
كان لاستشهاد الإمام الحسين عليهالسلام بهذه الصورة المأساوية نتائج خطيرة في تاريخ العراق والدولة الأموية عامة. فقد عاشت الشيعة بشكل خاص ، والمسلمين بشكل عام عقدة الذنب مثقلاً بمرارة الموقف الانهزامي الذي وقفته إزاء كربلاء.
وتحرّج النظام الأموي الذي لم يقدر فظاعة المأساة ، وكان عليه أن يجابه نتائجها السريعة والمستقبلية التي أخذت تنعكس منذ ذلك الحين على بنية هذا النظام.
وليس ثمة شك في أن ـ يزيد ـ كان المسؤول الأوّل والأخير عن مجزرة كربلاء ، وكان مسوقا إلى ارتكابها بدافع ما كان يمتلئ به صدره من حقد ، وغيظ وحسد ، للإمام الحسين عليهالسلام ، وللهاشميين عموما باعتباره امتدادا لذلك الأسن الأموي الجاهلي مما غيّب عنه الرؤيا الصحيحة للواقع السياسي كما كان ذلك علامة وسببا لفشله في تبوّء مركز السلطة ، ذلك المركز الذي بذل في سبيله أبوه الطليق الباغي معاوية كل إمكانياته ، وصرف كل جهوده من أجل الحفاظ عليه (١).
كانت مأساة كربلاء لا تزال ماثلة في أذهان أهل الكوفة بالذات ، وكان كثير منهم يشعرون بالندم ، ويعتبرون أنفسهم مسؤولين عن دم الإمام الحسين عليهالسلام وآل بيته وأنصاره ، وباتوا يتطلّعون إلى الأخذ بثاره ، فأخذوا يبحثون عن زعيم يقودهم لتحقيق هذا الغرض.
فأدرك المختار هذه الحقيقة ، ورأى أن يكون هو ذلك الزعيم المنشود ، فقد ذكر المسعودي : « أنه بعد استقرار المختار في الكوفة ، راح يبكي على الطالبيين ، وشيعتهم ، ويحثّ على أخذ الثار لهم ، والمطالبة بدمائهم ، فمالت الشيعة إليه ، وصاروا من جملته لاحقا » (2).
إلاّ أنه لاحظ أن عدد الذين التفّوا حوله ، لا يمكنه بهم أن يحقِّق أهدافه مع انضمام الكثير إلى حركة التوابين التي قادها سليمان بن صرد الخزاعي (3) ، وأربعة من كبار زعماء الكوفة ، وهم : المسيب بن نجبة (وكان اسمه في الجاهلية (يسار). سماه رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، سليمان وكان خيرا فاضلاً ، له دين وعبادة ، وشرف وقدر في قومه. شهد صفين مع الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام ، وكان ممن كتب إلى الإمام الحسين عليهالسلام ، يسأله القدوم إلى الكوفة ، فلما قدمها ترك القتال معه ضد المعتدين ، ثم ندم على ذلك ، وقد روى عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعن الإمام علي عليهالسلام. ) الفزاري ، وعبد اللّه ابن سعد بن نفل الأزدي ، وعبد اللّه بن وائل التميمي ، ورفاعة بن شدّاد البجلي ، الذين هيَّأوا مستلزمات الثورة من جمع الأسلحة واستمالة الناس ، كما واتفقوا على أن يعقدوا لقاءات دورية لتقويم النشاطات التي قاموا بها ، والانجازات التي حققوها ، ومن ثم لتحديد موعد للخروج وإعلان الثورة ، واستقرّ رأيهم على أن يكون التجمع في النخيلة ، في نهاية ربيع الآخر من سنة ٦٥ للهجرة (4) ومن هنا فإنّنا نعتقد أن سبب اجتماع هذه النخبة يعود إلى :
١ ـ الشعور بهول المأساة ، وفداحة الإثم.
