماء السنّة ، ولكنّهم خالفوهم في تحديد دلالة الحديث.
وأورده المحدّث السلفي المعاصر ، الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني ، في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة ، وعدّد له أكثر من عشرين طريقاً ، ثمّ أضاف قائلاً : وللحديث طرق أخرى كثيرة ، جمع طائفة منها الهيثمي في المجمع ( ٩ / ١٠٣ ـ ١٠٨ ) وقد ذكرتُ وخرّجتُ ما تيسّر لي منها ممّا يقطع الواقف عليها ، بعد تحقيق الكلام على أسانيدها ، بصحّة الحديث يقيناً ، وإلّا فهي كثيرة جدّاً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد. قال الحافظ ابن حجر : منها صحاح ومنها حسان (6).
يقول ابن حجر : أنّه حديث صحيح لا مِرْية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، وطرقه كثيرة جداً ، ومن ثمّ رواه ستة عشر صحابياً ، وفي رواية لأحمد أنّه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثون صحابياً ، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته ، كما مرّ وسيأتي ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحّته ولا لمن ردّه (7).
لكنّه يخالف علماء الشيعة في الاستدلال بالحديث على إمامة علي وخلافته بقوله : لا نسلم أنّ معنى الولي ما ذكروه ، بل معناه الناصر ، لأنّه مشترك بين معان ، كالمعتق والعتيق ، والمتصرّف في الأمر ، والناصر والمحبوب ، وهو حقيقة في كلّ منها وتعيين بعض معاني المشترك من غيردليل يقتضيه تحكّم لا يعتدّ به (8).
بينما يرى علماء الشيعة أنّ القرائن الحالية التي تزامنت مع النصّ من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإيقاف حركة سير قوافل الحجيج ، والذين بلغ عددهم حوالي مائة ألف ، في تلك الصحراء التي يلفحها الهجير ، وتلتهب رمالها بوهج الظهيرة ، ومن أخذه صلى الله عليه وآله وسلم بيد علي ، ورفعها أمام الناس ، وكذلك القرائن اللفظية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ألست أولى بكم من أنفسكم ، ثلاثاً ، وهم يجيبونه بالتصديق ، ودعائه لعلي بتلك الدعوات المميّزة ، اللهُمَّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.
إضافة إلى العديد من النصوص والإشارات والمؤشِّرات ، والتي يرى فيها علماء الشيعة تحديداً وتأكيداً لدلالة هذا النصّ على تنصيب الإمام علي للخلافة والإمامة.
فهنا اتفاق على النصّ وصحّة صدوره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن الاختلاف هو في تحديد دلالة النصّ.
وهناك مصادر أخرى يختلف العلماء في مدى وحدود حجيّتها للتشريع الإسلامي ، كالإجماع والعقل ، وما يتفرّع عنه من قياس واستحسان.
فالإجماع مثلاً هل حجّة بذاته ، وكأصل مستقل ، من أصول التشريع ، كما يقول بذلك جمهور فقهاء المذاهب الأربعة؟ أم أنّه حكاية عن أصل ، فحجيّته تتوقّف على كاشفيته عن رأي المعصوم كما يقول فقهاء الشيعة؟
ثمّ ما هي حدود الإجماع الذي يحتجّ به؟ هل هو إجماع مطلق الأُمّة؟ أو خصوص المجتهدين منهم في عصر؟ أو اتفاق أهل المدينة؟ أو اتفاق مجتهدي المذهب خاصّة؟

ظاهرة الاختلاف العلمي :

