اذا اردنا الحديث عن النظام الوقائي في الاسلام ودوره في منع نشوء الامراض يجب اتباع ترتيب النقاط التالية :
اولاً :
لما كان الفم الطريق الرئيسي لدخول الطعام الى جسم الانسان حيث تجرى عليه مختلف العمليات الكيميائية من هضم وامتصاص وتمثيل وبناء خلايا ، فان نوعية الطعام الداخل لابد وان تؤثر على سير عمليات الجسم البيولوجية. ولا شك ان بعض المأكولات قد تسبب بشكل مباشر او غير مباشر ، امراضاً تختلف شدّتها وقوة تأثيرها على الاجهزة المختلفة التي تتحد في تسيير دفة حركة الجسم.
وعلى ضوء ذلك ، فقد نظم الاسلام نوعية المواد الغذائية المأكولة فحرّم تناول لحوم الخنازير ، والدماء ، والميتة ، ما اُهلَّ لغير الله ، والكلاب ، والسباع ، والمسوخ ، والحشرات السامة ، والطيور المخلبية وغيرها في التفصيل المذكور سابقاً والحيوانات البحرية ، والاسماك التي ليس لها قشور. وحرّم الخمر ، وهو مطلق ما يسكر ، والاعيان النجسة كالابوال ، والسوائل المتنجسة ، وألبان الحيوانات المحرمة.
وحرمّ ايضاً كل الحيوانات المحرّم اكلها بالواسطة. والمدار في التحريم قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار في الاسلام ) ، بمعنى ان اي طعام ينزل ضرراً معتداً به على الفرد يحرم تناوله الا في حالة الاضطرار.
ثانياً :
ولم يتوقف الاسلام على تحديد الاطعمة المحرمة ، بل اشار الى حلية الاطعمة المباحة كلحوم البهائم الاهلية مثل البقر والغنم والماعز والابل ، ولحوم البهائم البرية كالغزلان والابقار والماعز والحمير المتوحشة ، والاسماك ذات القشور وبيوضها ، والطيور بمختلف انواعها شرط ان لا تكون مخلبية وان يكون دفيفها اكثر من صفيفها وان تكون لها حواصل وقوانص وصيص كالحمام والدجاج والدراج والبط والكروان والعصافير ونحوها.
ولما كانت اللحوم من اهم مصادر البروتينات التي لها علاقة مهمة ببناء الخلايا الجسمية ، فان حليتها قضية حتمية ، لان الفرد يصعب عليه ان يحيا على النباتات فقط دون مصدر بروتيني غني كاللحوم بنوعيها الحمراء والبيضاء. ولا شك ان حلية تناول الخضار والثمار وكل ما ينفع الجسم الانساني من مواد غذائية ، واضحة ولا تحتاج الى مزيد من التفصيل.
ثالثاً :
الاعتدال في تناول الاطعمة المحللة ، وضرورة التركيز على نوعية الطعام لا كمية. فقد اوصى الاسلام بتقليل كمية الاطعمة الداخلة الى جسم الانسان ، والاقتصار منها على ما يقيم صلب الانسان.
وأوصى بالاعتدال في تناول اللحوم ، وضرورة طبخها جيداً. واهتم بضرورة تناول الخبز بسبب احتوائه على المواد الكاربوهيدراتية التي تمنح الجسم الطاقة ، والخضار المطبوخة ، والفاكهة وخصوصاً التمور ، ومنتوجات الالبان بكافة انواعها واشكالها.
وكل هذه المواد الغذائية ، اذا تناولها الفرد باعتدال ، فانها تساعد جسمه على القيام بوظائفه الطبيعية وتساهم في تنظيم الجهاز الهضمي وتنشيط الدورة الدموية وتجنب الفرد امراض المعدة والامعاء وتصلب الشرايين وامراض الكلية والجهاز البولي.
رابعاً : ان الاصل في القاعدة الوقائية الاسلامية ، ان كل ما يعدّ فعله في العرف الاجتماعي ضرراً فهو حرام. فالمخدرات الطبيعية والصناعية التي تسبب ضرراً جسيماً بعقل الانسان ، والسموم الطبيعية ، وما يقطع العلم بكونه سُمّا يحرم تناوله باي شكل من الاشكال الا في حالة الضرورة.