٢ ـ الإسراع باتخاذ موقف انتقامي من المسؤولين عن مقتل الإمام الحسين عليهالسلام ، سواء الأمويين ، أم المتواطئين معهم.
٣ ـ الإلحاح في طلب التوبة عن طريق التضحية بالنفس.
٤ ـ إنقاذ الأمة الإسلامية من جور وطغيان الأمويين اللامتناهي.
٥ ـ فضح بني أمية وإظهارهم على حقيقتهم الظالمة وكما هو حالهم حيث تمسّكهم بالحكم والكرسي ، وهذا معناه أنهم لا يعترفون بدين ، ولا بشريعة ، وأنهم على استعداد تام أن يفعلوا أي منكر وقبيح ما داموا لا يعترفون بجنّة ولا بنار.
٦ ـ تحريك عواطف المسلمين من أجل تكوين حركات كفاحية أُخرى ضد جبروت المملكة الأموية ، لأنّ التصميم على الكفاح ينتج عنه ضرورة التغيير.
ومهما كان شكل هذا الاجتماع المحفوف بالخطر ، فإنّه أفضل من الانتظار الجامد.
كانت سنة خمس وستين للهجرة (٦٨٤م) ، قد حلّت وفي هذه السنة انتقلت ثورة التوابين من محتواها التخطيطي ، وإطارها التبشيري إلى مرحلة التنفيذ الحاسم. وكان من شعارات التوابين التي كثر ترديدها حينئذٍ :
« من أراد الجنّة فليلتحق بسليمان في النخيلة ».
« من أراد التوبة فليلتحق بسليمان .. » (5).
إلى غير ذلك من الشعارات التي لم تخرج عن إطار الغفران والتكفير عن الذنب.
وبعد تشاورٍ ، رأى زعماء الحركة ، أن قتلة الإمام الحسين عليهالسلام ، موزعون في أنحاء الأرض ، وليس سهلاً أن تطالهم سيوف التوابين كما يتصور البعض ، لذلك ارتأوا أخيرا أن تكون الشام ـ قاعدة الطغيان ـ والمسؤولة قبل أي أحد عن مقتل الإمام الحسين عليهالسلام ، وفي رأيهم أن النظام هو الذي ينبغي أن يحاسب وليس الأشخاص (6) لأنّ أولئك القتلة كانوا فقط الأداة التي نفّذت الأوامر ، وقامت بما طلب منها بأبشع ما يكون.
وبعد هذا كله غادر التوابون الكوفة ليلة الجمعة في الخامس من ربيع الثاني سنة ٦٥ هـ التاسع عشر من تشرين الثاني سنة ٦٨٤م ، ووجهتهم (النخيلة) ، المكان الذي ستلتقي فيه وفود المتطوعين الذي تعاهدوا على الالتحاق بإخوانهم في الموعد المحدد.
وبعد إقامة سليمان ورفاقه أياما ثلاثة (7) ، في المعسكر لم تكن الاستجابة بالمستوى المقدَّر لها ، وانخفض العدد الذي التزم بالخروج مع زعيم الحركة إلى الربع تقريبا ، حيث قدر أن آخر ما وصل إليه تجمع التوابين في النخيلة لم يتجاوز الأربعة آلاف مقاتل (8) ، وربما انخفض إلى ثلاثة آلاف وثلاثمائة مقاتل (9) إبان المعركة الفاصلة ، وكان من أبرز المتخلفين شيعة المدائن والبصرة (10) ، فضلاً عن تخلّف عدد غير قليل من شيعة الكوفة.
وما كان لعزوف الكثيرين عن تلبية دعوة سليمان في (النخيلة) ، أي تأثير على معنويات زعماء الحركة أو أي انعكاس على عزائمهم الثابتة.
فقد بلغ بهم الإيمان حدّا جعلهم لا يفكرون إلاّ بالهدف الذي خرجوا من أجله ، ولن يعيقهم عن الحقيقة عائق مهما بدت الطريق إليه صعبة وشائكة. ثم كانت وفاة يزيد وما تبعه من انقسام بني أمية.
