ليس عصيّاً على البحث التاريخي الموضوعي للفترة التي عاشتها الأُمّة الإسلامية بعد هلاك الطاغية معاوية بن أبي سفيان (سنة / ٦٠ هـ) أن يدرك أسباب التطورات السياسية والأحداث التاريخية السريعة المتلاحقة التي انتهت بمصرع خامس أصحاب الكساء الإمام الحسين السبط الشهيد عليهالسلام ، ويرى كيف فتح دم الحسين فم الأُمّة الصامتة لتقول (لا) ، وكيف مهّد الطريق أمام البركان لينفجر ، ويسحق بعنفوانه جبروت الأوغاد ، ويحطّم هيبة دولتهم التي قامت على أساس البغي والظلم والعدوان والفساد ، إذ سرعان ما تحوّل دم السبط الشهيد إلى وقود دافق يغذي الثورات الشعبية التي انطلقت مطالبة بدمه الشريف.
وسيرى في الجانب الآخر كيف حاولت السلطة الأُموية الغاشمة توجيه حوادث التاريخ الإسلامي بما يمكِّنها من البقاء والتلاعب بمصير الأُمّة ، محاولة لجم الأفواه عن قول الحقّ ، مع تسخير جملة واسعة من ذوي الأطماع والنفوس المريضة التي عاشت على موائدها حقيرة متزلّفة ، همّها علفها ، ودينها دينارها ، حتى اتّخذها الظالمون مطية يركبونها إلى غاياتهم ، وجسراً يعبرون عليه إلى شهواتهم ، ورداء يسترون به فضائحهم على حساب الدين الذي دمروا البلاد وعاثوا في الأرض الفساد باسمه! بعدما أوجدوا من يضع لهم على لسان الشريعة ما يمجّدهم ويحرّم الخروج عليهم وإن فعلوا ما فعلوا!!
وما من شك في وقوف السلطة الأُموية مؤيّدة ومساندة لتلك الحثالات ، وخلق المناخات المناسبة لها وتمكينها من إشاعة ما تفتريه على أوسع نطاق ، سواء كان ذلك على مستوى وضع الحديث ، أو تشويه حقائق التاريخ ، وصياغتها بالشكل الذي تريد.
ومن هنا أصبحت القراءة الحرفية لكتب التاريخ لا تسعف صاحبها في معرفة حقيقة الكثير من الرجال الذين صنعوا لأنفسهم تاريخاً ، بخلاف القراءة الواعية للتحوّلات السياسية والفكرية التي لازمت حياة بناة التاريخ وصانعيه ، وكيف كان تأثيرها على المجتمع في ذلك الحين.
إنّ التعامل مع كل وضع بما يناسب حجمه في إطار موضوعي ، وربط كل حادث بسببه ، وكل معلول بعلّته كما يقتضيه قانون العلّية العامة ، سيؤدّي بالنتيجة إلى فهم الكثير من الحقائق التاريخية المغطّاة بأوهام وخرافات كتب التاريخ .
وفي التاريخ العربي الإسلامي بوجه خاص. يوم العاشر من محرم عام ٦١ هـ (٦٨٠ م) ، بعد محاكمة ميدانية شهدها جمع كبير من أهل الكوفة ، تلك الحثالة التي تيبّست ضمائرها ، وأحاسيسها ، ومشاعرها الإنسانية ، إذ لم تكتفِ بقطع الرؤوس الملائكية ، وإنّما أمعنت وتمادت في جريمتها. إذ عمدت إلى التمثيل بالأجساد الطاهرة ورضِّها بحوافر الخيل ، ومن ثم سلبت كل مالها وما عليها حتى أرديتها نزعتها عنها ، لتقوم بعدئذٍ بنهب ما كان لأهلها ، وأحرقت الخيام التي كانت تأوي إليها النساء والأطفال وروّعتهم ، ثم مكثت تنظر إليهم بتشفٍّ لا يمكن للمرء أن يتصوره ، وإن استذكره لا يملك إلاّ أن يصبَّ لعناته وبلا توقف على أولئك المتوحشين ، وعلى من كان من ورائهم من سليلي الشيطان الأموي الجاهلي ، الذي أورث أبناءه وأحفاده كل آسن وعفونة الشرِّ وسواده.