الاختلاف في الرأي والفتوى بين العلماء ، مع وحدة المصدر ، هو أمر له أسبابه ، ومبررّاته المعقولة ، وهي جزء من ظاهرة الاختلاف الطبيعية ، بين أبناء البشر ، في مختلف مجالات المعرفة ، وميادين الحياة. فالأطباء والمهندسون والاقتصاديون والفنّيون ، وسائر الشرائح العلمية والعملية في المجتمع ، تتعدّد في أوساطهم المدارس والمناهج ، والآراء والنظريات.
وقد يضيق البعض ذرعاً بهذا الاختلاف بين العلماء ، في الفتوى والرأي ، ويتساءلون عن إمكانية تلافي حالة الاختلاف ، والخروج منها ، بأن يتّفق علماء الإسلام على آراء وفتاوى موحدّة ، في الأصول والفروع ، للعبادات والمعاملات ، فلا تكون هناك مذاهب متعدّدة ، ولا مدارس مختلفة ، ولا أحكام متضاربة.
لكن هذه أمنية لا تنسجم مع طبيعة الدين ، والذي أراد الله تعالى أن تكون فيه مساحة للاجتهاد ، وشحذ العقول والأذهان ، وعبر ذلك يبتلى الإنسان ، ويمتحن إخلاصه في البحث عن الحقيقة والتسليم لها ، ولو كانت كلّ الأحكام منصوصة واضحة ، لا تحتمل خلافاً ، لما كان هناك بحث ولا اجتهاد ، ولا استلزم الأمر ابتلاءً وامتحاناً.
ولعل في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) (9) ، لعلّ في ذلك إشارة إلى هذا المعنى.
كما أنّ طبيعة اللغة تنتج شيئاً من الاختلاف ، فالقرآن الحكيم نصوص قولية لفظية ، والسنّة المنقولة كذلك ، ألفاظ وأقوال ، والأقوال لدى أبناء البشر ، يرد فيها الاختلاف ، لوجود الألفاظ المشتركة ، التي تحتمل أكثر من معنى ، لوجود المعاني الحقيقية والمجازية ، ولإمكانية الدلالة بالمنطوق والمفهوم ولذا تتعدّد الشروح والتفسيرات لأقوال الأدباء والعلماء والحكماء ، ويحصل الاختلاف في تفسير مواد القوانين والمعاهدات ، والوثائق الرسمية والنقل التاريخي.
وأخيراً ، فإنّ طبيعة البشر ، في تفاوت مستويات علومهم وأفهامهم ، واختلاف توجهاتهم ، وحالاتهم النفسية ، تنعكس ولا شك على استنتاجاتهم وآرائهم ومواقفهم.
لكلّ ذلك يكون الاختلاف العلمي في الرأي والفتوى أمراً طبيعياً لا مفرّ منه ولا يمكن تجاوزه.

إيجابيات الاختلاف العلمي :