خامساً :
ان قاعدة الاضطرار ، وهي ان الضرورات تبيح المحظورات ، هي من اكمل القواعد الصحية التي استهدفت التيسير والسعة وعدم الضرر ونفي الحرج على الفرد المضطر.
ولا شك ان الخوف على تلف نفس الانسان او زيادة المرض او الخشية عليه من الضعف والانهيار ، هو الذي دعا الى تشريع هذه القاعدة العظمية. ولذلك ، فان الشريعة قد اقرت بان الضرورة يجب ان تقدر بقدرها ، بمعنى ان على الفرد وقت الاضطرار تناول المواد الغذائية المحرمة بشكل يؤدي الى اجتناب الضرر فقط ولا يتعدى الى ما دون ذلك.
لان الاصل في الاضطرار هو اصلاح الضرر او الفساد المحتمل حدوثه على جسم الفرد ، وليس بناء الجسم على المادة الغذائية الفاسدة المحرمة شرعاً.
سادساً :
ومن الواضح ان تأكيد الاسلام على السواك والتخلل ينسجم منطقياً مع دعوته الصحية في الوقاية من الامراض ، خصوصاً ما يتعلق بالفم كامراض اللثة وتسوس الاسنان. ويمتاز خشب الاراك ، المنصوص باستحبابه في السواك ، على احتوائه على رائحة طيبة تطهر الفم من النكهة المتغيرة بالنوم او بالطعام. ولا شك ان السواك والتخلل وتأثيرهما على الاسنان واللثة يعتبران اساس طب الاسنان الوقائي الاسلامي ؛ وما عداهما اساس طب الاسنان العلاجي.
سابعاً :
ولا شك ان النوم وآدابه في الاسلام ، يعتبران شكلاً من اشكال التكامل النفسي الذي ينعم به الفرد في المجتمع الاسلامي. فبالاضافة الى اطمئنان الفرد على حياته وعرضه وماله بسبب قانون العقوبات الاسلامي ، فان الاسلام يتحدث عن النوم باعتباره قضية من القضايا التعبدية. فالطهارة الشخصية وذكر الله والطمأنينة التي تصحب الايمان بالخالق عزوجل تعتبر من اهم ميزات خلود الفرد للنوم ، دون الحاجة الى المواد الكيميائية التي يتناولها الفرد في النظام الرأسمالي لمساعدته على النوم.
ثامناً :
وتعتبر الطهارة المائية والطهارة العامة ـ بالاضافة الى صورتهما التعبدية ـ من وسائل الوقاية الصحية ؛ حيث تأمر الشريعة في الطهارة من الخبث كازالة البول والغائط والدم والمني بالماء المطلق ، حكمية كانت النجاسة او عينية. وفي الطهارة من الحدث يجب الوضوء او الغسل او التيمم بالتفصيل المذكور سابقاً. وتعتبر الشمس من المطهرات ايضاً للأرض وما عليها.
ولا شك ان تأكيد الاسلام على نظافة الشعر والاذنين والانف والاسنان والاظفار ، وآداب دخول الحمام ونحوه ، والكثير من المستحبات الخاصة بالتنظيف تعتبر من أهم اشكال الطلب الوقائي التي تجنب الفرد الكثير من الامراض المنقولة في الاوسط التي تفتقد الى النظافة والتطهير.
تاسعاً :
وبطبيعة الحال ، فان صيام شهر كامل من اشهر السنة القمرية من طلوع الفجر حتى الغروب يومياً ، يعتبر بالاضافة الى صورته التعبدية شكلاً من اشكال الطب الوقائي في معالجة الامراض المختصة بالجهاز الهضمي والدورة الدموية ، وشكلاً من اشكال الطب النفسي في الصبر وتقوية العزيمة والارادة. ويتضافر الشكل الطبي للصيام بالشكل الاجتماعي الذي يشجع الافراد على التآزر والمؤاخاة والتعاون على اطعام الآخرين ، فيضيف بعدا آخراً للاطمئنان الاجتماعي بين الافراد في المجتمع الاسلامي.
النظام الغذائي
ولا يمكن المواظبة على العمل والانتاج وطلب العلم ما لم يقم الفرد باتباع نظام غذائي يبعث فيه كل الوان الطاقة والنشاط والتفكير ، وعليه نبّه رب العزة بقوله : ( كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) (١)وقوله ايضاً : ( كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (٢).