أجل ، منذ تلك السنين ، وأنا أكنُّ لذلك الرجل قدرا عظيما من الحبّ كان يتصاعد في عنفوانه كلما تراءى للمخيلة هول المأساة ، وعظم الجريمة التي سفك مرتكبوها دماءا كانت تتدفّق إيمانا ويقينا بالولاء للّه الحق الواحد الأحد.
تلك الدماء التي شاء اللّه سبحانه ، أن يجعلها من بعد دفقا نورانيا يهتدي به الناس على مرِّ الأجيال.
ولم يمضِ زمان طويل على تلك الجريمة ، إلاّ وقد جاء يوم الحساب الدنيوي الذي أنزل فيه المختار الثقفي العقاب العادل بأولئك المجرمين ، أو عجّل في سوقهم إلى الجحيم.
إن كتب التاريخ والسير لم تعطِ هذا الرجل حقه من الذكر ، إذ لم أجد من خلال تتبّعي لسيرته إلاّ القليل. فحاولت أن أخرج بشيء أضيفه إلى المكتبة الإسلامية التي افتقرت إلى مثله ، حيث لم أعثر رغم بحثي على أي مرجع يتناول حياة وسيرة ذلك الرجل الذي أعاد البسمة للعيون والشفاه بعد غياب طويل ، باستثناء كتاب واحد بعنوان «المختار الثقفي مرآة العصر الأموي» ، لمؤلفه الدكتور علي حسين الخربوطلي .
من هو المختار
هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف من قبيلة ثقيف ، وأُمّه دومة بنت عمرو بن وهب بن منبه من قبيلة ثقيف أيضا (١).وثقيف هو جدّهم الأعلى الذي تفرّعت منه هذه السلالة ويحدّثنا (ياقوت الحموي) في هذا الصدد أن ثقيفا اسمه قسيّ بن منبه وقد جاء بـ (قضبان) فغرسها في واد يُقال له (وج) وقد عرف بعد ذلك بالطائف (٢) فأنبتت فسُمِّي (ثقيفا) ، وقد بقي (ثقيف) في هذا الوادي حتى كثُر وُلدُه وصاروا أُسرة كبيرة فحصّنوا الطائف وبنوا عليها طوقا ، وكان أن نشبت الحرب بينهم وبين أخوالهم بني عامر حتى انتصروا عليهم ، وكان ثقيفٌ قد تزوّج بابنتي عامر الواحدة بعد الأخرى ـ وأخيرا امتنعوا عن أداء الحق لبني عامر فضُرب المثل باستقلالهم قال أبو طالب رضياللهعنه :
منعنا أرضنا عن كل حي / كما امتنعت بطائفها ثقيفُ
أتاهم معشر كي يسلبوهم / فحالت دون ذلكمُ السيوفُ
وكان جدّه مسعود بن عمرو من أكبر رجالات ثقيف وأشهرها قبل الإسلام ، وإلى هذا تشير الآية الشريفة في حكاية قول رأس المشركين الوليد ابن المغيرة :
(لَوْلاَ نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (3) ، والقريتان : مكة والطائف ، والرجلان هما : مسعود بن عمرو ، والآخر الوليد بن المغيرة بن عمر ابن مخزوم ، وهو القائل : لو كان ما يقول محمد حقا لنزل عليّ القرآن أو على مسعود بن عمرو (4).
ولادته ، ولقبه ، وقرابته :
فتح المختار عينيه على الدنيا في الطائف خلال أولى سنوات الهجرة ـ سنة ٦٢٢ م ـ على أرجح الروايات لأنّه كان مع جيش أبي عبيد والده في العراق لقتال الفرس في السنة الثالثة عشر للهجرة (5) وعمره آنذاك ثلاثة عشر عاما.وكان وراء ميلاده هذا حكاية ، مفادها أن أباه لما أراد أن يتزوّج ، ذكروا له كثيرا من نساء قومه إلاّ أنه لم يختر أيّا منهن ، حتى أتاه آتٍ في المنام فقال :
تزوّج دومة الحسناء الحومة ، فما تسمع فيها للائمٍ لومة.
