
جاء في كتاب الفقه الإسلامي وأدلّته للدكتور وهبة الزحيلي ، رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق : لا يجوز للرجل في مذهب أهل السنّة أن يتزوّج أكثر من أربع زوجات في عصمته في وقت واحد ، ولو في عدّة مطلقة إلى أن يقول : وذهب الظاهرية والإمامية إلى أنّه يجوز للرجل أن يتزوّج تسعاً ، أخذاً بظاهر الآية : (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) (١) ، فالواو للجمع لا للتخيير ، أي يكون المجموع تسعة (٢).
وما نسبه الدكتور الزحيلي إلى الشيعة هذه المسألة ، هو نموذج للاعتماد على النقولات والإشاعات ، دون الرجوع إلى مصادر الجهة ذاتها.
فمصادر الشيعة في التفسير والحديث والفقه ، مجمعة على عدم جواز الزواج من أكثر من أربع زوجات بالزواج الدائم في وقت واحد ، كما هو رأي أهل السنّة.
فمن أقدم التفاسير الشيعية جاء في التبيان في تفسير القرآن ، للشيخ محمّد ابن الحسن الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ ) ، ما يلي : ومن استدل بهذه الآية (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) على أن نكاح التسع جائز فقد أخطأ لأنّ ذلك خلاف الإجماع ... فتقدير الآية :
(فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ ) (٣)
فثلاث بدلاً من مثنى ، ورباع بدلاً من ثلاث (٤).
وجاء في مجمع البيان في تفسير القرآن ، للشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي ، من أعلام القرن السادس الهجري ، ما يلي : وقوله : (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) : معناها اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، فلا يقال إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح التسع ، فإن اثنين وثلاثة وأربعة ، تسعة ، لما ذكرناه ، فإنّ من قال دخل القوم البلد مثنى ، وثلاث ، ورباع ، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول ، ولأنّ لهذا العدد لفظاً موضوعاً ، وهو تسع ، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي ، جلّ كلامه عن ذلك وتقدّس (5).
وإلى أواخر التفاسير الشيعية حيث جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ما يلي : ولابدّ من التنبيه إلى أنّ ( الواو ) هنا أتت بمعنى ( أو ) فليس معنى هذه الجملة هو أنّه يجوز لكم أن تتزوّجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات ، لأنّ المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول : وانكحوا تسعاً ، لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطّعة المبهمة.
هذا مضافاً إلى أنّ حرمة الزواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإسلامي ، وأحكامه القطعية المسلّمة (6).
ومصادر الفقه الشيعية أيضاً كلّها تنصّ على ذلك ، فمن أين أتى الدكتور الزحيلي بهذه النسبة للشيعة؟ فهو لم ينسبها إلى مصدر محدّد ، ولم يقل إنّ عالماً معيّناً من الإمامية يقول بذلك ، بل نسبها للإمامية بأجمعهم ، وأرسل النسبة إرسال المسلمات ، وحينما راجعنا ثبت المصادر التي اعتمدها للفقه الشيعي والمذكورة في المجلد الأخير ، وجدنا أنها أربعة مصادر هي الكافي للكليني ، وهو كتاب حديث لا فقه ، والمختصر النافع في فقه الإمامية والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ومفتاح الكرامة للحسيني العاملي ، وبالرجوع إلى هذه المصادر الأربعة تبيّن عدم وجود ما يدل على تلك النسبة إلى الشيعة فيها؟!
معطيات الحوار مع الآخر :
ـ بالحوار يتأكّد الإنسان ويتحقّق من صحّة رأيه وموقفه ، فقد تسيطر على ذهنه فكرة ، أو يبدو له رأي يرتاح له ، غير ملتفت إلى ثغرات تلك الفكرة ، أو نقاط ضعف ذلك الرأي. ولكنّه حينما يواجه الرأي الآخر ، والطرف الآخر ، بما لديه من نقد وملاحظة واعتراض على رأيه ، وبما يقدّمه من رأي بديل ، له أدلّته وحججه ، فيكون ذلك مدعاةً له للتفكير والتحقّق ، ما يؤدّي إلى تعميق رأيه ، وازدياد ثقته في موقفه ، أو إلى تراجعه عنه إن اكتشف خطأه.
يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ (7).
ـ وبالحوار يقدّم الإنسان نفسه ورأيه للآخرين ، فيتعرّفون على حقيقة موقفه ، ويطلعون على منطلقاته ومبرّراته ، فتكون صورته واضحة أمام الآخرين ، وتزول الالتباسات والشكوك. يقول الإمام علي عليه السلام : تكلّموا تعرفوا فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه (8).
وفي المقابل تتاح للإنسان ، عبر الحوار ، فرصة التعرّف على الآخرين وآرائهم ، فيكون انطباعه وتقويمه للرأي الآخر أكثر واقعية وصدقاً.
ـ والحوار هو الصحيح والأمثل للتبشير بالرأي والموقف الذي يؤمن به الإنسان ، ذلك لأنّ الرأي لا يفرض بالقوة ، وإنّما بالاقناع ، والذي لا يتحقّق بشكل عميق إلّا بالحوار.
لذا كان الحوار هو منطق الأنبياء والرسل والأئمّة والمصلحين ، حيث كانوا يعرضون رسالات الله ، ويبلّغون أحكامه للناس ، مع إتاحة الفرصة للنقاش والأخذ والردّ ، لكي يندفع الآخر بقناعة وإخلاص لتقبل دين الله وأمره.
