لا شك ان نجاح النظرية التجريبية في علاج الامراض يرجع فضله الى تراكم الخبرة الانسانية لآلاف السنين. فقد حاول الانسان معرفة فسلجة الجسم البشري باعضائه الدقيقة ، ولمعت في افق الطب التجريبي اسماء جديرة بالاحترام من مختلف شعوب العالم ، امثال ( هپوكراتيس ) و ( كيلن ) الاغريقيين ، والرازي ( ت ٩٢٣ م ) وابن سينا ( ت ١٠٣٧ م ) الاسلاميين ، واطباء اوروبا امثال ( اندرياس فيساليوس ) ـ ١٥٣٨م ، و ( وليم هارفي ) ـ ١٦٠٢ م ، و ( لويس باستور ) و ( روبرت كخ ) ـ ١٨٧٦ م.
وقد تطور الطب الحديث بعد اكتشاف النظرية الجرثومية ، وما اتبعها من اكتشاف اسباب المرض ، والعدوى ، واستخدم اساليب التعقيم ، والتخدير في العمليات الجراحية. وقد جلب القرن العشرين تطورين مهمين على صعيد الطب العلاجي ، وهما استخدام المضادات الحيوية ، وفن نقل الاعضاء كالكلية والقلب.
ولا شك ان اكتشاف البنسلين كان من اهم الاكتشافات التي حصلت في هذا القرن. وكل الادوية التي اكتشفت لاحقاً وساعدت اما على شفاء الامراض او على اجراء العمليات الجراحية ، ساهمت في تطوير النظام الطبي العلاجي للامراض. ولا شك ان الاسلام شجع الطب الحديث على معالجة الامراض لسببين. الاول : الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشرع. والثاني : احترام القرآن للحياة الانسانية ، كما ورد اطلاق قوله تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) (١)
ولذلك ، فان النظام العلاجي سيكون البديل الطبيعي لمعالجة الامراض التي يعجز عن معالجتها النظام الوقائي او الغذائي ، كالكسور والجروح الناتجة من الحوادث الطارئة التي تصيب الانسان.
تصرفات المريض
والمقصود بالمريض هنا ، من اتصل مرضه بموته. والمراد بتصرفاته ، قيامه بعمل من الاعمال التي تؤثر بشكل ما على كمية الاموال التي يمتلكها وقت المرض.ولا شك ان تصرفات الفرد الصحيح بامواله ، تنفذ من الاصل ، سواء اكان التصرف واجباً كوفاء الدين ، او محاباة كالهبة والوقف ، وسواء كان التصرف مطلقاً او منجزاً اي غير معلق على الموت. واذا علق الصحيح تصرفاته على الموت كان التصرف وصية.
اما تصرفات المريض ، فان كانت معلقة على الموت فهي وصية ، وحكمها حكم وصية الصحيح. ولكن اذا تصرف المريض تصرفاً منجزاً غير معلق على الموت ، وكان فيه محاباة تستدعي ضرراً مالياً بالوارث ، كما لو تصدق ، او باع باقل من قيمة المثل ، او وهب مالاً فانه يخرج من الثلث فقط ، والزائد على الثلث لا يعد نافذاً.
بمعنى ان الشريعة الاسلامية توقف تنفيذ عمل المريض الى ما بعد الموت. اما اذا مات في مرضه ، واستوعبت الاموال المنجزة الثلث ، تكون تلك الاموال التي تصرف بها نافذة من البداية. وان ضاق الثلث عنها تبين فساد التصرف بمقدار الزائد عن الثلث ، هذا اذا امتنع الورثة عن اجازتها. ف « قد ورد في رواية علي بن عقبة عن الامام الصادق (عليه السلام) في رجل حضره الموت ، فاعتق مملوكاً ليس له غيره ، فابى الورثة ان يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه ؟ قال : ما يعتق منه الاّ ثلثه. ولهم ما بقي » (2).
و « قال الشيخ في المبسوط والخلاف وابن الجنيد والصدوق هي من الثلث واختاره المصنف والعلامة ، لوجوه :
١ ـ ان حكمة حصر الوصية في الثلث موجودة هنا وهو الاضرار بالورثة فوجب اتحاد الحكم فيها لئلا تختل الحكمة.
٢ ـ لولا ذلك لالتجأ كل من يريد اضرار ورثته الى المنجزات في مرضه فتفوت فائدة حصر الوصية في الثلث.
٣ ـ الروايات. ومنها عن ابي ولاد قال : سألت الصادق (عليه السلام) عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين فتبرئة منه في مرضها. قال : بل تهبه له فيجوز هبتها له ويحتسب ذلك من ثلثها كانت تركت شيئاً » (3).
وتشترك المنجزات مع الوصية في الامور التالية :
١ ـ ان كلا منها يقف نفوذها على الخروج من الثلث ، او اجازة الورثة.