فأخبر أهله ، فقالوا : قد أمرت ، فتزوّج دومة بنت وهب بن عمر بن معتب.
فلما حملت بالمختار قالت : رأيت في المنام قائلاً يقول :
أبشري بالولد / أشبه شيء بالأسد
إذا الرجال في كبد / تقاتلوا على بلد
كان لـه الحـظ الأشـد (6)
ومن خلال الحكاية المتقدمة يمكننا استنتاج أُمور ثلاثة هي :
١ ـ أن والده قد تريّث كثيرا حتى اختار شريكة عمره.
٢ ـ أنّه جاء ثمرة رؤيا ، وهذا يعني أن شيئا من الروحانية كان يحتوي المختار في دنيا الغيب.
٣ ـ إذا الوليد (المختار) ، سيكون له شأن غير عادي ولو قدر لوالدته ، أن تعيش حتى أوانه لرأت إذن كيف أنزل القصاص العادل في أعداء اللّه تعالى من قتلة الحسين وأهله وصحبه عليهمالسلام.
لقب المختار بـ (كيسان) ، لا نسبة إلى الكيسانية القائلين بإمامة محمد بن الحنفية كما توهّمه العامة وتبعهم بعض أصحابنا! لأنّ الثابت في نشأة الكيسانية انّها كانت بعد وفاة محمد بن الحنفية لا في حياته ، والمختار رضي اللّه تعالى عنه استُشهد في حياة محمد بن الحنفية بالاتفاق.
وإنّما السبب في لقبه المذكور هو ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الأصبغ بن نباتة قال : «رأيت المختار على فخذ الإمام علي عليهالسلام ، وهو يمسح رأسه ، ويقول : يا كيس يا كيس» (7).
فثني هذا اللفظ تبرّكا فقيل «كيسان» وهو ما نبّه عليه السيد الخوئي في معجمه (8).
ولم يكن للمختار سوى عمّين ، هما : عروة بن مسعود ، وسعد بن مسعود.
وليس له إخوة ، وله أُخت واحدة اسمها (صفية) ، وهي زوج عبد اللّه بن عمر بن الخطاب ، أدركت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وروى عنها نافع مولى ابن عمر وروت صفية عن عائشة وحفصة ، وكانت هذه المرأة أثيرة عند زوجها يحبّها حبّا شديدا وينزلها من نفسه المنزلة السامية ، وقد استطاعت بهذه العاطفة أن تجتذب زوجها وتحرّضه ليفكّ أخاها من سجن عبيد اللّه بن زياد ويتوسّط في إطلاق سراحه ، وعبد اللّه بن عمر كانت له الحظوة عند الأُمراء والولاة ، لأنّه بايع معاوية ويزيد وسائر الحكّام.
أما زوجات المختار فهي :
١ ـ عمرة بنت النعمان بن بشير الأنصاري والي يزيد بن معاوية على الكوفة ، وكانت هذه الزوجة على جانب عظيم من الحبّ والموالاة لزوجها ، وعلى جانب عظيم من العقيدة والولاء لآل البيت عليهمالسلام على خلاف أبيها النعمان الذي كان صنيعة من صنائع الأمويين ، عرض عليها مصعب بن الزبير حين قتل زوجها وسبعة آلاف من أهل القبلة على حدّ قول ابن عمر حين عاب عليه ذلك ، فآثرت القتل على شدّة عاطفة المرأة أمام الأمر الواقع ، وهي تقول : «شهادة أرزقها ثم أتركها»! كلاّ إنّها موتة ثم الجنّة ، والقدوم على اللّه وأهل بيته ـ ثم قالت ـ ، واللّه لا يكون آتي مع ابن هند فأتبعه وأترك ابن أبي طالب وشيعته. اللّهمّ اشهد اني متّبعة نبيك وابن بنته وأهل بيته وشيعته. فأمر مصعب فأخرجت إلى ضواحي الكوفة وقُتلت صبرا (9).٢ ـ أُم ثابت بنت سمرة بن جندب الفزاري ، نائب زياد بن أبيه في البصرة في عهد معاوية بن أبي سفيان (10).