فاعتبرها التوابون نصرا لهم ، وظن ابن صرد ، أن وفاة الطاغية الملعون يزيد ستؤدي إلى التفاف الناس حوله ، فما يكتب لحركة التوابين النصر.
تقدم (التوابون) ، حتى بلغوا قبر الإمام الحسين عليهالسلام ، وهناك استرحموا عليه ، وبكوا بكاءً مرا ، وهم يردّدون في خشوع :
« اللهمّ إنا نشهدك على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبّيهم ، اللهمّ إنا خذلنا ابن بنت نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فاغفر لنا ما مضى منا ، وتب علينا ، وارحم حسينا وأصحابه الشهداء الصديقين ، وإنا نشهدك إنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
وبقي سليمان آخر من بقي من أصحابه يتضرّع عند القبر الشريف ، ويستغفر لذنوبه ، ويأتي آخر وهو (وهب بن زمعة) فيبكي الحسين بأبيات (عبد اللّه بن الحر الجعفي) كأنه أراد أن يواسي أميره بالبكاء واللوعة والتوبة :
تبيت النشاوى من أُمية نوما / وبالطف قتلى ما ينام حميمها
فأقسمت لا تنفك نفسي حزينة / وعيني تبكي لا تجف سجومها
حياتي أو تلقى أُمية خزية / يذلّ لها ـ حتى الممات ـ قروحها
ثم ساروا إلى الأنبار ومنها إلى قرقيسيا ، وكان بها زفر بن الحارث الكلابي عامل ابن الزبير ، فقدم لهم المال والمؤن ، وعرض عليهم البقاء في قرقيسيا وتوحيد جهودهم ليسهّل لهم القضاء على ابن زياد ، ولكن ابن صرد أصرّ على المسير لقتال ابن زياد قاتل الإمام الحسين عليهالسلام.
وكان ابن زياد في طريقه إلى قرقيسيا فأتته الأنباء بوفاة مروان بن الحكم ، وتولّيه ابنه عبد الملك ، الذي أرسل إليه يقرّه على ما ولاّه أبوه مروان ، فسار ابن زياد حتى لقى (التوابين) ، عند عين الوردة (11) فطلب منهم أن يبايعوا الخليفة الأموي الجديد عبد الملك ، فردّ عليه ابن صرد طالبا منه الاستسلام ، كما دعا جند الشام إلى خلع عبد الملك ومساعدة التوابين في إخراج عمال ابن الزبير من العراق ، وتسليم الأمر إلى أهل بيت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم (12) وكأن التوابين كانوا يعبرون تماما في ذلك الحين عن آراء المختار ومبادئه ، فقد كان المختار يدعو إلى القضاء على كل من النفوذين الأموي والزبيري بالعراق ، كما يدعو إلى إقامة خلافة علوية ، ولكن التوابين والأمويين أبوا إلاّ أن يقاتلوا في سبيل الأغراض التي خرجوا من أجلها.
وكان من البديهي ، أن يرفض القائد الأموي شروط زعيم التوابين ، وكان معنى ذلك أن الحرب أصبحت وشيكة الوقوع.
وفعلاً اندفع التوابون من مواقعهم بقيادة سليمان بن صرد ، والتحموا مع قوات الحصين بن نمير السكوني ، والأموية التي تفوقهم كثيرا في العدد ، وذلك في يوم الأربعاء في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة ٦٥ هـ (٤ كانون الثاني ٦٨٥م) بعد خمسة أيام من نزولهم في (عين الوردة) (13).