على أنّ هذا الاختلاف العلمي قد أسهم في تنشيط حركة الفكر والاجتهاد ، وأنتج هذه الثروة المعرفية الكبيرة للأُمّة ، فلو كان هناك رأي واحد ثابت ، في تفسير الآيات القرآنية ، لما كانت لدينا هذه المكتبة القرآنية الواسعة من التفاسير ، حيث يسعى كلّ مفسّر لإمعان النظر والتدبّر في الآيات الكريمة ، واكتشاف الجديد والمزيد من آفاقها ومعانيها ، دون أن يقيّد حركة فكره برأي مفسِّر سابق.
ولو كان هناك سقف في الفتوى برأي محدّد ، في جميع الأحكام ، لا يمكن تجاوزه ، لما توفّرت للأُمّة هذه الثروة الفقهية التشريعة الضخمة ، والتي نوّهت بها المجامع والمؤتمرات العلمية مثل مؤتمر لاهاي للقانون المقارن سنة ١٩٣٦ م ، ومؤتمر باريس سنة ١٩٥١ م.
ويدرك العلماء المفكّرون أهمّية هذه الثروة العلمية ، وما فيها من تنوّع في الأفكار والاجتهادات ، تتيح المجال لتقديم البرامج والأطروحات التشريعية المتكاملة ، لمختلف مجالات الحياة.
حينما قام الفقيه الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر ببحثه العلمي ، ودراسته القيّمة ، حول نقد المذاهب الاقتصادية الماركسية والرأسمالية ، ورسم معالم المذهب الاقتصادي للسلام ، وجد في تنوّع الآراء الاجتهادية للفقهاء المسلمين ، رصيداً هاماً ، استفاد منه في تكوين صورة متكاملة عن الاقتصاد الإسلامي. يقول رحمة الله : فالاجتهاد إذن عملية معقّدة ، تواجه الشكوك من كلّ جانب. ومهما كانت النتيجة راجحة في رأي المجتهد ، فهو لا يجزم بصحّتها في الواقع ، ما دام يحتمل خطأه في استنتاجها ، إمّا لعدم صحّة النصّ في الواقع وإن بدا له صحيحاً ، أو لخطأ في فهمه ، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص ، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ، ذهل عنها الممارس ، أو عاثت بها القرون.
هذا لا يعني ، بطبيعة الحال ، إلغاء عملية الاجتهاد ، أو عدم جوازها ، فإنّ الإسلام ـ بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العملية ـ قد سمح بها ، وحدّد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظنّ ، ضمن قواعد تشرح عادة في علم أصول الفقه ، وليس على المجتهد إثم إذا اعتمد ظنّه في الحدود المسموح بها ، سواء أخطأ أو أصاب.
وعلى هذا الضوء ، يصبح من المعقول ومن المحتمل أن توجد لدى كلّ مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي ، وإن كان معذوراً فيها. ويصبح من المعقول أيضاً أن يكون واقع التشريع الإسلامي في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزّعاً هنا وهناك ، وبنسب متفاوتة في آراء المجتهدين ، فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة ، وصواب في أخرى ، ويكون الآخر على العكس ...
ولكن علينا أن نتساءل : هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كلّ واحد من المجتهدين ، بما يضمّ من أحكام ، مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأسساً موحّدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها؟
ونجيب على هذا السؤال بالنفي ، لأنّ الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرّض للخطأ ، وما دام كذلك ، فمن الجائز أن يضمّ اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباً على واقع الإسلام ، قد أخطأ المجتهد في استنتاجه ، أو يفقد عنصراً تشريعياً إسلامياً لم يوفّق المجتهد للظفر به في النصوص التي مارسها ، وقد تصبح مجموعة الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده متناقضة في أسسها بسبب هذا أو ذاك ، ويتعذر عندئذ الوصول إلى رصيد نظري كامل يوحدّ بينها ، أو تفسير مذهبي شامل يضعها جميعاً في اطار واحد ...
فليس من الضروري أن تعكس الأحكام التي يضعها ذلك الاجتهاد مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأساساً نظرياً شاملاً ، ما دام من الممكن فيها أن تضم عنصراً غريباً أو تفقد عنصراً أصيلاً بسبب خطأ المجتهد.
قد يؤدّي خطأ واحد في مجموعة تلك الأحكام إلى قلب الحقائق في عملية الاكتشاف رأساً على عقب ، وبالتالي إلى استحالة الوصول إلى المذهب الاقتصادي ، عن طريق تلك الأحكام.
لهذا ، قد يواجه الممارس لعملية اكتشافه المذهب الاقتصادي محنة ، هي محنة التناقض بين وصفه مكتشفاً للمذهب ، ووصفه مجتهداً في استنباط الأحكام. وذلك فيما إذا افترضنا أن المجموعة من الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده الخاص ، غير قادرة على الكشف عن المذهب الاقتصادي. فالممارس في هذه الحالة ، بوصفه مجتهداً في استنباط تلك الأحكام ، مدفوع بطبيعة اجتهاده إلى اختيار تلك الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده ، لينطلق منه في اكتشافه للمذهب الاقتصادي.
ولكنّه ، بوصفه مكتشفاً للمذهب ، يجب عليه أن يختار مجموعة منسقة من الأحكام ، منسجمة في اتجّاهاتها ومدلولاتها النظرية ، ليستطيع أن يكتشف على أساسها المذهب ، وهو حين لا يجد هذه المجموعة المنسقة في الأحكام التي أدى إليها اجتهاده الشخصي ، يجد نفسه مضطراً إلى اختيار نقطة انطلاق أخرى ، مناسبة لعملية اكتشافه ...
والسبيل الوحيد الذي يتحتم على الممارس سلوكه في هذه الحالة ، أن يستعين بالأحكام التي أدت إليها اجتهادات غيره من المجتهدين (10).
المصادر :
1- البقرة : ٢٢١.
2- البقرة : ١٤٣.
3- البقرة : ٢٢٨.
4- المائدة : ٦.
5- الصواعق المحرقة ١ : ١٠٦.
6- سلسلة الأحاديث الصحيحة ٤ : ٣٤٣ ، والصواعق المحرقة ١ : ١٠٦.
7- الصواعق المحرقة ١ : ١٠٦.
8- المصدر السابق : ١٠٧.
9- آل عمران : ٧.
10- اقتصادنا : ٣٩٦ ـ ٤٠٠.
 


ارسل تعليقاتك
با تشکر، نظر شما پس از بررسی و تایید در سایت قرار خواهد گرفت.
متاسفانه در برقراری ارتباط خطایی رخ داده. لطفاً دوباره تلاش کنید.