وهذه عرضت على البراءة فآثرت الحياة ولعنت زوجها وتبرأت منه وقالت : «لو دعوتني إلى الكفر (مع السيف) لأقررت ، أشهد أن المختار كافر» (11).
وليس بخاف كلمة (مع السيف) في هذا المقام من أنها لم تكن لتعتقد بكفر زوجها في هذه الشهادة وإنّما ابقاء على حياتها.
٣ ـ أُم زيد الصغرى بنت سعد بن عمر بن نفيل (12).
وللمختار أربعة إخوة من أم واحدة وهم :
(جبر وأبو جبر وأبو الحكم وأبو أمية) (13) ، وله ولدان وهما إسحاق وكنّى به وجبرائيل.
وأمّا عمّه سعد ، فهو من أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن خواص الإمام علي عليهالسلام فيما بعد (14).
نشأة المختار
ابتدأت المرحلة الأولى من حياة المختار بنشأته في بيت مسلم بكنف أبيه الذي عرف بشجاعته ودوره المتميز في حروب المسلمين مع الفرس.ومن أبرز ما أداه في حياته ، قيامه بقيادة جيش المسلمين أثناء معركة الجسر (معركة الجسر هي من المعارك الفاصلة بين جيش المسلمين وجيش الفرس وكان أبو عبيد بن مسعود الثقفي أحد قادة المسلمين فيها) بتكليف من عمر بن الخطاب ومن ذلك نستنتج ونحن مطمئنون أنّه كان ذا دراية بفنون القتال وعلى قدر عالٍ من الشجاعة ، لأنّ المراكز القيادية ما كانت تولّى إلاّ لمثل هذا النمط من الرجال.
وقد قدّر لوالده أن يُقْتَل في تلك المعركة وكان المختار حينها معه وهو ابن ثلاثة عشر عاما ، وبعد رحيل أبيه إلى دار الآخرة ، تكفّله عمه سعد بن مسعود ، وهو من أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن أولياء الإمام علي عليهالسلام.
ويبدو أن هناك علاقة ما كانت تربط بين الإمام علي عليهالسلام ، وبين والده وعمه ، وهذا يفسر لنا ما ورد عن الأصبغ بن نباتة ـ كما تقدم ـ أنّه قال : «رأيت المختار على فخذ الإمام علي عليهالسلام ، وهو يمسح رأسه ، ويقول : يا كيس ، يا كيس» (15).
أن هذا يعني ولا شك أن المختار قد نشأ في أوائل طفولته وصباه على مقربة من بيت النبوة ببركات أمير المؤمنين عليهالسلام.
ومن المعروف أن سني الطفولة ، والصبا هي من أهم ما ترتكز عليه شخصية الفرد ، وتنمي سلوكه الذي يتبلور متناسبا مع نمو وعيه وإدراكه لما يحيط به من أحداث ، الأمر الذي تيسر لنا سبب حبّه لأهل البيت عليهمالسلام واتصاله بهم وإنتقامه من أعدائهم. وفي رسالة ابن نما الحلي لم يبرح المختار ما كان عليه منذ العهد العلوي من الانقطاع إلى آل البيت والتزلّف إليهم ولما ولّى معاوية على الكوفة المغيرة بن شعبة غادر المختار العراق حتى أتى إلى مدينة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان يجالس فيها محمد بن الحنفية ويأخذ عنه الحديث.
لقد وجد المختار من أُستاذه محمد بن الحنفية رضياللهعنه ما دفع به قدما في مجال الحياة الفكرية ، ثم توثّقت أواصر الصلة والودّ بينهما حتى ارتفعت تلك الفروقات التي تكون ـ غالبا ـ بين الأُستاذ والتلميذ.
ثم يذهب هذا التلميذ متأثّرا بأُستاذه ومترسما خطاه ولا سيما في أخذ الحديث عنه ، ومحمد هذا أقل ما يقال عن فضله وعلو كعبه وعمق مادته.
محمد بن هارون قال : « كان محمد بن الحنفية أحد الأبطال في صدر الإسلام وكان ورعا واسع العلم » (16).
ولعلّ هذه الصلة الوثيقة بين المختار ومحمد تفسر لنا اتهامه بـ (الكيسانية) من لدن خصومه وأصدقائه على السواء.