ويظهر من سير الاشتباكات الأولية ، أن وضع (التوابين) ، ـ برغم قلّتهم العددية ـ كان جيدا ، ومعنوياتهم بارتفاع دائم ، أما الحماس فقد بلغ حدّا لا يوصف ، وكانت تستثيره نداءات سليمان في صخب المعركة فتزيده التهابا وتأجّجا : «يا شيعة آل محمد ، يا من يطلبون بدم الشهيد ابن فاطمة ، أبشروا بكرامة اللّه عزّوجلّ ، فواللّه ما بينكم ودخول الجنّة ، والراحة من هذه الدنيا إلاّ فراق الأنفس ، والتوبة ، والوفاء بالعهد) ، وفي وسط المعمعة كان صوت سليمان يخترق الأذان مردّدا : «عباد اللّه ، من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه ، والوفاء بعهده فإليّ» (14).
وكانت هذه الكلمات آخر ما ردّده القائد التوّابي وهو يشقّ بسيفه صفوف الأمويين بكلّ جرأة ، ورباطة جأش.
وانتهت معركة عين الوردة بقتل سليمان بن صرد ومعظم أصحابه (15).
وهكذا أخفقت ثورة التوابين في تحقيق أهدافها وتحطّمت قوتها الأساسية في (عين الوردة) للأسباب التالية :
١ ـ الاختلال الظاهر في ميزان القوى بين الجيش الأموي والتوابي ، حيث كان عدد أفراد الجيش التوابي ، أربعة آلاف ، أو أقل. في حين تجاوز تعداد الجيش الأموي العشرين ألفا (16) وهناك تقديرات أخرى تشير إلى أن الجيش الأموي بلغ الستين ألفا (17).
هذا مع عدم وفاء بعض القبائل العربية بعهودها لقاء الثورة بسبب الضغوط الأموية أو بسبب رشوتهم. حيث قيل أن عدد متطوعي ثورة التوابين ارتفع إلى نحو عشرين ألفا ، قبل الشروع في المعركة ، في حين أن الذين اشتركوا مشاركة فعلية في تلك المعركة قدر عددهم بأربعة آلاف ، أو أقل بكثير.
٢ ـ عدم قضاء الثوار على زعماء الكوفة ، والموالين للأمويين والذين قد شاركوا مشاركة فعلية في قتل الإمام الحسين عليهالسلام وأهل بيته وأنصاره ، أولئك الزعماء ، باتوا يعملون المستحيل للحيلولة دون التحاق المزيد من الثوار بحركة سليمان بن صرد.
٣ ـ عدم تعاون الثوار مع ابن الزبير والذي كان يسعى هو الآخر للإطاحة بالأمويين أيضا. إذ كان من الممكن أن يمدّهم بشيء من أسباب الانتصار كما انهم لم يتحالفوا مع المختار ، كما يقتضي الحال بوحدة هدفهم (الأخذ بثار الإمام الحسين) ، والحق أننا لم نقف على سبب يحول دون تحقيق ذلك التحالف ، وبإمكاننا أن نعلّل ذلك بتأثير جماعة سليمان بما روّجه الأمويون من كون المختار كان يهدف إلى الوصول للسلطة.
٤ ـ كان الإعلام للثورة ضعيفا جدا ، إذ انحصر موطنه في الكوفة وأطرافها ، ولم يتعدَّ هذه الحدود ، ولو كان قد امتدّ إلى ما وراء تلك الحدود لجذب أنصارا آخرين لصفوف الثورة.
٥ ـ عدم اهتمام الثوار بالقاعدة ، فلو سيطر سليمان على الكوفة سيطرة كاملة لكانت فرص النجاح بالنسبة إليه أكثر ، لكنه فكر في رأس عبيد اللّه وجعله الهدف الأساسي لثورته.
٦ ـ كان يفترض بسليمان أن يحارب الانحراف السائد في مجتمعه ، وبالتالي أن يهيء المجتمع للقيام بالثورة. وبمعنى أدقّ كان عليه أن يحارب من أجل الأهداف التي خرج بسببها الإمام الحسين عليهالسلام.
٧ ـ لم يعتمد سليمان على الموالي المعروفين بحبّهم وولائهم لآل البيت إذ كانوا يشكّلون الأكثرية المسحوقة ، والمحرومة ، والمستضعفة في الكوفة قاعدة الثورة ، كما فعل المختار في ثورته.