يقول تعالى :
(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (9).
الموضوعية وترك التعصّب :
حينما يبذل كلّ مجتهد جهده لاستنباط الحكم الشرعي ، وتختلف النتائج التي يصل إليها المجتهدون ، وتتعدّد آراؤهم في المسألة الواحدة إلى حدّ التضاد ، حيث يرى البعض إباحة شيء ، بينما يرى آخرون وجوبه ، بل قد يكون الأمر دائراً بين الوجوب أو الحرمة ، فهنا ، أين هو حكم الله الواقعي في المسألة؟
لقد بحث العلماء إلى القول بالتصويب ، وأطلق عليهم المصوّبة ، حيث يرون أنّ نتيجة أي اجتهاد هي نتيجة صائبة ، وأنّ حكم الله تعالى في المسألة الاجتهادية ، هو ما اهتدى إليه المجتهد باجتهاده ، وليس لله فيها حكم معينّ من قبل ، فكلّ ما يصل إليه اجتهاده فهو الصواب ، وبهذا ينتهون إلى تصويب كلّ مجتهد ؛ أو أنّ لله حكماً معيناً إلّا أنّه لم يكلّف بإصابته ، ويكون ما ينتهي إليه منه مصيباً فيه وإن أخطأ (10).
وعمّم بعضهم ذلك ، حتّى شمل به القضايا العقلية العقيديّة ، حيث ذهب إلى أنّ الحق ، حتّى في العقائد ، غير متعيّن ، وأنّه يتعدّد ، وهو ما يصل إليه كلّ مجتهد باجتهاده ، فيكون كلّ مجتهد حتّى في العقليات والعقائد مصيباً (11).
لكن رأي أغلب علماء الأُمّة بمختلف مذاهبها ، هو القول بالتخطئة ، ومفاده أنّ لله تعالى أحكاماً معيّنة في كلّ مسألة اجتهادية ، فمن هداه اجتهاده إلى ذلك الحكم فقد أصاب ، وإلّا فهو مخطئ ، وهو معذور ومأجور في الحالين.
وبناء على ذلك ، فإنّه حين تتعدّد آراء المجتهدين في مسألة ما ، فهناك احتمالان لا ثالث لهما :
الاحتمال الأول : أنّ جميع تلك الآراء خاطئة ، لا يعبّر شيء منها عن الحكم الشرعي.
الاحتمال الثاني : أنّ رأياً واحداً فقط من بين تلك الآراء قد أصاب الحكم الشرعي وما عداه فهو خاطئ.
وإذا كان اختلاف الفتاوى وتعدّد الآراء أمراً طبيعياً له مبرّراته وأسبابه ، إلّا أنّه قد يمكن التقليل من ذلك ، وتقريب وجهات النظر ، والاتفاق على قسم لا بأس به من القضايا الدينية ، والمسائل الشرعية ، عندما تسود الأجواء العلمية وأوساط العلماء أخلاقيات وضوابط الاختلاف.
وفي طليعة تلك الأخلاقيات والضوابط ، الموضوعية في البحث ، والتجرّد والإخلاص للحقيقة ، وترك التعصّب.
إنّ من أسوأ الآفات والأمراض التي تضرّ بالدين والعلم ، وتفتك بالعلماء ، هو مرض التعصّب للرأي ، بأن يتشبّث الإنسان برأيه ، ويتمسّك بموقفه ، وكأنّه يمثّل وجوده وشخصيته واعتباره.
فهو غير مستعدّ للمناقشة والحوار ، وإذا ما ناقش ، فمع التصميم على عدم التنازل عن رأيه ، وإن اتّضح له مخالفته للحقّ ، ويتمحّل التبريرات ، ويفتعل الأدلّة ، للدفاع عن رأيه ، ويكابر ويعاند حتّى مع تجلي الحقيقة له.
وهذه الصفة السيئة تتنافى مع حقيقة العبودية لله تعالى ، حيث يصف الله عباده بقوله :
(فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (12).
جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : عن أبي الربيع قال : قلت : ما أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان؟ قال : الرأي يراه مخالفاً للحق فيقيم عليه (13).
وقد يتعصّب الإنسان لمذهبه ، ويدافع عنه دفاع المستميت مع معرفته بخطأ ذلك.
ومع تشكل الحركات والأحزاب ، في الساحة الإسلامية ، أصبح لدينا لون جديد من التعصّب ، هو التعصّب الفئوي الحزبي ، حيث يتقيّد المنتمي بآراء ومواقف فئته وجماعته ، وإن كان مخالفاً للشرع أو للمصلحة العامة.
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : من تعصّب عصّبه الله بعصابة من نار (14).
المصادر :
1- النساء : ٣.
2- الفقه الإسلامي وأدلّته ٧ : ١٦٦.
3- النساء : ٣.
4- التبيان ٣ : ١٠٧.
5- مجمع البيان ٣ : ١٥.
6- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ٣ : ٩١.
7- نهج البلاغة ٤ : ٤٢ ، قصار الحكم ١٧٣.
8- المصدر السابق : ٩٣ ، قصار الحكم ٣٩٢.
9- النحل : ١٢٥.
10- الاجتهاد أصوله وأحكامه ٢٠٢.
11- المصدر السابق : ٢٠١.
12- الزمر : ١٧ ـ ١٨.
13- معاني الأخبار : ٣٩٣ ، الحديث٤٢ ، باب نوادر المعاني.
14- الكافي ٢ : ٣٠٨ ، الحديث٤ ، باب العصبيّة.