وبعد تلك السنوات غادر المختار المدينة متوجّها إلى العراق ، حين عُيِّن عمّه سعد واليا على المدائن ، وهو لهذا كان قد تعلم شيئا من أساليب الإدارة والحكم ، وعاش على مقربة من مركز القيادة المركزية للدولة الإسلامية ، وواكب أحداثها حتى عودة الزعامة للإمام علي عليهالسلام ، فكان أن انضمّ إلى جنده وأصحابه ، وهو في عنفوان شبابه ، ومن المؤكد أنه شارك في معارك الإمام جميعها ، أو قسما منها على أقل تقدير. ولقد كان لسنوات الصحبة تلك أثر في نفسه دونما شك وهو يستذكر بفخر ذكريات طفولته ، ولعبه على فخذ الإمام علي عليهالسلام ، ثم يستحضر في مخيلته ما كان يبعثه لقب «كيسان» في نفسه بملاحظة سببه ، فيرى فيه بشارة المجد واعتلاء منصة العدل على رقاب قتلة ذرية الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا شك أنّه وصلت إلى أسماعه كلمات الإمام الحسين عليهالسلام في ساعاته الأخيرة : « اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلِّط عليهم غلام ثقيف ، يسقهم كأسا مصبّرة ، ولا يدع فيهم أحدا ألاّ قتلة بقتلة وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي ، منهم وإليك أنبنا وإليك المصير » (17).
ولا شكّ بأنّه كان يعلم بأنّه هو المقصود بغلام ثقيف ، وإلاّ فقد أخبره ميثم التمّار (ميثم : هو ميثم التمّار بن يحيى الأسدي ، كان عبدا لامرأة من بني أسد ، اشتراه الإمام علي عليهالسلام وأعتقه. سكن الكوفة ، وصلبه عبيد اللّه بن زياد على جذع نخلة ، وكان ذلك قبل مقدم الحسين عليهالسلام إلى العراق ، بعشرة أيام. ) وهما في سجون عبيد اللّه بن زياد قائلاً : « أنت تخرج ثائرا بدم الحسين بن علي ، فتقتل عبيد اللّه بن زياد ، وتطأ بقدميك على وجنته » (18).
وثمة سؤال قد يخطر ببال القارئ الكريم ، عن سبب وجود ميثم التمّار في سجون ابن زياد؟!
نقول : إن السياسة الإرهابية التي اتبعها عبيد اللّه بن زياد وما ارتكبه من قتل ، وتعذيب ، هي التي أوجدت ميثم في سجون عبيد اللّه (لعنه اللّه) ، فقد ذكرت كتب التاريخ والسير ، أن عبيد اللّه بن زياد عندما قدم الكوفة قام بسجن اثني عشر ألفا من محبّي آل محمد عليهمالسلام ، حتى أنه لم يترك واحدا من زعمائهم طليقا.
إذن فقد عايش المختار أحداث التحولات التاريخية بكل ما اعتراها من اضطراب ، وتحمل شيئا من وطأتها ، وثقلها وآلامها.
شهد مصرع الإمام العظيم علي عليهالسلام ، وخذلان الأُمّة إمام زمانها السبط الحسن عليهالسلام ، وما تلاه من معان الزعامة التي هي في حد ذاتها تكليف وواجب شرعي ـ كما كان يراه المختار ، وسواه من شيعة الإسلام ـ إلى ملك دنيوي أو من لبس تاجه ـ معاوية معتمدا في ذلك على المكر والجريمة.