وعلى أية حال : تبقى عدّة أسئلة تدور في الذهن حول أهم الأسباب التي أدّت إلى اندلاع ثورة التوابين منها :
هل إن التوابين نهضوا بوحي من آل الزبير الذين كانوا ـ بلا ريب ـ يودّون في قرارة أنفسهم أضعاف بني أمية والقضاء على حكمهم؟ أم أنهم ثاروا بتحريض من بعض الأحزاب المعارضة للدولة الأموية آنذاك ، ولو كانت الدعوة العباسية في بدايتها لاحتملنا أن تكون هذه الحركة من تحريضها فعلى هذا التقريب لم تكن هذه المحتملات صحيحة ولا قريبة من الواقع.
وإتماما لذلك نرى أن احتمالاً أخيرا قد يخطر على الذهن يتعلّق
بسليمان بن صرد ـ زعيم الحركة ـ كونه المؤثّر الخارجي على هؤلاء الجماعة لأجل أن يستغلّها للحصول على السيطرة أو الزعامة ، ولكننا نقول على الفور من أن هذا الاحتمال باطل كسوابقه حيث أن التاريخ لم يذكر لنا هذا الاحتمال الذي يمكن بسهولة أن يتقول به الأمويون وهم في سلطانهم بعدما فشل سليمان في حركته وقتل ، ومعروف ما في الأمويين من صفة التهريج والتشنيع على معارضيهم ، فالذين يتّهمون الإمام الحسين ـ ابن بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ بأنّه خارجي فمن السهل إذن أن يتّهموا سليمان بأشنع التهم وأفظعها ، وعلى هذا فإنّ سليمان بريء من احتمال حيازة السلطة أو الزعامة إلى نفسه ، وحقيقة الأمر كما نرى أنه رجل كسائر التوابين غير أنه امتاز عليهم بالحنكة السياسية والدهاء العسكري ، ولذا وقع عليه الاختيار وتزعّم الحركة التوابية.
وعلى الرغم من فشل ثورة التوابين لكنها أعطت الغذاء والقاعدة لثورة المختار فيما بعد.
بوادر ثورة المختار
بعد أن خرج سليمان بن صرد الخزاعي ، واتباعه لقتال ابن زياد ، وأهل الشام ، أثارت نشاطات المختار شكوك قادة الكوفة ، الذين كان كثير منهم قد شارك في قتل الإمام الحسين عليهالسلام.
فقد حذروا الوالي الزبيري من المختار قائلين : «أن المختار أشد عليكم من سليمان بن صرد. أن سليمان إنّما خرج يقاتل عدوكم ، ويذللهم لكم ، وقد خرج عن بلادكم ، وأن المختار ، إنّما يريد ، أن يثب عليكم في مصركم».
ولو حللنا مضمون تحذير زعماء الكوفة للوالي الزبيري من المختار لاستنتجنا ، أن من وراء هذا التحذير أسبابا خاصة منها :
١ ـ أن أغلبهم كانوا متهمين بالاشتراك مع النظام الأموي في واقعة الطف. وبما أن المختار ، توعّد كل من اشترك ، أو قام بالتواطئ على قتل الحسين عليهالسلام ، فمن مصلحتهم والحال هكذا ، أن يحذروا الوالي من تحرك المختار.
٢ ـ لعلّ والي الكوفة هو الذي بثّ مثل هذا الخبر ، خوفا على منصبه الذي سيخرجه منه المختار رغم أنفه فيما بعد ، ولخشيته أن لا يُحرج مع ابن الزبير في حالة تعاطفه مع المختار.
٣ ـ أو ربما أن ابن الزبير هو الذي كلّف زعماء الكوفة لإشاعة مثل هذا الخبر ، للإيقاع بالمختار ، لتخوّفه منه ، إذ قد يعد المختار جيشا ويزحف به إليه ، ويقصيه عن عرشه.