ومع ان تناول الطعام في نفسه يعدّ امراً ضرورياً ، الا ان الاحاديث الواردة في اهمية تناوله ، اكدت جميعاً على ضرورة تقليل كمية المتناول منه ، واشارت الى اهمية اقتصاره على الاساسيات التي تقوي صلب الفرد وتمنحه النشاط المطلوب ، فقد ورد عن الامام جعفر بن محمد (عليه السلام) قوله :
( قلة الاكل محمودة في كل حال وعند كل قوم لأن فيه مصلحة للظاهر والباطن ) (٣).
وبطبيعة الحال ، فان الاسلام اهتم باخلاقية تناول الطعام ، واعتبر الاسلوب الجمعي في الاكل افضل من الناحية الصحية والاجتماعية من الاسلوب الفردي. فقد ورد في الروايات استحباب تكثير الايدي على الطعام عائلياً او مع ضيوف ، فعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)ورد قوله عندما سألوه « انا نأكل ولا نشبع ؟ » :
( اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه ) (٤)
وقوله (صلی الله عليه وآله وسلم)ايضاً :
( الطعام اذا جمع اربع خصال فقد تم : اذا كان من حلال ، وكثرت الايدي ، وسمي في اوله ، وحمد الله في اخره ) (5).
ولا شك ان العامل الجماعي في تناول الطعام يساعد الفرد نفسياً على حسن هضمه والاستفادة الصحيحة منه.
وورد ايضاً استحباب الدعاء قبل الأكل ، كما جاء عن امير المؤمنين (عليه السلام) في قوله لابنه الحسن :
( يا بني لا تطعمن لقمة من حار ولا بارد ، ولا تشربن شربة وجرعة الا وانت تقول قبل ان تأكله وقبل ان تشربه : « اللهم اني اسألك في اكلي وشربي السلامة من وعكه والقوة به على طاعتك وان تلهمني حسن التحرز من معصيتك فانك ان فعلت ذلك أمنت وعكه وغائله » (6).
وان يأكل باليمين ويبدأ بالملح ويختم به.
ومن آداب الشرب أن يأخذ القدح بيمينه ويقول ( بسم الله ) ويشربه مصّاً ( كما يفعل بالقصبة ) لا عبّاً للروايات. ومص الماء بالقصبة انفع من الناحية الطبية من شرب الماء بالقدح عبّاً.
وورد عن امير المؤمنين (عليه السلام) ما يلخص اهمية الالتزام بالنظام الغذائي قوله :
( لا تجلس على الطعام الا وانت جائع ، ولا تقم عن الطعام الا وانت تشتهيه ، وجوّد المضغ ، واذا نمت فاعرض نفسك على الخلاء فاذا استعملت هذا استغنيت عن الطب ) (7).
وعن رسول الله (صلی الله عليه وآله وسلم)قول في تنظيم كمية الطعام :
( ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن ، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه فان غلبت الآدمي نفسه ، فثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس ) (8).
اذن فان قلة الطعام ، ودرجة حرارته ، وتقديم الملح ، ومص الماء ، والأكل مجتمعاً مع الآخرين ، واطالة الجلوس ، كلها تساهم في تنظيم الجهاز الهضمي ، وتنشيط القلب ، وتجنب امراض المعدة والامعاء وما يتعلق بالجهاز الهضمي والقلب والشرايين وامراض الكلية والجهاز البولي.
ومن أجل فهم مقاصد الشريعة في رسم صورة النظام الغذائي الاسلامي ، لابد لنا من دراسة آداب المائدة ، واستحباب تناول الحبوب والفاكهة والخضار ، والاعتدال في تناول اللحوم المحلل أكلها ، والتذكية الشرعية ، والنظام الشفائي في العسل.
المصادر :
1- المؤمنون : ٥١.
2- البقرة : ١٧٢.
3- مصباح الشريعة ـ الباب الرابع والثلاثين : ص ٧٧.
4- سنن ابن ماجة : رقم ٣٢٨٦.
5- الكافي : ج ٦ ص ٢٧٣.
6- مكارم الاخلاق : ص ١٦٤.
7- الخصال : ج ١ ص ١٠٩.
8- سنن ابن ماجة القزويني : رقم ٣٣٤٩.