٢ ـ ان المنجزات تصح للوارث.
٣ ـ ان كلا منهما اقل ثواباً عند الله من الصدقة في حال الصحة.
٤ ـ ان المنجزات يزاحم بها الوصايا في الثلث.
٥ ـ ان خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ، ولا بعده » (4).
وهناك فروق مفصّلة بين المنجزات والوصية ايضاً واذا اقرّ المريض ، وهو في مرض الموت لوارث او لاجنبي بدين او عين ، فينظر الى امانة المقر ، وعدم تحيزه في اقراره. وهو شرط لنفاذ اقراره من اصل التركة ، ولابد من اثبات الشرط بطريق من طرق الاثبات ، والا تعين الاخراج من الثلث.
وبطبيعة الحال ، فان تصرفات المريض وما يقوم به من اعمال ، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنظام الصحي ؛ لان النظام الصحي هو الذي يقرر نوعية المرض المتصل بالموت ، كالحالات المتأخرة من السرطان ، وفقدان المناعة المكتسبة للجسم ، ونحوها. ولذلك ، فان النظام الصحي ، ومن يمثله من اهل الخبرة من الاطباء ، هو الذي يشخص ويعين نوعية المرض المتصل بالموت ، مقدماً بذلك للفقيه اكبر الخدمات في الحكم على صحة التصرف الواجب والمستحب بمال المريض وقت مرضه المتصل بالموت.
الميت واحكامه
ومن اهم المؤاخذات على النظام الطبي الغربي ، هو ان المؤسسة الطبية الرأسمالية حصرت الموت في المستشفيات وابعدته عن البيوت والحياة العامة ، حتى تبعد المجتمع عن التأثيرات النفسية للاحتضار. فاصبحت مهمة المستشفى غير مقصورة على علاج المرضى فحسب ، بل اصبح من واجباتها تهيئة الميؤوس من حالاتهم للاحتضار. وابعاد الموت والاحتضار عن الحياة العامة له فوائد على المستوى الرأسمالي.فحصر الموت في المستشفيات يساهم في المحافظة على انتاجية الافراد ، لان التذكير بالموت بشكل مستمر يؤدي الى تقليل حجم التنافس الاقتصادي بين الافراد ، وهو يؤدي في النهاية الى تقليل انتاجية العمال في النظام الاجتماعي. ولكن هذه النظرة الرأسمالية تناقض بشكل اساسي نظرة الدين للموت والاحتضار ، خصوصاً في النظرية الاجتماعية الاسلامية.
فقد اهتم الاسلام بتكريم الفرد قبيل موته وخلال احتضارة ، فوضع آداباً للاحتضار والغسل والتكفين والصلاة والدفن. ومع ان المؤسسة الصحية الرأسمالية تسمح لرجل الدين باقامة الصلاة على الميت ودفنه على الطريقة المتبعة في ديانته ، الاّ انها تتحمل مسؤولية احتضاره لحد الموت. وهذا مخالف للنظرة الاسلامية التي تحبب احتضار الميت بين اهله وذويه ، كي يعتبر الناس بالموت ، وبه تتهذب اخلاقهم ويستقيم سلوكهم ، ويكون ادعى لتعاونهم وتآزرهم ومساعدتهم للافراد في النظام الاجتماعي.
ويعتبر الاحتضار والغسل والكفن والحنوط والصلاة والدفن من الواجبات الكفائية في الاسلام ، فاذا قام بها البعض سقطت عن الكل ، واذا تركوها كانوا محاسبين على تركها جميعاً.
وطريقة الاحتضار ، هو ان يلقى الميت على ظهره حين النزع وباطن قدميه الى القبلة. ويستحب اغماض عينيه ، وشد لحييه ، ومد ساقيه ، ويديه الى جنبيه ، وتليين مفاصله ، وتجريده من ثيابه ، ووضعه على سرير ، وتغطيته بثوب. والتعجيل بتجهيزه كما ورد في الحديث عن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم):
( يا معشر الناس لا الفين رجلاً مات له ميت ليلاً فانتظر به الصبح ولا رجلاً مات له ميت نهاراً فانتظر به الليل ، لا تنتظروا بموتاكم طلوع الشمس ، ولا غروبها ، عجّلوا بهم الى مضاجعهم يرحمكم الله ) (5).
ويغسل الميت ثلاث مرات. الاولى بالماء مع قليل من السدر. والثانية بالماء يطرح فيه الكافور ، ويستثنى من ذلك الميت المحرم. والثالثة بالماء القراح وهو الماء الخالص دون اضافة شيء اليه. وينبغي الترتيب بين الاغسال الثلاثة ، كما ينبغي الترتيب بين الاعضاء فيبدأ بالرأس مع الرقبة ، ثم الجانب الايمن ، ثم الجانب الايسر كما في غسل الجنابة والحيض والاستحاضة المتوسطة والكثيرة والنفاس. ويشترط في التغسيل نية القربى الى الله كما هو الحال في سائر الاعمال التعبدية الاخرى ، واطلاق الماء وطهارته واباحته ، وازالة النجاسة عن بدن الميت ، ثم ازالة الحاجب المانع من وصول الماء الى البشرة. والواجب في التغسيل وجود المماثل المسلم ، ومع عدمه فالمماثل الكتابي. هذا كله اذا كان الميت قد مات موتاً طبيعياً.