ونتيجة لذلك قُبِضَ على المختار وسجن ، حيث بقى حتى رجوع أتباع سليمان بن صرد من المعركة (عين الوردة) ، ٦٣ه ، التي استُشهد فيها سليمان ومعظم أتباعه ، ولما قدم أصحاب سليمان بن صرد من الشام ، كتب إليهم المختار من الحبس :
« أما بعد : فإنّ اللّه أعظم لكم الأجر ، وحطّ عنكم الوزر ، بمفارقة القاسطين ، وجهاد المحلين ، إنكم لن تنفقوا نفقة ، ولم تقطعوا عقبة ، ولم تخطوا خطوه ، إلاّ رفع اللّه لكم بها درجة ، وكتب لكم حسنة ، فابشروا فإنّي لو خرجت إليكم ، جرّدت فيما بين المشرق والمغرب من عدوكم بالسيف بإذن اللّه ، فجعلتهم ركاما ، وقتلتهم فردا ، وتوأما ، فرحم اللّه لمن قارب واهتدى ولا يبعد اللّه إلاّ من عصى وأبى ، والسلام يا أهل الهدى » (17).
فلما جاء كتابه ، وقف عليه جماعة من رؤساء القبائل وأعادوا الجواب : « قرأنا كتابك ، ونحن حيث يسرك ، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك من الحبس فعلنا ». فأخبره الرسول ، فسرّ باجتماع الشيعة له ، وقال : « لا تفعلوا هذا فإنّي أخرج في أيامي هذه » ، وكان المختار قد بعث إلى عبد اللّه بن عمر بن الخطاب : « أما بعد فإنّي حبست مظلوما ، وظن بي الولاة ظنونا كاذبة ، فأكتب فيّ رحمك اللّه إلى هذين الظالمين ، وهما عبد اللّه بن يزيد الخطمي ، وإبراهيم ابن محمد ، كتابا عسى اللّه أن يخلّصني من أيديهما بلطفك ومنِّك ، والسلام عليك » (19).
فكتب إليهما ابن عمر : « أما بعد فقد علمتما الذي بيني وبين المختار من الصهر ، والذي بيني وبينكما من الودّ ، فأقسمت عليكما لما خلّيتما سبيله ، حين تنظران في كتابي هذا والسلام عليكما ، ورحمة اللّه وبركاته » (20).
فلما قرءا الكتاب ، طلبا من المختار كفلاء فأتاهم بجماعة من أشراف الكوفة ، فاختار منهم عشرة ضمنوه ، وحلفوه أن لا يخرج عليهما ، فإن هو خرج فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ، ومماليكه كلهم أحرار. فخرج وجاء داره.
قال حميد بن مسلم ، سمعت المختار يقول : « قاتلهم اللّه ما أجهلهم ، وأحمقهم حيث يرون أني أفي لهم بايمانهم هذه. أما حلفي باللّه فإنّه ينبغي إذا حلفت يمينا ، ورأيت ما هو أولى منها أن أتركها ، وأعمل الأولى ، وأكفر عن يميني ، وخروجي خير من كفيّ عنهم ، وأما هدي ألف بدنة فهو أهون علي من بصقة ، فوددت أن يتمّ لي أمري ولا أملك بعده مملوكا أبدا (21).
ويبدو لنا ، أن المختار كان قد حلف على أساس من التقوى ، وهو مضطر معتمدا على فحوى قوله تعالى : (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْءَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (22) وهنا يجب أن نلتفت إلى أمرين ، هما :
الأمر الأول : أنّ المختار كان متعطّشا لملاقاة قتلة الإمام الحسين عليهالسلام ، خاصة وأنّه قد أحسّ بأنّهم أمنوا الطلب ، وأن الناس قد هرمت قلوبهم ، وقد استسلموا للكسل في طلب ثار آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعليه فقد أراد أن يكسب وقتا ليحرّك فيه الناس ويدبر دوافع الثورة والثأر.
