
إنّ احترام العالم يقاس باحترامه للحقيقة ، فهي ضالته أينما وجدت ، لقد أثبتت التجارب أنّ الاختصاص بعلم من العلوم يحتاج إلى ثقافة عامة ، ومعرفة نظريات ومبادئ علوم شتّى ، فكيف يكون الإنسان متخصِّصاً بعلم ، وهو لا يعرف عنه إلّا قول عالم يخالفه فيه كثير من العلماء؟ واستطيع التوكيد أنّ من الأجانب من يعرف عن الإسلام وتاريخه وشريعته ورجاله وعقائدهم ما لم يعرفه كثير من متخرّجي الأزهر والنجف.
وإنّه لغريب أن تقوم جامعتان لهما تاريخهما وعظمتهما ، إحداهما في العراق ، والثانية في مصر ، يبحثان في موضوع واحد ، ويهدفان إلى شيء واحد : إلى نشر الشريعة الإسلامية ثمّ لا يكون بينهما أي نوع من أنواع التعارف والتعاون.
إنّ في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنّة ، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم ، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة ، إنّ اطلاع كلّ فريق على ما عند الآخر من أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الإخوة ، من حيث يدرون أو لا يدرون (١).
وقبل الشيخ مغنية بعدّة قرون كان العلامة الشاطبي ( ت ٧٩٠ هـ ) يقرع جرس الإنذار هذا بقوله : إنّ تعويد الطالب على ان لا يطلع إلّا على مذهب واحد ربما يكسبه ذلك نفوراً وإنكاراً لكل مذهب غير مذهبه ما دام لم يطلع على أدلّته ، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمّة أجمع الناس على فضلهم (٢).
ووصل الجهل بين المسلمين ببعضهم البعض إلى حدّ اعتقد فيه بعض المتعصّبين من أهل السنّة أنّ هناك فوارق تكوينية بين الشيعة وباقي المسلمين ، وأنّ للشيعة ذنباً في أسفل أجسامهم؟! فهل يضحك الإنسان أم يبكي لهذا الجهل المفرط والتعصّب الحاقد. وهناك طريفة ينقلها الاصفهاني في كتابه ( المحاضرات ) إذْ يقول : سئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان ، فقال : إنّه معتزلي ناصبي حروري جبري رافضي ، يشتم علي بن الخطاب ، وعمر بن أبي قحافة ، وعثمان بن أبي طالب ، وأبا بكر بن عفان ، ويشتم الحجّاج الذي هدم الكوفة على أبي سفيان ، وحارب الحسين بن معاوية ، ويوم القطائف؟ فقال له جعفر بن سليمان قاتلك الله ما أدري على أي شيء أحسدك؟ أعلى علمك بالأنساب؟ أم بالأديان؟ أم بالمقالات (3)؟
وقد لعب بعض الكتّاب والمفكّرين دوراً مثيراً في تكريس حالة الجهل والتضليل الإعلامي لدى كلّ مذهب اتّجاه سائر المذاهب ، حيث يقدم أولئك الكتّاب صورة خاطئة تنطوي على الجهل والمغالطات عن هذا المذهب أو تلك الطائفة ، إمّا لغرض في نفس الكاتب أو لاعتماده على المصادر المعادية والمناوئة للجهة التي يكتب عنها ، أو لتقصيره في البحث والمراجعة.
فمثلاً : حينما يطّلع القارئ على كتاب ( كشف الظنون على أسامي الكتب والفنون ) لمؤلفه الشيخ مصطفى بن عبد الله الحنفي ( ١٠١٧ هـ ١٠٦٧ هـ ) والمعروف بالحاج خليفة ؛ فإنّه سيعتبره مرجعاً ومصدراً في موضوعه ، لما فيه من دلالة على سعة اطلاع المؤلف وتقصيه للكتب وفنون المعارف ، ولكن القارئ سيصاب بالدهشة حينما يقرأ ما كتبه المؤلف عن المذهبين الإمامي الشيعي والشافعي حيث مزج بينهما بشكل غريب ولننقل جزءاً من نصّه :
قال : والكتب المؤلفة على مذهب الإمامية الذين ينتسبون إلى مذهب ابن إدريس ، اعني الشافعي رحمه الله ، كثرة ، منها شرائع الإسلام وحاشيته ، والبيان والذكرى والقاعد ، والنهاية ... (4).