اما الشهيد في المعركة فيدفن بثيابه ودمائه بعد ان يصلى عليه دون تغسيل ، بشرط ان تخرج روحه في المعركة او خارجها والحرب قائمة. واذا مات بعد انتهاء القاتل وجب تغسيله حينئذٍ ، كمن مات موتاً طبيعياً.
ويجب التحنيط بعد الغسل ، وهو مسح الكافور على الاعضاء السبعة التي يسجد عليها المصلي ، وهي الجبهة ، والكفان ، والركبتان ، وابهاما الرجلين.
ويكفن الميت وجوباً بثلاث قطع. الاولى : المئزر يلفه من السرة الى الركبة ، والافضل من الصدر الى القدم. والثالثة : الازار وينبغي ان يغطي كل البدن. ويشترط في الكفن ما يشترط في الساتر الواجب في الصلاة من كونه طاهراً ومباحاً.
وتجب الصلاة على مسلم ، عادلاً كان او فاسقاً ، للحديث المروي عن الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم): ( صلوا على المرجوم من امتي ، وعلى القاتل نفسه من امتي ، لا تدعوا احداً من امتي بلا صلاة ) (6).
والمروي عن الامام الباقر (عليه السلام) : ( صلّ على من مات من اهل القبلة وحسابه على الله ) (7). وتقام الصلاة وجوباً قبل الدفن.
والواجبات ايضاً دفن الميت في الارض ، للنص المجيد : ( اَلَم نَجعَل الاَرضَ كِفاتاً اَحياءً وَامواتاً ) (8)
( مِنها خَلَقناكُم وفيها نُعِيدُكُم ) (9).
واحاديث أئمة أهل البيت (عليه السلام) : ( انما امر بدفن الميت لئلا يظهر الناس على فساد جسده ، وقبح منظره ، وتغير رائحته ، ولا يتأذى الاحياء بريحه ، وما يدخل عليه من الآفة والفساد ، وليكن مستوراً عن الاولياء والاعداء ، فلا يشمت عدوه ولا يحزن صديقه ) (10).
يجب وان يوضع الميت على جنبه الايمن مستقبل القبلة ، ورأسه الى المغرب ورجليه الى المشرق ؛ لان الاصل في هذا الحكم التأسي بالنبي (صلی الله عليه وآله وسلم)والائمة الاطهار (عليه السلام) ، كما قال الكثير من الفقهاء.
وعلى صعيد آخر ، فانه ينبغي شرعاً على من مس ميتاً ـ بعد أن برد جسده وقبل ان يغسّل ـ الاغتسال من مس الميت. وفي حالة مسه بعد موته مباشرة قبل ان يبرد الجسد فلا غسل عليه , وكذلك اذا مسه بعد انتهاء غسل الميت الشرعي. وصورة الغسل ، من مس الميت كصورة غسل الجنابة والحيض والاستحاضة المتوسطة والكثيرة والنفاس.
ولا شك ان مسؤولية المؤسسة الطبية تنتهي عند موت الفرد ، فتتكفل المؤسسة الدينية والاجتماعية القيام باحكام الميت من الغسل والتكفين والحنوط والصلاة عليه ودفنه.
وبطبيعة الحال ، فان اهتمام الافراد في النظام الاجتماعي الاسلامي باكرام الميت اجتماعياً يتناسب مع مضمون الاسلام في احترام الانسان ، باعتباره اكرم المخلوقات واجلّها عند الخالق عزوجل ، بخلاف النظرية الغربية ، التي تؤمن باحقيّة « المذهب الفردي » في الحياة الاجتماعية ، وما يترتب على ذلك من مسؤولية الفرد تجاه حياته الشخصية دون توقع مساعدة بقية الافراد له ، حتى في الشيخوخة والعجز والموت.
المصادر :
1- المائدة : ٣٢.
2- التهذيب : ج ٩ ص ١٩٤.
3- التنقيح الرائع : ج ٢ ص ٤٢٤.
4- المختلف للعلامة الحلي : ج ٢ ص ٦٦.
5- التهذيب : ج ١ ص ١٢١.
6- التهذيب : ج ١ ص ٣٤٥.
7- المجالس : ص ١٣١.
8- المرسلات : ٢٥.
9- طه : ٥٥.
10- عيون اخبار الرضا للصدوق : ص ٢٥٩.