الأمر الثاني : استهانة المختار بملك الدنيا ، والمتمثل بالمال والعبيد الذين كان يملكهم.
على أية حال ، استقرالمختار في داره ، واختلف إليه الناس ، واجتمعت عليه ، واتفقوا على الرضا به ، وكان قد بويع له وهو في السجن ولم يزالوا يكثرون ، وأمرهم يقوى ويشتد. وقد أدرك عبد اللّه بن الزبير في هذا الوقت خطر المختار وحركته ، فعيّن واليا جديدا على الكوفة هو عبد اللّه بن مطيع. الذي قدمها في ٢٧ رمضان سنة ٦٥ (٦ مايس سنة ٦٨٥م) وقد مكن قدوم هذا الوالي الجديد ، المختار من العمل بحرية أكثر ، إذ لم تكن بينهما أية ارتباطات أو عهود (23).
وفي خطبته الأولى أخبر ابن مطيع أهل الكوفة بأنّه سيسير معهم بسيرة عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وحذّرهم من الفرقة وإثارة المتاعب (24).
وعلى الرغم من ذلك فقد عارض الكوفيون هذا الوالي علنا ، حتى أجبروه على التراجع فأعلن في النهاية أنه سيتّبع السياسة التي تعجبهم (25).
لقد ظهرت هذه المعارضة العلنية للوالي الجديد بصورة واضحة ، وعدم إطاعتهم لعبداللّه بن الزبير ، وكذلك عكست القوة التي أصبح عليها المختار وأتباعه.
في هذا الوقت بدأ المختار ، يستعد للسيطرة على الكوفة في محرم ٦٦ هـ (آب ٦٨٥م) ، فأرسل لأتباعه وأخذ يجمعهم في الدور حوله ، وبينما هو منشغل في التحضير للثورة ، شك جماعة من بين أتباعه في ادعائه أن ابن الحنفية أرسله إليهم ، فقرروا الذهاب إلى مكة ليسألوه عن ادعاء المختار هذا ، وفي مكة التقى الوفد بمحمد بن الحنفية ، فلما سمع كلامهم قال لهم : «قوموا بنا إلى إمامي ، وإمامكم علي بن الحسين» ، فلما دخل ودخلوا عليه ، أخبر خبرهم الذي جاءوا لأجله. قال : « يا عم لو أن عبدا زنجيا تعصّب لنا أهل البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، وقد ولّيتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت ».
فخرجوا وقد سمعوا كلامه ، وهم يقولون : « أذن لنا زين العابدين ، ومحمد ابن الحنفية » (26). وبعد شهر عاد الوفد ، وأخبر المختار بأن ابن الحنفية أمرهم بتأييده ، ونصرته. عند ذلك جمع المختار أهل الكوفة وأعلن لهم تأييد علي ابن الحسين عليهماالسلام ومحمد بن الحنفية له.
وقد أكّد ذلك رئيس الوفد وأتباعه الذين خطبوا بهذه المناسبة ، ثم أن المختار جمع من كان قريبا فقال :
« يا معشر الشيعة ، إن نفرا أحبّوا أن يعلموا مصداق ما جئت به ، فخرجوا إلى إمام الهدى ، والنجيب المرتضى ، وابن المصطفى المجتبى ، علي زين العابدين عليهالسلام ، فعرفهم ، أني ظهيره ، ورسوله ، وأمركم باتباعي وطاعتي » (27).
ويرى البلاذري أن وجوها من الشيعة جاءوا لمحمد بن الحنفية وقالوا : « أنكم أهل بيت قد خصّكم اللّه بالفضيلة وشرّفكم بالنبوة وقد أصبتم بحسين رحمهالله ، وأتانا المختار يزعم أنه جاء من تلقائك يطلب بدمه فمرنا بأمرك؟» فقال ابن الحنفية : « إنّ الفضل من اللّه يؤتيه من يشاء وما جاءكم المختار إليه فواللّه لوددت أن اللّه انتصر لنا بمن شاء » (28).