وقال عند تفسير الشيخ الطوسي ، فقيه الشيعة : هو أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة الشافعي ، كان ينتمي إلى مذهب الشافعي ( ت ٤٦٠ هـ ) سماه مجمع البيان لعلوم القرآن (5).
هذا الخلط والخطأ الذي وقع فيه مؤلف كشف الظنون لضعف اطلاعه أو عدم دقته في البحث أصبح نظرية يتناقلها بعض الكتّاب المعاصرين دون بحث أو تمحيص كالمحامي صبحي محمصاني الذي كتب عن المذهب الشيعي قائلاً : ( وهذا المذهب لا يختلف كثيراً عن المذهب الشافعي في فروع الفقه ) (6).
وحتّى الذين كتبوا في الفِرقَ والمذاهب لم تأتِ أغلب كتاباتهم وفقاً لقواعد التحقيق والموضوعية والبحث ، كما هو الحال في كتاب ( الفَرْقُ بين الفِرَق ) لأبي منصور البغدادي ، وكتاب ( الملل والنحل ) للشهرستاني : إنّه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه ، إلّا أنّه غير معتمد عليه ؛ لأنّه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بـ ( الفَرْق بين الفِرَق ) من تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي ، وهذا الأستاذ كان شديد التعصّب على المخالفين ، ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه الصحيح ، ثمّ إنّ الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب ، فلهذا السبب وقع فيه الخلل في نقل هذه المذاهب (7).
ويسجل الشيخ محمّد شلتوت شيخ الجامع الأزهر هذه الملاحظة على كتب الفرق بقوله :
لقد كان أكثر الكاتبين عن الفرق الإسلامية متأثرين بروح التعصب الممقوت ، فكانت كتاباتهم مما تورث نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة ، وكان كلّ كاتب لا ينظر إلى من خالفه إلا من زاوية واحدة ، هي تسخيف رأيه ، وتسفيه عقيدته بأُسلوب شرُّه أكثر من نفعه ، ولهذا كان من أراد الإنصاف لا يكون رأيه عن فرقة من الفرق إلّا من مصادرها الخاصّة ، ليكون هذا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ (8).
وقال السبكي في الطبقات عند ذكره لكتاب ( الملل والنحل ) للشهرستاني : ومصنف ابن حزم وإن أبسط منه ، إلّا أنّه مبدّد ، ليس له نظام ، ثمّ فيه من الحطّ على أئمة السنّة ونسبة الأشاعرة إلى ما هم بريئون منه ما يكثر تعداده ، ثمّ ابن حزم نفسه لا يدري علم الكلام حق الدراية ، على طريق أهله (9).
كما أنّ لكتابات المستشرقين دوراً سيئاً في تضليل أفكار المسلمين وتشويه نظرتهم اتّجاه بعضهم البعض ، وكما هو معروف فإنّ هناك أهدافاً سياسية مغرضة وراء حركة الاستشراق ، لابدّ أن يكون تمزيق شمل الأُمّة الإسلامية وتعميق الخلافات في صفوفها واحداً من أبرز تلك الأهداف التي تسعى حركة الاستشراق لتنفيذها ثقافياً ، من هنا جاءت كتاباتهم عن المذاهب والفرق تخدم هذا التوجّه ، ومؤسف جدّاً أن تكون كتاباتهم مصدراً ومرجعاً يعتمدها بعض المؤلّفين المسلمين لتقييم التيارات والمدارس الإسلامية.