معاوية بن أبي سفيان :
من العجب أن يتورط بعض المؤرخين فيحكمون بصدق أيمان معاوية ، ويستدلون على ذلك بأنه كان يؤدي الفرائض ، ويتبرك بآثار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حتى بأظافره ، ونسي هؤلاء أنه هو ، وأبوه وأمه ، قد أسلموا كرها ، وأن قلوبهم قد ظلت على جاهليتها! وفاتهم أنه كان يخاصم رجلاً لا يمكن أن يساويه في العلم ، ولا في الفضل ، ولا في القدر ، وإذن كان لابد له ـ وهو الداهية الخداع ـ لكي يستقيم أمره ، ويستقر ملكه أن يتذرع بكل وسيله يستطيعها خفية كانت أو مفضوحة ليخدع بها العامة ويحول أنظارهم إليه ، ومن أول هذه الوسائل أن يتظاهر بموالاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويبالغ في محبته لعله يبلغ بذلك مكانة يزاحم بهاوبعد اغتيال معاوية للإمام الحسن عليهالسلام ، انطفأت آخر شمعة في ليل الأمل الساكن بديار شيعة آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، في الكوفة وسواها من أرض المسلمين.
وما كان لأهل بيت النبوة سوى العودة إلى ديارهم في المدينة في حين مكث المختار في الكوفة ، وهو ثابت الولاء ـ بحكم نشأته ـ لورثة رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أما ما ورد من روايات أريد بها إثارة الغبار على موقفه ، والتشكك في سلامته ، واستقامته ، ومنه ما جاء من كونه كان قد أشار على عمه (سعد بن مسعود) ، الذي كان يومها واليا على المدائن بأن يتخلّى عن الإمام الحسن عليهالسلام ، وأن يسلِّمه إلى معاوية ، فأمره مردود للأسباب التالية :
١ ـ أن المختار كان يعرفه الإمام علي عليهالسلام بل يحبّه ، بدليل أنه عليهالسلام كان يمسح رأسه ، ويداعبه قائلاً : «يا كيس ، يا كيس».
ويعلِّق المقرم الموسوي على ذلك قائلاً : أن هذه الكلمة دليل على ما الإمام عليا عليهالسلام ولكن أنّى له ذلك وعلي في السماء منه وإنّه كان أقرب الناس وأحبهم إلى قلب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، حتى جعله كهارون من موسى! ومن كان مواليا للنبي حقا فعليه أن يوالي عليا ، لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» ، على أن الايمان ومقره القلب ولا يعلمه إلاّ اللّه ليس أمره سهلاً جاء به أمرا ونهيا ليس في ترخص ، ولا انحراف ، ومثل معاوية بما اقترفه في حكمه من الموبقات لا يصح في عقل عاقل ، أن يعده من المؤمنين الصادقين.
وروى أبو الفدا عن الشافعي ، أنه اسر إلي الربيع ، أن لا تقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم ، معاوية ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة وزياد بن أبيه. وللمزيد راجع كتاب شيخ المضيرة ، أبو هريرة لمؤلفه محمود أبو رية : ١٦٦ ، لمعرفة الكثير الكثير عما ارتكبه معاوية ضد الإسلام والمسلمين من جرائم تقشعر لها الأبدان ولا يحصى عددها إلاّ اللّه.
يظهر على يد المختار من مظاهر السداد ، وأن هذه الكلمة الصادرة من أمير المؤمنين عليهالسلام ، من مخبآت المستقبل ، وأنها ألمحت إلى الحوادث التي يقوم بها ، وكان المختار يحسب لهذه البشارة حسابا ، ويحدث نفسه.
٢ ـ لا يمكن للمختار ، أن يعرض مثل ذلك على عمه سعد بن مسعود ، لولاء عمّه لأمير المؤمنين علي عليهالسلام ، وبقاء ولائه لسيد شباب أهل الجنّة الحسن ابن علي عليهماالسلام ، فلا يمكن أن ينقلب هذا الولاء والمحبة الأكيدة إلى عداوة قاسية بين عشية وضحاها ، دون أن يرى من الإمام الحسن عليهالسلام ـ وحاشاه من ذلك ـ شرا ، أو وعيدا أو تهديدا.
٣ ـ إن المختار شيعي العقيدة ، فقد كان يعطف على العلويين ، ويميل إليهم وإلى محبّتهم ، بدليل أنه رفض طلب زياد بن أبيه ، حين أراد منه أن يوقع الشكوى ضد حجر بن عدي ، شيخ الشيعة في العراق ، حتى يتخذ من هذه العريضة ذريعة لأقدامه على قتل حجر ، كما أن المختار جعل داره مقرا لسفير الإمام الحسين عليهالسلام ، مسلم بن عقيل عليهالسلام.