فقالوا : هذا إذن منه رخصة.
أما اليعقوبي ، فيؤكّد أن محمدا كان يشجّع دعوة المختار شأنه في ذلك شأن من سبقه حيث قال ابن الحنفية لهم حينما سألوه : « ما أحبّ إلينا من طلب بثأرنا وأخذ لنا حقّنا وقتل عدونا » (29).
والمقدسي يرى أن محمد بن الحنفية كان سبب قيام المختار بالدعوة (30).
ولكن (محمد بن الحنفية) ، لم يستقل بإعطاء الرأي وحده دون أن يأخذ رأي ابن أخيه علي بن الحسين زين العابدين عليهالسلام ، فقد قال له كما تقدم : « يا عم لو أن عبدا زنجيا تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته وقد ولّيتك هذا الأمر فاصنع ما شئت ».
وبذلك ، أصبح المختار قائدا ، وواليا رسميا على الكوفة وحواضرها. فلنمضِ سوية مع المختار القائد. لنشاهده وهو يهوي بسيف الحق على رقاب الذي أضلّوا طريق اللّه.
ولا بأس أن تشير قبل الحديث عن المختار القائد إلى أن أذناب الشجرة الملعونة ورواتها قد أشاعوا الكذب على المختار الثقفي رحمهالله لا سيّما إمامهم الشعبي سفير طاغية بلاط الشام وسفيره إلى الروم ، ومن ثم تلقّفت مزاعمه كثير من الأبواق المأجورة المحسوبة على الخط الأموي ، ولم تزل كذلك إلى يوم الناس هذا.
المصادر :
1- سليمان بن صرد الخزاعي / د. إبراهيم بيضون : ٧٩.
2- مروج الذهب ٣ : ٢١.
3- ورد في البداية والنهاية / ابن نجية ٨ : ٢٤٧
4- ابن الأثير ٨ : ٢٤٧.
5- قيل إن عدد المتطوعين ارتفع إلى نحو عشرين ألفا. انظر ابن كثير ٨ : ٢٥١.
6- دائرة المعارف الإسلامية الشيعية ٢ : ٥٨.
7- الطبري ٧ : ٦٧ ، ابن الأثير ٢ : ٢٥٢.
8- الطبري ٧ : ٦٧ ، ابن الأثير ٢ : ٢٥٢.
9- الفتوح / ابن الاعثم الكوفي ٥ : ٢١٤.
10- الطبري ٧ : ٦٩.
11- رأس عين نبع على بضعة أميال إلى الشمال من قرقيسيا على نهر الفرات ، انظر ابن الأثير ٤ : ٧٦.
12- أنساب الأشراف / البلاذري ٥ : ٢١.
13- الخوارج والشيعة / فلهوزن : ١٩٥.
14- الطبري ٧ : ٧٦.
15- تاريخ الطبري ٥ : ٥٩٩ ، البداية والنهاية ٨ : ٢٥٤.
16- البداية والنهاية / ابن كثير ٨ : ٢٥١ ، ابن الأثير ٨ : ٢٥٢.
17- الطبري ٥ : ٥٨٣ ، تاريخ خليفة ١ : ٣٣١.
18- البحار ٤٥ : ٣٦٣.
19- الطبري ٦ : ٨.
20- الطبري ٦ : ٨.
21- الطبري ٦ : ٩.
22- سورة المائدة : ٥ / ٨٩.
23- الخلافة الأموية / د. عبد الأمير دكسن : ٧٠.
24- الطبري ٦ : ١٠.
25- الطبري ٦ : ١١.
26- البحار ٤٥ : ٣٦٥.
27- البحار ٤٥ : ٣٦٥.
28- أنساب الأشراف ٥ : ٢٢١.
29- التاريخ ٢ : ٣٠٨.
30- البدء والتاريخ ٦ : ٢٠.