ومما يثير الدهشة والاستغراب أنّ بعض الكتّاب يعترفون بعدم اطلاعهم على آراء وكتب الطرف الآخر ، ولكنهم مع ذلك يسمحون لأنفسهم بإصدار الحكم واتخاذ الموقف المضادّ من ذلك الطرف الذي لم يسمعوا منه ، ولم يطّلعوا على حجّته ، فالعلّامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة يعلن إعراضه وعدم قراءته لكتب بعض المذاهب كالشيعة والخوارج ، ولكنه مع ذلك يكيل لهم القدح والتهم والطعن ، قال ما نصّه :
وشذ بمثل ذلك الخوارج ، ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح ، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ، ولا نروي كتبهم ، ولا أثر لشيء منها إلّا في مواطنهم ، فكتب الشيعة في بلادهم ، وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن ، والخوارج كذلك ، ولكلّ منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة (10).
إنّنا نعيش الآن عصر العلم والمعرفة ، وازدياد حالة الفضول لدى الإنسان للاطلاع على خبايا الكون والحياة ، والتعرّف على أوضاع الشعوب والقبائل النائية والبعيدة ، فهل يصحّ لنا أن نجهل بعضنا البعض ، وينغلق كلّ منّا على مذهبه ومعتقداته دون أن يوسع أفق معلوماته بدراسة سائر الآراء والمذاهب ، والاطلاع على مختلف التيارات والمدارس الإسلامية؟!
وكما ينبغي لكلّ قادر واع أن يسعى للمعرفة والاطلاع ، فإنّ على اتباع المذاهب أن يعملوا لتعريف مذاهبهم وتبيين وجهات نظرهم دفعاً للتهّم والشبهات ، فالناس أعداء ما جهلوا (11).
إنّ ساحتنا الفكرية تعاني من الجمود والتقوقع والإرهاب فلابدّ لنا من نهضة ثقافية فكرية نرتفع بها إلى مستوى الانفتاح العلمي والتحرّر الفكري والتنافس المعرفي الهادف ، حتّى تتفجّر الطاقات والمواهب وتتبلور الأفكار والآراء ، ونستفيد من إيجابيات كلّ المذاهب الإسلامية لتقديم صورة مشرقة عن الإسلام العظيم للعالم ، ولبناء أسس حضارة إسلامية جديدة ترتقبها كلّ جماهير أمّتنا بشوق ورجاء.
إنّنا بحاجة إلى مؤسّسات علمية فكرية تدرّس قضايا الدين والحياة على ضوء مختلف المذاهب الإسلامية ، والى معاهد ومؤتمرات وندوات تخصّصية لمناقشة موارد الاتفاق والاختلاف بين طوائف المسلمين بروح موضوعية أخوية.
المصادر :
1- مجلة رسالة الإسلام العدد٤ ، ص٣٦٦.
2- ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين : ٥٧.
3- ـأصل الشيعة وأصولها : ١٧٨ نقلاً عن محاضرات الأدباء ٤ : ٤١٨.
4- كشف الظنون ٢ : ١٢٨١. ولعله خلط بين ابن إدريس الحلي ( ت ٥٩٨ هـ ) من كبار علماء الشيعة وبين محمّد بن إدريس الشافعي ( ت ٢٠٤ هـ ) مؤسس المذهب الشافعي.
5- كشف الظنون ١ : ٤٥٢.
6- المبادئ الشرعية والقانونية : ٣١.
7- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٣ : ٣٥ نقلاً عن المناظرات للرازي : ٢٥.
8- مقدمة إسلام بلا مذهب : ٢٩.
9- طبقات الشافعية الكبرى ٣ : ٣٧٦.
10- تاريخ ابن خلدون ١ : ٤٤٦.
11- عن الإمام علي عليه أنّه قال : ( المرءُ عدُوُّ ما جهل ) غرر الحكم للآمدي : ٢٩٤ الحكمة ٨٢٤٩.