٤ ـ أن المختار ظلّ مواليا ، بل أنه ضحّى بدمه من أجل آل محمد (عليهم الصلاة والسلام) فكيف يصدر منه مثل ذلك الفعل المشين. وقد لاحظنا من خلال متابعتنا لما ذكر عن سيرة المختار ، أن هناك الكثير من الروايات التي تشكِّك في سلامة عقيدته ، واستقامته في كل ما كان يصدر عنه من فعل ، وقول ، وواضح أن أكثر كتبة التاريخ ورواته قد حرصوا على تشويه الصورة الرائعة ، لمريدي ومحبي أهل البيت عليهمالسلام ، من الصحابة والتابعين ، بسبب ولائهم لبني ـ أمية ـ وغيرهم من أعداء الإسلام ، وكراهيتهم لأهل البيت على وجه الخصوص.
وأن تلك الرواية تنتمي إلى جنس ما وضعه أهل الأقلام المأجورة ، الذين دأبوا على النيل من رموز الشيعة وقادتها استجابة للسواد المقيم في نفوسهم المريضة الحاقدة والممتلأة غيظا على الذين انتصروا للرسالة المحمدية ممثلة بأهل بيته الأطهار عليهمالسلام.
وثمة روايات أخرى مماثلة للرواية التي تقدم ذكرها ، سنفرد لتناولها مكانا خاصا ، نقف فيه على قيمتها وحقيقتها.
وزيادة على ما تقدم ، فإنّ المختار كان على قدر كبير من الفضل في الدين والورع ، ويكفي ولاؤه لأهل البيت عليهمالسلام ، دليلاً على سلامة دينه.
كما كان ذا منزلة وفضل توارثه عن أبيه وعمه ، ثم زاد فيه بما أوتي هو شخصيا من خلق ، مع علوِّ الهمّة ، وطموحه في القضاء على دولة الباطل والإطاحة بكل رموزها ، ومحاولة إعادة الحق المغتصب إلى أهله ، ولو كلّفه ذلك حياته.
ومن ذلك الولاء صعد نداء ثورته على الظالمين ، ورفضه للواقع الأموي ممثلاً بيزيد بن معاوية ثاني ملوك الشجرة الملعونة في القرآن الكريم.
ومن هنا نجد ، أن مسلم بن عقيل ، رسول الحسين عليهالسلام حين وصل الكوفة كان قد آوى إلى بيت المختار ، واتّخذ منه مقرا لسفارته الحسينية. ومن المقر الجديد باشر مسلم عليهالسلام ، بأداء مهمته بأخذ البيعة للإمام الحسين عليهالسلام أداءً للعهد الذي قطعوه للإمام الحسين عليهالسلام ، في كتبهم ورسائلهم إليه.
أرسل الإمام الحسين عليهالسلام ، ابن عمه مسلم بن عقيل الذي كان من الأبطال والعلماء وأصحاب الرأي إلى الكوفة ليأخذ البيعة من الناس للإمام عليهالسلام وتمكن مسلم أن يأخذ من أهل الكوفة (١٨٠٠٠) بيعة للإمام الحسين عليهالسلام وكتب له رسالة يدعوه للتحرك نحو الكوفة. ومع دخول عبيد اللّه بن زياد إلى الكوفة وتعيينه من قبل يزيد حاكما لها تفرّق الناس عن مسلم وتركوه وحيدا واستغل عبيد اللّه بن زياد الظرف الحاصل ودعى الناس إلى عدم مبايعة الإمام الحسين عليهالسلام وقتل مسلما.
وقد استُشهد مسلم بن عقيل عليهالسلام في التاسع من ذي الحجة عام ٦٠ للهجرة (٦٨٠ م).
وهكذا تحوّل بيت المختار إلى مقر للمعارضة ، وكان ذلك من أبرز الأسباب التي ساعدت على نجاح الشهيد البطل مسلم بن عقيل في مهمته أول الأمر ، إذ أن الارتباط العائلي للمختار بوالي الكوفة النعمان بن بشير الأنصاري ، باعتباره والد زوجته (19) ، قد يكون من بين أسباب عدم قيام الوالي بأي فعل ردعي لمسلم بن عقيل مادام في بيت المختار ، الأمر الذي حدا بيزيد ابن معاوية إلى عزله ، ومن ثم تولية عبيد اللّه بن زياد (20) ، وعلى أثر ذلك غادر مسلم عليهالسلام بيت المختار ولجأ إلى دار هاني بن عروة المرادي (21) ، لما علم بإلقاء القبض عليه من قبل شرطة ابن زياد وللأسباب التالية :
١ ـ لم يكن المختار قد كوّن حزبه السياسي.
٢ ـ لم يكن له جيش قوي في الكوفة يكفي لحماية مسلم بن عقيل عليهالسلام من شرطة ابن زياد.
٣ ـ كما أن والد زوجته ، النعمان بن بشير ، والي الكوفة كان قد عُزل من قبل يزيد بن معاوية ، وبذلك فقد المختار جانبا مهما من المساندة والنفوذ السياسي ، وجدير بنا أن ننوِّه ، بأن المختار لم يطلب من مسلم عليهالسلام أن يغادر داره إلى بيت هاني بن عروة ، بل خرج مسلم عليهالسلام من تلقاء نفسه ، ولو طال بقاء مسلم عليهالسلام عنده لكان مصيره مثل مصير المختار وبذلك نهاية حياته ، ومن ثم الحيلولة دون قيامه بالفعل التاريخي العظيم.
ولما علمت أُخت المختار وهي زوجة عبد اللّه بن عمر بن الخطاب بسجن أخيها ، طلبت من زوجها أن يعمل على الإفراج عنه ، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع في المختار.
واستجاب يزيد لطلبه ، وكتب إلى ابن زياد يأمره بالإفراج عن المختار ، واضطر ابن زياد إلى طاعة أمر يزيد ، فأطلق سراح المختار ، ولكنه قرر نفيه خارج العراق وأمهله أن يغادره خلال ثلاثة أيام ، وإلاّ ضرب عنقه بعدها ، وخرج المختار من العراق إلى الحجاز وهو يقول : «واللّه لأقطعن أنامل عبيد اللّه بن زياد ولأقتلن بالحسين بن علي عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا» (22).
وبرّ المختار بقسمه ، فقد لقى ابن زياد مصرعه على يد المختار ، كما نجح المختار فيما بعد بقتل كل من اشترك في قتل الإمام الحسين بن علي عليهماالسلام في كربلاء.
المصادر :
1- أسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ١٢٧ / ٤٧٨٤.
2- معجم البلدان ٦ : ٢٤٢ (الطائف).
3- سورة الزخرف : ٤٣ / ٣١.
4- يقول ابن حجر في الإصابة ٣ : ٤١٢ ،
5- بحار الأنوار ٤٥ : ٣٥٠.
6- بحار الأنوار ٤٥ : ٣٥٠.
7- رجال الكشي : ١٢٧ / ٢٠١.
8- معجم رجال الحديث ١٨ : ١٠٢ / ١٢١٥٦ في آخر ترجمة المختار بن عبيد الثقفي.
9- تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ (سنة ٦٧) ، الأخبار الطوال : ٤٥١ ، مروج الذهب ٣ : ٧٣.
10- الكامل في التاريخ ٣ : ٣٠٧.
11- تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ (سنة ٦٧) ، الأخبار الطوال : ٤٥١.
12- يراجع : المحبر / محمد بن حبيب الهاشمي : ٧٠.
13- البحار ٤٥ : ٣٥٠.
14- أعيان الشيعة / الأمين ١١ : ١٩٤ / ٧٢٠٩.
15- البحار ٤٥ : ٣٥١.
16- تعليقه على وقعة صفين / نصر بن مزاحم : ٢٢١.
17- البحار ٤٥ : ١٠.
18- البحار ٤٥ : ٣٥٣.
19- تاريخ الطبري ٦ : ١١٢ في حوادث (سنة ٦٧ هـ).
20- الفتوح / ابن أعثم ٥ : ٣٦.
21- الفتوح / ابن أعثم ٥ : ٤٠.
22- تاريخ الطبري ٥ : ٥٧١ ـ ٥٧٢ (سنة ٦٤ هـ)